للإجماع، و النص على ما يأتي تفصيله و هو الذي تقتضيه التسهيلات الشرعية في هذه الصدقة الواجبة على جميع الأمة خصوصا بالنسبة إلى الأزمنة القديمة- التي قلّت الأموال و النقود لديهم- ففرض الشارع عليهم التصدق بشيء من فضل أقواتهم، ليحرزوا بها سلامة نفوسهم، و حياتهم. و الأخبار الواردة على أقسام ثلاثة:
الأول: قول أبي عبد اللَّه (عليه السلام) في الصحيح: «الفطرة على كل قوم مما يغذون عيالهم من لبن، أو زبيب، أو غيره»۱، و قوله (عليه السلام): «الفطرة على كل من اقتات قوتا فعليه أن يؤدي من ذلك القوت»۲، و عن العسكري (عليه السلام): «إنّ الفطرة صاع من قوت بلدك»۳.
و المراد بالغذاء و القوت في هذه الأخبار ليس الغذاء و القوت الفعلي، بل الأعمّ منه و مما يكون بالقوة- كالحنطة، و الشعير، و الأرز، و نحوها- مما صرح بها في الأخبار كما أنّ المراد بهما الغالب، لغالب الناس، لأنّ ذلك هو المنساق من مثل هذه الروايات.
الثاني: الأخبار الكثيرة المشتملة على ذكر المصاديق، ففي خبر الأشعري عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام): «في الفطرة كم يدفع عن كل رأس من الحنطة و الشعير، و التمر، و الزبيب؟ قال (عليه السلام): صاع بصاع النبيّ»4.
و في خبر ابن المغيرة عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) أيضا: «تعطي من الحنطة صاع، و من الشعير صاع، و من الأقط صاع»٥.
و في خبر ابن مسلم: «قال سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السلام) يقول: الصدقة لمن لا يجد الحنطة و الشعير يجزي عنه القمح و العدس، و السلت و الذرة»٦.
و لكن الظاهر بقرينة غيره أنّه العلس كما يأتي في خبر إبراهيم بن محمد، و في خبر ابن مسلم عنهما (عليهما السلام) ذكر الدقيق، و السويق۷، و في خبر إبراهيم بن محمد عن الصادق (عليه السلام): «من لم يجد الحنطة و الشعير يجزي عنه القمح و السلت و العلس و الذرة»۸.
و لا ريب في أنّ هذه كلها من مصاديق الغذاء و القوت، فلا تنافي بين هذه الأخبار و القسم الأول منها، كما أنّ اقتصار بعضها على ذكر بعض من مصاديقها و عدم التعرض للبعض الآخر لا يوجب التنافي بينها، لأنّ الاقتصار من باب المثال لا الحصر الحقيقي.
الثالث: خبر الهمداني۹ عن العسكري (عليه السلام): «الفطرة صاع من قوت بلدك على مكة و اليمن و الطائف، و أطراف الشام، و اليمامة، و البحرين و العراقين، و فارس، و الأهواز، و كرمان تمر، و على أهل أوساط الشام زبيب، و على أهل الجزيرة، و الموصل، و الجبال كلها بر، أو شعير، و على أهل طبرستان الأرز، و على أهل خراسان البر إلا أهل مرو و الري، فعليهم الزبيب، و على أهل مصر البر. و من سوى ذلك فعليهم ما غلب قوتهم، و من سكن البوادي من الأعراب فعليهم الأقط و الفطرة عليك و على الناس كلهم».
و هذا التفصيل في هذا الحديث ليس لموضوعية خاصة في تلك البلاد، أو للتعبد المحض، بل لأجل أنّ الغالب في تلك العصور- في البلاد المذكورة كان ما ذكر في الحديث- قوتهم فلا تنافي بين ما ذكر فيه و بين سائر الأخبار، فاتفقت الأقسام الثلاثة من الأخبار، على أنّ المدار على القوت الغالب و المراد به ما كان غالبا لنوع الناس دون شخصهم. و يظهر من ذكر الزيت و اللبن فيها أنّه أعمّ مما يتوقف عليه بقاء الحياة- كالحنطة، و الشعير- أو ما يتوقف به لأجل الإدام، أو التفكه و التلذذ كالزيت و اللبن، و الأقط هذا.
و أما الأقوال فعمدتها قولان:
أحدهما: كل ما كان قوتا غالبا و لو لم يكن مما ذكر في الأخبار جمودا على القسم الأول منها، و حمل القسمين الأخيرين على مجرّد المثال، أو على الندب بقرينة كثرة الاختلاف فيها. و يظهر ذلك عن جمع منهم صاحب الجواهر بل هو المعروف بين الفقهاء.
ثانيهما: الاقتصار على خصوص ما ذكر في القسمين الأخيرين من الأخبار تقييدا للقسم الأول بهما. و يظهر ذلك عن جمع منهم الشيخ (رحمه اللّه) مدعيا عليه الإجماع و لكن الإجماع موهون، و حمل ما في القسمين الأخيرين من الأخبار على المثال أو الندب ممكن، فيصح القول الأول، و لو لا وحشة الانفراد لقلنا بكفاية اللحم في مثل هذه العصور، لصيرورته قوتا غالبا لعامة الناس.