لا يخفى أنّ انفعال الماء المضاف الكثير بملاقاة النجس خصوصا بعض مراتب الكثرة منه- التي لم يكن منها اسم في الأزمنة القديمة- إن كان لأجل المرتكزات، فالمتيقن منها غيره قطعا، و من الممكن أن تكون سراية النجاسة كسراية بعض الألوان و الروائح في المضاف، فلو القي شيئا أحمر- مثلا- أو ما فيه ريح في بعض أطراف الكثير من المضاف لا يتغير لون تمام المضاف و لا ريحه كذلك، بل إنّما يتغير خصوص الطرف الذي القي فيه.
و إن كان لأجل الإجماع، فالمتيقن منه ليس إلا ذلك، و لا وجه لشمول إطلاق معقده لمطلق الكثير، لأنّه من التمسك بإطلاق كلمات المجمعين في فرد غير مأنوس بأذهانهم الشريفة، بل بأذهان المتشرعة، إذا المأنوس في الأذهان هو مثل القدر و الحب و الطشت و الغدير في الجملة و المركن و الخابية (و هي الجرة الكبيرة، كما وردت في بعض الأخبار) ۳٥ لا مثل أنابيب النفط التي تبلغ طولها فراسخ متعددة.
و إن كان لأجل الأخبار، فليس المذكور فيها إلا القدر و الحبّ و نحوهما.
إن قلت: إنّ ذكرها من باب المثال. (قلت) نعم ذلك من باب المثال للأواني و الظروف المتعارفة مطلقا، لا لغيرها.
و إن كان لأجل قاعدة المقتضي و المانع بدعوى أنّ ملاقاة النجس للمضاف مقتضية للانفعال مطلقا إلا مع الدليل على الخلاف.
ففيه: أنّه على فرض اعتبارها إنّما تجري فيما إذا أحرز المقتضي مفصلا و في بعض مراتب الكثرة نشك في أنّ ملاقاة النجس مقتض لانفعال الجميع أم لا، فقاعدة الطهارة في غير المتيقن الانفعال تجري بلا دليل حاكم عليها.
و دعوى: أنّه يلزم اختلاف حكم المائع الواحد طهارة و نجاسة (غير صحيحة) لأنّه إن كانت الوحدة بمثل القدر و الحب و نحوهما، فلا يصح الاختلاف، و أما إن كانت بمثل الحوض الذي تسع ألف كر- مثلا- أو أكثر فلا نسلم أنّ مثل هذه الوحدة لا يصح فيها الاختلاف. هذا.
مع أنّ سراية النجاسة في مثل الدبس و الدهن المائع و نحوهما عن موضع الملاقاة إلى غيره مشكل، لقوة احتمال أن تكون الدسومة و اللزوجية و نحوهما حافظة للنجاسة في موضع الملاقاة فقط، و مانعة عن سرايتها إلى غيره، فالسطح الملاصق بالنجس أو المتنجس ينفعل بالملاقاة و يحفظ أثر النجاسة في نفسه فقط، فلا يصل إلى ما عداه. و يكفي الشك في ذلك لجريان قاعدة الطهارة في البقية.
و بالجملة: كل ما كان ماء أو كان فيه الماء لا ريب في تحقق منشإ السراية، و في غيره نشك في أصل السراية.
إن قلت: إنّ مورد صحيحة زرارة المتقدمة وقوع الفأرة في السمن، قال عليه السلام: «إن كان ذائبا فلا تأكله» و قريب منه غيرها۳٦(قلت) أولا: لا يخفى على كل أحد أنّ الفأرة إذا وقعت في مائع تتحرك فيه كثيرا إلى أن تخرج منه أو تموت فيه، و هي حيوان خبيث حتى سميت في الأخبار بالفويسقة۳۷و ورد النهي عن أكل ما تشمه۳۸فيستقذر نوع النفوس عن تناول ما ماتت فيه الفارة، فيمكن أن يحمل النهي عن أكل ما عدا موضع الملاقاة على الاستقذار و التنزه.
و ثانيا: نقول بالنجاسة في خصوص الفأرة الواقعة في السمن و الزيت الذائبين للتعبد بالنص دون سائر النجاسات التي لا نص فيها مع الشك في السراية، كما نقول بالتعفير في الولوغ دون سائر النجاسات للنص۳۹.
إن قلت: ظاهر الإجماعات هو السراية. (قلت: المتيقن منها هو الماء المضاف، و ما كانت فيه رطوبة مائية. و أما كل مائع مطلقا فشمولها له مشكل، بل ممنوع.
و ما يقال: بناء على هذا لا وجه لنجاسة موضع الملاقاة أيضا. (مردود) فإنّ مقتضى الإطلاقات و العمومات للنجاسة، و إنما الشك في السراية إلى غيره فتدفع بالأصل.
إن قلت: لا وجه على هذا لقوله عليه السلام في الصحيحة المتقدمة:
«إن كان جامدا فألقها و ما يليها و كل ما بقي و إن كان ذائبا فلا تأكله»٤۰قلت: إنّ الفرق تحقق الاستقذار عن الجميع في الجملة مع الذوبان دون الجمود، و على فرض التعبد بقوله عليه السلام، نقول بالنجاسة في خصوص مورد الدليل فقط كما تقدم.
و أما ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره) «المغروس في الأذهان، أنّ الذوبان و الميعان علة لنجاسة الكل»٤۱. من مجرد الادعاء و إثبات الكلية له يحتاج إلى دليل، و هو مفقود، و سيأتي في [مسألة ۸] من فصل كيفية تنجس المتنجسات ما ينفع المقام.
(قاعدة الانفعال)
لقد أرسل إرسال المسلّمات: أنّ ملاقاة النجس توجب النجاسة مع السراية، و تساوي سطحي الملاقي (بالكسر) و الملاقي (بالفتح) و عدم القوة و الدفع، و عدم الاعتصام. و عبّر عن ذلك: ب «قاعدة الانفعال» و هي أعم من «قاعدة نجاسة الماء القليل» التي يأتي التعرض لها، فتجري أدلة المقام في تلك القاعدة أيضا و هي في الجملة صحيحة عند المتعارف و المتشرعة، فإنّهم بفطرتهم يستقذرون ملاقي القذر، و ظاهر الفقهاء الإجماع عليها أيضا.
و تدل عليها روايات كثيرة واردة في الأبواب المتفرقة، منها: رواية علي بن جعفر، عن أخيه عليهما السلام: «إنّه سأله عن رجل رعف، و هو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا»٤۲.
و نحوها رواية سعيد الأعرج٤۳و في صحيحة الفضل عن العباس قال:
«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع، فلم أترك شيئا إلا سألته عنه، فقال: لا بأس به، حتّى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله و اصبب ذلك الماء»٤٤.
و في رواية عيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر و قد عرق ذكره و فخذه قال:
يغسل ذكره و فخذه» الحديث٤٥.
و كذا رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الفراش يصيبه الاحتلام كيف يصنع به؟ قال: اغسله و إن لم تفعله فلا تنام عليه حتّى ييبس، فإن نمت عليه و أنت رطب الجسد فاغسل ما أصاب من جسدك»٤٦.
و صحيحة زرارة المتقدمة، إلى غير ذلك من الروايات. و ذكر صاحب الجواهر في كتابه عند البحث عن نجاسة الماء القليل: «كما أنّه يستفاد قاعدة أخرى من ملاحظة أخبار النجاسة أنّها تنجس كلما تلاقيه خرج المعتصم و العالي غير الملاقي فبقي الباقي» و قال (قدّس سرّه) في موضع آخر: «و يمكن الاستدلال عليه أيضا بالقاعدة المستفادة من استقراء أخبار النجاسات فإنّها قاضية بنجاسة كلّ ملاقاة فيه مع الرطوبة»، فتثبت القاعدة أصلا و عكسا، و هي كلّ ملاق للنجس يتنجس به، و كلّ نجس ينجس ملاقيه.
ثمَّ إنّه يعتبر في مورد جريان هذه القاعدة أمران: الأول إحراز الانفعال.
و الثاني تحقق السراية. و مع الشك فيهما أو في أحدهما لا مجرى لها أصلا.
كما أنّ الظاهر من الأخبار الدالة عليها، و المتيقن من الإجماع اختصاص جريانها بالشبهات الموضوعية، فلا مجرى لها في الشبهة الحكمية كما لا مجرى لها في المياه المعتصمة و سيأتي ما يتعلق بها في المسائل الآتية إن شاء اللّه تعالى.