لقاعدة الاشتغال بعد عدم دليل حاكم عليها، و قاعدة الفراغ إنّما تصحّح ما مضى دون ما يأتي.
ثمَّ إنّه لا بأس بالإشارة إلى قاعدة التجاوز و الفراغ، و سائر القواعد التسهيلية حسب ما يقتضيه المقام، و لا بدّ أولا من بيان أمور كلية جارية في جميع تلك القواعد، ثمَّ التعرّض لكل واحدة منها بالخصوص:
الأول: يدور فقه الإمامية، بل المسلمين على الأمارات، و القواعد و الأصول المعتبرة، و الأولى حجة ظاهرية في ظرف استتار الواقع، و تقع في طريق الاستنباط، و الثانية أحكام فقهية كلية يشترك فيها الفقيه و العامي إلّا أنّ العاميّ لقصوره عن تطبيقها على الصغريات لا يليق بالتطبيق، و لكن أصل الحكم الكلّي مشترك بينهما، و كذا الأخيرة فإنّ مضامينها بأنفسها أحكام شرعية لا أن تكون واسطة في استنباط حكم شرعيّ.
و الجامع بين الأخيرين عدم وقوعهما في طريق الاستنباط و لذا لا تعدّان من مسائل علم الأصول بخلاف الأولى حيث إنّ المناط في كون المسألة أصولية صحة وقوعها في طريق الاستنباط و كبرى للصغريات الجزئية حتى يستنتج النتيجة الفقهية.
هذا هو المشهور بين الأصوليين و تبعهم مشايخنا الأعلام (قدس سرهم)، و لكن تعرّضنا للخدشة فيه في كتابنا في الأصول، و أثبتنا أنّ المدار في كون المسألة أصولية صحة وقوعها في طريق الاعتذار للحكم الكلّي عند الشارع.
فيقال: هذا مما قامت عليه البراءة النقلية أو العقلية، و كلما قامت عليه البراءة يصح الاعتذار به لدى الشارع، فهذا مما يصح الاعتذار به لدى الشارع، و كذا بالنسبة إلى القواعد الفقهية. فالأخيرين كالأولى من المسائل الأصولية أيضا، و التفصيل مذكور في الأصول، فراجع كتابنا (تهذيب الأصول) ان شئت.
الثاني: الأمارات معتبرة لحكمة غلبة الكشف عن الواقع و التسهيل و التيسير و لو في صورة إمكان الوصول إليه، و لا كشف في الأخيرين، بل هما نفس الأحكام الظاهرية قد تصادف الواقع و قد تخالفه، و يصح الاعتذار بهما في كلتا الحالتين، و كل منهما مقدمة على الأصول. و قد يقع التعارض بين الأمارة و القاعدة فيؤخذ بالأرجح منهما. و يأتي التفصيل في المقامات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
الثالث: يصح أن يسمّى الأصل قاعدة و بالعكس، لأنّ مفاد كل منهما إنّما هو الحكم الشرعيّ و لا مشاحة في الاصطلاح، فيصح أن يقال: أصالة الصحة، أو يقال: قاعدة الصحة، و القواعد مقدمة على الأصول العامة الأربعة سواء سمّيت أصلا أم قاعدة. و كانت الكليات تسمّى في عصر الأئمة (عليهم السلام) أصلا، و يشهد له قوله (عليه السلام): «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا»۱۰، و في بعض الأخبار: «قلت له (عليه السلام): «هذا أصل؟
قال (عليه السلام): نعم»۱۱.
الرابع: عن جمع من الأصوليين أنّ لوازم الأمارات حجة بخلاف الأصول و القواعد. أما الأول: فلأنّ الحجة على الشيء حجة على لوازمه عرفا. و أما الأخيران فلأنّه ليس مفادهما إلّا نفس الحكم الشرعيّ من حيث هو، و مقتضي الأصل عدم اعتبار لوازمه و ملزوماته، و هذه الكلية التي قالوها لا دليل عليها من عقل أو نقل، فالمناط كله على الاستفادة العرفية و الأفهام المحاورية، فكل أصل كان اعتباره في مفاده المطابقيّ اعتبارا له في لوازمه العرفية تعتبر لوازمه أيضا، و كذا الأمارة. و كل أصل أو أمارة لا يكون كذلك لا اعتبار بلوازمها مطلقا. هذا و التفصيل يطلب من الأصول.
الخامس: لا ريب في تقدم الأمارات و القواعد على الأصول- حكمية كانت أو موضوعية- و السّر فيه أنّ اعتبار الأمارات و القواعد لحكمة الكشف عن الواقع، بخلاف اعتبار الأصول فإنّ اعتبارها إنّما هو في ظرف الجهل المحض، نعم بعض
الأصول برزخ بين الأمارة المحضة و الأصل المحض كالاستصحاب مثلا.
ثمَّ إنّ هذه القواعد لم تكن تذكر مستقلة في تأليف، بل لم تكن معنونة بصورة مستقلة، و إنّما كانت تذكر في المجامع الحديثية و الفقهية الأخبار التي يمكن أن يستفاد منها تلك القواعد، و إنّما حدث التأليف المستقل فيها لدى المتأخرين، و قد فصل القول فيها مع أنها لا تحتاج إلى التفصيل. و نحن نتعرض لجملة منها بما يقتضيه المجال مع تلخيص المقال و من اللّه العصمة و عليه الاتكال.
(قاعدة التجاوز و الفراغ) و البحث فيهما من جهات: الأولى: قد ورد في اعتبارهما جملة من النصوص، منها: صحيحة محمد بن مسلم: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال (عليه السلام): يمضي على صلاته و لا يعيد»۱۲، و صحيحة الآخر عنه (عليه السلام): «في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته قال (عليه السلام): «لا يعيد و لا شيء عليه»۱۳، و صحيحته عن أبي جعفر (عليه السلام): «كل ما شككت فيه- بعد ما تفرغ من صلاتك- فامض و لا تعد»۱4 و موثقته: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام): يقول: كل ما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه و لا إعادة عليك فيه»۱٥، و موثقته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام): «كل ما شككت فيه- مما قد مضى- فامضه كما هو»۱٦، و في صحيحه الآخر عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «إذا شك الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أ ثلاثا صلى أم أربعا؟ و كان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتم لم يعد الصلاة، و كان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك»۱۷، و موثق ابن أبي يعفور: «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»۱۸.
و لا ريب في اعتبار هذه الأخبار، و اعتماد الأصحاب عليها قديما و حديثا، و يدل على اعتبارها في الجملة إجماع الإمامية.
و إنّما الكلام في أنّهما من القواعد التعبّديّة المؤسسة من قبل الشارع، أو من الأمور العقلائية التي قرّرها تسهيلا على العباد!! و الظاهر هو الأخير، لكونهما من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة في العامل المختار المجبولة عليها الفطرة في جميع الأعصار اعتنى بها الشارع في الصلاة امتنانا على الأمة و تيسيرا عليهم.
إن قيل: فعلى هذا لا بدّ و أن تجري في جميع الموارد من العبادات و المعاملات من دون اختصاص بالصلاة.
يقال: لم يجر بناء من العقلاء على إجراء أصالة عدم السهو و الغفلة مطلقا في جميع الأمور فلا بدّ من الاقتصار على المتيقن من مورد بنائهم، كما لو كان شخص مديونا لآخر إلى مدة معينة و بعد انقضاء المدة شك في أنّه سها عن الإعطاء أم لا؟، ليس بناء العقلاء على الحكم بفراغ الذمة، لأصالة عدم السهو و الغفلة، و كذا لو شك عامل مشغول بعمل متدرج الوجود و بعد الدخول في الجزء اللاحق شك في أنّه هل أتى بما سبقه أم لا؟ لم يستقر البناء على عدم التفحص لأصالة عدم السهو و الغفلة، إلى غير ذلك من الموارد، فهي معتبرة فيما اتفق عليه بناؤهم و آراؤهم، و في مورد الشك لا بد من الرجوع إلى قواعد أخرى، و لا ثمرة عملية في هذا النزاع بعد الشك في تعميم بناء العقلاء، و عدم استفادة التعميم من الأدلة الشرعية.
الثانية: أنّهما قاعدتان مستقلّتان أو قاعدة واحدة يعمل بأحدهما في أثناء العمل، و بالأخرى بعد الفراغ منه، و يصح إعمال التجاوز بعد الفراغ و الفراغ في الأثناء أيضا. الحق هو الأخير، لأنّه إما بناء على أنّهما من صغريات أصالة عدم السهو و النسيان فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى البيان، و أما بناء على التعبدية المحضة فالجامع القريب العرفي ثبوتا و إثباتا إنّما هو الشك في انطباق المأتيّ به على المأمور به، و الشك في فراغ الذمة عما اشتغلت به، سواء كان ذلك في الأثناء أم بعد الفراغ، و مع وجود هذا الجامع القريب لا وجه لجعلهما قاعدتين مستقلّتين.
و توهّم: أنّ مورد قاعدة التجاوز إنّما هو الشك في أصل الوجود، و مورد
قاعدة الفراغ إنّما هو الشك في صحة الموجود و لا جامع بين مفاد كان التامة و الناقصة فلا وجه لجعلهما قاعدة واحدة.
فاسد: لأنّه تبعيد للمسافة و اعوجاج للسبيل من غير دليل. أما أولا: فلوجود الجامع بين مفاد كان التامة و كان الناقصة، و هو الشيئية المطلقة التي تعم جميع الموجودات من الممكن و الواجب. و أما ثانيا: فلأنه قياس بين التكوينيات الحقيقة الخارجية و الاعتباريات العرفية الشرعية التي تدور مدار صحة الاعتبار بأيّ نحو أمكن عرفا، فالجامع القريب مما ذكرناه موجود، و العرف عليه شاهد فهما قاعدة واحدة.
و كذا ما عن بعض مشايخنا من أنّ مورد الشك في قاعدة التجاوز جزء المركب، و في قاعدة الفراغ تمامه و أنّه يلزم التناقض في الدليل فإنّ قوله (عليه السلام): «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه»۱۹ لو عمّ الجزء و الكل فلو شك المصلّي في الحمد و هو في الركوع قد تجاوز محله مع أنّه باعتبار الشك في أصل الصلاة لم يتجاوز مخدوش: أما الأول: فلأنّ متعلق الشك في كل منهما نفس تفريغ الذمة و هو واحد بلا إشكال. و أما الثاني: فهو غريب جدا لتقوم التناقض بوحدة الموضوع، و هنا متعدد اعتبارا و حيثية، بل و حقيقة أيضا، فلا وجه لتوهم التناقض في مثل هذه الأمور الاعتبارية التي يصح اعتبارها بطرق شتّى. مع أنّه لا يترتب على الوحدة و التعدد ثمرة مهمة لا علمية و لا عملية، إلّا ما قيل في موارد و كلها مخدوشة:
منها: اعتبار الدخول في الغير في مورد قاعدة التجاوز، و يأتي ما يتعلق به، و على فرض اعتبار ذلك في مورد قاعدة التجاوز، فلا بأس بأن يعتبر في بعض مصاديق قاعدة واحدة خصوصية زائدة لقرينة خارجية من باب تعدد الدال و المدلول.
و منها: أنّ قاعدة الفراغ تجري في الوضوء بخلاف التجاوز: و فيه: أنّه لا ربط لذلك بالوحدة و التعدد و إنّما هو تخصيص لأصل هذه القاعدة في أثناء الوضوء
لدليل خارجي، و كم من قواعد كلية خصصت بدليل خاص.
و منها: أنّ قاعدة الفراغ تجري في الشك في الشرطية أيضا بخلاف قاعدة التجاوز، فاختلفوا في جريانها فيه.
و فيه- أولا: أنّه لا كلية لعدم جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الشك في الشرطية في الأثناء على ما يأتي تفصيله.
و ثانيا: أنّ عدم جريانها من التخصص لا التخصيص، كما أنّ قاعدة الفراغ تجري في الشك في الطهارة بالنسبة إلى صلاة الظهر، و لكن يجب استئناف الطهارة لصلاة العصر مع ذلك.
الثالثة: هل يعتبر الدخول في الغير في مورد قاعدة التجاوز أم لا، فلا أثر للشك بعد عروضه و لو لم يدخل في الغير؟ و البحث فيه تارة بحسب الأصل، و أخرى بحسب الاعتبار، و ثالثة بحسب الأخبار، و رابعة بحسب كلمات الأصحاب.
أما الأولى: فمقتضى أصالة عدم السهو و الغفلة و بقاء الإرادة الارتكازية النفسانية للمركب عدم اعتبار الدخول في الغير. و منه يظهر البحث عن الجهة الثانية أيضا، لأنّه بعد انطواء الأجزاء في إرادة الكل إرادة لها و داعية إلى إتيانها، فمع كونها مرادة بهذا النحو و توجّه النفس إلى إتيان الكل لا وجه لاعتبار الشك بعد ذلك سواء دخل في الغير أم لا.
و أما الجهة الثالثة: فمقتضى أصالة الإطلاق في جملة من الأخبار عدم الاعتبار أيضا، كصحيح ابن الحجاج عن الكاظم (عليه السلام): «تبني على اليقين و تأخذ بالجزم و تحتاط بالصلوات كلها»۲۰، فإنّ إطلاق قوله (عليه السلام) «و تأخذ بالجزم» ينفي ترتيب الأثر على كل شك مطلقا إلّا إذا دل دليل معتبر على التقييد بشيء بالخصوص، و كصحيح ابن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام): «سألته عن رجل ركع و سجد و لم يدر هل كبّر أو قال شيئا في ركوعه و سجوده هل يعتد بتلك الركعة و السجدة؟ قال (عليه السلام): إذا شك فليمض في صلاته»۲۱ فإنّ
إطلاقه يشمل الدخول في الغير و عدمه، و كصحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو»۲۲.
هذه جملة من الأخبار التي يمكن أن يستفاد منها عدم اعتبار الدخول في الغير، و يشهد له ما ورد من أنّ هذا الشك من الشيطان كما يأتي في موثق الفضل بن شاذان فلا بدّ و أن يدافع معه بأيّ وجه أمكن۲۳.
و هناك جملة أخرى من الأخبار يمكن أن يستفاد منها اعتبار الدخول في الغير، كصحيح حريز عن زرارة قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «رجل شك في الأذان و قد دخل في الإقامة، قال (عليه السلام): يمضي. قلت: رجل شك في الأذان و الإقامة و قد كبّر، قال (عليه السلام): يمضي. قلت: رجل شك في التكبير و قد قرأ، قال (عليه السلام): يمضي. قلت: شك في القراءة و قد ركع قال (عليه السلام):
يمضي، قلت: شك في الركوع و قد سجد، قال (عليه السلام): يمضي على صلاته، ثمَّ قال: يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمَّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء»۲4، و موثقة حماد بن عثمان: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): أشك و أنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟. قال (عليه السلام): امض»۲٥، و موثق فضيل بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): أستتم قائما فلا أدري ركعت أم لا؟
قال (عليه السلام): بلى قد ركعت فامض في صلاتك، فإنّما ذلك من الشيطان»۲٦ و موثق إسماعيل بن جابر: «قال أبو جعفر (عليه السلام): إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، و إن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه»۲۷، و صحيح محمد بن مسلم: «عن أبي جعفر (عليه السلام): في رجل شك بعد ما سجد أنّه لم يركع، فقال (عليه السلام): يمضي في صلاته حتّى يستيقن»۲۸، و صحيح عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع، قال (عليه السلام): قد ركع»۲۹.
و أمثال هذه الأخبار مما ورد في أبواب الوضوء۳۰. و لكن يمكن المناقشة في ذلك بأنّ ما ورد في الركوع غير خبر ابن جابر إنّما ورد ذلك في مورد فرض سؤال السائل، و قد ثبت أنّ المورد لا يكون مخصصا للحكم، خصوصا مع إطلاق التعليل بقوله (عليه السلام): «إنّما ذلك من الشيطان»، و ما نراه بالوجدان من أنّ مثل هذه الشكوك إنّما هو من وساوس النفس التي هي من أقوى جنود الشيطان.
و أما الأخبار التي لها ظهور في اعتبار الدخول في الغير فيحتمل أن يكون للدخول في الغير موضوعية خاصة في الحكم بالمضيّ، و يحتمل أن يكون اعتباره لأجل كشفه عن مضيّ المحل الشرعيّ فلا اعتبار بالشك حينئذ، و يحتمل أن يكون كاشفا عن بقاء الإرادة الإجمالية الارتكازية بالنسبة إلى المركب و أجزائه و شرائطه فوجد المشكوك مستندا إلى تلك الإرادة فلا ينبغي أن يعتني بالشك، و مع وجود هذه الاحتمالات لا ترجيح لخصوص الاحتمال الأول.
مضافا إلى أنّ هذا الشك بطبعه إنّما يحصل بعد الدخول في الجزء اللاحق، إذ لو حصل في المحل لكان داعيا إلى الاستئناف بالفطرة مع أنّ كون الحكم تسهيليا امتنانيا يقتضي التيسير فيه مطلقا، فالجزم باعتبار الدخول في الغير بنحو الموضوعية مشكل جدّا، فيكفي مضيّ المحل فقط و هو حاصل بإرادة إتيان الغير دخل فيه أم لم يدخل.
و أما الجهة الرابعة: فيظهر من كلماتهم التسالم على اعتبار الدخول في الغير، و لكن الظاهر بل المعلوم استناده إلى ما بين أيدينا من الأخبار فيشكل الاعتماد عليه.
الرابعة: اختلف الفقهاء (قدس سرّهم) في أنّ الغير- على فرض اعتبار الدخول فيه- هل يعتبر أن يكون من الأجزاء المستقلّة، أو يكفي كونه من جزء الجزء أيضا، أو يكفي كونه مقدمة الغير أيضا، كالهويّ للركوع أو السجود- مثلا-؟
فمن قائل بالأول جمودا على صدر صحيح زرارة، و من قائل بالثاني جمودا على قوله (عليه السلام) في مقام بيان القاعدة الكلية: «إذا شككت في شيء من الوضوء
و دخلت في غيره فشكك ليس بشيء»۳۱ فإنّ لفظ غير متوغّل في الإبهام و الإجمال، فيشمل الجميع و لا وجه لحمله على صدره، لفرض أنّه في مقام الضابطة الكلية، و مورد السؤال لا يكون مخصصا لما سيق مساق القاعدة الكليّة.
و استدل للأخير بما مرّ من صحيح عبد الرحمن حيث ذكر فيه الهويّ إلى السجود، فيكون مؤيّدا لاستفادة التعميم من لفظ الغير، مع إطلاق قوله (عليه السلام): «كلما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» فإنّه أيضا مطلق، و قد ورد لبيان القاعدة الكليّة و لا موجب لتقييده، و قد مرّ سقوط هذا البحث من أصله و كفاية مجرّد مضيّ المحل و بقاء الإرادة الإجمالية الارتكازية، و بقاء هذه الإرادة يكفي فيه الاستصحاب، و لا نحتاج إلى ما تكلفه الأصحاب، و هذه الأخبار وردت على طبق هذا الاستصحاب، و هو مقدّم على أصالة عدم الإتيان، كما هو شأن كل استصحاب موضوعيّ بالنسبة إلى كل أصل حكميّ.
الخامسة: الفراغ عن الشيء تارة: واقعي حقيقي، و أخري: ظاهريّ شرعيّ، و ثالثة: اعتقاديّ بحسب مرتكزات المتشرعة، و رابعة: بنائيّ بحسب نظر العامل. و الظاهر شمول الأدلّة للجميع، لأنّه أقرب إلى الامتنان و أبعد عن إطاعة الشيطان، و البحث عن اعتبار الدخول في الغير و عدمه تقدم في الأمر الرابع فلا وجه للإعادة، بل هنا أسهل، لإطلاق قوله (عليه السلام): «الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال (عليه السلام): هو حين ما يتوضأ أذكر منه حين يشك» فإنّ إطلاق صدره و ذيله ممّا لا ريب في شموله لجميع الصور.
و أمّا قول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة: «فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و قد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرهما فشككت في بعض ما سمّي اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه»۳۲.
فإنّه يحتمل في قوله (عليه السلام): «و قد صرت في حالة أخرى» الوجوه
الثلاثة التي تقدّم ذكرها، و لا قرينة فيه لاعتبار الدخول في الغير بنحو الموضوعيّة الصّرفة.
السادسة: هل القاعدة تشمل التجاوز عن المحل العادي أيضا؟ قولان يظهر عن جميع الأخير.
و خلاصة ما قالوا في وجه ذلك: أنّ القاعدة شرعية، و الأمثلة المذكورة في الأخبار أيضا شرعية، فيرجع في غيره إلى أصالة عدم الإتيان.
و فيه- أولا: ما تقدّم من عدم كونها تعبديّة، بل هي من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة، و أصالة البقاء على الإرادة الارتكازية الأولية.
و ثانيا: إنّه لا وجه للرجوع إلى أصالة عدم الإتيان، بل المرجع أصالة بقاء الإرادة الإجمالية الارتكازية الثابتة حين الشروع في العمل المنبسطة على جميع الأجزاء و أجزائها و مقدماتها بنحو الجملة و الإجمال و حين الشك في زوالها يرجع إلى أصالة بقائها.
و ثالثا: أنّ ما ذكر في الأدلّة إنّما هو من باب الغالب و المثال، فلا وجه للجمود و الاختصاص به. نعم، مع الشك في صدق الأدلة الشرعية لا يصح التمسك بها، لأنّه حينئذ من التمسك بالدليل في الموضوع المشكوك، فيرجع إلى أصالة عدم الغفلة و السهو عمّا أراد، فإذا كان من عادته قراءة بعض الآيات بعد تمام الفاتحة قبل الشروع في السورة فدخل في السورة، و شك في أنّه هل قرأ الآية الخاصة أم لا؟ تجري القاعدة بالنسبة إليها أيضا إن كان مريدا لقراءتها حين الشروع في الصلاة بالإرادة الإجمالية الارتكازية كسائر ما يقرأ في الصلاة من واجباتها و مندوباتها.
و أمّا ما يتوهم من أنّه لو كان المحل العادي معتبرا و جرت فيه القاعدة للزوم الحكم بالطهارة فيما إذا كانت عادته الوضوء بعد الحدث الأصغر و الغسل بعد الأكبر مع أنّهم لا يقولون به. فلا وجه له لأنّ مورد قاعدة التجاوز و الفراغ هو الشك في انطباق المأتيّ به على المأمور به فقط و يتمحض الشك في ذلك، و في المثال يكون الشك في أصل الوجود لا في انطباق المأتيّ به على المأمور به.
إن قيل: إنّ في قاعدة التجاوز يكون الشك في أصل الوجود فتجري فيه القاعدة، فليكن المقام أيضا كذلك.
يقال: إنّ في مورد التجاوز أيضا يكون الشك في انطباق مجموع المأتيّ به على المأمور به، و لا يلاحظ خصوص المشكوك من حيث هو لأنّه تبع للكل فالمناط ملاكا و خطابا و انطباقا على المأمور به إنّما هو على الكل.
السابعة: لا ريب في جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى شرائط الأجزاء كالجهر و الإخفات و الموالاة و أداء الكلمات على الطريقة المعتبرة، للعموم و الإطلاق، و ظهور الاتفاق. و لكن في جريانها بالنسبة إلى الطهارة و الاستقبال و الستر و نحوها ممّا هو شرط للصلاة كلام.
فعن جمع من الفقهاء (قدّس سرّهم) منهم صاحب المدارك صحة الجريان، للعموم و الإطلاق، و التسهيل و الامتنان، و هو الذي تقتضيه أصالة عدم السهو و النسيان. و عن بعض آخر عدم الجريان.
و خلاصة دليلهم على طوله: أنّه لا محل لها حتّى يصدق التجاوز عن المحل، و أنّ قاعدة التجاوز إنّما تتكفل تصحيح ما مضى فقط لا ما يأتي، فيرجع في ما يأتي إلى الأصل.
و الخدشة فيهما ظاهرة. أمّا قضيّة اعتبار مضيّ المحل فلا ريب في الصدق، لأنّ المحل الشرعيّ بحسب ظواهر الأدلة القولية و البيانية إنّما هو قبل الصلاة، فراجع صحيح حماد و صحيح حريز و غيرهما۳۳ من الأدلة. و كذا عند المتشرعة خلفا عن سلف حيث إنّهم يرون المحل الشرعيّ لمثل هذه الشرائط قبل التلبس بالصلاة.
و أمّا أنّ القاعدة لتصحيح ما مضي و لا تتكفل لما يأتي، فلا أصل له من عقل أو نقل، بل هي لتصحيح المأتيّ مطلقا. نعم، لو كان المراد بما يأتي به عملا مستقلا، كالعصر بالنسبة إلى الظهر فهذه القواعد ساكتة عنه مطلقا، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل حينئذ.
الثامنة: مورد جريان القاعدتين ينحصر بخصوص صورة الشك. و أمّا من احتمل الترك عمدا أو عن جهل بالحكم أو الموضوع أو لأجل الاضطرار أو نحوه،
فلا تشملها القاعدة جمودا على لفظ الشك الوارد في أدلّتها، فلا بد من العمل بالقواعد الأخرى من أصالة الصحة و نحوها، و طريق الاحتياط هو العود و التدارك رجاء ما لم يكن محذور في البين، و يأتي التفصيل في الفروع الآتية إن شاء اللّه تعالى و منه نستمد العون و التوفيق.
التاسعة: لا يعتبر في مجرى قاعدة الفراغ الدخول في الغير، لإطلاق جملة من الأخبار، و ما في بعضها، كقوله (عليه السلام): «و قد صرت في حالة أخرى» يأتي فيه جميع الوجوه المزبورة في قاعدة التجاوز فيكفي فيها مجرّد الفراغ إمّا واقعا أو شرعا أو بناء أو وجدانا بأن يجد نفسه فارغا عن العمل، و مع الشك في ذلك كله فلا مجرى لها حينئذ، لأنّ التمسّك بدليلها يكون من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، فالمرجع قاعدة الاحتياط. هذه خلاصة ما يتعلّق بالمقام و من اللّه الاعتصام.