ينبغي تقديم أمور:
الأول: الطهارة و النظافة و النزاهة و نحوها و إن كانت مفاهيم متعددة، و لكنّها متحدة المعنى- لغة و شرعا و عرفا- كما أنّ النجاسة و القذارة و ما شابههما: من المفاهيم المتعددة مفهوما، و لكنّها متحدة المعنى و تكون في مقابل الطهارة و النظافة لغة و عرفا و شرعا.
و الطهارة و ما يقابلها، من الأمور المتعارفة في جميع الأزمان و في كلّ الأديان، و الاختلاف إنّما هو في المصاديق فقط، فربما يكون شيء طاهرا عند قوم و قذرا عند آخرين، و ذلك لا ينافي معهودية أصلهما لدى العقلاء كافة في الجملة، و لم يرد من الشارع جعل و تأسيس بالنسبة إلى أصل الطهارة و النجاسة.
نعم، كشف عن طهارة أمور لم يتنبّه لها الناس و عن نجاسة أشياء غفل عنها العامة.
الثاني: لا ريب في أنّ لهما مراتب متفاوتة جدا- من الحدثية و الخبثية، و المعنوية و الظاهرية- و لكل منها درجات مختلفة شدة و ضعفا و ما كان كذلك فالتحديد الحقيقي له- بحيث يشمل تمام مراتبه و درجاته- مشكل، و لذا اختلفت كلمات الفقهاء (قدست أسرارهم) في تحديدهما.
و لعلّ الأولى أن يقال: إنّ الطهارة نظافة خاصة لها دخل في صحة مثل الصلاة، و النجاسة قذارة مخصوصة تمنع عن صحة مثلها.
الثالث: الظاهر كونهما أمرين وجوديين متضادين كالبياض و السواد لا أن يكون أحدهما وجوديّا و الآخر عدميّا، لإباء المرتكزات عنه، فإنّهم يرون النظافة و القذارة وجوديين، كما لا يخفى على من راجع إليهم.
الرابع: الظاهر صحة كونهما مستقلّين بالجعل و الاعتبار عند العرف، كسائر الاعتبارات الدائرة فيما بينهم المستقلّة بالجعل، كما يصح أن يكونا منتزعين عن الأحكام الشرعية المجعولة في موردهما، و مع إمكان الأول يكون الثاني من التكلّف المستغنى عنه على ما فصلناه في جعل الأحكام الوضعية في علم الأصول1.
الخامس: مقتضى الفطرة مطلوبية الطهارة، لنفسها، لا أن تكون مطلوبيتها لأجل المقدمة لأمور أخرى، كمبغوضية القذارة كذلك، و لم يردع عنها الشارع، بل ورد منه ما يصلح لتقريرها، ففي القرآن الكريم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ 2و المتطهر هو الآخذ بالطهارة بجميع مراتبها الانبساطية كما ذكرنا في التفسير3و قوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ4.
و في الرواية: «إنّ اللّه يبغض الرجل القاذورة» 5.
و لكن المطلوبية في الأولى و المبغوضية في الأخيرة لا تتجاوز الاستحباب و الكراهة، و يصح اتصافهما بالوجوب و الحرمة بالعناوين الخارجية.
و يأتي تفصيل هذه الأمور في الموارد المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.
ثمَّ إنّ ما هو المعروف بين الفقهاء (قدست أسرارهم: من أنّ الطهارة اسم للوضوء و الغسل و التيمم مطلقا، أو من حيث الاستباحة للصلاة إنّما يكون بحسب المقصود الأهم الذي يقع عنه البحث في كتاب الطهارة، لا من جهة تخصيص معنى الطهارة بما ذكروه، و إلا فقد تعرض جميعهم للطهارة الخبيثة أيضا.
و يمكن أن يكون مرادهم أنّها اسم للوضوء و الغسل و التيمم مع إزالة الخبث، و لم يذكروا هذا القيد لشدة وضوحه.
و الظاهر أنّ من قيدها منهم بالاستباحة أراد به الغالب الأهم، و إلا فوضوء الجنب و الحائض و الأغسال المندوبة- زمانية كانت أو مكانية- طهارة في الجملة و لو ببعض مراتبها الضعيفة التي لا توجب إباحة الصلاة، فيرجع النزاع لفظيا، فمن أطلق الطهارة عليها- أي: ببعض المراتب الضعيفة التي لا تبيح معه الصلاة، و من نفاها عنها أي بما توجب إباحة الصلاة، فلا ثمرة عملية- بل و لا علمية- في هذا البحث.