يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤۱) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤۲) وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤۳) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤۷)
الآيات الشريفة لا تخرج عن الغرض الذي أنزلت هذه السورة المباركة لأجله، و هو بيان العهود و المواثيق المأخوذة عليه و الإيمان المطلوب منه، و الحثّ على العمل بها و التحذير عن مخالفتها، و قد ذكر عزّ و جلّ فيما سبق السبل الموصلة إلى الحقّ و الطرق المفضية إلى العمل بالشريعة، و اعتبر أنّ من يعرض عنها يكون كافرا منكرا للحقّ، فلا ينفعه ما يفديه للنجاة من العذاب الأليم الذي أعدّه لنفسه، و في هذه الآيات يذكر تعالى الأصناف الذين زاغوا عن الإيمان و تمادوا في الغي، فأنكروا الحقّ و نكثوا عهود اللّه و مواثيقه، فذكر تعالى المنافقين الذين يؤمنون بأفواههم خوفا أو طمعا و لم تؤمن قلوبهم، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في آيات اخرى. ثمّ ذكر اليهود الذين كفروا بالحقّ و أعرضوا عن الطاعة و خالفوا أوامر اللّه تعالى، فذكر من صفاتهم ما يدلّ على تماديهم في الغي، منها: أنّهم سماّعون للكذب يتّبعونه و لا يتّبعون الحقّ. و منها: تحريفهم لكلام اللّه تعالى بما تمليه أهواؤهم، و منها: أكلهم للسحت و ارتكابهم لجميع المحرّمات. و قد حذّرهم عزّ و جلّ و أوعدهم الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة. ثمّ أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم، فإنّهم قوم لا خلاق لهم، و وعده صلّى اللّه عليه و آله بالنصر، و أمره بالحكم بينهم بالقسط إذا تحاكموا إليه. ثمّ بين عزّ و جلّ حقيقة حالهم بأنّهم كابروا الحقّ بعد ما عرفوه، فلم يحكموك إلّا بما يكون فيه نفعهم، و قد ردّهم عزّ و جلّ بأنّ عندهم التوراة التي أنزلها اللّه تعالى لهدايتهم، و فيها من الأحكام و المواثيق و التوجيهات التي حكم بها النبيّون و الربانيّون و الأحبار الذين حفظوا حدودها و عملوا بها و كانوا شهداء على صحّتها و عدم تحريفها. ثمّ أمر عزّ و جلّ المؤمنين بعدم الخشية من اليهود الذين نصبوا العداء للحقّ، و أنّ الخشية إنّما تكون من اللّه تعالى فقط. و أخيرا ذكر تعالى من أحكام التوراة التي دخلت في جميع الشرائع الإلهيّة و اعتبرها الإسلام من القواعد المهمّة في تنظيم النظام. ثمّ ختم تعالى الآيات الشريفة بذكر أهل الإنجيل الذي فيه هدى و نور، و هو المصدق لما ورد في التوراة من الأحكام و الإرشادات الربانيّة و التوجيهات الإلهيّة، فأمرهم سبحانه و تعالى بالعمل بحكم اللّه، و من لم يحكم بما أنزله اللّه تعالى فأولئك هم الفاسقون، و الآيات جميعها تهدف إلى تثبيت أحكام اللّه التي نزلت في سبيل سعادة الإنسان و تنظيم النظام على أحسن ما يرام.