لإطلاق أدلة اعتبار تلك الأجزاء و الشرائط على ما يأتي، مضافا إلى معروفية أنّ الجاهل بالحكم كالعامد إلا ما خرج بالدليل، و إلى ما يأتي من حديث «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة»
ثمَّ إنّ الخلل الحاصل عن الجهل بالحكم تارة: في الجزء. و أخرى: في الشرط، و على كل منهما، إمّا أن يكون عن قصور، أو عن تقصير، و على الجميع إمّا أن يكون بسيطا، أو مركبا، و مقتضى إطلاق المراد- النفس الأمري المعبّر عنه بنتيجة الإطلاق، و عموم الملاك الشامل لحالتي العلم و الجهل- البطلان في الجميع، و لو قلنا بقصور الإطلاق اللحاظي عن شمولها كما عن جمع، و لكن قد أثبتنا في محله إمكانه، فمقتضاه البطلان أيضا، فالإطلاقان ثابتان و العموم شامل و التقييد و التخصيص مفقود، فالمتعيّن هو البطلان. و هذا هو العمدة و إلا فمعروفية أنّ الجاهل بالحكم كالعامد قابل للخدشة، فالمدار على إطلاق الأدلة إلّا أن يدل دليل على الخلاف، و قد وردت الأدلة الخاصة في موارد مختلفة دالة على الصحة- كالجهر في موضع الإخفات و بالعكس۱۲، و الصلاة في النجاسة جهلا بها۱۳ إلى غير ذلك.
و إنّما البحث هنا- في إثبات قاعدة كلية دالة على الصحة في جميع موارد الخلل الجهلي غير مختصة بمورد خاص، و ما يمكن أن يثبت به القاعدة الكلية- ما اشتهر بقاعدة «لا تعاد» و البحث فيها من جهات: الأولى: في مدركها، و الأصل فيها قول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود. ثمَّ قال: القراءة سنة و التشهد سنة و لا تنقض السنة الفريضة»۱4.
و أما البحث عن السند، فهو ساقط لصحته، و اعتماد جميع الأصحاب عليه فتوى و عملا. و هذا الكلام المبارك كسائر كلمات مولانا الباقر (عليه السلام) التي يستفاد منها القواعد الكلية.
الثانية: أنّه تنحل إلى قاعدتين: الأولى: قاعدة «لا تعاد». الثانية: قاعدة «لا تنقض السنة الفريضة» و هي أيضا قاعدة معتبرة نتكلم فيها إن شاء اللّه تعالى.
و مقتضى إطلاقه- و كونه في مقام التسهيل و الامتنان، و التفصيل بين السنة- أي ما
ثبت بغير الكتاب- و الفريضة- أي ما ثبت به- أنّ كل ما يتصوّر من الخلل الوارد على الصلاة- عمدا كان أو جهلا، أو سهوا، أو نسيانا، زيادة أو نقيصة- لا تعاد الصلاة منها إلّا من الخلل الوارد على الخمسة، فيصير الخلل الجهلي مشمول الحديث أيضا، فيخرج الخلل العمدي فقط لأنّ المنساق من الحديث عرفا ما إذا كان حصول الخلل لأجل عذر عرفيّ في الجملة بحيث لا يتمكّن معه من إتيان المأمور به كاملا، و العمد ليس عذرا أصلا، و ما في بعض الموارد من صحة العمل و لو مع الترك العمدي- كما في بعض ما يعتبر في الحج- إنّما هو لأجل الدليل الخاص لا يقاس به غيره، و بعد خروج الخلل العمدي تبقى صور الجهل داخلة في الإطلاق تسهيلا و امتنانا خصوصا في أوائل الإسلام التي كثر الجهل بين الأنام، بل يزيد الجهل في هذه الأيام فضلا عن قديم الأزمان. و أورد عليه بوجوه: الوجه الأول: أنّه ليس له إطلاق أصلا، بل الحديث في مقام بيان أهمية الخمسة بالنسبة إلى غيرها.
و يرد: بأنّه خلاف المحاورات العرفية، فأي فرق بينه و بين سائر القواعد الثانوية الامتنانية حتى يثبت لها الإطلاق بخلاف المقام.
الوجه الثاني: أنّه على فرض ثبوت الإطلاق له، فخروج العامد عنه إجماعا يوهن إطلاقه.
و يرد أولا: بعدم شموله للعامد، إذا المنساق منه عرفا من لم يتمكن من تصحيح صلاته إلا بالإعادة و العامد حين تعمد الإخلال متمكن من التصحيح و ترك الإخلال بلا إشكال، فهو تخصص لا أن يكون تخصيصا.
و ثانيا: أنّ تقييد المطلق و تخصيص العام شائع و لا يضر بالإطلاق و العموم كما ثبت في محله.
الوجه الثالث: دعوى الإجماع على عدم شموله لمورد الجهل.
و يرد: بأنّه ليس من الإجماع التعبديّ المعتبر، بل حصل من اجتهاداتهم الشريفة في الأدلة لا أقلّ من الشك في ذلك فكيف يعتمد عليه، مع أنّ المسألة لم تكن معنونة بالتفصيل عند القدماء حتّى تستظهر آراؤهم الشريفة.
الوجه الرابع: أنّ الترك المستند إلى الجهل بالحكم عمديّ بالنسبة إلى
المتروك جزءا كان أو شرطا فلا يشمله الحديث، لما مرّ، بل مقتضى إطلاق ما دلّ على البطلان بتعمد الترك هو البطلان مثل صحيح ابن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): «القراءة سنة فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة و من نسي القراءة فقد تمت صلاته و لا شيء عليه»۱٥.
و يرد عليه: أنّ المراد بالعمد في الروايات، بل عند الفقهاء، ولدي المتشرعة هو العلم بالحكم و الموضوع معا لا خصوص الأخير كما لا يخفى لمن راجع موارد استعمالاته في الفقه فراجع و تأمل.
الوجه الخامس: دوران الأمر بين تقييد حديث «لا تعاد» بغير الجهل و تقييد جميع أدلة الشرائط و الأجزاء بحديث «لا تعاد» في موارد الخلل عن جهل. و الأول أولى لقلة التقييد بخلاف العكس.
و يرد: بأنّ هذا شأن جميع الأدلة الثانوية التسهيلية الامتنانية مطلقا، فإن معنى تقدمها على الأدلة الأولية إنّما هو تقييد الكل بها كما لا يخفى.
الوجه السادس: ما وقع فيه الخلل عن جهل هل تكون فيه المصلحة الملزمة الواقعية أم لا؟ فعلى الأول لا وجه للصحة بدونها. و على الثاني لا وجه للأمر بها أصلا، فيصح الاكتفاء بإتيان بقية الأجزاء و لو عمدا.
و يرد أولا: بالنقض بالخلل عن سهو و نسيان، بل عن جهل في الموارد الخاصة التي دل الدليل المخصوص على الإجزاء، فكل ما يجاب عنه في تلك الموارد يجاب به في المقام أيضا.
و ثانيا: بأنّ لها مصلحة واقعية و لكن بمحض الخلل تحدث مصلحة تداركية لما فات منها كما في جميع موارد التسهيلات و الامتنانيات و الموارد التي يكون الجهل فيها عذرا بالخصوص و هذا ثبوتا لا إشكال فيه، و طريق إثباته إطلاق الأدلة و كثرة رأفة الشارع على الأمة، و سهولة الشريعة، و وجود نظير المقام مما افتقر فيه الخلل عن الجهل في الصلاة و الحج و غيرهما ممّا لا يخفى، و لا دليل على الخلاف من إجماع أو غيره.
إن قلت: مع حدوث المصلحة المتداركة للواقع في هذه الموارد لا وجه لتشريع ما أخلّ به أصلا، كما لا وجه للعقاب على تركه- إن كان عن تقصير- كما نسب إلى المشهور فيمن جهر في موضع الإخفات أو بالعكس عن جهل مع التقصير.
قلت: المصلحة الحادثة المتداركة في طول الواقع لا في عرضه. و هي أقلّ من المصلحة الواقعية قهرا، و لكن مع حصولها لا وجه لإيجاب تدارك المصلحة الواقعية، فيصح تشريع الواقع و يجب تعلمه، لإطلاق وجوبه و تمامية ملاكه و يعاقب على تركه مع التقصير لتفويته في الجملة، و يجزي ما أتى به لتحقق المصلحة التداركية و لا يجب الإعادة أو القضاء، لعدم ملاك الإيجاب فيه.
الوجه السابع: أنّ حديث «لا تعاد» يجري في مورد لو لا جريانه يصدق فيه الإعادة، و قد مرّ أنّ الخلل الجهليّ عمدي بالنسبة إلى مورده جزءا كان أو شرطا، و في الإخلال العمديّ يكون أصل العمل كأن لم يكن، فلا وجه لإطلاق الإعادة عليه، ألا ترى أنّ من لم يصلّ أصلا لا يقال له تجب عليك إعادة الصلاة و المقام يصير مثله أيضا.
و يرد: بصحة إطلاق الإعادة عرفا، ألا ترى أنّه لو صلّى أحد بلا طهارة مستدبر القبلة عمدا يصح أن يقال له: أعد صلاتك فإنّها باطلة خصوصا بناء على الوضع للأعم.
فتلخّص: أنّ مقتضى إطلاق الحديث- و رأفة الشارع و سهولة الشريعة و ورود الاغتفار في الجملة في موارد كثيرة في الجهل- شموله للخلل عن جهل أيضا إلا أن يدل دليل على الخلاف، و ليس إلّا دعوى الإجماع، و كونه من الإجماع المعتبر أول الكلام، و يقتضيه حديث الرفع۱٦ و قوله (عليه السلام): «أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»۱۷، فإنّ شمول إطلاقه لما نحن فيه ممّا لا ريب فيه.
الثالثة: الظاهر شمول الحديث للزيادة كشموله للنقيصة أيضا، لكونه من القواعد الكلية الامتنانية، فالخروج عن مفاده يحتاج إلى دليل و هو مفقود، فيشمل
الحديث لكل خلل مطلقا من كل حيثية و جهة سواء حصل عن الجهل أن الإكراه أو الاضطرار كشمول حديث الرفع لها أيضا فيرفع المانعية و القاطعية و الجزئية و الشرطية في حالتي الإكراه و الاضطرار مطلقا إلّا مع دليل الخلاف، و حينئذ فيحمل ما دل على البطلان بالزيادة على ما إذا وقعت عن عمد من غير إكراه و لا اضطرار جميعا بينه و بين مثل حديث «لا تعاد»، أو يحمل على ما إذا كانت من الأركان بلا فرق حينئذ بينما إذا كانت بالاختيار أو الإكراه أو الاضطرار، و يشهد للتعميم إطلاق قوله (عليه السلام): «ما أعاد الصلاة فقيه قط يحتال لها و يدبرها حتى لا يعيدها»۱۸، فإنّ هذا التأكيد و التعبير حاكم على جميع أدلة الخلل و شارح لها مهما أمكن التدبر و الحيلة الشرعية.
ثمَّ إنّه لا فرق في الخلل المشمول للحديث بين كونه عن قصور أو تقصير لظهور الإطلاق و ما يقال: من أنّه مع التقصير لا وجه حينئذ لأصل التشريع و وجوب التعلم. مردود نقضا و حلا بما تقدّم.
الرابعة: الظاهر عدم اختصاص الحديث بما إذا فرغ من الصلاة، فيشمل الخلل الحاصل في الأثناء، لظهور الإطلاق لكن مع عدم التمكن من التصحيح شرعا و إلّا فيصير من الخلل العمدي كما مرّ، و لو شكّ في أنّ الخلل عمديّ أو سهويّ، ففي شمول حديث «لا تعاد» له- و كذا مثل قاعدتي التجاوز و الفراغ- إشكال، لأنّه بعد عدم شمولها للخلل العمدي يكون التمسك بدليلها في مورد الشك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إلّا أن يثبت الموضوع بظاهر حال المصلّي حيث إنه يقتضي عدم صدور الخلل العمديّ منه، أو يقال: إنّ ما خرج عن تحت أدلة الخلل مطلقا إنّما هو خصوص ما أحرز عمديته، فتكون صورة الشك فيها داخلة في العموم.
الخامسة: الحصر في المستثنى إضافيّ، لعدم اختصاص الإعادة بها بل تجب في تسعة، الخمسة المذكورة في الحديث، و النية، و التكبيرة، و القيام المتصل بالركوع، و القيام حال التكبيرة راجع أول (فصل واجبات الصلاة)، و أول (فصل تكبيرة الإحرام)، و أول (فصل القيام)، فقد تعرّضنا لها ببعض الكلام. كما
إنّ قوله (عليه السلام): «الصلاة ثلاث أثلاث:، ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود»۱۹، فليس في مقام الحصر الحقيقيّ حتى ينافي حديث «لا تعاد»، و إنّما هو لبيان الحصر الإضافي بالنسبة إلى بعض ما له دخل في الصلاة ممّا له نحو أهمية في الجملة، فلا تنافي بين مثل هذه الأحاديث.
ثمَّ إنّ إطلاق حديث «لا تعاد» بالنسبة إلى الخمسة مقيّد بما مرّ في [مسألة ۳] من (فصل أحكام الأوقات) من الصحة فيما إذا دخل الوقت في الأثناء، و ما تقدّم في (فصل أحكام الخلل في القبلة)، و بما مرّ في الركوع و السجود من أقسامها الاضطرارية، فراجع و تأتي جملة من الفروع المتعلقة به إن شاء اللّه.
تعالى.