222- قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً.
مادة (حيض) تأتي بمعنى السّيلان و سمّي هذا الدم المخصوص حيضا لسيلانه في الجملة، و إذا كان عين الفعل منه واوا فهو بمعنى الجمع و منه الحوض، و يصح إطلاقه في المقام أيضا، لأنّه لا يسيل الدم إلا إذا اجتمعت مادته في الرحم و لو في الجملة.
(و المحيض) مصدر ميمي و هو اسم للدم الخاص في وقت معين، و لم يستعمل في القرآن الكريم إلا بهذه الهيئة كما في قوله تعالى: وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق- ٤]، و يأتي المحيض اسما لزمان الحيض و مكانه، و الفارق القرائن المعتبرة.
و الحيض من الأمور الطبيعية للنساء و هو منشأ تكوّن الجنين في الرحم، و له أحكام شرعية، كما أنّ له اثارا صحية و نفسية معروفة ذكرها علماء الطب و النفس.
و إنّما عبّر سبحانه بالمحيض دون الحيض، لأنّ للإضافة الحدوثية إلى الحائض دخلا في الجملة في أحكامه و لأجل ذلك صحح عود الضمير (هو) إليه.
و الأذى: ما يصيب الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة حتى استعملت بالنسبة إلى اللّه تعالى قال سبحانه و تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ [الأحزاب- ٥۷].
و كون الحيض أذى أمر معلوم فإنّه مستقذر ينفر عنه الطبع لكون هذا الدم خارجا عن مزاج الدم الطبيعي لفساده فلا يصلح لتغذية الجنين أو تهيئة اللبن للإرضاع فيرفضه الرحم إلى الخارج مصحوبا بآلام بدنية و نفسية فيكون أذى للنساء كما أنّ لهذا الدم أحكاما خاصة يصعب عليهنّ تحمّلها و هو أذى للزوج لأنّه يحرم عليه مدة الحيض أهم الاستمتاعات إذ الرّحم مشغول بتطهيره و تنقيته و الوقاع يضرّه بل هو أذى للنطفة إذا فرض انعقادها في زمان الحيض. و قد كشف العلم الحديث عن كثير مما يتعلّق بهذا الدم و يشمل جميع ذلك إطلاق هذه الكلمة الفصيحة بإيجازها قُلْ هُوَ أَذىً.
و قيل: إنّ المراد بالمحيض محلّ الحيض و مكانه و باعتبار الملازمة بين الحال و المحل عبّر تعالى بذلك، فيصح عود الضمير حينئذ بلا استخدام و هذا و إن كان صحيحا و لكنّه صرف لعموم الآية الشريفة إلى بعض المحتملات، فالصحيح ما ذكرناه.
قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ.
العزل و الاعتزال: التجنب سواء كان بالبدن فقط أو القلب أو بهما و المراد به هنا الأول أي: عدم المقاربة معهنّ في محلّ الحيض فقط بقرينة قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ. و هو المراد أيضا إن أريد بالمحيض زمان الحيض لانسباقه إلى الذهن، و ليس المراد وجوب الاعتزال عن النساء مطلقا فإنّه مخالف لظاهر الآية الشريفة و للنصوص المتواترة و إجماع المسلمين. و بذلك أخذ الإسلام الطريق الوسط بين التشديد التام الذي عليه اليهود فإنّهم لا يساكنون النساء حال الحيض و لا يؤاكلوهنّ و لا يمسوهنّ و لا يضاجعوهنّ ففي التوراة كثير من الأحكام الشديدة بالنسبة إليهنّ فقد جاء في سفر اللاويين الفصل الخامس عشر «كل من مسّها- أي المرأة في أيام طمثها- يكون نجسا إلى المساء و كلّ ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا و كلّ ما تجلس عليه يكون نجسا، و كلّ من مس فراشها يغسل ثيابه و يستحم بماء و يكون نجسا إلى المساء و كلّ من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه و يستحم بماء و يكون نجسا إلى المساء و إن كان على الفراش أو على المتاع الذي هي جالسة عليه عند ما يمسه يكون نجسا إلى المساء و إن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام كلّ فراش يضطجع عليه يكون نجسا» و قد أخذ العرب بعض الأحكام من اليهود فشدّدوا على الحائض فكانوا في الجاهلية لا يساكنونها و لا يؤاكلونها.
و بين الإهمال و التهاون كما عليه النصارى، فالإسلام أخذ الطريق الوسط و أوجب اعتزال النساء في محل الدم فقط و حرم إتيانه في وقت الحيض و أباح سائر الاستمتاعات و معاشرتهنّ و مخالطتهنّ.
و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ لأنّ المحيض الأول بالمعنى المصدري و يراد من الثاني مكان الحيض أو زمانه فهو غير المعنى الأول فلا يصح عود الضمير إليه.
ثم إنّه تعالى قدم قوله: قُلْ هُوَ أَذىً و هو كالعلة لما يأتي و يترتب عليه الحكم بوجوب الاعتزال عنهنّ و عدم المقاربة معهنّ في محل الدم.
قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ.
المراد من القرب: خصوص الوطي، و هو في مقابل البعد، لأنّ من أدب القرآن الكريم الكناية عما يستقبح ذكره بألفاظ أخرى حسنة كقوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ [البقرة- 187]، و هذا دليل على أنّ المراد من الاعتزال خصوص المجامعة في موضع الدم و إنّما جيء به تأكيدا للاعتزال و بيانا له.
و قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف هي القراءة المعروفة بين المسلمين و هو المرسوم في المصاحف المتداولة و هو ظاهر في انقطاع الدم أي: حتى يخرجن من الحيض بانقطاع الدم عنهنّ.
و يكون الأمر بالاعتزال مقيّدا بحصول نقاء المحل، و الغاية في عدم القرب هي انقطاع الدم و الطهر بعد الحيض و لو لم تغتسل المرأة، و يؤيد ذلك قوله تعالى: وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ و هو المناسب للتعليل في صدر الآية المباركة و هو المشهور بين المسلمين.
و قرئ بالتشديد أي: يطهّرن بالغسل بعد نقاء المحل من الدم و هو ظاهر في الاغتسال عن حدث الحيض و تكون الغاية حينئذ في وجوب الاعتزال الغسل و لا يكفي نقاء المحل فقط. و هذه القراءة شاذة لا عبرة بها مضافا إلى أنّ فيها تكلّفا زائدا لم يعلم ثبوته شرعا فيشمله قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع عن أمتي ما لا يعلمون».
قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ.
أي: فإذا تطهّرن بالنقاء أو بالغسل فلا محذور لكم في مقاربتهنّ على النحو الذي أراده اللّه تعالى من النكاح، و قد كنّى سبحانه و تعالى عن الجماع بالإتيان كما يقتضيه الأدب القرآني.
و التفريع لأجل بيان إباحة الوطي بعد تحريمه حال الحيض و لا يكون تكرارا كما ذكره بعض المفسرين.
و الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ مطلق ما كتبه اللّه في هذا الموضوع و هو ابتغاء النسل و الذرية و بقاء النوع لا مجرّد التلذذ من الزّواج و في سياقه قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة- 187].
و يكون المعنى: فأتوهنّ من حيث الوظائف الشرعية التي جعلها اللّه تعالى لكم في هذا الأمر العظيم الذي هو منشأ حياتكم و بقاء نوعكم فإنّ للنكاح أهمية عظمى في الشريعة الإسلامية التي لم تدع جانبا من جوانبه و جهة من جهاته.
و لم يكن النّكاح في نظر الشرع مجرد لهو و نزوة كما ينزو حيوان على آخر و إعمالا للقوة الشهوية بل أراد ما هو أعظم و أنبل من ذلك و تكفي وصية نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) إلى عليّ (عليه السلام) المعروفة التي ذكر فيها بعض آداب النكاح و أحكامه و التي إذا روعيت كان لها الأثر العظيم في تنظيم النسل و سعادة الحياة الزوجية و قد أيد كثيرا منها العلم الحديث و لعلّه يكشف عن سائر ما جاء به الإسلام في المستقبل.
و قد ذكر المفسرون و الفقهاء في تفسير هذه الآية وجوها بعيدة عن سياقها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
الحب في المقام: بمعنى الأجر و الثواب و التأييد، و هو من صفات فعله تعالى. نعم، حبه تعالى لذاته بذاته هو عين ذاته، و قد تقدم الفرق بين صفات الفعل و صفات الذات في أحد مباحثنا السابقة.
و التوبة: هي الرجوع بعد الانحراف و البعد، و توبة العاصي هي الرجوع إلى اللّه تعالى بعد البعد عنه بفعل المعصية.
و المتطهّر: هو الآخذ بالطهارة و المتنزه عن القذارة و النجاسة، و إتيان الأحكام الإلهية بالايتمار بأوامره تعالى و الانتهاء عن نواهيه هو تطهر من المكلّف عن قذارة ارتكاب المنكرات و المخالفة، و توبة منه إلى اللّه تعالى و لأجل ذلك ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذا الحكم.
و إطلاق قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ يشمل جميع مراتب التوبة من صغائر الذنوب و كبائرها، و إنّ المبالغة تفيد مطلوبية الاستمرار و كثرتها مطلقا.
كما يشمل جميع مراتب التطهر و كثرته و من حيث العدد و النوع فيهما لمطلوبية التوبة و الطهارة ذاتا و هما من المحسّنات العقلية التي رغب الشرع إليهما، و اللّه يحب ما هو حسن ذاتا و ما هو محبوب الجميع.
و إنّما قدم سبحانه التوبة على الطهارة لتقديم تطهير الروح و الباطن على تنظيف الجسم و الظاهر بل الثاني طريق إلى الأول و الجمع بينهما لبيان أنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له فلا فائدة في التوبة إذا لم يراع فيها جهات الطهارة الظاهرية و كذا بالعكس.
223- قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
الحرث: هو تهيئة الأرض للبذر و إلقاؤه فيها و زراعتها و يطلق الحرث على المحروث قال تعالى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [القلم- 22]، و قال تعالى: وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ [البقرة- ۲۰٥].
و لفظ أنّى من المبهمات سواء في الزّمان أو المكان و لكن استعماله في الزّمان أشهر. و قيل باستعماله في كلّ منهما في المقام أي أين شئتم، أو في أيّ محلّ شئتم، و لكن من إيكال الحكم إلى المشيئة- و هي غير محدودة بحد إلا ما نهى عنه الشرع- يستفاد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان و الزمان.
و ذكره بعد اية المحيض لأجل بيان خروج زمان الحيض فإنّه لا استعداد فيه للحرث و غشيان النساء لأنّه أذى لهنّ، و فيه من القذارة التي يحب اللّه التطهير منها. فنسبة هذه الآية نسبة الشرح للآية السابقة فتكون مطلقة من حيث الزمان و المكان إلا ما نهى عنه الشرع المبين.
فالآية واضحة في دلالتها على التوسعة، فلا وقع للبحث عن أنّ كلمة (أنّى) زمانية أم مكانية، بل هي بمعنى ما شاء لتشمل الجميع بقرينة عموم المشية و إطلاقها و عمومات الحلية و الإباحة، و لا نحتاج إلى أقوال اللغويين أو المفسرين و إعمال الترجيح بينها، و لا فرق بين ملك الانتفاع المطلق، و المنفعة المطلقة، و ملك الذات من هذه الجهة، و يدل عليه
قول جعفر بن محمد (عليهما السلام): «لك أن تستمتع بكلّ جزء منك من كلّ جزء منها».
نعم، هناك موارد استثناها القرآن الكريم، و السنة المقدسة، و الفقهاء و تعرضنا لها في الفقه بما لا مزيد عليه.
و من تعليق الأمر بإتيان النساء على مشية المكلّفين و اختيارهم يستفاد أنّ الأمر للإباحة دون الوجوب.
كما يستفاد من تشبيه المرأة بالحرث في الآية الكريمة أمور:
الأول: أنّ الإنسان يحتاج إلى الحرث لأنّه منشأ بقاء الحياة و حفظها، كذلك النساء فإنّهنّ منشأ بقاء النوع و دوامه ببقاء النسل، و لولاهما لنفذ النوع و زالت الحياة.
الثاني: أنّ الحارث لما كان يلاحظ خصوصيات الحرث من حيث زمانه و مكانه، إذ ليس كلّ أرض صالحة للحرث و الزرع، و ليس كلّ زمان صالحا للزراعة كذلك لا بد أن يلاحظ في النساء هذه الجهة و هي من أهم جهات الحياة الزوجية و بدونها لم يحصل التعاطف و لم تتحقق المودة و المحبة بين الزوجين، و قد حرص الإسلام على ملاحظة هذه الجهة، و العقل يقضي بذلك أيضا.
الثالث: لزوم مراعاة الجهات الخارجية في الحرث: من سقي الماء و التحفظ عن حوادث الجو و غير ذلك، كذلك لا بد من مراعاة أحوال النساء و ملاحظة الزوجة التي يريد أن يختارها لعشرته و المخالطة معها فلا تقتصر على خصوص أمور خارجة كالجمال و المال و نحو ذلك التي لا ترتبط بسعادة الحياة الزوجية و تنشئة الأولاد و تربيتهم.
الرابع: عدم تحميل الأرض ما يضرّها من كثرة الماء و زيادة البذر، فإنّه و إن أوجب الانتفاع بذلك عاجلا لكنّه يضرّ بها آجلا و هكذا حال المرأة في كلّ ما يتعلق بها من الاستمتاعات.
الخامس: مراعاة البذر في الحرث بالحفظ و التنمية كذلك لا بد من مراعاة المرأة و ما في رحمها من البذر الإنساني فإنّ احتياج المجتمع الإنساني إلى النساء لأجل بقاء النوع و دوام النسل كما يحتاج إلى الحرث في إبقاء البذور، و تحصيل الغذاء للإنسان لحفظ حياته فجعل اللّه تبارك و تعالى رحم المرأة منشأ تكوّن الإنسان كما جعل في الرجل المادة الأصلية، فكلّ واحد من الزوجين يكمّل الآخر و يستعين به في رفع الحاجات، و قد جعل اللّه بينهما مودة و رحمة يخدمان النوع خدمات شرعية.
السادس: أنّ الحارث مسلّط على الأرض بأنحاء التعمير و الاستفادة منها، لأنّ الحرث وسيلة لبقاء النّوع و هو غير مقيّد بوقت كذلك الزوج مسلّط على الانتفاع من الزوجة في أيّ وقت شاء بأيّ كيفية أراد بحسب الوظيفة الشرعية.
السابع: أنّ بهجة الأرض و خضرتها و زيادة زرعها مما يوجب انبساط الحارث و فرحه كذلك جمال الزوجة و نظافتها و نزاهتها الفاضلة من موجبات فرح الزوج و انبساطه و رغبته على الحياة الزوجية. و غير ذلك مما هو منشأ لحسن هذا التشبيه و التنزيل.
ثم إنّ إعطاء هذه السلطة الانتفاعية المطلقة للزوج و تسليطه عليها يستلزم في جملة من النفوس التعدي عن الحقوق التي لا بد للزوج من مراعاتها بالنسبة إلى الزوجة، و لذلك أمرهم بالتقوى، و أنذرهم على المخالفة، و وعد المؤمنين بالبشارة.
قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ.
أي: عاملوا النساء معاملة إذا ظهرت يوم عرض الأعمال تكون زينا لكم و لا تكون شينا فتنتفعوا منها في الدنيا و الآخرة، فإنّ اللّه تعالى يراكم فعلا، و يوم ظهور الأعمال و سرائر النفوس تتمثل أمامكم أعمالكم، فإن أحسنتم لهنّ أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها.
و أكد سبحانه ذلك بقوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ و بقوله جلّ و علا: وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ و في سياق ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [الحشر- 18].
و يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ هو التقديم في الدنيا بالاستيلاد و إنجاب الأولاد لبقاء المجتمع الإنساني الذي يكر على أفراده الفناء و الموت و ببقائه يبقى الدّين الإلهي و تتحقق عبادة اللّه تعالى و يظهر توحيده عزّ و جلّ، و ذلك يتطلب تنشئة الأولاد صالحين قد تربوا على دين الحق و الأخلاق الفاضلة، و يكون فيهم بقاء ذكر الآباء و بقاء للنسل الذي طلبه اللّه تعالى من الزواج، فيكون تقديم الأولاد الصّالحين من تقديم العمل الصالح الذي طلبه اللّه عزّ و جل، و الأمر بالتقوى لأجل عدم تعدّي حدود اللّه تعالى و انتهاك حرماته.
قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ.
أي: لا بد أن يكون عملكم عمل من أيقن بملاقات اللّه تعالى و هو يجازيه على أعماله خيرا كان أو شرّا و كل من علم بأنّه يلاقي المحاسب المرتقب لا يتساهل في تهيئة نفسه للحساب.
و في الآية المباركة إرشاد إلى مراقبة النفس، و التحفظ على الأعمال لئلا يصدر العمل عن غفلة، و فيها من التوعيد على المخالفة ما لا يخفى.
قوله تعالى: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وعد منه تعالى لأهل الإيمان الذين يراعون أحكام اللّه تعالى و يراقبونه في أعمالهم و فيه إرشاد إلى أنّ الخوف من اللّه تعالى و التقوى من لوازم الإيمان.
و هذه الآية تدل على أنّ لكلّ واحد من الزوجين حقّا على الآخر يحاسبه الرقيب، و هي أعظم اية في تشريع قانون الزواج و التأكيد في مراعاة حق الزوجة و في السنة الشريفة ما يفسر ذلك فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أحبّكم عند اللّه أحسنكم إلى زوجته» و لا يعقل أن يكون قانون أضبط و أشمل لحقوق الزوجية من هذه الآية. و لم تصل الإنسانية في أمر الزواج إلى هذا المستوى من الانحطاط و لم يتحمل المجتمع الإنساني من الآلام و المتاعب في الحياة الزوجية إلا لأجل الإعراض عما أنزله اللّه تعالى فيها.