لا ريب في أنّ نجاسة الكافر في الجملة من ضروريات المذهب بل يمكن أن يقال: إنّ المتديّن و الملتزم بكلّ ملة يتجنب و يباين عن الملة الأخرى، و يكون هذا من اللوازم العادية الارتكازية بين الملل المختلفة، و قد حدد الشارع هذا التجنب بحد خاص، و هو النجاسة، فتكون أدلة النجاسة مطابقة لذلك الأمر العادي الارتكازي.
ثمَّ إنّ المتيقن من قيام الضرورة على نجاسة الكافر، إنّما هو المشرك، سواء كان في العبادة، كما هو الغالب، أم في الذات، أم في الصنع، لإطلاق ما يأتي من الآية الكريمة، و إطلاق معاقد الإجماعات. و احتمال الانصراف إلى الأخير، ممنوع، لأنّ الانصراف المستند إلى علية الوجود لا اعتبار به، كما ثبت في محله.
و يدل على النجاسة: إطلاق قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ۱۷٥.
و أشكل عليه تارة: بأنّ كلمة «نجس» مصدر، و لا يحمل على الذات.
و فيه أولا: أنّ الإخبار عن الذات بالمصادر شائع، للمبالغة كما في قوله:
«و إنّما هي إقبال و إدبار».
و ثانيا: لا ريب في صحة الإخبار بالتقدير- أي ذو نجس- و لا يختص التقدير بالنجاسة العرضية، بل يصح في الذاتيات أيضا، كما يقال: الإنسان ذو نطق.
و ثالثا: لا ملزم لكون الكلمة مصدرا، بل يصح أن يكون وصفا (كالحسن) فيصح الحمل حينئذ بلا محذور.
و أخرى: بأنّه لم يثبت كون النجس في زمان نزول الآية بالمعنى المبحوث عنه في المقام. و فيه: أنّه لا ريب في كونه بمعنى القذارة لغة. و عرفا، و نزلت الآية الكريمة على طبقهما، و إطلاق النجاسة و القذارة يشمل المتعارف بل هو المنساق منه عرفا، ثبتت الحقيقة الشرعية في النجاسة و القذارة، أو لا، و قد تقدم في قول الصادق عليه السلام: «الكلب رجس نجس»۱۷٦.
مع أنّه لم يستشكل أحد في أنّ المراد بالنجاسة فيه هذا المعنى المعهود، و كذا قوله عليه السلام: «لا و اللّه إنّه نجس»۱۷۷، بل جعلوه من أقوى الأدلة على النجاسة.
و بالجملة: إنّ النجس و الرجس، و القذر، و الطهارة و نحوها، كانت موضوعات متعارفة رتب الشارع عليها أحكاما خاصة، كسائر الموضوعات التي تكون مورد الأحكام.
إن قلت: نعم، لعلّ القذارة في المشركين شيء معنوي غير الخباثة الظاهرية، فلا تدل الآية الكريمة على النجاسة.
قلت: الظاهر من قوله تعالى (نجس) النجاسة و القذارة العينية، المسببة عن الشرك، و لا ينسبق إلى الأفهام المتعارفة منها إلا ذلك، لتعارف استعمال النجس في مثل هذه القذارات.
إن قلت: حرمة دخول المشركين في المسجد الحرام يجوز أن تكون لجهة أخرى، دون القذارة، و إلا وجب أن يقيد بما إذا استلزمت التلوث و السراية.
قلت: يمكن أن تكون لها علل شتّى، هذه إحداها، و هي نحو نجاسة يحرم معها الدخول و لو لم يستلزم التلوث و السراية، لإطلاق الأدلة.
هذا بعض الكلام في المشركين و منهم المجوس أيضا، لأنّهم و إن كان لهم كتاب و نبي، كما في مرسل الواسطي، و خبر العلل۱۷۸. و لكنّهم من حيث عبادتهم للنار مشركون في المعبودية، كعباد الأوثان و غيرهم، فيعمهم ما يدل على نجاسة المشركين.
و قد استدل على نجاسة الكتابي بوجوه:
الأول: ما تقدم من قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.
و فيه: أنّ صدق المشرك عليه في الجملة مسلّم، قال تعالى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ۱۷۹.
فيستفاد منها أن مطلق اتخاذ الرب من دون اللّه تعالى شرك. و لكن كون مثل هذا الصدق موجبا للنجاسة ممنوع، و إلا فقد قال تعالى وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ۱۸۰.
و قد أطلق المشرك في الأخبار على المرائي۱۸۱، و غيره۱۸۲. مع أنّه قد فصل اللّه تعالى بين أهل الكتاب و بين المشركين، و التفصيل قاطع للشركة قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ۱۸۳.
الثاني: الإجماع، بل عن صاحب الجواهر: «لعله من الضروريات» و نقل عن أستاذه: «أنّ ذلك شعار الشيعة يعرفها النساء و العوام و الصبيان» و عن المرتضى جعل القول بالنجاسة من متفردات الإمامية، و قال في المستند:
«و الإجماع عليها في عبارات جملة من الأجلة مذكورة و هو مذهب الصدوقين و الشيخين، و السيدين، و الحليين، و الفاضلين، و الشهيدين، و الحلّي و الكركي و كافة المتأخرين».
و نوقش في الإجماع بوجوه:
الأول: أنّه اجتهادي. و فيه: أنّ هذه المناقشة جارية في جميع الإجماعات التي يوجد في موردها حديث معتبر، و ظاهر اعتماد الأعلام من الفقهاء و مهرة الفقه على نقله، و الاعتناء به أنّه تعبدي، لا أن يكون اجتهاديا، إلا مع وجود قرينة معتبرة عليه.
الثاني: مخالفة الشيخ و المفيد و ابن الجنيد و العماني، فلا اعتبار بمثل هذا الإجماع.
و فيه: أنّ الأول منهم قال في نهايته: «بعدم جواز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم، و لا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها و أنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم»، و قال بعد ذلك: «و يكره أن يدعو الإنسان أحدا من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، و إن دعاه فليأمره بغسل يديه ثمَّ يأكل معه». و مقتضى الجمع العرفي حمل الجملة الثانية على حال الضرورة، أو ما لا يتعدى و حمل غسل اليد على التعبد، لوروده في الأخبار۱۸٤ إلى غير ذلك من المحامل، كيف و قد نقل عنه في الحدائق: «و العجب أنّ الشيخ رحمه اللّه في التهذيب نقل إجماع المسلمين على نجاسة الكفار مطلقا مع مخالفة الجمهور في ذلك».
و يمكن أن يكون مراده النجاسة في الجملة، لأنّ العامة أيضا يقولون بالنجاسة الحكمية على ما قيل و قال صاحب المعالم في محكي كلامه: «لا ينبغي أن يعد الشيخ في عداد من عدل عن المشهور».
و الثاني منهم حكم بالكراهية في خصوص اليهود و النصارى و إرادة الحرمة منها شائعة في عرف القدماء، بل لا بد و أن تحمل عليها، لذهابه إلى الحرمة في سائر كتبه، و دعوى الإجماع على الحرمة من تلامذته مع كونه رئيس المذهب و الملة، فكيف يذهب إلى الكراهة، و جل تلاميذه بل كلهم يعتقدون الحرمة مع عدم نسبة أحد الخلاف بينه و بين تلاميذه و لم يذكر ذلك في الكتب المعدة لذكر الخلاف.
و قول الثالث منهم مبنيّ على ما ذهب إليه من عدم انفعال القليل بالملاقاة.
و الرابع منهم يمكن حمل كلامه عليه أيضا، مع عدم الاعتناء بمخالفته، لكثرة خلافه في المسلّمات. و قال صاحب المعالم: «إنّ مصير جمهور الأصحاب إلى القول بالتنجيس يقتضي الاستيحاش في الذهاب إلى خلافه، بل ذكرنا أنّ جماعة ادعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف، و كلام العلامة ظاهر فيه».
أقول: المدار في الإشكال على دليل يذكر لشيء، هو الإشكال الظاهر عرفا، لا البناء على الاستشكال عليه بأي وجه أمكن، فإنّ بابه واسع جدّا حتّى في الضروريات. و بعد ظهور التسالم فتوى و عملا على النجاسة عن أساطين الفقه و خبرائه، كالشهيدين و المحققين و نظرائهم، كيف يجترئ أحد على الجزم بالخلاف، و لا تقصر هذه المسألة عن سائر المسائل المسلّمة الفقهية التي يعتمد عليها و يرسلونها إرسال المسلّمات. نعم، يزيد المقام على غيره الأخبار الدالة على الطهارة، و تأتي المناقشة فيها.
الثالث: من وجوه الإشكال على الإجماع: ما عن مصباح الفقيه: من أنّ الشهرة و نقل الإجماع، بل الإجماع المحقق أيضا، لا تكون حجة ما لم يوجب القطع بموافقة الإمام عليه السلام.
و فيه: أنّه يكفي حصول الاطمئنان المتعارف بموافقته عليه السلام، و الظاهر حصوله بعد المناقشة في الأخبار الدالة على الطهارة، كما يأتي، إذ المانع عن حصول الاطمئنان المتعارف منحصر بالأخبار التي تدل على الطهارة و لو لا تلك الأخبار، لكان هذا الإجماع من أتقن الإجماعات القولية و العملية الفقهية. هذا.
و لكن الإنصاف أنّه لو كنا نحن و نفس هذا الإجماع، لا يحصل لنا منه الاطمئنان المعتبر في الفتوى، لأنّ بناء الفقهاء على تصحيح هذا الإجماع، فلو كان اعتباره مفروغا عنه عندهم، لما احتاج إلى هذه المتعبة، بل يمكن أن يقال: حيث إنّه قد ارتكز في أذهان الفقهاء القدماء الاهتمام بالاحتياط مهما أمكنهم ذلك، فمثل هذه الإجماعات حصل من ذلك الارتكاز، فالإجماع احتياطي، لا أن يكون تعبديا و مثل ذلك كثير في الفقه ربما نشير إليه في محلّه.
قال: إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله»۱۹۱.
و خبره الآخر قال: «سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة، و أرقد معه على فراش واحد، و أصافحه قال: لا»۱۹۲.
فإنّ المتفاهم منها عرفا، النجاسة الذاتية لهم. و الحمل على التعبد المحض أو النجاسة العرضية، و استحباب الغسل و كراهة السؤر، أو أن تشريع ذلك نحو توهين لهم، خلاف الظاهر. نعم، لا بد من تقييد المصافحة بما إذا كانت مع الرطوبة المسرية، لقاعدة: «كلّ يابس ذكي»- الحاكمة على مثل هذه الإطلاقات- كما أنّه لا بد من حمل نهي القعود على الفراش و المصافحة على مطلق المرجوحية، لقرائن خارجية. و ذلك لا يضر بالاستدلال بل هذا النحو من التفكيك شائع في الفقه.
و كذا صحيح ابن مسلم سألت أبا جعفر عليه السلام: «عن آنية أهل الذمة و المجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الذي يطبخون، و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر»۱۹۳.
و هذه الصحيحة و غيرها تدل على أنّ ثيابهم و ما يطبخون نجسة، للملازمة العادية لاستعمالهم لها بالرطوبة، و الظاهر أنّ الطبخ مثال لكل ما يستعملونها مع الرطوبة، إذ لا خصوصية فيه حتّى يذكر، و احتمال أن تكون نجاسته كسائر النجاسات من الميتة و الخنزير، خلاف الإطلاق. و إلا لذكرها عليه السلام كما ذكر أواني الخمر.
إن قلت: إذا كانت النجاسة، لأجل الاستعمال فما وجه تخصيص خصوص أواني الخمر بالذكر؟
قلت: لعلّ بيان نجاسة الخمر أيضا زائدا على نجاستهم.
إن قلت: مورد السؤال هو الأواني، و قال عليه السلام في الجواب: «لا تأكل من طعامهم الذي يطبخون» فما وجه الإعراض عن السؤال؟
قلت يبين عليه السلام حكم الآنية بالملازمة لأنّ نجاسة الطعام تستلزم نجاسة ظرفه أيضا.
هذا و لكن الإنصاف أنّه مع احتمال كون صدور مثل هذه الروايات لأجل ترغيب الناس إلى التجنب عنهم، و إلقاء البينونة بين المسلمين و بينهم يشكل ظهورها في النجاسة المعهودة، فهي مثل ما ورد من قوله صلّى اللّه عليه و آله:
«لا تلبسوا لباس أعدائي، و لا تطعموا مطاعم أعدائي، و لا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي»۱۹٤.
و مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله حين رحلته: «أن تخرج اليهود و النصارى من جزيرة العرب»۱۹٥، و نحو ذلك من الأخبار المرغبة في البينونة مهما أمكن.
و بالجملة: هذه الأخبار أعم من النجاسة، و ليست ظاهرة فيها ظهورا يصح الاعتماد عليه في نفسها مع قطع النظر عن معارضتها. هذا مع أنّ هذه المسألة كانت ابتلائية من أول البعثة، فكيف لم يرد فيها نص نبوي مع عموم البلوى؟
و ظهور الأخبار في النجاسة المعهودة شيء، و الاستظهار منها بحسب الجهات الخارجية شيء آخر، و هذه الأخبار من القسم الثاني، دون الأول، و المفيد هو الأول، دون الثاني. مع أنّ عدم مبالاتهم و غلبة استعمالهم لما هو نجس في مذهبنا يوجب الوهن في ظهورها في النجاسة الذاتية.
و استدل على طهارة الكتابي بالأصل. و فيه: أنّه محكوم بالدليل نعم، يصح أن يكون مرجعا بعد تعارض الأدلة و تساقطهما، و لكن تقدمت المناقشة فيما دلت على النجاسة.
الثالث: مما استدل به على النجاسة مطلقا: جملة من الأخبار كموثق سعيد الأعرج: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن سؤر اليهودي و النصراني؟
فقال: لا»۱۸٥.
و صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «في رجل صافح رجلا مجوسيا، فقال: يغسل يديه و لا يتوضأ»۱۸٦.
و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام: «في مصافحة المسلم اليهودي، و النصراني، قال: من وراء الثوب فإن صافحك بيده فاغسل يدك»۱۸۷.
و مفهوم معتبرة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن طعام أهل الذمة ما يحل؟ قال: الحبوب»۱۸۸.
و خبر هارون بن خارجة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟۱۸۹ فقال: لا».
و صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السلام: «سألته عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام، قال: إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمَّ يغتسل»۱۹۰.
و صحيحه الآخر قال: «سألته عن فراش اليهودي و النصراني ينام عليه؟
الحبوب من باب تطبيق الكلّي على الفرد لا الحصر، و إنّما ذكر في الروايات الحبوب۱۹۷ لإخراج ذبائحهم التي لا يذكر عليها اسم اللّه تعالى و سائر أطعمتهم الرطبة، للنجاسة العرضية من جهة عدم اجتنابهم عن شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و ذبائحهم التي من الميتة فلا وجه بها للنجاسة الذاتية بالأخبار الواردة في تفسير الآية و ما يأتي في صحيح ابن جابر ظاهر فيما قلناه.
و بجملة من الأخبار: منها- صحيح إسماعيل بن جابر قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله ثمَّ سكت هنيئة. ثمَّ قال: لا تأكله، ثمَّ سكت هنيئة ثمَّ قال: لا تأكله و لا تتركه تقول: إنّه حرام و لكن تتركه تتنزه عنه، إنّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير»۱۹۸.
و أشكل عليه: أولا: بأنّه يمكن أن يكون المراد بالطعام الحبوب، فيكون مخالفا لظاهر الآية، فلا بد من تأويله. و فيه: أنّه خلاف الإطلاق.
ثانيا: إنّ تأكيد النهي يأبى عن الكراهة الاصطلاحية، فيحمل النهي على ظاهره، و يكون المراد بقوله عليه السلام: «و لا تقول إنّه حرام» أي الحرمة الذاتية، كحرمة الدم و لحم الخنزير، فالمعنى إنّه لا حرمة ذاتية لطعامهم، بل الحرمة تنزيهية- أي عرضية- لأجل ملاقاة النجاسة و إنّما علّل عليه السلام التنزيه بأنّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير، لكون ذلك أوقع في التنفر من التعليل بمباشرة الكافر له.
إن قلت: إنّ التنزه ظاهر في الكراهة، فيكون الصحيح شاهد جمع بين الأخبار، فتحمل الأخبار الدالة على الحرمة أو النجاسة على الكراهة.
قلت: التنزه بمعنى الابتعاد عن الشيء و يستعمل في مورد الحرمة أيضا،
و في الدعاء: «اللهم نزهنا عن الذنوب».
فيصير خلاصة المعنى أنّه لا حرمة ذاتية لطعام أهل الكتاب، بل هي عرضية فإن تقدر على تطهيره فطهّره و إلا فتنزه عنه. اللهم الا أن يقال إنّ التعليل ظاهر، بل نص في عدم النجاسة الذاتية للكتابي و ما ذكر من الاحتمال لا ينافي الظهور و عدم النجاسة الذاتية للكتابي.
و منها: صحيح العيص قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي و النصراني، فقال: لا بأس إذا كان من طعامك. و سألته عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس».
و مثله صحيحه الآخر۱۹۹. و أشكل عليه: أنّ المؤاكلة أعم من المساورة، و مقتضى القاعدة في الأولى الجواز، و يشهد له قوله عليه السلام: «إذا كان من طعامك» و أما التوضي فلعله لأجل كونه من آداب الجلوس على المائدة، لا من جهة الدخل في الطهارة.
و فيه: أنّ إطلاق المؤاكلة شامل لما إذا كانت من القصعة الواحدة أيضا و إنّما قال: «من طعامك» لإخراج طعامهم الذي فيه لحم الخنزير و ما ذبح بغير اسم اللّه تعالى و سائر النجاسات التي لا يجتنبون عنها.
و منها: صحيح ابن أبي محمود قال: «قلت للرضا عليه السلام: الجارية النصرانية تخدمك و أنت تعلم أنّها نصرانية لا تتوضأ و لا تغتسل من جنابة قال: لا بأس تغسل يديها»۲۰۰.
و أشكل عليه أولا: أنّه ليس من شأنهم استخدام النصرانية اختيارا، حتّى بناء على الطهارة، بل يجتهدون في إسلامها قبل الاستخدام.
و ثانيا: الاستخدام أعم من أن يكون لكنس الدار و فرش الفراش و نحوهما مما لا يتوقف على الطهارة، فإجمال الواقعة يسقط الاستدلال به و فيه: أنّ ذلك خلاف ظاهر الإطلاق.
و منها: صحيحة الآخر عن الخراساني قال: «قلت للرضا عليه السلام:
الخياط و القصار يكون يهوديا و نصرانيا و أنت تعلم أنّه يبول و لا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس»۲۰۱.
و أشكل عليه أنّه مطابق لأصالة الطهارة ما لم يعلم بالنجاسة. نعم، إن كان المراد بالقصّار غسل الثوب تكون ملازمة لملاقاة يد الغاسل مع الرطوبة المسرية. و فيه: إنّ المنساق من القصار من يغسل الثوب فيكون إطلاقه دليلا على الطهارة.
و منها: صحيح ابن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير»۲۰۲.
و أشكل عليه: أنّه مبنيّ على ثبوت المفهوم للشرطية و هو ممنوع إلا مع ثبوت العلية المنحصرة، و قد تقدم أنّ ذكر ذلك لزيادة التنفر، لا العلية. و فيه:
أن ذلك لا يتوقف على المفهوم، بل المنطوق ظاهر عرفا في النجاسة العرضية، دون الذاتية للكتابي.
و منها: خبر زكريا بن إبراهيم قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقلت: إنّي رجل من أهل الكتاب و إنّي أسلمت و بقي أهلي كلّهم على النصرانية و أنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد، فآكل من طعامهم؟ فقال لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا، و لكنّهم يشربون الخمر فقال لي: كل معهم و اشرب»۲۰۳.
و أشكل عليه: مضافا إلى قصور السند، أنّه لا يتصوّر فرق بين أكل الخنزير و شرب الخمر مع التأكيدات الواردة في التجنب عن الثاني من كلّ جهة، و ليس هذا مناسبا للإمام عليه السلام.
و فيه: أنّ وجه الفرق أنّ للطعام أواني مخصوصة و لشرب الخمر أواني أخر كذلك، فإذا لم تكن أواني الطعام متنجسة، لا وجه للمنع عن المؤاكلة، لإطلاقه يدل على الطهارة الذاتية لأهل الكتاب.
و منها: موثق عمار عنه عليه السلام أيضا: «عن الرجل هل يتوضأ من كوز واحد أو إناء غيره إذا شرب منه على أنّه يهودي؟ فقال: نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم»۲۰٤.
و أشكل عليه: أنّه يمكن أن يكون الشرب بصب الماء من الكوز في إناء ثمَّ الشرب من الإناء مع أنّه مثل سائر ما ورد في عدم انفعال القليل، فليحمل على ما تحمل تلك الأخبار عليه. مضافا: إلى أنّ قوله: «إذا شرب على أنّه يهودي» يحتمل أن يكون من مجرد اعتقاد اليهودية مع عدم كون الشارب يهوديا في الواقع.
و فيه: أنّ هذه الاحتمالات لا تضر بظهور الإطلاق الذي يكون حجة معتبرة.
و منها: صحيح ابن جعفر عن أخيه عليه السلام: «عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه»۲۰٥.
و أشكل عليه: أنّه يمكن أن يحمل على التقية. و عند التقية يرتفع حكم النجاسة، كسائر الأحكام.
و فيه أنّه قول بلا دليل فلا اعتبار به.
و منها: ما ورد في صحة الصلاة في الثياب التي يعملها المجوس و أهل الكتاب، كصحيح معاوية عنه عليه السلام أيضا: «عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث (إجناب)، و هم يشربون الخمر، و نساؤهم على تلك الحال، ألبسها و لا أغسلها و أصلّي فيها؟ قال: نعم، قال معاوية: فقطعت له قميصا و خططته و فتلت له إزارا و رداء من السابري، ثمَّ بعثت بها إليه في يوم
جمعة حين ارتفع النهار، فكأنّه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة»۲۰٦.
و نحوه غيره۲۰۷.
و أشكل عليه: أنّها مطابقة لقاعدة الطهارة، فإنّها تدل على الطهارة ما لم يعلم بالنجاسة من جهة الملاقاة، و يشهد له صحيح ابن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام، و أنا حاضر: إنّي أعير الذمي ثوبي، و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر، و يأكل لحم الخنزير، فيرده عليّ، فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجسه»۲۰۸.
فمثل هذه الأخبار وردت مطابقة للقاعدة. و فيه: أنّه احتمال حسن ثبوتا و لكنّه خلاف ظاهر الإطلاق إثباتا.
و منها: رواية خالد القلانسي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:
ألقى الذمي فيصافحني، قال: امسحها بالتراب أو بالحائط، قلت: فالناصب؟
قال: اغسلها»۲۰۹.
و أشكل عليه: مضافا إلى قصور السند، إمكان الحمل على الندب مع عدم الرطوبة المسرية. و فيه: أنّه خلاف ظاهر إطلاقه و أنّ إطلاقه يشمل حتّى الرطوبة المسرية.
و منها: مرسل الوشاء، عنه عليه السلام أيضا: «أنّه كره سؤر ولد الزنا و سؤر اليهودي و النصراني، و المشرك، و كلّ من خالف الإسلام، و كان أشد ذلك عند سؤر الناصب»۲۱۰.
الحرمة بقرينة ما تقدم من الأخبار. و فيه: ما تقدم من المناقشة في الأخبار الدالة على النجاسة.
هذه خلاصة الكلام، و ما يمكن أن يقال فيها من المناقشة. و لكن مع ذلك كلّه فالجزم بالطهارة مشكل، لأنّ تلك المناقشات مما لا تخفى على الأصاغر، فكيف بأساطين الفقهاء و الأعاظم منهم، و مع سكوتهم عنها، و إعراضهم عما دل على الطهارة، و موافقتها للعامة. يعلم من ذلك أنّ الإجماع، و الشهرة على النجاسة ليس اجتهاديا، و لا احتياطيا، فالأحوط وجوبا الاجتناب عن الكتابي من جهة النجاسة ۲۱۱و حمل أخبار الطهارة على التقية، و تعليم الشيعة كيفية المعاشرة مع الكتابي عند اقتضاء التقية لذلك، كما يشهد له خبر الكاهلي، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم مجوسي، أ يدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما أنا فلا أواكل المجوسي و أكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم»۲۱۲.
إن قلت: يعلم من سؤال الرواة أنّ النجاسة العينية لم تكن معهودة لديهم، بل يعتقدون فيهم النجاسة العرضية، فإنّهم يذكرون في سؤالهم عن الإمام عليه السلام: أنّ اليهود و النصارى و المجوس يشربون الخمر و يأكلون لحم الخنزير، و لا يغتسلون من الجنابة، و نحو ذلك مما هو ظاهر في النجاسة العرضية، فلو كان حكم اللّه الواقعي في مثل هذا الفرع العام البلوى النجاسة العينية، كيف خفي عليهم! قلت: هذه الارتكازات، و الأسئلة حصلت لهم من الاختلاط مع العامة، لا أن تكون بعد بيان الإمام عليه السلام حكم اللّه الواقعي لهم و لا إشكال في أنّ أغلب أحكام الشريعة نشر في زمان الصادقين عليهما السلام فلا بعد في خفاء الحكم عليهم. و بذلك يصح أن يجاب، بما أشكلنا سابقا.
ثمَّ إنّه قد يؤيد القول بالطهارة: بأنّ في الاجتناب عنهم عسرا و حرجا، خصوصا للمسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفر.
و فيه: أنّ قاعدة العسر و الحرج ترفع الحكم عن مورد العسر و الحرج، لا أن ترفع نفس التشريع فيمكن الالتزام بعدم النجاسة في موردهما، كما ترتفع سائر الأحكام بهما و كذا في مورد التقية.
كما قد يؤيد القول بالطهارة بما دل على تزويج الكتابية، و اتخاذها ضرّا۲۱۳ مع عدم إشارة فيها إلى النجاسة.
و فيه: أنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة حتّى يؤخذ بإطلاقها، فلا تصلح للتأييد.
كما أنّ التأييد بتغسيل الكتابي للمسلم مع عدم المماثل و المحرم۲۱٤. لا وجه له أيضا، لأنّه نوع اعتناء بشأن الميت المسلم، لا أن يكون من الغسل الحقيقي، و لذا يجب إعادته بعد وجود المماثل.
فروع:
الأول: قد ذكر المجوسي فيما استدل به على طهارة الكتابي، مع أنّه مشرك، لأنّه يعبد النار، و لهم بيوت النيران- التي اتخذوها معابد في مقابل المساجد- مضافا إلى أنّهم يعتقدون بمبدأين فاعل الخيرات، و يسمونه (يزدان)، و فاعل الشرور، و يسمونه (أهريمن) على ما نسب إليهم- فيكونون مشركين في الفعل و المعبودية، و هل تصلح مثل هذه الأخبار لتخصيص الآية الكريمة و هي قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ۲۱٥؟! و هل يقول بطهارته أيضا من يذهب إلى طهارة الكتابي؟! لا أرضى أن أنسب ذلك إلى فقيه مأنوس بمذاق الأئمة عليهم السلام.
الثاني: الكتابي إما ذمي أو حربي، و الأخير إما أن تكون محاربته بالسيف و نحوه من آلات الحرب، أو بنحو آخر مما يعمله أعداء الدين لمحو شريعة سيد المرسلين، و هل يشمل ما دل على الطهارة- على فرض التمامية- الحربي من الكتابي أيضا، مع إعمال معاندته للإسلام و المسلمين بكلّ ما أمكنه؟
يشكل الالتزام به جدا.
الثالث: لا ريب في أنّ الكتابي منكر لجملة كثيرة من الضروريات الدينية، و يرجع ذلك إلى إنكاره للنبوة المقدسة المحمدية صلّى اللّه عليه و آله.
فهل يكون ما دل على نجاسة منكر النبوة مخصصا بمثل هذه الأدلة التي لم يعلم كيفية صدورها، مع إعراض الفقهاء عنها و معارضتها بغيرها؟
إن قلت: إنّ لنفس الإضافة إلى الاعتقاد بكتاب اللّه المنزل بنحو خصوصية توجب تلك الإضافة، الطهارة. و بعبارة أخرى: المقتضي للنجاسة موجود، و المانع عنها حيثية الإضافة التشريفية الاحترامية.
قلت: الكتب المقدسة المنزلة على الأنبياء مقدسة مشرّفة، و لكن الاعتقاد بها لا احترام له، إلا بتقرير الشريعة الإسلامية له، و مع ردعه عنه، فلا وقع و لا احترام له و اللّه تعالى هو العالم.