البحث في هذه المسألة تارة: بحسب القاعدة. و أخرى:
بحسب النص. و ثالثة: بحسب الاعتبار. و رابعة: بحسب الكلمات.
أما الأول فلا ريب في أنّ المشتركات كالمباحات لا تختص بأحد دون أحد «و جميع الناس فيها شرع سواء باتفاق المسلمين، بل العقلاء، و لا يحصل حق الاختصاص إلا بالحيازة و السبق، فمن سبق إلى مكان في المسجد لغرض- كالصلاة، أو الاعتكاف- يكون أحق به و ليس لأحد إزعاجه سواء وافق غرضه غرض السابق أو خالف و هذا من المسلّمات شرعا و عرفا.
و إنّما البحث في أنّ هذه الأحقية من مجرّد الأحقية المجاملية لا تترتب عليه أحكام، و إن كانت المزاحمة من القبائح و المستنكرات، أو تترتب عليه أحكام الغصب مضافا إلى ذلك.
و بعبارة أخرى: الحق هنا من قبل الوصف بحال السابق إلى المحل أي:
يحرم ظلمه و إزعاجه. أو من قبل الوصف بحال نفس المحل بحيث حصل للسابق فيه حق فأخذه منه يكون غصبا و يترتب عليه أحكامه.
قد يقال: بالأول، لأصالة عدم ترتب أحكام الغصب، و لعدم تعرض الفقهاء للصلح، و أخذ العوض، و الإرث بالنسبة إلى هذا الحق، و لأصالة الصحة و عدم المانعية فيما لو أزعجه شخص و صلّى أو اعتكف في محله.
و الكل باطل، أما الأول: فلأنّ المتشرعة يشهدون بخلافه و يتنزهون عن الصلاة أو الاعتكاف في محل أزعج صاحبه عنه بالقهر و الظلم، و مقتضى هذا ترتب آثار الغصب عليه و هو بمنزلة الأمارة المقدمة على الأصل.
و أما الثاني: فلأنّ عدم تعرضهم أعمّ من ذلك كما هو معلوم، مع أنّه ليس في البين دليل على أنّ كل حق لا يجوز الإرث، و أخذ العوض بالنسبة إليه لا يتعلق به الغصب و أحكامه، بل هذا من مجرّد الدعوى فقط.
و أما الأخير: فهو مخالف لاستصحاب بقاء كليّ الحق، و مخالف لسيرة المتشرعة من استنكارهم لذلك و تنزههم عنه و يأتي باقي الكلام في كتاب إحياء الموات عند بيان المشتركات.
يزيد: «سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل»4۱.
و عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) في خبر ابن إسماعيل: «قلت له:
نكون بمكة أو بالمدينة، أو الحيرة، أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربما خرج الرجل يتوضّأ، فيجيء آخر فيصير مكانه قال (عليه السلام): من سبق إلى موضع فهو أحقّ به يومه و ليلته»4۲.
و نوقش فيهما أولا: بضعف السند، و أنّ الأحقية أعمّ من ثبوت الغصب الاصطلاحي مع إزعاجه ثانيا، و بالتنافي بينهما في تحديد زمان الأحقية ثالثا.
و الكل مخدوش:
أما الأول: فلا وجه لمناقشة السند في هذه الأخبار التي اعتمد عليها الفقهاء في كل طبقة، و نزّلوها منزلة القواعد الكلية و فرّعوا عليها فروعا و أحكاما في المشتركات، و متنها يشهد بالوثوق بالصدور.
أما الثاني: فإنّ المنساق من الأحقية عرفا في جميع موارد الاستعمالاته:
أنّ قطع استيلائه عن مورد حقه بدون رضاه و طيب نفسه يكون ظلما و عدوانا و هذا هو عين الغصب الاصطلاحي في الكتاب و السنة و اصطلاح الفقهاء و إرادة غير ذلك يحتاج إلى قرينة و هي مفقودة.
و أما الثالث: فلا يضر ثبوت أصل الأحقية أولا، و ثانيا يمكن حمله على اختلاف الأغراض، ففي الأماكن- مقدسة كانت
أو غيرها- تارة يطلب فيه البقاء إلى الليل. و أخرى: يطلب فيها بقاء اليوم و الليلة، كما أنّه يمكن الأخذ
بالأقل و حمل الأكثر على مطلق الرجحان و يأتي في أحكام المشتركات بعض الكلام هذا.
أما الثالث: أي البحث حسب الاعتبارات العرفية فلا ريب في أنّ العرف يرى للسابق حقا فيما سبق إليه، و ربما يحصل بينه و بين من أزعجه نزاع و تشاجر و الناس كلّهم يقولون: إنّ الحق مع السابق و لا يخفي ذلك على كل من تأمل في المشتركات عند سبق بعض إليها و مزاحمة آخر له.
أما الرابع: و هي كلمات الفقهاء، فإنّها مختلفة حتى من فقيه واحد في موضعين من كتابه و لكن لا اعتبار بها ما لم يكن إجماعا معتبرا. و من ذلك كله ظهر أنّ الأقوى بطلان الاعتكاف. ثمَّ إنّ المناط في البطلان هو أن يعد نفس الكون محرّما. و أما إن عدّ الكون مباحا و كان من التصرف في المحرّم، فيصح الاعتكاف و إن أثم في التصرف. و مع الشك في أنّه من أيّهما يجري استصحاب الصحة إن كان مسبوقا بها، و أصالة البراءة عن المانعية مع عدم السبق و منه يعلم حكم الجلوس على الفراش المغصوب، و الجلوس على أرض المسجد المفروش بتراب أو آجر مغصوب إذ لا ريب في حرمة التصرف في الجميع و مقتضى الأصل كما مرّ صحة الاعتكاف، و لكن لا ينبغي ترك الاحتياط.
فروع- (الأول): لو سبق شخص في محل من المسجد إلى الصلاة فيه، أو قراءة القرآن، أو الدعاء، فزاحمه غيره، فاعتكف فيه، فالحكم كذلك من غير فرق.
(الثاني): لو كانت مدة سبق الغير محدودة بحدّ معين- كساعتين أو ثلاث ساعات مثلا- فزاحمه و اعتكف فيه هذه المدّة لا يصح الاعتكاف في هذه المدّة بلا إشكال، بل يبطل أصل الاعتكاف أيضا، لأنّه قطع استمرار المكث بلا عذر شرعيّ.
(الثالث): لو أزال معتكف معتكفا آخر عن محلّه و اعتكف ثمَّ بعد الفراغ أجاز المعتكف الأول، فصحة اعتكاف الثاني مبنية على جريان الفضولي في مثل ذلك، و يمكن جريانه لو لم يكن إجماع على الخلاف.