و هما من أعظم مظاهر حكم اللّه تعالى و آياته فيتغذى بهما الإنسان و ينمو و يتوالد بهما البشر فيبقى نوعه في ممر القرون و الأزمان، و جعل عز و جل فيها منافع لا تحصى فيعالج بها ما يعرضه الحرمان كما شرع فيها أحكاما بيّنها أئمة الدين عليهم السّلام و شرحها الفقهاء بأحسن شرح و بيان، ثمَّ منّ اللّه تعالى على عباده فجعل الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد منه حظر فيها و خلق لنا ما في الأرض جميعا و توافقت العقول على هذه الإباحة المطلقة الأصلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان التي هي من أهم القواعد المعاشية و المعادية، فاتفقت الأدلة الشرعية و العقلية على الإباحة الأصلية في الأشياء كلها ما لم ينص على التحريم بدليل معتبر قويم، و تفصيل هذا الإجمال مذكور في كتب الأصول و الفروع من كتب الفريقين.
و ينبغي الإشارة إلى أمور:
الأول: أن المعلوم من الحكمة المتعالية الإلهية حلية الطيبات و حرمة الخبائث في هذا النظام الكياني الموافق للنظام العلمي الرباني الذي تحيرت العقول في حسنه و كماله و تمامه، و لا يتوهم نظام أحسن و لا أتم و لا أكمل منه و لو فرض توهم ذلك فهو يرجع إلى قصور في المدرك (بالكسر) لا نقص في المدرك (بالفتح)، و بعد كون الحكم من العقليات بالنسبة إلى حكمة الحكيم المطلق لا وجه لبيان الآيات1، و الروايات الواردة في هذا المجال لأن كلها إرشاد إلى حكم العقل المستقل، قال مفضل بن عمر: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ قال: إن اللّه تبارك و تعالى لم يحرم ذلك على عباده و أحل لهم ما سواه رغبة منه فيما حرم عليهم و لا زهدا فيما أحل لهم، و لكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحله لهم و أباحه تفضلا عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرهم فنهاهم عنه و حرمه عليهم- الحديث-»2، و قريب منه روايات كثيرة أخرى وردت في أبواب متفرقة.
الثاني: الناس في كل زمان و مكان من حين ظهورهم إلى حين انقراضهم عنها على طبقات ثلاث:
الاولى: المترفون المتأنقون في المأكل و المشرب فلا يستعملون فيهما إلا أحسن ما يقدرون عليه، و هم في طرف الإفراط، و هذا الصنف بين قليل و كثير حسب ما تقتضيه الظروف و الجهات.
الثانية: من يكون بعكس ذلك و في طرف التفريط فالطيب لديهم ما قدروا على أكله و لو كان من الجيف و الخبث عندهم ما حرموا منه و لو كان من أفضل الأغذية و التحف.
الثالثة: المتوسطون الخارجون عن حدي الإفراط و التفريط بحيث يكون لهم سجية التمييز بين الطيب و الخبيث فكما يميزون بين الريح الطيب و غيره كذلك يميزون بين الخبائث و الطيبات بأذواقهم، و هذه الطبقة كثيرة في جميع البلدان و الأزمان و الأديان.
الثالث: الخبيث و الطيب من الأمور النسبية الإضافية تختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، فرب طيب عند القحط و الغلاء يكون من أخبث الخبائث عند الوسعة و الرخاء و رب خبيث في حالة يكون طيبا في حالة اخرى، و لهذه كلها مراتب لا تضبط لديها الحدود و لا تعيّن بحد محدود.
الرابع: لا بد من إخراج المحرمات الشرعية- عن الطيبات على فرض صدق الطيب على بعضها عرفا لأن نهي الشارع عنها يكشف عن خباثتها، و بعد وضوح ذلك كله نقول الخبيث و الطيب من المعاني العرفية و المرجع في تعيين هذا المعنى العرفي الطبقة الثالثة التي قلنا أنهم المتوسطين الخارجين عن حدي الإفراط و التفريط، لأن كل حكم تعلق بموضوع لم يرد في الشرع تحديد و تقييد لذلك الموضوع يرجع فيه إلى المتعارف، و المتوسطون هم المتعارف في تعيين هذا الموضوع كما هو الشأن في تعيين جميع الموضوعات العرفية، فيرجع إلى المتوسط منهم لا إلى أهل المداقة منهم الذين يكونون من أهل الوسواس أو قريبا منهم، و لا إلى المسامحين الذين من أهل عدم المبالاة بالشيء أو قريبا منهم، و إذا رجعنا إليهم فإن حكموا بأنه خبيث يحرم و إن حكموا بأنه طيب يحل، و مع ترددهم أو اختلافهم و عدم الترجيح لانظارهم في البين فالمرجع أصالة الحلية لا محالة.