إن كانت التقية من غير المخالف، فهو مثل الإكراه و تقدّم ما يتعلق
به. و أما إن كان منه، فإما أن يكون بتناول ما لا يرونه مفطرا، أو بالإفطار فيما يرونه عيدا، أو مغربا، فلا وجه للبطلان في ذلك كلّه، لأنّ كل من تأمل فيما ورد في الترغيب و التحريض إلى ذي التقية يطمئن بأنّ الأمر فيها أوسع من سائر الضروريات كما هو واضح لمن راجع أخبارها- كما سيأتي بعضها-:
فمنها: ما عن الصادق (عليه السلام) في قول اللَّه عزّ و جل أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا قال (عليه السلام): «بما صبروا على التقية» وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال (عليه السلام): «الحسنة التقية، و السيئة الإذاعة»۱٦.
فجعل (عليه السلام) إذاعة الحق في دولة الباطل سيئة مطلقا، و مثل هذا الإطلاق ترخيص لها من كل جهة، و غير قابل للتقييد إلا بما هو أقوى منه.
و في رسالته (عليه السلام) إلى أصحابه قال: «و عليكم بمجاملة أهل الباطل. تحمّلوا الضيم منهم، و إياكم و مماظّتهم. دينوا- فيما بينكم و بينهم إذا أنتم جالستموهم و خالطتموهم و نازعتموهم الكلام- بالتقية التي أمركم اللَّه أن تأخذوا بها فيما بينكم و بينهم- الحديث-»۱۷.
فالضيم: الظلم. و المماظة: المنازعة.
و عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «لا خير فيمن لا تقية له، و لقد قال يوسف أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ و ما سرقوا۱۸.
و في حديث شرائع الدّين عن الصادق (عليه السلام): «و استعمال التقية في دار التقية واجب و لا حنث و لا كفارة على من حلف التقية»۱۹.
و عن (عليه السلام) أيضا في خبر ابن صدقة: «فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدّي إلى الفساد في الدّين فإنّه جائز»۲۰.
و ظهور مثل هذه التعبيرات في سقوط الحكم الواقعيّ معها تكليفا كان أو
وضعا مما لا ينكر، و ظاهرها الإجزاء أيضا عن الواقع في التكاليف نفسية كانت أو غيرية- حكما أو موضوعا- خصوصيا إطلاق قول (عليه السلام): «ما صنعتم من شيء، أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة»۲۱.
و قوله (عليه السلام): «التقية في كلّ شيء»۲۲، فالعموم ثابت، و الإطلاق موجود فالإجزاء متعيّن، و يقتضيه التسهيل، و التيسير، و السماحة في الشريعة المقدسة.
إن قيل: إنّ المنساق من الأدلة أنّ تشريع التقيّة إنّما هو في الدّين كقوله (عليه السلام): «لا دين لمن لا تقية له»۲۳ و قوله (عليه السلام): «لا إيمان لمن لا تقية له»۲4 فلا يشمل الموضوعات مطلقا.
يقال: موضوع الحكم الديني من الدّين أيضا خصوصا الموضوعات التي حدّدها الشارع بحدود و قيود. نعم، الموضوع الصّرف الذي لا دخل للحكم فيه خارج عن مساقها و ليس الكلام فيه، فحكم الحاكم، و الإفطار فيما يرونه مغربا، أو عيدا أو نحو ذلك من الأمور الدينية لدى متشرعة المسلمين، فتعمّها جميع أدلة تشريع التقية.
و ما قيل: من أنّ المنساق منها تنزيل العمل الفاقد للجزء و الشرط منزلة الواجد. و أما تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فلا يستفاد منها، فمن ترك الصوم في يوم يرونه عيدا فلم يأتي بشيء حتّى ينزل منزلة الواجد للشرائط.
يقال: هذه كلّها تبعيد للمسافة، و تضييق لما وسعه الشارع بمجرّد الوهم و الخيال من دون دليل عليه من عقل، أو شعر، مع أنّ ظاهر أدلة التقيّة لزوم متابعتهم و مجاملتهم و ترتب أثر الواقع على ذلك، فترك الصوم في يوم عيدهم يترتب عليه حكم الصوم من جهة انطباق عنوان المتابعة عليه، بل لنا أن نقول:.
إنّ الشارع رفع اليد عن الواقع رأسا في موارد التقية، فلا واقع إلا بما يحصل به متابعتهم و ذلك لوجود غرض أهمّ في البين و هو حفظ وحدة صورة الإسلام و عدم وقوع التباغض بين المسلمين، فالتقية بمراتبها الوسيعة من صغيرات تقديم الأهمّ على المهمّ الذي تحكم به فطرة ذوي العقول من كلّ مذهب و ملّة، و من تأمل في سيرة النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين (عليهم السلام) يعلم بأنّ اهتمامهم بحفظ صورة الإسلام و وحدته كان أشدّ من اهتمامهم بسائر الجهات، و لا وجه لهذا الاهتمام مع فعلية الواقع و القضاء، لأنّه تشديد على الشيعة مع أنّ التقية شرعت للتسهيل عليهم.
و يظهر ذلك كلّه من قول أبي عبد اللَّه (عليه السلام) لأبي العباس: «يا أمير المؤمنين ما صومي إلا بصومك، و لا إفطاري إلا بإفطارك»۲٥.
و في خبر أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) إنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلت على أبي جعفر و كان بعض أصحابنا يضحي، فقال (عليه السلام): الفطر يوم يفطر الناس و الأضحى يوم يضحي الناس، و الصوم يوم يصوم الناس»۲٦.
فإنّ ظهورهما في رفع اليد عن الواقع مما لا ينكر.
إن قيل: فلا وجه للقضاء حينئذ، مع أنّه تقدم المرسل المشتمل عليه.
يقال: تقدم ما فيه سندا و دلالة. هذا مع أنّ التقية إنّما شرعت للتسهيل- و التيسير و الألفة- و القضاء ينافي ذلك كلّه.
و خلاصة الكلام: إنّ المنساق منها إجزاء متابعتهم عن الواقع مطلقا، بل احتمال سقوط الواقع في موردها صحيح أيضا، و لا محذور من عقل أو نقل في أن يسقط الشارع الواقع في مورد التقيّة و يجعل موردها- وجوديّا كان أو عدميا- منزلة الواقع و يثيب عليه بأضعاف ثواب الواقع، فإنّ ذلك كلّه بيده و تحت اختياره يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، و قد تقدم في الوضوء و الصلاة ما ينفع المقام.