لا بأس بالإشارة إلى أمور:
الأول: لا ريب في أنّ الإنسان مركب من أمرين: روح و قوى روحانية تكون من عالم الغيب و الروحانيين، و جسم و قوى جسمانية تكون من عالم الأجسام فالتأما برهة من الزمن لمصالح كثيرة، فكما أنّ للجسم و القوى الجسمانية حوادث و آفات و أمراضا، كذلك للروح و القوى الروحانية أيضا، بل أمراضها أكثر بمراتب من أمراض الجسم، لوقوعها بين جندين عظيمين من جنود الرحمن و جنود الشيطان، تدعوها الأولى إلى التقرب إلى اللّه تعالى و التخلق بأخلاقه و امتثال أوامره و اجتناب نواهيه و السعادة الأبدية، و تحرضها الثانية على الفساد و الإفساد و الشقاوة الدائمية، فتكون الروح الإنسانية لكمال أهمية معركة الحرب العجيبة بين الجندين العظيمين دائما. فكما أنّ للأمراض الجسمانية أطباء و أدوية خاصة، للأمراض الروحانية أيضا أطباء، أعني الأنبياء و المعصومين و العلماء العاملين المبلّغين عنهم عليهم السلام، و أدوية خاصة أهمها العبادات بأنحائها المختلفة، و من أهمّ تلك العبادات و أفضلها الصلاة بشروطها، فهي أحسن درجات سعادة الإنسان و أكملها حتّى لقد اشتهر أنّ الصلاة معراج المؤمن.
فكما أنّ معراج الأنبياء و المرسلين الانقطاع عن العلائق بالكلية، و التوجه إلى ربّ الخلائق من كلّ جهة، فيفيض عليهم ربّهم ما يغنيهم عما سواه من
الكمالات و المعارف، فلا بد و أن تكون صلاة المؤمن أيضا فرعا من فروع ذلك الأصل الأصيل، و غصنا من أغصان تلك الشجرة التي ليس لها نظير و مثيل، فلا بد حين التوجه إلى حضرته تعالى بالصلاة من الالتزام بالجهات الدينية و الخلو عن العلائق الدنيوية، و دفع الأنجاس عن نفسه الظاهرية منها و الباطنية، و يتطهر من دنس الذنوب و الأخلاق الذميمة حتّى تترتب على صلاته الفوائد التي جعلها اللّه تعالى لها في الدنيا و الآخرة التي منها الارتداع عن الفحشاء و المنكر. و يقبح كلّ القبح على من يحضر في اليوم و الليلة خمس مرات لدى مالك الملوك الرحيم الودود، و مصدر الجود و الكرم و الإفاضة و لا يستفيد منه شيئا و يرجع صفر الكف.
الثاني: حيث إنّ الصلاة أفضل القرب و أحسن العبادات فما يتعلّق بها من الأحكام التكليفية و الوضعية و سائر الجهات كثيرة جدّا حتّى قال مولانا الرضا عليه السلام: «الصلاة لها أربعة آلاف باب»۱.
و عن الصادق عليه السلام: «للصلاة أربعة آلاف حدّ»۲.
و قد فسر العلماء هذين الحديثين، فعن الشهيد: أنّ المراد بهما الواجبات و المندوبات فجعل الواجبات ألفا تقريبا و وضع لها كتابه الذي سماه ب (الألفية)، و المندوبات ثلاثة آلاف و وضع لها كتابه الذي سماه (نفلية). و لكن عن شيخنا الحر العاملي في كتابه (بداية الهداية) أنّ الواجبات في الفقه بأجمعه ألف و خمس و ثلاثون، و المحرّمات ألف و أربعمائة و ثمان و أربعون. فراجع و تأمل في الجمع بينهما. كما أنّ الدسائس الشيطانية و وساوسه بالنسبة إلى الصلاة أكثر من كلّ عبادة فلا بد و أن يهتم بدفعها اهتماما بليغا.
الثالث: الخلوص و الإخلاص و حضور القلب و إقباله في الصلاة و سائر العبادات روح العبادة و حقيقتها التي بها قوامها و بانتفائها تكون كجسد لا حياة فيه، و قد أمر اللّه تعالى بالإخلاص و مدح المخلصين في جملة كثيرة من الآيات.
و الإخلاص تارة يكون بالنسبة إلى أصل التوحيد. و أخرى بالنسبة إلى العمل العبادي، و قد ورد عن أبي عبد اللّه عليه السلام تفسير كلّ منهما فقال
عليه السلام في خبر ابن حمران: «من قال لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنة، و إخلاصه أن يحجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرّم اللّه»۳.
و قال عليه السلام: «و العمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا اللّه عزّ و جلّ»4.
ثمَّ إنّ ثمرة الإخلاص و الخلوص تظهر في الدنيا و الآخرة، و قد روى الفريقان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أخلص للّه أربعين يوما فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»٥.
و قال عليّ عليه السلام: «بالإخلاص يكون الخلاص»٦.
و قال عليه السلام أيضا: «و تخليص النية من الفساد أشدّ على العالمين من طول الجهاد»۷.
و إطلاقه يشمل الخلاص عن جميع المتاعب و المهالك الدنيوية و الأخروية.
و قد ورد الترغيب إلى الخلوص و الإخلاص في الكتاب و السنة بما لا يحصى، و يمكن إقامة الدليل العقلي على لزومه، لأنّه من أهم مصاديق شكر المنعم، و أهم العلاجات في الأمراض الروحية، و أسرع طريق لكشف الواقعيات عليه، و قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أفضل العبادة الإخلاص، و أدنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الآثام، و في الآخرة النجاة من النار، و الفوز بالجنة»۸.
و في الخطبة المتواترة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين الفريقين التي خطب بها في المسجد الخيف بمنى في حجة الوداع: «نضر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها
ثمَّ بلّغها إلى من لم يسمعها فربّ حامل فقه إلى غير فقيه، و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ: قلب امرئ مسلم، إخلاص العمل للّه و النصيحة لأئمة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم، و هم يد على من سواهم»۹.
و عن مولانا العسكري عليه السلام: «لو جعلت الدنيا كلّها لقمة واحدة و لقمتها من يعبد اللّه خالصا لرأيت أنّي مقصّر في حقه»۱۰.
و لو أردنا أن نتعرّض لما ورد في الإخلاص في الكتاب و السنة و بيان فوائده الدنيوية و الأخروية لاحتاج إلى وضع كتاب مستقل، و لا بد للإنسان أن يهتمّ بدفع الأمراض الروحانية المحيطة به من كلّ جهة و التي أفسدت عليه دينه و دنياه، و أظلمت الفضاء عليه و قطعت الأخوّة بيننا، كاهتمامه بدفع الأمراض الجسمانية بأيّ وجه أمكنه، مع أنّ العلاج موجود بين أيدينا و سهل يسير علينا تناوله و أبوابه مفتوحة على الجميع ألا و هو الخلوص و الإخلاص في أعمالنا خصوصا التي هي وديعة اللّه تعالى لدينا.
الرابع: أهم الموانع عن حصول الخلوص و الإخلاص حب العلائق الفانية الدائرة التي تحيط ببني آدم إحاطة الدنيا بأبنائها، و قد جمع ذلك كلّه النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله: «حب الدنيا رأس كلّ خطيئة»۱۱.
فالإخلاص و الخلوص مع حب الدنيا متنافيان، و لكن حب الدنيا على قسمين: الأول ما يكون بنحو الموضوعية. و الثاني: ما يكون بنحو الطريقية، يعني يحبها لأن يعمل بها في طريق مرضاة اللّه تعالى، و هذا القسم لا بأس به، بل قد يؤيد حصول الخلوص. عصمنا اللّه عزّ و جلّ من القسم الأول.
الخامس: العوالم التي نرد عليها إما عالم الشهادة أو عالم الغيب، و الأخير
بالنسبة إلينا غير متناه. و أما بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ فلا تعدد في البين الحضور ما سواه لديه تعالى فوق ما نتعقله من معنى الحضور، و شهوده للكلّ فوق ما ندركه من معنى الشهود. و الخلوص و الإخلاص في عبادة اللّه جلت عظمته ارتباط مع علم الغيب في الجملة، إذ الارتباط مع الملك و السلطان ارتباط مع من يتعلق و ما يتعلق به في الجملة، لا سيّما في الارتباط مع مالك الملوك، فيصير الإخلاص له تعالى إلى مرتبة يوجب صدور الكرامات و خوارق العادات على يد المخلصين له تعالى، و يوجب عدم اقتدار الشيطان على الدنو منه فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ۱۲.
و قال تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ*۱۳. لأنّ نسبة الشيطان إلى حرم الكبرياء نسبة الكلب الواقف عند باب الدار فيمنع الأغيار عن الدخول فيها. و أما أهل الدار فلا يقدر على منعهم، بل هم المسيطرون عليه، و توجيهه لكلّ ما شاؤوا و أرادوا.
و بعبارة أوضح: الخلوص و الإخلاص للّه تعالى في الأعمال و الحالات، كجواز سفر إلهي للسياحة في عوالم الغيب و إتيان التحف منها إلى عالم الشهادة بحسب مراتب الإخلاص و ظرفية المخلص، و هذا مقام عال جدّا، و لذا تواترت نصوص الفريقين بما مضمونة: «إنّ السعي في زيادة كيفية الأعمال أحسن من السعي في زيادة كميتها و إنّ السعي في تصحيح العقائد و الأخلاق أهم من السعي في تكثير الأعمال» قال تعالى وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً۱4.
و قال عليّ عليه السلام: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ و الجوع، و كم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء حبذا نوم الأكياس و إفطارهم»۱٥.
و في صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «مرّ بي أبي- و أنا
بالطواف و أنا حدث، و قد اجتهدت في العبادة- و أنا أتصابّ عرقا فقال عليه السلام: يا جعفر يا بني إنّ اللّه إذا أحب عبدا أدخله الجنة و رضي عنه باليسير»۱٦.
و لو أردنا أن نأتي بالأدلة العقلية و النقلية على ذلك لاحتاج إلى وضع كتاب مستقل.