إن السيّد السبزواري قدس سره كان آية في علم الفقه والأصول والتفسير والحديث والرّجال ؛ فهو « إمام المجتهدين ، وسيد الفقهاء المتبحّرين ، وعَلَم الأصوليّين ، وقدوة العارفين ، والعالم الفذّ في الرواية والدراية وسائر الفنون الحديثيّة ، وله في الفلسفة الإسلاميّة الباع الأطول »([1]).
علمه في الفقه:
أمّا علمه في الفقه ، فيُعرف من خلال موسوعته الفقهيّة الاستدلالية التي تقع في ثلاثين مجلّداً، والتي تمتاز باحتوائها على كثير من الفروع الفقهية النادرة واستعراضها للمسائل المستحدثة ، مع سلاسة البيان ، ووضوح العبارة ، ودقّة المطالب العلمية وعمقها .
وقد انعكس في هذه الموسوعة الفقهية ، فقاهة السيّد رحمة الله علیه التي تمتاز بأنّها فقه عرفي لا عقلي بحت ، فقد تعامل رحمة الله علیه مع النصوص الفقهية بالذوق العرفي العامّ ، دون الغوص في الأدلّة العقلية والفلسفية المعقّدة التي تُبعد الفقيه عن روح النصّ الشرعي .
ويعود السبب في علو مقامه في الفقه ، أنّه رحمة الله علیه قرأ الكتب الفقهية طوال حياته ؛ فقد قرأ كتاب ( جواهر الكلام ) ـ 42 مجلّداً ـ من البداية حتّى النهاية ستّ مرّات كاملات ، وقرأ كتاب ( بحار الأنوار ) ـ ۱۱۰ مجلّداً ـ من البداية حتّى النهاية مرّتين ، وقرأ أحاديث كتاب القضاء من « وسائل الشيعة » ستّين مرّة.
وقام بتدريس الفقه على مستوى البحث الخارج ، طوال خمسين سنة تقريباً، وذلك بعد أن قض من عمره الشريف خمسة وعشرين سنة في دراسته ودراسة مقدّماته .
واستطاع من خلال الخمسين عاماً المتقدّمة ، أن يباحث ثلاث دورات فقهية ، وهو أمرٌ تفرّد به ، ولم يتسنّى لغيره ، وذلك لعلّه لما تميّز به من منهجية تختلف عن منهجية الآخرين.
واستطاع أيضاً أن يباحث دورتين كاملتين في المكاسب .
يقول سماحة آية الله الشيخ الكشميري قدس سره : بأنّ السيّد السبزواري قدس سره نتيجة قراءته لكتاب الجواهر ، أصبح قادراً على تمييز الرواية المضمرة من أيّ المعصومين صدرت ، والمراد من الرواية المضمرة ، هي الرواية التي لم يذكر فيها اسم المعصوم الواردة عنه.
ويقول : إن السيّد الأستاذ كثيراً ما يقول لي : إذا حُذف في كلّ حديث السند ، والإمام المروي عنه ، وقُرئ عليَّ نفس متن الحديث ، فأنا متمكّن من أن أقول : إنّ هذا المتن صدر من أيّ معصوم من المعصومين علیهم السلام ، وهذه دعوى ليست بعيدة عن السيّد الأستاذ قدس سره، ولم تكن في قبولها منه ( طاب ثراه ) أيّ صعوبة وإشكال وهو في هذه أتعب مَنْ بعده ، وأنسى مَنْ قبله([2]).
علمه في الأصول :
فيُعرف من خلال كتابه القيّم « تهذيب الأصول » ، الذي عكس خلاصة آراء السيّد رحمة الله علیه في علم الأصول، إلا أنّ البارز في هذا المجال، أنّ السيّد رحمة الله علیه كان يرى في الأصول أنّه مقدمة لعلم الفقه ، وليس مطلوباً بالذات ، ولذلك فلابدّ أن يكون البحث فيه بقدر الاحتياج إليه في ذي المقدّمة ، لا زائداً عليه([3]).
ومن هنا حذف السيّد رحمة الله علیه من الأصول ما لا دخل له في عملية الاستنباط من الناحية العملية ، وقد أشار إلى هذا المعنى في مقدمة كتابه فقال :
« هذه خلاصة ما حقّقناه ، وحَقّقه مَهَرة مشايخنا قدس سره المبتكرين في هذه الصناعة ، بعد طول الجهد ، وتحمل المتاعب ، أبرزتها في أسهل العبارات وأيسر الجملات ، خالية عن جميع الزوائد ، مشتملة على كثير من الفوائد ، وسمّيتها بـ(تهذيب الأصول ) عن الزوائد والفضول ، راجياً أن يهذّبنا الله تعالى عن كلّ ما لا يرضيه ، وأن يجعله كافياً لصحّة الاعتذار في أحكامه المقدّمة إلى يوم القيامة » .
ويقول في موضع آخر :
« وقد جرت السيرة على الاهتمام بصناعة الأصول ، لأنّه مجمع مبادئ الاجتهاد، ومؤلّف متفرّقاتها ، وقد ذكرنا في الجزء الأوّل عند تعريفه أنّه : بداية الاجتهاد ، ونهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط ، وإن اشتمل على ما ليس فيه ثمرة عملية ، بل ولا علميّة معتن بها ، كجُلّ مباحث الوضع ، والصحيح والأعم ، والمشتقّ ، واتّحاد الطلب والإرادة ، وبحث الانسداد ، ونحوها ممّا هو كثيرٌ كما هو واضح على الخبير .
ويكفي في الاجتهاد في الأصول ، الإحاطة بالمسلّمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء ، وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة ، ولا عبرة بالدقيّات العقلية ، والاحتمالات البعيدة ، لعدم ابتناء الفقه عليها ، كما لا يعتبر إبداء الرأي المسبوق بالعدم في الأصول ، لأنّ الآراء محصورة بين النفي والإثبات ، بل يكفي الإذعان الاعتقادي عن تأمّل واجتهاد ، بما هو المألوف بين أهل المحاورة ، في كيفيّة الاحتجاج والاستظهار ، وتأليف الفقه الاستدلالي في هذه الأعصار وما قاربها ، تشتمل على القدر اللازم من الأصول ، ويمكن أن يعدّ الزائد عليه الفضول».
كتب أحد تلامذته الفضلاء ، فقال :
وأمّا على مستوى علم الأصول ، فالملاحظ من كتابه « تهذيب الأصول » عدم الاستغراق والاسترسال في البحوث الأصولية ، لما يستلزم من تلف العمر في ذلك ، وعدم إعطاء الفقه ـ وهو علم أهل البيت علیهم السلام ـ حقّه من الوقت والجهد العقلي .
وهو الذي ينقل عن أستاذه أبو الحسن المشكيني قدس سره ـ صاحب الحاشية على الكفاية ـ أنّه تأسف في مرضه الذي توفّي فيه على ضياع عمره في تحرير الأصول والتعليق عليه .
علمه في الحديث :
وأما علمه في الحديث ، فالمعروف عنه أنّه أكثر الناس تبحّراً في الأحاديث الشريفة ، حتى أنه لقب بـ« إمام المحدّثين » ، و« خاتم المحدّثين » ولكثرة إلمامه بالأحاديث ، فقد كان رحمة الله علیه يصحّح الأسانيد بالمتون ، إذ يشمُّ من المتن رائحة نَفَس المعصوم ، من دون الرجوع إلى الراوي ؛ بمعنى أنّه يجد الراوي عرضياً على الحديث ، ولا يتعرّف على الحديث عن طريق الراوي ، وإنما يتعرّف على الراوي من الحديث ، وذلك لأنّ الحديث عنده ذو نَفْس ، وله مقياس روحي كأنّه حاضر عند المعصوم([4]).
وعن النسّابة السيّد حسين أبو سعيدة:
أخبرني أحد علماء النجف الأشرف ، بأنه دخل مع عدد من الزملاء له لزيارة سماحة السيّد المعظّم عبد الأعلى السبزواري ، والاستنارة بنور . وكان معه كتاب رواية ، فأراد أن يسأل سماحة السيّد عن رأيه في تلك الرواية ، وأبعادها ومضامينها .
فقال : ماذا يقول سماحة السيّد في مضمون هذه الرواية ، الواردة عن سيّدنا الإمام الباقر علیه السلام ؟
فقال سماحة السيّد : لا أشمّ من هذه الرواية رائحة الإمام الباقر علیه السلام، ولكن أشمّ منها رائحة الإمام الصادق علیه السلام وأسلوبه .
يقول : فقلت له : إنّ هذا الكتاب الذي بين يدي ، يشير في الهامش أنّ الرواية منقولة عن الإمام الباقر علیه السلام .
فقال سماحته : هاتوا كتاب الوسائل ، وعندما أخرجنا الرواية ، وجدنا أنّها مروية عن الإمام الصادق علیه السلام ، وليس هذا إلا لأنّ سماحته كان يرى بنور الله([5]).
وأمّا علمه في تفسير القرآن الكريم :
فيظهر من خلال كتابه « مواهب الرحمن في تفسير القرآن » ، فهو بحقّ الكتاب الذي يعكس مقدار تبحّر سيّدنا المعظّم في كافّة العلوم العقائدية ، والأخلاقية والفلسفية والعرفانية والتاريخية والأدبية ، وقديماً قيل : الكتاب أحد اللّسانين ، ويراع المرء ترجمان عقله ، والشاهد على فضله ، وقال بعضهم :
تلك آثارنا تدلّ علينا |
|
فانظروا بعدنا إلى الآثار |
يقول الشيخ محمّد حسين الأنصاري ، في كتاب المواهب :
« هو كتاب في تفسير القرآن العظيم ، قد بيّن فيه زوايا كثيرة ، وأظهر خفايا عجيبة ، قد تفوح منه نسائم العرفان ، وتطغى ما فيه من الجوانب الفلسفية القيّمة ، والنواحي الأخلاقية القويمة ، والحوادث والتحليلات التاريخية ، والأمور الأدبية
([1]) ألطاف الباري : ص ۲۳.
([2]) صفحات مشرقة : ص ۱۰۲ .
([3]) تهذيب الأصول : ج ۱ ص 6 .
([4]) مع المقدس السيرواري : ص ۱۱ .
([5]) الأنوار الساطعة : ص ۱۱ .