البحث في هذه المسألة من جهات.
الأولى: عنوان المسألة في جملة من الكلمات كما ذكرناه في صدر المسألة غير مقيد بالمكيل و الموزون و لكن أكثر الروايات مشتملة عليهما و لا ريب في ان العنوان الأعم الوارد في كلمات الفقهاء انما هو لأجل ترتب الفروع الذي تعرضوا بعد ذلك عليه كما يظهر من الشرائع و غيره.
الثانية: النهي الوارد في المعاملات أقسام أربعة: فأما أن يكون للحرمة التكليفية، أو للإرشاد إلى الفساد، أو للكراهة التكليفية، أو للإرشاد إلى الابتلاء بحزازة و متعبة ينبغي للعاقل المجرب لتحرز عنه و لا تستفاد الكراهة منه حينئذ هذا بناء على أن الحرمة التكليفية في المعاملات لا تكون إرشادا إلى الفساد إلا ما خرج بالدليل و أما بناء عليه فتصير الأقسام ثلاثة كما لا يخفى، و لا بأس بالقول بأن الحرمة التكليفية فيها إرشاد إلى الفساد مع عدم القرينة على الخلاف.
و في المقام يمكن أن يقال: ان في بيع المكيل و الموزون قبل القبض معرضية للانفساخ و منشأية للخصومة و اللجاج فنهى عنه من هذه الجهة فمعنى النهي على هذا أن هذا العمل خلاف عمل العاقل المجرب في المعاملة و هذا القسم من النهي كثير في الشريعة في قسم الآداب كما لا يخفى على من راجعها.
الثالثة: لو كنا نحن و هذه الأخبار الواردة في المقام لا نستفيد منها الحرمة و البطلان بعد رد بعضها إلى بعض، لأن في جملة منها: «لا يصلح» أو «لم يصلح»۱۳، و هذه الكلمة إما ظاهرة في الكراهة أو مجملة و على أي حال يوجب سقوط ظهور البقية في الحرمة و البطلان مع ان في بعضها: «لا بأس بذلك ما لم يكن كيل أو وزن» كما تقدم في صحيح منصور فيدل بالمفهوم على ثبوت البأس فيهما، و البأس أيضا أعم من الحرمة و الكراهة.
الرابعة: قال أبو جعفر عليه السّلام في صحيح ابن مسلم في البيع قبل القبض:
«ليس به بأس إنما يشتريه منه بعد ما يملكه»۱4، و قال الصادق عليه السّلام في صحيح ابن حازم في مفروض المسألة: «لا بأس بذلك انما البيع بعد ما يشتريه»۱٥، فجعلا عليه السّلام صحة البيع دائرة مدار حصول الملكية و هما صحيحان معللان و قد ثبت في محله ان المعلل مقدم على كل عام و مطلق.
الخامسة: يشهد للجواز بلا كراهة فضلا عن الحرمة صحيح ابن حازم:
«فإن هو قبضه فهو أبرء لنفسه»۱٦، و إطلاق قول الصادق عليه السّلام في صحيح الحلبي:
«عن الرجل يشتري الثمرة ثمَّ يبيعها قبل أن يأخذها قال عليه السّلام: لا بأس به إن وجد بها ربحا فليبع»۱۷، فإن إطلاق الثمرة يشمل الموضوعة على الأرض و لا يختص بخصوص ما على الشجرة و يشهد له أيضا خبر المدائني قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القوم يدخلون السفينة يشترون الطعام فيتساومون بها ثمَّ يشتريه رجل منهم فيسألونه فيعطيهم ما يريدون من الطعام فيكون صاحب الطعام هو الذي يدفعه إليهم و يقبض الثمن قال عليه السّلام: لا بأس ما أراهم إلا شركوه»۱۸ فمن مجموع هذه الأخبار بعد التأمل في الجميع يستفاد ان الحكم ليس إلزاميا بل و لا تنزيهيا بل إرشاد محض إلى عدم الوقوع فيما لا يتوقع و يشهد له أيضا استثناء بيع التولية في المكيل و الموزون قبل القبض- كما تقدم- لأنه لا يتصور وجه لعدم الصحة و الحرمة في غيرها و الصحة و الجواز فيها.
نعم، حيث انه يعين فيها العوض المسمى فهي ليست مبنية على المداقة فيكون الوقوع فيما لا يتوقع فيها قليلا أو معدوما، و يشهد له أيضا ما ورد في جواز بيع السلم بعد حلوله و قبل قبضه۱۹، بناء على اتحاده مع المقام كما اعترف به الشهيد في الروضة و المسالك.
ثمَّ انه ربما يمكن أن يجمع بين نصوص الباب بوجوه أخر.
الأول: القول بالحرمة و البطلان في المكيل و الموزون و الجواز مع الكراهة في غيرهما و به يجمع بين الأخبار.
الثاني: القول بالجواز في التولية مطلقا للتنصيص على الجواز فيها كما تقدم و القول بالمنع في غيرها حملا للأخبار المانعة على غير التولية و المجوزة عليها بقرينة الأخبار المشتملة على استثناء التولية.
الثالث: القول بالجواز مع الكراهة في الجميع حتى في المكيل و الموزون و التولية في غير المكيل و الموزون لكن مع شدة الكراهة في المكيل و الموزون و خفتها في البقية خصوصا التولية.
الرابع: طرح الأخبار الدالة على الجواز، لقصور سندها كما نسب إلى الشهيد.
أقول: هذه الوجوه من الجمع ثبوتا لا اشكال فيها لأنها عرفية و شائعة في الفقه لكن إثباتا لا شاهد لها، لما مر من حمل النهي فيها على الإرشاد إلى عدم الوقوع فيما لا يتوقع، و أما طرح الأخبار الدالة على الجواز فلا وجه له بعد كثرتها و اعتضادها بالعمومات و الإطلاقات و عمل الأصحاب، لأنهم اعتمدوا عليها و اختلفوا في كيفية حملها.
الخامسة من جهات البحث: أن ما تقدم في الجهة السابقة انما هو مع ملاحظة الأخبار من حيث هي مع قطع النظر عن الكلمات و الأقوال و أما الأقوال فقد أنهاها بعضهم إلى ستة.
الأول: القول بالمنع مطلقا حتى في غير المكيل و الموزون حكاه في التذكرة عن بعض علمائنا، و عن الشيخ في المبسوط اختياره في باب السلم.
الثاني: الكراهة مطلقا.
الثالث: التفصيل بين المكيل و الموزون، فيكره فيهما دون غيرهما.
الرابع: التفصيل بين الطعام فيحرم و غيره فلا يحرم.
الخامس: التفصيل بين الطعام فيكره و بين غيره فلا يكره.
السادس: التفصيل في خصوص الطعام بين التولية فيكره و غيرها فيحرم و يكره في غير الطعام من المكيل و الموزون. هذه أقوالهم التي ذكرها العلامة في التذكرة.
و أما الإجماعات المدعاة في المقام فعن الشيخ رحمه اللّه في المبسوط و الخلاف الإجماع على عدم الجواز في الطعام و هو موهون بمصير جمع ممن تقدمه و معظم من تأخره إلى الخلاف بل هو و بنفسه اختار في نهايته الكراهة فكيف يعتمد عليه، و عن التنقيح الإجماع على عدم جواز بيع السلم على من هو عليه قبل القبض، و عن المبسوط على المنع، و عن التحرير و الدروس الإجماع على الجواز في غير المكيل و الموزون و نسب في التذكرة المنع إلى جماعة منا.
أقول: كيف يعتمد على هذه الإجماعات غير الصحيحة المتهافتة.
إذا تبين ما ذكرناه.
فنقول: أما الجواز و هو المشهور بين المتأخرين فللأصل و إطلاقات الأدلة كتابا و سنة.
و أما الكراهة فللأخبار الخاصة الواردة في المقام و هي على أقسام.
الأول: ما هو ظاهر في عدم الجوز مثل ما تقدم من صحيح ابن حازم و غيره.
الثاني: ما هو ظاهر في الجواز كخبر الكرخي عن الصادق عليه السّلام: «اشترى الطعام إلى أجل مسمى فيطلبه التجار بعد ما اشتريته قبل ان أقبضه؟ قال عليه السّلام: لا بأس أن تبيع إلى أجل اشتريت، و ليس لك أن تدفع قبل أن تقبض قلت: فإذا قبضته- جعلت فداك- فلي أن أدفعه بكيله؟ قال عليه السّلام: «لا بأس بذلك إذا رضوا»۲۰، و زاد في الفقيه فيما روى عنه: «قلت اشترى الطعام من الرجل ثمَّ أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله فأقول أبعث وكيلك حتى يشهد كيله إذا قبضته قال عليه السّلام: لا بأس»۲۱، و خبر ابن دراج عنه عليه السّلام: «في الرجل يشتري الطعام ثمَّ يبيعه قبل أن يقبضه قال عليه السّلام لا بأس و يوكل الرجل المشتري منه بقبضه وكيله قال عليه السّلام لا بأس»۲۲.
الثالث: ما هو ظاهر في الكراهة كخبر أبي بصير عنه عليه السّلام أيضا: «عن رجل اشترى طعاما ثمَّ باعه قبل أن يكيله قال عليه السّلام: لا يعجبني أن يبيع كيلا أو وزنا قبل أن يكيله أو يزنه إلا أن يوليه كما اشتراه»۲۳، و في صحيح الحلبي التعبير ب «لا يصلح»۲4، و هو ظاهر في الكراهة أيضا فيحمل القسم الأول على الكراهة جمعا، مع انه لا يتصور وجه صحيح للحرمة بعد معلومية الكيل أو الوزن للطرفين و مع عدمه فالبيع باطل مطلقا و لا اختصاص له بالمكيل و الموزون.