الظاهر أنّ نظره (قدّس سرّه) إلى رد المحقق الأردبيلي الذي قال بالتوسعة المسامحية العرفية في القبلة. و قال في الجواهر: «إنّه مخالف للإجماع بقسميه».
خلاصة المقال في كيفية الاستقبال: تارة بحسب الكتاب، و أخرى بحسب نصوص المعصومين، و ثالثة بحسب الأصول العملية، و رابعة: بحسب كلمات علماء الإمامية.
أمّا الأول: فلفظ «الشطر» الوارد في الكتاب بمعنى النحو و الجهة، و من إطلاقه و إطلاق المسجد الحرام في قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ* يستفاد التوسعة لا الدقة.
و أما الثاني: فيدل ما ورد عنهم (عليهم السلام) على أوسعية الأمر يستفاد من ظاهر الكتاب كما تقدم عند تعرض الأخبار.
و أمّا الثالث: فالمسألة من موارد الشك في أصل التكليف، لأنّ الاستقبال بما يصدق عرفا واجب قطعا و الزائد عليه مشكوك فيرفع بالإطلاق و الأصل.
و أمّا الأخير، فكلماتهم بين الإفراط- كما نسب إلى الأردبيلي- و التفريط كما عن بعض، و الحدّ الوسط إنّما هو الصدق العرفي. هذا.
ثمَّ إنّه ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: للجهة، و المحاذاة، و السمت، و الشطر، و النحو و أمثالها من التعبيرات مراتب متفاوتة: الدقية العقلية، و المسامحة العرفية، و الدقية العرفية، و نفس الفضاء الذي فيه المطلوب و المتعيّن في المقام المرتبة الثالثة، لما مرّ.
الثاني: لا يعتبر في صدق الاستقبال عرفا وصول الخط الفرضي من بين يدي المستقبل إلى المستقبل إليه، بل مع الصدق العرفي يجزي و إن علم بعدم وصل الخط، كما صرّح به في الجواهر و غيره، للأصل و الإطلاق.
الثالث: علم تعيين أوضاع خطّ العرض و الطول الذي جعل في البلاد لمعرفة الساعة الزمنية و لتعيين القبلة بحسب تعيين الدرجات قابل للخطإ و الاختلاف فيها أيضا كثير، مع أنّهم يستندون في ذلك على البراهين الهندسية، و الدلالات المجسطية و الأرصاد و غيرها من الآلات المختلفة بحسب الأعصار و القرون، و قد استظهر المجلسي (رحمه اللّه) أنّ محراب النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) مخالف للقواعد الهيأوية مع أنّه بناه النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) بإزاء ميزاب الكعبة، لما رواه الخاصة و العامة من أنّه زويت له الأرض و رأى الكعبة، فجعله بإزاء الميزاب۲۳ و لا دليل على قول المجلسي و غيره في مخالفة القواعد، لاحتمال الخلاف فيها أيضا، و قد أثبت في كتاب (إزاحة العلّة عن معرفة القبلة) للفاضل المحقق- سردار الكابلي (رحمه اللّه)- أنّ وضع محراب النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) موافق للقواعد قال: «يكون المحراب النبويّ في كمال الصحة و الاستواء بل هو من معجزاته الكريمة و آياته العظيمة الباقية إلى يوم القيامة، فإنّه (صلّى اللّه عليه و آله) توجه إلى الكعبة، و معلوم أنّ توجهه (صلّى اللّه عليه و آله) في ذلك الحين على خط القبلة تماما غير منحرف كاشف عن كونه (صلّى اللّه عليه و آله) مؤيّدا بروح القدس».
و هو أضبط من المجلسي و غيره، كما لا يخفى «لا اجتهاد في محراب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في جهة القبلة و لا في التيامن و التياسر، فإنّه منزل الكعبة»، و يظهر من التذكرة أنّ محراب المدينة إلى الميزاب عينا لا جهة.
فليس لأحد أن يحكم بخطإ قبلة محلّ يصلّي إليها المسلمون منذ قرون بمجرد المخالفة لتلك القواعد إلّا بعد طول الجهد و التثبت فيها و الإحاطة بها من كلّ جهة.
و احتمل (رحمه اللّه) التغيير في محاريب مسجد الكوفة أيضا، و لكنّه يحتاج إلى بذل الجهد أكثر مما بذله (قدّس سرّه). و أمّا خبر العرني قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كأنّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة و قد ضربوا الفساطيط يعلّمون الناس القرآن كما أنزل، أما إنّ قائمنا إذا قام كسره و سوى قبلته»۲4.
و عنه (عليه السلام) أيضا في خبر ابن نباته: «ويل لبانيك بالمطبوخ المغيّر قبلة نوح طوبى لمن شهد هدمك مع قائم أهل بيتي أولئك خيار الأمة مع أبرار العترة»۲٥.
و فيه: أنّه مضافا إلى قصور سند هذه الأخبار أنّها ظاهرة، بل ناصة في تقرير القبلة في زمان الغيبة، فلا وجه للإشكال من هذه الجهة، و لو بني على العمل بمثل هذه الأخبار لاختل النظام و بطلت جملة من الأحكام المسلّمة بين الفقهاء ثمَّ إنّه قد نقل المجلسي عن شيخه الشولستاني ما يتعلق بقبلة النجف و الكوفة و من شاء فليراجع إليه.
الرابع: قد اصطلحوا على تسمية دائرة وهمية فرضية في العالم بخطّ الاستواء و هو على قسمين: أرضي، و سماوي:
و الأول: دائرة مفروضة ترسم حول الكرة الأرضية متوسطة بين القطبين الشمالي و الجنوبي و تنقسم بها الأرض إلى قسمين: الشمالي و الجنوبي، و هذه الدائرة مركز حساب العرض لمعرفة موقع مكان من الأرض شمالا أو جنوبا و تنقسم هذه الدائرة إلى ۳٦۰ درجة، تقطع فيها الشمس كل ساعة ۱٥ درجة بها تمر خطوط نصف النهار و دائر فلك الأرض- على ما فصلّ في محلّه- و تسمّى هذه بخطّ الاستواء، لأنّ الشمس متى وقعت عليه عموديا يتساوى الليل و النهار في جميع العالم.
الثاني: دائرة فرضية عظيمة في الكرة السماوية واقعة على سطح خطّ الاستواء الأرضي على بعد متساو من قطبي الكرة السماوية سمّيت بذلك، لاستواء الليل و النهار في العالم عند عبور الشمس في حركتها السنوية على سطحها في أوقات خاصة- مضبوطة في محلّه- و تسمّى تلك الأوقات بالاعتدال الربيعي و الخريفي، فالدائرتان متلازمتان و وجه التسمية فيهما واحد.
الخامس: قد قسّموا كلّ واحدة من الدائرتين إلى ثلاثمائة و ستين جزءا و سمّوا كلّ جزء درجة، و أثبتوا للقارات الأرضية طولا و عرضا.
و الأول: عبارة عن بعد المحلّ عن الخطّ الموصل بين نقطتي الشرق و الغرب.
و الثاني: عبارة عن بعده عن خطّ الاستواء شمالا أو جنوبا، فإن كان الطول أقلّ من طول مكة، فهي شرقية عنه مطلقا، و إن كان أكثر، فهي غربية عنه مطلقا، و إن كان عرضه أقلّ، فهي شمالية، و إن كان أكثر فهي جنوبية- إلى غير ذلك، مما أطالوا القول فيه و تبعهم جمع من فقهائنا- فإن كان ذلك من الاجتهاد في القبلة بعد فقد العلم- و كفى مطلق الظن حينئذ- فله وجه، و إلّا فلا وجه له، لما يأتي في الأمر اللاحق.
السادس: قد أثبتت العلوم الحديثة العصرية خطأ كثير مما أثبته القدماء في تعيين طول البلاد و عرضها، فيشكل الاعتماد على أقوال القدماء فيها، للعلم الإجمالي بالخلاف.
إن قيل: لا تنجز لهذا العلم الإجمالي، لخروج جملة من الأطراف عن مورد الابتلاء، فيشمله حينئذ ما دل على اعتبار قول أهل الخبرة.
يقال: ليس لقول أهل الخبرة موضوعية خاصة بل المناط في المقام حصول الظنّ و حصوله لمن يلتفت إلى كثرة مخالفة قولهم للواقع مشكل، بل ممنوع.
السابع: نسب إلى المشهور استحباب التياسر لأهل العراق و استندوا بوجوه:
الأول: الأخبار الواردة فيه كخبر مفضل بن عمر: أنّه سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة و عن السبب فيه، فقال: إنّ الحجر الأسود لما أنزل من الجنة و وضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر الأسود، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال و عن يسارها ثمانية أميال، كلّه اثني عشر ميلا، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم، و إذا انحرف الإنسان ذات اليسار لم يكن خارجا من حدّ القبلة»۲٦.
و خبر عليّ بن محمد قال: «قيل لأبي عبد اللّه (عليه السلام) لم صار الرجل ينحرف في الصلاة إلى اليسار؟ فقال: لأنّ للكعبة ستة حدود، أربعة منها على يسارك، و اثنان منها على يمينك، فمن أجل ذلك وقع التحريف على اليسار»۲۷.
و ما عن فقه الرضا: «إذا أردت توجه القبلة فتياسر مثلي ما تيامن، فإنّ الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال و عن يساره ثمانية أميال»۲۸.
الثاني: أنّ مساجد العراق بنيت غلطا، لأنّها بنيت في زمان خلفاء الجور.
الثالث: بالإجماع الذي حكي عن الشيخ (قدّس سرّه) في خلافه.
و الكلّ مردود:
أمّا الأخبار: فلقصور سندها و عدم اختصاصها بالعراق، و كون الراوي في بعضها عراقيا لا يوجب الاختصاص كما هو المتسالم عليه عندهم، مع أنّها في مقام بيان أنّ القبلة الحرم دون الكعبة.
و أمّا أنّ مساجد العراق بنيت غلطا فهو من مجرد الدّعوى و لا يختص ذلك بمساجد العراق، بل يشمل جميع المساجد التي كانت للمسلمين في شرق الأرض و غربها في تلك الأعصار، مع أنّ هذا الحكم منهم (عليهم السلام) في تلك الأعصار مخالف للتقية و أي تقية أشدّ من هذا، و موجب لجعل شيعتهم معرضا للإيذاء و الهتك.
و أمّا الإجماع فموهون جدّا، بل دعوى الشهرة مع كثرة المخالفين مشكلة، مع أنّ الشهيد (رحمه اللّه) في الذكرى عبّر بالاستحباب لأهل المشرق و إثبات قوله (رحمه اللّه) أشكل عما نسب إلى المشهور.
ثمَّ إنّه قد صرح بعض بأنّ استقبال عين الكعبة مع كروية الأرض من المستحيل و تبعهم بعض مشايخنا في بحثه و حاشيته، و هو مخدوش بأنّه صحيح لو كان المراد من استقبال العين الدقي العقلي منه، و أمّا لو كان المراد الاعتباري العرفي فأي استحالة فيه.
كما إنّ ما تعرض له شيخنا المتقدم ذكره في درسه: «إنّ قوس الاستقبال من دائرة الأفق نسبته إليها نسبة قوس الجبهة إلى مجموع دائرة الرأس، و قوس الجبهة خمس دائرة الرأس، فقوس الاستقبال خمس دائرة الأفق، فلا يضر الانحراف بقدر ثلاثين درجة تقريبا» مردود: بأنّه من مجرد الدعوى بلا دليل، كما لا دليل على ما قيل: «من أنّ معياره أن ينظر المصلّي إلى قوس من دائرة الأفق بحسب حسه و نظره بعد التأمل» لأنّه، لا شاهد عليه من عقل أو نقل.
هذا و قال صاحب الجواهر و ما أحسن قوله: و ظنّي أنّ الذي أوقع هؤلاء الفضلاء في مثل هذا الوهم، التعبير بلفظ الجهة و لو أنّهم عبّروا بما في النصوص من أنّه يجب على كلّ أحد استقبال الكعبة و أنّه لا يقبل اللّه من أحد توجها إلى غيرها و إنّما هي قبلة المسلمين لم يقع أحد منهم في الوهم».