قوله تعالى: الم: المعروف بين المفسرين أنّ هذه الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية من المتشابهات و لا ريب في أنّ العلم بها مختص باللّه تبارك و تعالى أو بمن علّمه عزّ و جلّ لأنّ هذه الكلمات المقطعة قد أعيت العلماء على جهدهم عن الوصول الى آثارها فضلا عن العلم بكيفية تركيبها و الاطلاع على حقائقها و أسرارها.
و الظاهر أنّ ذكر الحروف المقطعة في القرآن العظيم يشير إلى أهمية الحروف الهجائية و كثرة عناية اللّه عزّ و جلّ بها لأنّها محور الشرايع السماوية و الكتب الإلهية بل بها تقوم الحياة الاجتماعية في الإنسان، و لأجل ذلك جعل تعالى البيان [أي النطق بها] في قبال خلق الإنسان فقال تبارك و تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: ٤]. و على هذا يمكن أن يكون «ذلك الكتاب» مبتدءا مؤخرا و «الم» خبرا مقدما.
يعني: أنّ ذلك الكتاب العظيم هو هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها و لكنه بحسب النظم و الجمال و الكمال و المعارف شيء خارج عن مقدوركم، و يكون من عالم الغيب و قد ظهر إلى عالم الشهادة مقرونا بالتحدي و التعجيز و إتماما للحجة، فكما أتم اللّه الحجّة عليهم بمن هو من أنفسهم أتمّ الحجّة عليهم أيضا بما هو من ألفاظهم.
ثم إنّ الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء باتفاق أئمة أهل اللغة و ليست بحروف و هي تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها فيقال: ألف- لام- ميم- ساكنة الأواخر و السور التي فيها هذه الكلمات المقطعة تسع و عشرون سورة و أصل الحروف الهجائية أيضا كذلك بناء على عد الهمزة حرفا مستقلا.
و أما بناء على عدها مع الألف واحدة فثمان و عشرون، و جميع الأحرف المقطعة بعد حذف المكررات نصف الحروف الهجائية، و إنّما ذكر تبارك و تعالى نصفها استغناء بذلك عن الجميع و هذا من جهات البلاغة أيضا.
و لا ريب في أنّ هذه الحروف ليست من المهملات بل هي مستعملة في معان اختلف في فهم المراد منها، و قد تعددت أقوال المفسرين في ذلك ربما تبلغ إلى عشرة أو أكثر:
منها: أنّ المراد بها الإشارة إلى حساب الجمل الذي كان متداولا في العصور القديمة فاستخرجوا منها جملة من الحوادث و منها مدة حياة هذه الأمة، و استند بعضهم إلى حديث أبي لبيد المخزومي. و أصل هذا التفسير باطل لا دليل عليه من عقل أو نقل و الحديث ضعيف و دلالته مخدوشة و الحساب الواقع فيه غلط على كل تقدير فلا يمكن الاعتماد عليه.
و منها: ما عن جمع من مفسري الصوفيّة تفسيرها بالقطب و الولي و الأوتاد و غاية ما ادعوه في إثبات ذلك الكشف و الشهود.
و لكن التفسير بذلك باطل أيضا، و لا دليل عليه و ما ادعوه من الكشف مردود لا مجرى له في القرآن الكريم و السّنة الشريفة و الأحكام الإلهية و نصوصنا به متواترة.
و منها: إنّها إشارة إلى إعجاز القرآن فإنّ ما يستعمل في التكلم و التخاطب إنما هو المركبات دون المقطعات و مع ذلك فإن في هذه المقطعات لطافة لا تكون في غيرها و حلاوة لا توجد في ما سواها فإعجازها في الفصاحة و البلاغة نحو إعجاز خاص إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن إرجاعها الى الحكم و الفوائد المتصورة كما ستعرف و إلّا فلا يمكن القول بأنها معان لها.
و الحق أنّها بحسب المعنى من المتشابهات التي استأثر اللّه تعالى علمها لنفسه، كما تقدم. فلا يلزم على العباد الفحص عن حقيقتها و بذل الجهد في دركها و فهمها، بل لا بد من إيكال الأمر إليه تعالى، و قد وردت في ذلك روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام). نعم يمكن أن يلتمس لتلك الحروف حكم و فوائد:
منها: أنّ استعمال الرموز بالحروف المقطعة كان شايعا عند العرب، و قد يعد ذلك من علم المتكلم و حكمته، و القرآن الكريم لم يتعدّ عن هذا المألوف فأشار بذكرها إلى أنّ القرآن الكريم هو من هذه الحروف و جامع لما هو المتعارف لديكم، و مع ذلك فقد أبدع إبداعا عجزت العقول من جمال لفظه فضلا عن كمال معناه.
و منها: أنّها ذكرت لأجل جلب استماع المخاطبين فإنّهم إذا سمعوها تهيئوا لاستماع البقية، فهي تشويق و تنبيه لاستعداد تفهم شيء جديد.
و منها: إرشاد النّاس الى أنّ وراء كل ظاهر باطن فلا يكتفى بالجمود على الظاهر، بل لا بد من التأمل في بطون الكلمات القرآنية لأنّ في كل كلمة من كلمات القرآن بانفرادها دقيقة، كما أنّ في سائر جهاتها دقائق و لطائف.
و منها: أنّها تشير إلى بعض الحقائق و رموز الى بعض العلوم التي سترها اللّه تعالى عن العباد لما رآه من المصالح حتّى يظهر أهلها فيستفيد منها و تكون لغيره من مخفيات الكنوز فلها ربط بعلم الحروف.
و مقتضى الأخبار الكثيرة أنّ عند الأئمة الهداة شيء كثير منه و هو مما اختصهم اللّه تعالى به فعلم فواتح السور من الأسرار المودعة لدى الإمام (عليه السّلام)، و يرشد إلى ذلك ما يستفاد من مواظبة الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في حالاتهم الانقطاعية مع اللّه تعالى و توسلهم اليه عزّ و جلّ بفواتح السور، و أنّ لها شأنا من الشأن و منزلة عظيمة عند اللّه تعالى. و هذه قرينة معتبرة على سقوط كثير من احتمالات المفسرين و بذلك تخرج عن التشابه المطلق لأنّ ما ذكره الأئمة الهداة انما كان من الإفاضات الربوبية عليهم.
قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ: فسر الأدباء «ذلك» للإشارة إلى البعيد- ذهنيا كان أو خارجيا، حسيا كان أو عقليا- و أنّ موارد استعمالاته في القريب إنّما تكون بالعناية، كقوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [سورة يوسف، الآية: 32] و قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 102] و المراد بالأولى بعد جمال يوسف (عليه السّلام) عن كل ما يتصورون فيه و بالثانية بعد حقيقته تعالى عن إحاطة العقول بها مطلقا.
و فيه: أنّ كل ذلك تكلّف مستغنى عنه فإن أرادوا الحقيقة و المجاز يعني أنّ استعمال «ذلك» في البعيد حقيقة و في غيره مجاز أو أنه من تعدد الوضع فالأصل ينفي كلا منهما؛ و إن أرادوا به مجرّد الاستحسان فهو مخالف للقاعدة التي أسسوها من أن اللغة لا تثبت بالاستحسان.
و حينئذ فإن قالوا بأنّ الموضوع له في أسماء الإشارة عام فهي كأسماء الأجناس لا فرق فيها بين القريب و البعيد و التفرقة بينهما ساقطة. و إن قالوا بأنّه خاص و يكون «هذا» لخصوص القريب و «ذلك» لخصوص البعيد و لوحظت هذه الخصوصية في الوضع و الموضوع له، فأصالة عدم ملاحظة هذه الخصوصية مسلمة عند جميع الأدباء و غيرهم أيضا. و إن أرادوا أنّ الخصوصية حاصلة عند الاستعمال، فهو صحيح في الجملة لكن محققيهم لا يقولون بصحة أخذ ما حصل من الاستعمال في الموضوع له، و قد فصلنا القول في الأصول فليراجع تأليفنا فيه. هذا مع أنّ هذا البحث ساقط بالنسبة إلى ما ينزل منه عزّ و جل، إذ لا يتصور بعد و قرب بالنسبة اليه تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: ٤]، و هو قريب في عين بعده و بعيد في عين قربه، و قد استعمل لفظ «هذا» بالنسبة إلى القرآن أيضا، قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي [سورة الإسراء، الآية: 9] مع أن القرب و البعد لهما مراتب متفاوتة في القرآن أيضا فهو قريب إلى الأذهان من حيث نظمه و أسلوبه الظاهري. و قصصه و بعيد عنها من حيث متشابهاته و دقائقه فيصح استعمال الإشارة القريبة و البعيدة اليه من جهتين، و عن علي (عليه السّلام): «إن القرآن ذو وجوه».
ثم إنّ هذه الجملة المباركة «ذلِكَ الْكِتابُ» في مقام التعظيم و الإجلال للقرآن الكريم عظمة لا نهاية لها كما ستعرف. و الكتاب قيل هو بمعنى الجمع لأنه مصدر من كتب يكتب إذا جمع.
و قيل: إنه بمعنى المكتوب و هو اسم جنس لما يكتب. و الظاهر أن مادة كتب بمعنى الثبوت و الوجوب. و يمكن إرجاع الأولين إليه أيضا فإن القرآن هو الثابت في جميع العوالم و الجامع لجميع المعارف و الكمالات.
و قد أطلق لفظ الكتاب على القرآن الكريم مقرونا بالتجليل و التعظيم، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 29]، و قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [سورة إبراهيم، الآية: 1]، و قال تعالى: أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [سورة الكهف، الآية: 1- 2] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و قد ثبت في الفلسفة الإلهية أنّ الإنسان من بدء وجوده إلى حين موته إنما يسعى و يستهدف في حياته تحصيل غاية و غرض مّا و هذا الغرض يختلف باختلاف أفراد الإنسان، و يمكن جمع تلك الأغراض المختلفة غير المحدودة في عنوانين كليين: الأغراض الواقعية العقلية، و الخيالية الوهمية، و ليس كل فرد يصل إلى غايته و غرضه لوجود موانع لا تعد و عوائق لا تحصى، و الحياة عبارة عن جلب الملائم و دفع العوائق و ثبت هذا بالفطرة أيضا.
و في الآية المباركة إشارة إلى أن الغاية العقلية التي لا بد من طلبها و الغرض الذي يجتهد في تحصيله ذلك الكتاب، لقوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89] فهلموا إليه و لا تذهبوا يمينا و شمالا فتضلوا السبيل.
و يمكن أن يكون المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي كان الأنبياء (عليهم السّلام) يطلبونه بالفطرة الاستكمالية عندهم لتكميل النفوس الإنسانية، و يدل عليه قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: ٤۸].
قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ. الريب و الريبة: هو الشك بل هو أدنى مراتبه و حذف المتعلق يفيد العموم أي: أن ذلك الكتاب لا شك فيه من أي جهة يمكن أن يتصور فيه الشك فهو مبرأ من كل عيب و شك، لأن نفي كل طبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها المتصورة في تحققها، فنفي الريب بقول مطلق يقتضي نفيه في نظمه و بلاغته و في علومه و معارفه و تشريعاته و جميع الجهات المتصورة في كماله و معارفه و لا ريب في كونه كذلك، فليس لأحد أن يرتاب فيه بعد الاعتراف بأنه من الحكيم الخبير، و هذا حكم عقلي ذكره اللّه تبارك و تعالى في كتابه الكريم كسائر الأحكام العقلية، كقوله تعالى: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة ابراهيم، الآية: 10].
قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. هدى مصدر و الهداية الدلالة إلى الصراط المستقيم و لها مراتب كثيرة تختلف باختلاف الاستعدادات و سائر الجهات اختلافا كثيرا، و تقدم ما يتعلق بها في سورة الفاتحة.
و المتقين: من الاتقاء، و الاسم التقوى و معناها الحجز و المنع و هي من أعلى الصفات التي اعتنى بها اللّه تبارك و تعالى، كما أنها من أجلّ المقامات الإنسانية و أرفعها، و التقوى تدور مدار الإيمان و العمل الصالح.
و القرآن العظيم كما أنه مقتض لحدوث التقوى للعاملين به كذلك مقتض لبقائه فيهم أيضا، و لا ريب في أن العمل بالقرآن ملازم للتقوى فكأنه قال تعالى: هدى للعاملين به، و إنما ذكر المتقين إشعارا بعظمة التقوى و أهمية مقامها و ذكر أحد المتلازمين و ارادة الملازم الآخر شايع في كلام الفصحاء. و قد وصف اللّه تبارك و تعالى الكتاب في آيات أخرى بأنه هدى للمتقين، كقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 138] كما وصفه تعالى بأنه هدى للمسلمين، قال تعالى: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 102]. و للناس أيضا، كقوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، فهو هاد للمتقين و العلماء العاملين به و سواد النّاس و ذلك لعدم تناهي معارفه و عدم إمكان الإحاطة بعلومه لغيره عزّ و جل فكل يستفيض منه بقدر قابليته.
و ليس المراد بالمتقين خصوص من بلغ المرتبة القصوى في إيمانه و تقواه لأن القرآن نافع و هاد لجميع المراتب بل و جميع النّاس كما عرفت، و لا تختص هداية القرآن بالمتقين فقط لأن الوصف لا يدل على المفهوم خصوصا مع التصريح بالعموم في آيات كثيرة على ما تقدم.
ثم إنّ التقوى استعملت في القرآن الكريم بهيئاتها الكثيرة و جميعها تشعر بعظمة مقامها و رفعة شأنها و انها توجب محبة اللّه للمتصفين بها و محبة النّاس لهم كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [سورة الدخان، الآية: ٥۱] و قال تعالى: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة ق، الآية: 31] و قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 7]، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و قد استعملت منسوبة إليه عزّ و جل في قوله تعالى: وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة، الآية: ٤۱]، و قال تعالى: وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ [سورة الحشر، الآية: 18] و اتقاؤه يعني اتقاء عذابه و عقابه، و الا فلا وجه لنسبة الاتقاء الى ذاته و لا قدرته تعالى. و عقاب اللّه إما دنيوي أو أخروي أو هما معا، و اتقاء عقابه إنما يتحقق بالإيمان الصحيح و العمل الصالح؛ و أدنى مرتبة التقوى التي يكون المدار عليها في الكتاب و السنة هي إتيان الواجبات و ترك المحرمات و فوق ذلك مراتب و درجات كما وردت في خطبة علي (عليه السّلام) في وصف المتقين و هي من جلائل خطبه و نفائسها.
و التقوى فوق الإيمان بدرجة، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 29]. و قد وردت في جملة من الأخبار أيضا، فعن الرضا (عليه السّلام): «الإيمان فوق الإسلام بدرجة و التقوى فوق الإيمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و ما قسم في النّاس شيء أقل من التقوى» و يعضد ذلك اللغة و العرف أيضا، فإن أهل التقوى عند النّاس أخص من المؤمنين، و قد جعل الإيمان موضوعا للتقوى في جملة من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [سورة البقرة، الآية: 103]، و قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة، الآية: 88]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [سورة المائدة، الآية: ۳٥]. نعم قدم التقوى على الإيمان في جملة أخرى من الآيات كقوله تعالى: إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة، الآية: 93].
و يمكن أن يكون هذا التقديم و التأخير باعتبار المراتب و الثبات عليها لا باعتبار أصل الإيمان فانه موضوع التقوى، فما عن بعض المفسرين من أن التقوى في المقام هو الإيمان و أصر عليه مردود و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. الإيمان من الأمن سمي به لكونه موجبا لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة قال تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً [سورة الجن، الآية: 13] أو لأمان النّاس به في الدنيا. و في الحديث «لأنه يؤمن على اللّه فيجيز أمانه» و هو- كما في جملة من الأخبار- الإعتقاد بالجنان و العمل بالأركان و الإقرار باللسان فليس الإيمان مجرد الإقرار بل العمل بالوظيفة جزؤه فهو في اللغة و الشرع بمعنى واحد و هو التصديق الجازم.
و يستعمل لازما و هو كثير في القرآن، قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [سورة البقرة، الآية: 13]. و متعديا بكلمة (الباء) و (اللام) و هو أيضا كثير، قال تعالى: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ [سورة البقرة، الآية: 177]، و قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [سورة يونس، 83].
و يكشف من ورود متفرعات هذه المادة في مواضع كثيرة من القرآن عن أهمية الإيمان و أنّه الأصل في الكمالات الإنسانية مطلقا، بل جعل تعالى العقل- الذي هو من أعظم مواهبه- دائرا مداره، فقال عزّ و جل: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً [سورة الطلاق، الآية: 10] حيث خص أولي الألباب بالمؤمنين.
و قرن العمل بالصالحات مع الإيمان في كثير من الآيات، قال تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سورة البقرة، الآية: 82]، و في النصوص الكثيرة أن الإيمان مبثوث على الجوارح جميعها و يدل على ذلك الإعتبار أيضا فإنّ من التزم بشيء و لم يعمل بما التزم به لا يعد من أهل ذلك الملتزم به إلّا بالعناية و المجاز.
نعم؛ الإيمان أمر تشكيكي و انه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا و نقصا و شدة و ضعفا كما سيأتي و يختلف باختلاف متعلقه من القلب و اللسان و عمل الجوارح و أعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177].
و من ذلك يعلم أن الإيمان على أنحاء أربعة: (الأول): الإيمان الانتسابي فقط بأن يرى الشخص نفسه في بلاد المسلمين منسوبا إليهم بلا اعتقاد و لا عمل. (الثاني): الإيمان الاعتقادي فقط من دون عمل. (الثالث): العمل الظاهري من دون الاعتقاد. (الرابع): الاعتقاد القلبي و العمل على طبق ما اعتقد، و ما يصدق عليه الإيمان حقيقة هو الأخير و هو النافع للنفس الإنساني في طريق استكماله و عوالمه الأخروية و سائر الأقسام إنما أطلق عليها الإيمان بالعناية للتسهيل. نعم لا يطلق عليه الكافر إلّا إذا انتفى منه الإعتقاد و العمل و الإقرار، و مع انتفاء العمل بالأركان فقط يكون فاسقا إن لم يكن منكرا لضروري من ضروريات الدين فمن ترك واجبا و ارتكب محرما فهو ليس بمؤمن من هذه الجهة و إن كان مؤمنا من جهة أخرى، قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن» ، و عن الصادق (عليه السّلام): «فأما الرشا في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم».
و من ذلك يظهر بطلان إشكال جمع من المفسرين و غيرهم بأنه إن كان العمل بالشريعة المقدسة جزءا من الإيمان لزم عطف الجزء على الكل في الآيات الكثيرة المشتملة على عطف عمل الصالحات على الإيمان، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سورة البقرة، الآية: 277] أو اشتراط الشيء بنفسه و كلاهما باطل.
و وجه الدفع أنّ عطف الجزء على الكل إذا كان لفائدة و خصوصية لا بأس به بل هو من شؤون البلاغة و الفصاحة كما صرح به أئمة العربية و أي فائدة أحسن من كون الإيمان بالشريعة يدور مدار العمل بها، قال (صلّى اللّه عليه و آله): «لا قول إلّا بالعمل و لا عمل إلّا بإصابة السنة». و ليس المقام من اشتراط الشيء بنفسه بل من اشتراط الشيء بأهم شروطه، كما في قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا صلاة إلّا بطهور».
قوله تعالى: بِالْغَيْبِ. الغيب هو خلاف الحضور و الشهود فكلما لم يكن حاضرا في المدارك الجسمانية و مشهوداتها يكون من الغيب و لكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت و التحقق. و الإيمان بالغيب هو الإعتقاد بما غاب عن النّاس من الموجودات و العوالم كعالم الملائكة و عالم البرزخ و عالم الآخرة و جميع ما أنزله اللّه تبارك و تعالى من الأحكام بل نفس القرآن لأنه و ان كان مشهودا للناس لكنه من الغيب من حيث معارفه و علومه، و يمكن أن يكون مشهودا من جهة و من الغيب من جهة أخرى كالصّلاة فإنها عمل حاضر و لكنها- من حيث أن حافتي الصراط الصلاة و صلة الرحم- من الغيب. و كذا الحجر الأسود فإنه مستلم الحجيج ظاهرا فهو مشهود، و لكن من حيث كونه يمين اللّه في الأرض يصافح بها مع عباده- كما في الحديث- من الغيب إلى غير ذلك.
و المراد بالغيب هنا هو اللّه تبارك و تعالى و كل ما أوحى إلى نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) و الدار الآخرة و ما فيها من النشر و الحشر و الحساب و الثواب و العقاب، و قد أشار عزّ و جل إلى ذلك في ذيل الآية «وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».
و إنما حثّ اللّه عباده على الإيمان بالغيب و عدم اقتصارهم على المحسوسات لأنه الأصل في الكمالات الإنسانية الباقية، و بالإيمان به يسهل على الإنسان كلفة العمل فكأنه يرى فعلا ثمرة عمله بخلاف المقتصر على الحسن فإنّه و ان بلغ الى غاية مراده لكن كماله الظاهري منحصر بالماديات فقط.
و الغيب يستعمل في القرآن الكريم بمعان.
الأول: ما ذكر في هذه الآية المباركة و سائر الآيات المرغبة للإيمان.
الثاني: ما أضافه اللّه تعالى إلى نفسه مثل عالم الغيب و الشهادة، قال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة التغابن، الآية: 18]، و قوله تعالى: وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة هود، الآية: 123]، و: أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سورة التوبة، الآية: 78] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة و المراد بهذا الغيب جميع ما سوى اللّه تعالى من حقائق المجردات و الماديات و الجواهر و الأعراض و خواصها و مباديها و ما يصير إليها أمرها و ارتباط بعضها مع بعض و المضادة بينها، و ما يتعلق بالإنسان حدوثه و بقائه و مصيره و العوالم التي يرد عليها إلى غير ذلك مما هو مستور.
الثالث: ما ينبغي ستره و حفظه، كما في قوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ [سورة النساء، الآية: ۲٤] و قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف، الآية: ٥۲].
الرابع: ما حدث و مضى، كقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ [سورة يوسف، الآية: 102] مع أن قصة يوسف (عليه السّلام) وقعت في الخارج ثم حكاها اللّه تعالى لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله). و الجامع لتلك المعاني هو الاستتار.
قوله تعالى: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ. استعملت مادة (ق و م) في القرآن العظيم بكثير من هيئاتها المختلفة بالنسبة إلى الصّلاة تعظيما لها و اهتماما بشأنها. و الإقامة بمعنى الإستواء و الاعتدال و الجمع. و معنى إقامة الصلاة إتيانها بحدودها و قيودها على ما أمر اللّه تعالى به و التوجه بها إلى اللّه عزّ و جل.
و الصلاة بمعنى الدعاء و العطف و الرحمة قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [سورة الأحزاب، الآية: ٤۳] أي يرحمكم و يعطف عليكم و قال تعالى: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً [سورة الأحزاب، الآية: ٥٦] أي ينزل الرحمة و العناية الخاصة عليه (صلّى اللّه عليه و آله)، و استعمل لفظ الصّلاة في ما هو المعهود من الأعمال في الشريعة الإسلامية لوجود الدعاء و طلب الرحمة فيها.
و هذه العبادة الخاصة كانت معهودة لدى الأنبياء السابقين و أتباعهم في الشرايع القديمة بل كانت توجد عند الحنفاء في الجاهلية. و قد أحكمها اللّه تعالى في هذه الشريعة في أفضل هيئة و أتم عبادة، و هي أول ما علمها اللّه تعالى لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مباشرة من وراء الغيب ليلة المعراج كما في الحديث. و أول ما ينظر إليها اللّه تعالى من أعمال العباد يوم القيامة «إن قبلت قبل ما سواها و ان ردت رد ما سواها» و جعلها النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عمود الدين كل ذلك لما فيها من الأثر العظيم في تهذيب النفوس و العروج بها إلى الملكوت. و قد ذكر اللّه تعالى من عظيم أثرها في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت، الآية: ٤٥]، و لذلك أمر اللّه تعالى بإقامتها و المحافظة عليها و الخشوع فيها و أدائها في أوقاتها.
و ليس المراد بإقامتها مجرد الإتيان بها صورة من قيام و ركوع و سجود خالية من روح العبادة و التوجه إليه تعالى و إلّا فهو مضيع لها و قد توعد اللّه فاعلها بالويل فقال جل شأنه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [سورة الماعون، الآية: ٤] فهو و ان سمي مصليا لكنه منعوت بالسهو عن حقيقتها فتقول الصلاة له: «ضيعك اللّه كما ضيعتني» كما ورد في الأثر و لأجل ذلك لم يستعمل لفظ الإتيان بالصّلاة في القرآن العظيم إلّا مقرونا بالذم غالبا كقوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ [سورة التوبة، الآية: ٥٤].
قوله تعالى: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. الرزق: هو العطاء الخاص في مقابل الحرمان و يشمل الماديات- كالمال و الولد- و المعنويات كالعلم و التقوى و الجاه. و بالجملة: كل جهة إمكانية تحققت بالنسبة إلى الإنسان و أفاض اللّه تعالى عليه فهو رزق منه تعالى إليه قال عزّ و جل: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ [سورة الإسراء، الآية: 70].
إن قلت: إثبات أنّ الإنسان بجميع جهاته- من ذاته و وجوده و عوارضه- رزق و مجعول منه تعالى مناف للنزاع المعروف بين الفلاسفة و المتكلمين من أن الوجود مجعول منه تعالى، فتكون الماهية ليست كذلك أو الماهية مجعولة منه تعالى فالوجود ليس كذلك، فلا كلية في ما ادعيت من أن الإنسان مجعول منه تعالى.
قلت: لا ريب في أن الجميع- الوجود و الماهية و عوارضها- مجعول منه تعالى إما تبعا أو استقلالا فمن يقول باستقلالية الجعل بأحدهما يكون الآخر مجعولا بالتبع فالكل مجعول منه تعالى و مرزوق منه جل شأنه.
و الإنفاق: هو الإخراج من اليد و المراد به هو الإعطاء الخاص المرغّب اليه شرعا و الممدوح عقلا و هذا وصف آخر للمؤمنين بالغيب فإن من كان مؤمنا بما وراء الماديات و يعتقد بأنّ مرجعها إلى الزوال و الفناء و ان ما يملكه هو رزق من اللّه تعالى يجد في نفسه ميلا إلى بذله ابتغاء رضوان اللّه و رحمة لبني نوعه و يكون من المتقين الذين لهم القابلية لهدى القرآن، فقوله تعالى: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أجمع كلمة نافعة للإنسان و أعظم ما يتحفظ به النظام لأن جميع مواهب اللّه تعالى على الإنسان رزق منه لا بد و ان ينفق بنحو ما اذن اللّه له و هذا هو الاستكمال و الاستنماء لنفس الموهبة الإلهية في الدنيا و الآخرة و هو من الأمداد الغيبي الذي يصل منه تعالى إلى المنفقين، و فيهم نزل قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [سورة البقرة، الآية: ۲٦۱].
كما أن فيهم نزل أيضا: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: ۱٦۰]. و ليست الحسنة مختصة بالمال بل تشمل كل خير يوصل إلى الغير لينتفع به و يسمى صدقة أيضا و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.
ثم إن الإنفاق أقسام:
الأول: الإنفاق الواجب كالزكاة المفروضة و الخمس و الكفارات و النفقات الواجبة و ما أوجب الإنسان على نفسه بالنذر و نحوه، و من الإنفاق أيضا انفاق الواجبات النظامية على ما فصل في الفقه.
الثاني: الإنفاق المندوب الذي حث القرآن اليه في آيات كثيرة كما سيأتي، و كل ما اشتد حب الإنسان لشيء يشتد ثواب إنفاقه للّه تعالى قال جل شأنه: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران، الآية: 92].
الثالث: الإيثار على النفس الذي هو من أجلّ مقامات الأولياء و فيهم نزلت الآية المباركة: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [سورة الحشر، الآية: 9]. و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة له.
و من ذلك يعرف أنه لا وجه لتخصيص الرزق بالنفقة الواجبة على الأهل و الولد أو الزكاة المفروضة أو صدقة التطوع، أو الحقوق الواجبة العارضة في الأموال- ما عدا الزكاة- و كذا ليس المراد به خصوص العلم- كما يأتي في البحث الروائي- بل هو عام يشمل كل إنفاق و لو كان معنويا يبتغي فيه سبيل اللّه تعالى فإنه ربما يكون الإنسان مصليا و صائما و لكنه متى ما عرض عليه ما يقتضي به بذل شيء شحت نفسه و أمسك عن الإعطاء.
و يستفاد من إسناد الرزق إلى اللّه تعالى أن الإنسان مهما جدّ في تحصيل ما يتملكه كان كله من اللّه جل شأنه و أنه هو الرزاق فلا يكترث بما يصيبه و لا يبخل عما يطلب منه، و إن الإنفاق بشيء له تعالى ليس من فقد الشيء عن الباذل بل حقيقته تحويل شيء عن معرض الزوال و الفناء إلى خزائن اللّه تعالى التي لا يتصور فيها الفناء و الزوال و في قوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سورة سبأ، الآية: 39] و قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة الأنفال، الآية: ٦۰] إشارة إلى ما ذكرناه. و سيأتي التفصيل.
كما أنه يستفاد من قوله تعالى: مِمَّا رَزَقْناهُمْ أن المطلوب منه النفقة ببعض مما يملك لا جميعه كما نبه عليه في آية أخرى: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [سورة الإسراء، الآية: 29].