نسبت الطهارة إلى جماعة من المتقدمين، و النجاسة إلى أكثر المتأخرين، و هما عمدة الأقوال، و هناك أقوال أخر أنهاها في الجواهر إلى عشرة، و قد صارت من الأقوال النادرة فيما قارب هذه الأعصار، فلا وجه للتعرض لها.
ثمَّ إنّ البحث في المقام بعد الفراغ عن انفعال القليل مطلقا. و إلا فلا وجه للنجاسة، كما أنّه في صورة عدم التغيير، و إلا فلا خلاف.
أدلة القول بالطهارة و المناقشة فيها:
استدل على الطهارة، بعد الأصل الذي يكفي للطهارة ما لم تثبت النجاسة، بأمور:
الأول: أنّ أدلة انفعال الماء القليل لا تشمل المستعمل في غسل الأخباث.
و فيه: أنّه خلاف إطلاقها و عمومها. مع أنّه خلف الفرض، لما تقدم أنّ هذا البحث بعد الفراغ عن انفعاله مطلقا.
الثاني: أنّ المؤثر في طهارة الشيء لا يتأثر عن نجاسته، لأنّ المتنجس لا يكون مطهّرا، بل قد يدعى استحالة ذلك عقلا.
و فيه: أنّه لا استحالة من عقل أو نقل في أن يتحمل الطاهر النجاسة و القذارة عن المحل، فينفعل الحامل و يطهر المحمول عنه، و في شهادة العرف بذلك غنى و كفاية، و يأتي في [مسألة ۲]، من «فصل المطهّرات» ما ينفع المقام.
الثالث: جملة من الأخبار:
منها: أخبار طهارة ماء الاستنجاء المتقدمة، خصوصا المشتمل على قوله عليه السلام: «أو تدري لم صار لا بأس به؟ قلت: لا و اللّه. قال عليه السلام:
لأنّ الماء أكثر من القذر»۲۰.
فيدل على أنّه كلما كان الماء فيه أكثر من القذر، يكون طاهرا.
و فيه: ما تقدم من أنّ مقتضى القاعدة: انفعال القليل إلا ما خرج بالدليل، و ماء الاستنجاء خرج عنها نصا و إجماعا، و بقي الباقي. و جريان العلة في غيره يحتاج إلى دليل على التعميم للغير، و هو مفقود، مع أنّ كونها من العلة الحقيقية- حتّى تجري في غير المورد- أول الدعوى، و يكفي الشك فيها في عدم الجريان في غير موردها.
و منها: مثل خبر الواسطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «سئل عن مجتمع الماء في الحمام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال: لا بأس»۲۱.
و فيه: أنّه فيما إذا شك في ملاقاة النجاسة: و إلا فمع العلم بملاقاتها، فلا خلاف في النجاسة ممن قال بنجاسة القليل بالملاقاة، كما صرح به في الحدائق. مع أنّه معارض بقول أبي الحسن عليه السلام: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم»۲۲، و نحوه غيره.
و منها: ما يأتي في [مسألة ٤] من فصل «المطهّرات» من كفاية الصب على بول الصبيّ مرة: و لو كانت متنجسة، لوجبت إزالتها بالمرة.
و فيه: أنّه في مورد خاص لدليل مخصوص. مع أنّ كونه مما نحن فيه، مشكل بل ممنوع، لأنّ مصطلحهم فيها ما انفصل عن المحلّ، لا ما بقي فيه.
و مثله: ما ورد من أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بتطهير المسجد من بول الأعرابي «بصب ذنوب من الماء عليه»۲۳مع أنّه مجمل في نفسه.
و منها: صحيح ابن مسلم في غسل الثوب: «اغسله في المركن مرتين و إن غسلته في ماء جار فمرة واحدة»۲٤.
فإنّه لو قلنا بنجاسة الغسالة ينجس المركن لا محالة، فلا يكفي الغسل مرّتين.
و فيه: أنّه إن كان غسل الثوب بوضعه فيه، فيطهر المركن بالتبع أيضا، كطهارة يد الغاسل و نحوها. و إن كان بأخذ الثوب خارج المركن، و جعل المركن مصب الماء فقط، فلا ربط له بالمقام.
الرابع: لزوم العسر و الحرج من نجاستها، فتنتفي النجاسة بأدلة نفي العسر و الحرج.
و فيه أولا: أنّه لا حرج في البين، كما نراه بالوجدان.
و ثانيا: أنّه يعتبر في تطبيق دليل نفي الحرج على المورد، الحرج الشخصي و أما إذا كان الحرج في نفس تشريع الحكم الكليّ، فلا ربط لدليل نفي الحرج به، فإنّه متكفّل لتحديد ما بعد التشريع. و أما أصل تشريع الحكم الكليّ، فتحديده بحدود و قيود، لا بد و أن يكون بطريق الوحي و الإلهام سواء كان فيه الحرج بحسب عقولنا، أم لا.
ثمَّ إنّه قد ذكر في الجواهر لتأييد الطهارة وجوها ظاهرة الخدشة ربما تبلغ مع ذكرنا منها خمسة عشر، من شاء فليراجعها.
و ملخّص الكلام أنّهم قد ذكروا قواعد ثلاث في المقام لطهارة الغسالة و كلّها مخدوشة.
الأولى: أنّ المطهر لا بد و أن يكون طاهرا في نفسه و لا ريب فيها بل هي من ضروريات المذهب في الجملة.
و فيه: أنّها مسلمة من غير جهة التطهير به و إلا فلا مانع لأن يكون التطهير موجبا لتنجس المطهر و تحمله النجاسة من المحل و هو الموافق لمرتكزات المتشرعة إجمالا فلا وجه للاستدلال بهذه القاعدة للطهارة.
الثانية: أنّ المطهّر لا بد و أن يبقى على طهارته إلى حصول الطهارة في المحل.
و فيه: أنّه لا دليل على ذلك من نص أو إجماع أو اعتبار عرفي.
الثالثة: أنّ المتنجس منجس فلا يكون مطهّرا.
و فيه: أنّ الجزء الأول من هذه الجملة يأتي البحث عنه في [مسألة ۱۱] من فصل «كيفية تنجيس المتنجسات» و أما الجزء الأخير فهو عين القاعدة الأولى و تقدم تسليمها بالنسبة إلى غير جهة التطهير به.
أدلة القول بنجاسة الغسالة:
استدل عليها بأمور:
الأول: الإجماع، و لا يخفى وهنه بذهاب الطبقة الأولى إلى الطهارة، كما حكاه في الجواهر عن اللوامع، و قال في الجواهر: «لا يقال إنّ النجاسة مؤيدة بفتوى المشهور، و هي أرجح من جميع ما ذكر من المؤيدات، لأنا نقول لم تثبت شهرة على الإطلاق، بل هي بين المتأخرين، بل قد عرفت أنّ المنقول من أكثر المتقدمين خلافه».
الثاني: أنّ المغروس في الأذهان هو الانفعال، تشبيها لها بغسالة القذارات الصورية، مع أنّها الموافقة للاحتياط:
و فيه: أنّ ما يكون مورد أنظار العلماء و اختلافهم و تصادم الأدلة، لا وجه لجعل المغروس دليلا فيه، و الاحتياط قد يكون في الطهارة كما لا يخفى. نعم، لا بأس بجعل ذلك كلّه من المؤيدات.
الثالث: جميع ما تقدم من الأدلة الدالة۲٥- بعمومها الأحوالي- على انفعال الماء القليل مطلقا، التي منها مفهوم قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء»۲٦ الدال على انفعال القليل بمطلق النجاسة.
و أشكل على المفهوم تارة: بعدم العموم الأفرادي و الأحوالي و بدون ذلك لا يتم الاستدلال، إلا فيما هو المعلوم المسلّم بين الكل.
و فيه: أنّ المتفاهم العرفي المحاوري، يدل على ثبوت العمومين فيه في المقام، و هو المحكم في ذلك خصوصا بضميمة سائر ما يستفاد منها انفعال القليل، و الإجماع على عدم الفرق بين النجاسات و المتنجسات.
إن قلت: الماء القليل حين الاتصال بالمتنجس يتنجس، لأجل الاتصال به. و بعد الانفصال، إن صار المحل طاهرا مع بقاء الماء على النجاسة، فطهارة المحل حصلت بلا علة و إن انعكس فتكون طهارة الماء كذلك، و إن بقيا على النجاسة، فهو خلاف الأدلة الدالة على حصول طهارة المحل بالغسل مرة أو مرتين، و إن بقي الماء على طهارته و صار المحل طاهرا أيضا، فيدل على القول بطهارة الغسالة دون نجاستها.
قلت: كيفية التطهير موكولة إلى الأنظار العرفية، و مقتضى أنظارهم هو خصوص القسم الأول، فيصير الماء حاملا لنجاسة المحل، فتكون طهارته مستندة إلى الماء، و لا يكون بلا علة و تكون نجاسة الماء لحمله نجاسة المحل، كما يكون الأمر كذلك في جميع دفع القذارات الصورية، و يأتي في [مسألة ۲]، من فصل «المطهّرات» بعض الكلام فيه.
إن قلت: نعم، و لكن مطلقات انفعال القليل منصرفة، فلا تشمل الغسلة الثانية مما يعتبر فيه التعدد، و لا الأولى مما لا يعتبر فيه. و يشهد لذلك خلو الأخبار، و كلام أكثر القدماء عن التعرض للغسالة مستقلة مع عموم البلوى بها.
قلت: إنّ الانصراف بدوي، و عدم التعرض لأجل الإيكال إلى مرتكزات المتشرعة، بل العرفية من استقذارهم الغسالة مهما أمكنهم ذلك، و لأجل عدم إثارة الوسواس بين الناس فيما هو أهم الأمور الابتلائية بينهم مع أنّ أدلة انفعال القليل تكفي للتعرض و ما استدل به على طهارة الغسالة لا تصلح لتخصيص تلك الأدلة، كما خصصت بغسالة الاستنجاء، لظهور الخدشة فيها.
الرابع: خبر عيص بن القاسم: «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء. فقال عليه السلام: إن كان من بول أو قذر، فيغسل ما أصابه، و إن كان من وضوء الصلاة فلا بأس»۲۷.
و موثق عمار: «في الكوز و الإناء يكون قذرا، كيف يغسل و كم مرة يغسل؟
قال: يغسل ثلاث مرات، يصب فيه الماء فيحرك فيه ثمَّ يفرغ منه، ثمَّ يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثمَّ يفرغ ذلك الماء، ثمَّ يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثمَّ يفرغ منه و قد طهر»۲۸.
و قريب منهما جميع ما يدل على التعدد في الإناء، و العصر۲۹ في غيرها، فإنّه لو لا نجاسة الغسالة، لما كان وجه لجميع ذلك كلّه.
و يرد عليه: أما خبر العيص فلأنّ الطشت الذي فيه البول و القذر، لا ينفك عن النجاسة، فوجب الاجتناب عما فيه لذلك. و أما موثق عمار فلأنّه لا يتحقق تعدد الغسل المعتبر في الظروف إلا بذلك، و كذلك سائر ما يدل على التعدد فيها، و هكذا ما دل على العصر في الثياب و نحوها، فإنّ العصر و الدّلك فيها، إنّما هو لإخراج عين النجاسة عنها، أو تحقق عنوان الغسل عرفا، أو لإخراج الغسالة و ذلك كلّه أعم من نجاسة الغسالة المنفصلة.
و لباب الكلام: أنّ الدليل على النجاسة، إطلاق أدلة انفعال الماء القليل بملاقاة النجس من غير ما يصلح للتقييد.