مادة (صلح) تستعمل في مطابقة الواقع المطلوب من الشيء، فصلاح الإنسان: مطابقة أعماله الجوانحيّة, والجوارحيّة, لمرضاة اللّه تعالى.
والصالح: من حكم له بالصلاح, ولا يكون كذلك إلّا إذا كان جامعًا للكمالات المعنويّة, وحقيقة العبوديّة, الجامعة للكمالات الإنسانيّة, فمن كان كذلك في الدنيا, يلزم أن يكون في الآخرة من الصالحين، فالحكمان من المتلازمين.
وقد وقع هذا التوصيف لجمع من أنبياء اللّه تعالى، منهم إبراهيم (عليه السّلام)، قال تعالى: وإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[1]، وإسحاق, ويعقوب، قال تعالى: ووَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ[2]، ويحيى (عليه السّلام)، قال تعالى: وحَصُورًا ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ[3]، وقال تعالى في شأن جمع من الأنبياء: وزَكَرِيَّا ويَحْيى وعِيسى وإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ[4]، ولوط، قال تعالى: وأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ[5]، وإسماعيل, وإدريس, وذو الكفل، قال تعالى في شأنهم: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ* وأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ[6]؛ وفي طلب سليمان الذي استجابه اللّه تعالى, قال جلّ شأنه حكاية عنه: وأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ[7]، ويونس صاحب الحوت، قال تعالى في شأنه: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ[8] .
وفي قوله تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[9], إنّما خصّ تعالى الصلاح بالآخرة, وهو معدود في الدنيا من الصالحين, لأنّه يظهر فيها صلاح الصالحين, فيرى النّاس بأعينهم ما كانوا يسمعونه في الدنيا، أو لأنّ صلاح الآخرة ملازم لصلاح الدنيا تلازم المعلول, والعلة، أو لأنّ صلاح أنبياء اللّه تعالى, ولا سيّما هذا النبيّ العظيم الذي تعرفه جميع الملل والأديان, في الدنيا معلوم لكلّ أحد، وقد أراد سبحانه أن يبيّن صلاحه في الآخرة أيضًا.
وللصلاح, والعمل الصالح, شأن كبير في القرآن, والسنة, بل وفي حكم العقل, والمجتمع الإنسانيّ؛ ولم يرد في الكتاب الكريم في تعريفهما شيء، ولعلّ وضوحهما عند النّاس أغنى عن التعريف, فإنّ معنى مادّة (ص ل ح), محبوب كلّ ذي شعور ولا سيّما إذا كان في مورد الصلاح الأبديّ؛ والمذكور إنّما هو الآثار المترتبة على العمل الصالح، مثل إنّه تعالى يرفعه، قال جلّ شأنه: والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[10], وإنّه يتولّى الصالحين، قال تعالى: وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ[11], وإنّه يرزق من عمل صالحًا بغير حساب، قال تعالى: ومَنْ عَمِل صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ[12], وأنّ الصالح في مصاف الأنبياء, والصدّيقين, والشهداء, قال تعالى: ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ[13], وتلك الآثار المذكورة في الآيات المباركة إنّما تترتّب إذا كان الصلاح منبعثًا عن الذات, حتى تكون الذات مقتضية له؛ وذلك في ما إذا ارتسم من مواظبة الأعمال الصالحة, حتى حدثت ملكة في النفس من ارتكاب تلك الأعمال، لأن بين النفس, والأعمال, نحو تلازم في الجملة, فربّما تؤثر النفس في الأعمال على نحو الاقتضاء. وقد طلب خليل الرحمن من اللّه تعالى أن يجعله من الصالحين، فقال تعالى حكاية عنه: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[14].
والمراد به في الأنبياء صلاح الذات, والصفات, والأعمال، ليكونوا صالحين لاقتداء الأنام بهم، وبعبارة أخرى: الصلاح هو المرآة الأتم لأخلاق اللّه تعالى.
والصلاح, والتقوى, مع تحقّق الشرائط, من أهم أسباب القرب إلى اللّه جلّ جلاله، وبهما يكون العبد من المقرّبين, ويفوز بسعادة الدارين، والصلاح آخر مقامات الأولياء، وهو الارتباط الكامل بين العبد, والمعبود, ويتحقّق بامتثال الأوامر, واجتناب المناهي: سرًّا, وعلنًا، حتى ترتفع الاثنينيّة بين الباطن, والظاهر، وهو الإنسانيّة الكاملة التي دعا إليها القرآن الكريم, ورغّب إليها غاية الترغيب، وفيه تجتمع سعادة الدارين؛ وللصالحين درجات نورانيّة, ومقامات روحانيّة, لا حدّ لها، ولا يمكن درك هذه المنزلة العظيمة, ولا تحديدها بكلام؛ ولمثل ذلك فليعمل العاملون, وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
والصالح: الّذي صلحت حاله, واستقامت طريقته, وأمّا المُصلح، فهو الفاعل لما فيه الصلاح.
وفي قوله تعالى : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[15], الإيمان هو الاعتقاد بالحق, والتصديق بالقلب, المصاحب للعمل, والإصلاح: مطابقة الاعتقاد, والعمل, للشرع الحنيف, أو الدخول في الصلاح, فيصلح ما أفسده من الاعتقاد, والعمل, والأخلاق, فلا ينفع الإيمان إذا لم يكن مع صلاح, أو الدخول فيه.
[1] النحل: 122
[2] الأنبياء: 72
[3] آل عمران: 39
[4] الأنعام: 85
[5] الأنبياء: 75
[6] الأنبياء: 85 ـــ86
[7] النمل: 19
[8] القلم: 50
[9] البقرة : 130
[10] فاطر: 10
[11] الأعراف: 196
[12] غافر: 40
[13] النساء: 69
[14] الشعراء: 83.
[15] الأنعام : 48