قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
الاتخاذ هو الأخذ مع الاعتماد و الثقة و المشي على الطريقة و العمل بالسيرة، يقال: «لو كنت منا لاتخذت بأخذنا»، أي على طريقتنا و شكلنا. و المراد بالمؤمنين كلّ من أسلم و دخل في دين الإسلام، كما أن المراد من الكافرين كلّ من أنكر الإسلام، فيشمل أهل الكتاب و المشركين و غيرهم.
و الأولياء جمع الولي كالأذكياء جمع ذكي، و المراد بالولي في المقام و نظائره هو الخليل و المحبوب، بحيث يتقرّب أحد إلى آخر و يمتزج معه امتزاجا روحيّا يوجب التأثير عليه، فيكون أحدهما تابعا و الآخر متبوعا في العمل و المودّة و المحبّة و سائر شؤون الحياة، فإن دلّت قرينة معتبرة خارجيّة على التخصيص بشيء معين تتبع، و إلّا فيؤخذ بالإطلاق.
و الآية تنهى عن اتخاذ الكافرين أولياء و الركون إليهم و الاتصال معهم مع الانفصال عن المؤمنين و الابتعاد عنهم، و هي عامّة تشمل جميع أسباب الاتصال و الركون إليهم في الأخلاق و التصرّفات و الموادّة، فضلا عن إيثار محبّتهم على محبّة المؤمنين، قال تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 138، 139]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: ۱٤٤]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة المائدة، الآية: ٥۱]، و يشهد لتعميم الولاية قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من تشبّه بقوم فهو منهم»، و في الحديث القدسي: «لا تسكنوا مساكن أعدائي، و لا تلبسوا ملابس أعدائي فتكونوا أعدائي»، و في الحديث: «ليخرجن ناس من قبورهم على صورة القردة بما داهنوا أهل المعاصي ثم و كفوا عن علمهم و هم يستطيعون»، أي قصّروا و نقصوا عن علمهم.
و (من) في قوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ للابتداء، و مادة (دون) من الدنو، و هو إما في المحل، أو في الحال، أو في العمل، و قد اشتهر استعمالها في ظرف المكان، و تتضمّن معنى الغيريّة مع الإشعار بأن المورد الذي أضيف إليه (دون) فيه نحو دناءة و سفالة بالنسبة إلى غيره. قال تعالى: قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآية: ۷٦]، و قال تعالى: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة المائدة، الآية: ۱۱٦]، و لا ريب في دناءة كلّ ذلك بالنسبة إلى اللّه تعالى.
و قال جلّ شأنه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: ۱۱٦]، أي ما سوى ذلك الذي ممّا هو أدون حزازة من الشرك و الكفر.
و المعنى: لا يعدل المؤمنون بولايتهم عن المؤمنين إلى الكافرين و يتّخذوهم أولياء في المحبّة و النصرة و العمل، فإن الكافرين أدون مكانا و أسفل درجة من المؤمنين، الّذين هم أعلى مكانا و أشرف رتبة و درجة.
و يستفاد من الآية الشريفة أن سبب النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين هو الإيمان و الكفر، اللذين بينهما غاية التباعد و التنافر و البينونة، بحيث أن كلّ من يقترب إلى أحدهما يبتعد عن الآخر بمقدار ما اقترب من الأوّل، بل قد يوجب الاتحاد و فساد الآخر، لما عرفت أن الولاية قد توجب الاتحاد و الاعتماد، فإذا تولّى المؤمن الكافر أوجب ذلك فساد إيمانه و الابتعاد عن اللّه تعالى، كما نبّه على ذلك في ذيل الآية المباركة: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.
فالآية الشريفة كما تشتمل على الحكم و هو النهي عن تولّي الكافرين، تبيّن سببه أيضا، و ذلك من أعلى درجات البلاغة و الفصاحة.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.
أي: و من يتّخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من ولاية اللّه في شيء، و لا نسبة له مع اللّه تعالى لزوال تلك النسبة و المحبّة بينه و بين اللّه تعالى بالموالاة مع الكافرين، و قد قال سبحانه و تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: ۲٥۷].
و قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يفيد العموم، أي ليس عمله مرضيّا للّه تعالى، و لا يكون جزاؤه جزاء من أحسن عملا، و لا تشمله العنايات الخاصة و التوفيقات الإلهيّة، و لا يدخل تحت قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [سورة المائدة، الآية: ٥٦]، بل يكون حينئذ مصداقا لقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19].
و إنما أتى عزّ و جلّ بلفظ عام- أي (من)- و لم يشخّص، و ذكر لفظ (يفعل) و لم يذكر المؤمنين، للإشارة إلى أنه أمر قبيح لا بد للمؤمن الإعراض عنه و أن يستنكره و يتنزّه عنه، كما يتنزّه عن القبائح الظاهريّة، و لذا كنّى عنها في الخطاب كما يكنّى عن القبائح، و تنزيها للمؤمنين من أن ينسب إليهم هذا الأمر القبيح و الفعل الشنيع.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً.
استثناء عن الولاية الحقيقيّة و استدراك عمّا يتوهّم أن النهي إنما يكون عن الولاية الصورية، أو النهي انما يكون في جميع الأحوال حتّى لو استلزم الضرر على المؤمن، أو كان في الموالاة المصلحة.
و تتقوا: و التقاة من الوقاية، و هي المنع عمّا يوجب الأذية و الحفظ عنها، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: ٦]. و قال عزّ شأنه: ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ [سورة رعد، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [سورة الطور، الآية: 18]، و عن علي عليه السّلام: «كنا إذا أحمرّ البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»،
أي جعلناه وقاية لنا من العدو و قمنا خلفه و استقبلنا العدو به، و في الحديث: «من عصى اللّه لم تقه من اللّه واقية».
و من هذه المادة التقوى التي هي أساس دعوة القرآن و أصل المدارج المعنويّة للإنسان، لأنها تحفظه عن الوقوع في المحارم، و توقفه على الحدود الإلهيّة حتّى يصل إلى أعلى المقامات المعنويّة.
كما أن منها التقية، التي هي من الأصول النظاميّة التي شرعها الإسلام حفظا للنظام و تأليفا بين الأنام. و سيأتي أنها ترجع إلى القاعدة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة، و هي: «تقديم الأهمّ على المهمّ»، فتكون التقية من القواعد العقليّة الشرعيّة.
و لا ريب في جواز التقية، بل أنها من القواعد المسلّمة لدى الجميع، و المرتكزة في الأذهان و لا تحتاج إلى إقامة البرهان، لأنها كما عرفت من صغريات قاعدة: «تقديم الأهمّ على المهمّ»، التي هي من القواعد الفطريّة، و قد قرّرتها السنّة بأساليب مختلفة، و يكفي في مشروعيتها بل أهميتها، ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام من أنها من الدين و التحريض على العمل بها و أن تاركها مخالف لأوامر اللّه سبحانه و تعالى، ففي الحديث: «التقية تسعة أعشار الدين»، و قد ورد في تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، أي أعملكم بالتقية. و غير ذلك و لعلّ الجميع مأخوذ من عموم قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة، الآية: ۱۹٥].
و معنى التقية هو إتيان الشيء على غير الوجه المأمور به الأولي، لغرض مهم شرعي يترتب عليه، و هذا المعنى يرجع إلى القاعدة العقليّة الفطريّة كما ذكرنا، فلا يسع لأحد إنكارها أو تخصيصها بوقت دون آخر، فإن التقية بشرائطها المقرّرة في الفقه جارية إلى يوم ظهور الحقّ، كما عليه القرآن و السنّة الشريفة.
و تقاة في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر، و هي مفعول مطلق لتتقوا، و أصلها وقية على فعلة على وزن تهمة، قلبت الواو تاء و الياء ألفا. و التاء تفيد الوحدة، و هي تحدد الاتقاء، أي تتقوا منهم تقاة محدودة بأن تظهروا المودّة الصورية ما تدفعوا بها شرورهم حتّى تتحقّق المندوحة في ذلك، لما فيها من المصلحة لكم و لدينكم.
و من جميع ذلك يظهر أن الاستثناء منقطع إن كان المستثنى منه المودّة الحقيقيّة، و أما إذا كان المراد منه مطلق الموادّة و لو كان صوريا ظاهريا مع المخالفة في الحقيقة و الاعتقاد، فحينئذ يصير الاستثناء متصلا و به يمكن الجمع بين القولين.
و ما عن بعض المفسّرين في توجيه كون الاستثناء منقطعا، من أن إظهار آثار التولّي ظاهرا من غير عقد القلب على الحبّ و الولاية ليس من التولّي بمعنى الحبّ، لأن الخوف من الغير و الحبّ له أمران قلبيان متباينان لا يمكن اجتماعهما، فيكون الاستثناء منقطعا.
مخدوش: لصحة اجتماعهما في مورد واحد باعتبارين و جهتين، فيتولّى الغير ظاهرا للتحرز عن ظلمه و كيده، و يحبّ اللّه واقعا مع عقد القلب عليه.
قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.
التحذير من الحذر و هو الاحتراز عن أمر مخوف و الابتعاد عنه، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، قال تعالى تحذيرا عن المنافقين و فتنتهم: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ [سورة المنافقون، الآية: ٤]، و قال تعالى تحذيرا عن مخالفة أوامره و أحكامه التي تعتبر من ملاحم القرآن الكريم: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور، الآية: ٦۳].
و المراد بالنفس هي الذات، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موردا، و في الجميع يراد منها الذات دون ما يرادف الروح التي ترتبط بالبدن قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ [سورة التحريم، الآية: ٦]، و قال تعالى: كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية: ٥۷]، و قال تعالى: وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ [سورة التوبة، الآية: ٤۱]، و لا ريب في صدق الذات بالمعنى الكلّي بالنسبة إليه جلّ جلاله، للقاعدة التي أثبتها الفلاسفة و قرّرتها الشريعة أن كلّ شيء لا يستلزم ثبوته النقص بالنسبة إليه تبارك و تعالى يصحّ اتصافه به، و لا ريب أن الذات كذلك.
نعم، لا بد أن نقول في المقام ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام من أنه: «ذات لا كالذوات، و شيء لا كالأشياء».
و لكن لم يرد إطلاق الذات عليه تعالى في القرآن الكريم بخلاف النفس، و لعلّ ذلك لأنّ النفس أقرب إلى فهم المخاطبين من لفظ الذات، و لأنّ النفس لوحظ فيها الإدراك و الشعور، بخلاف الذات، فإنها أعمّ من ذلك، و لا ريب في تحقّق الحذر و التحذير من لفظ النفس في المقام، إذ ليس المراد من النفس مفهومها من حيث هو، بل الذات القهّارة و الجبّارة فوق ما يتعقلّ من معنى ذلك.
و قد حذّر سبحانه و تعالى من يتولّى الكافرين ذاته الأقدس في هذا المورد، لأنّه هو اللّه تعالى العزيز الجبّار شديد العقاب، الذي لا يعجزه شيء، و لا عاصم عنه، فلا ناصر و لا شفيع غيره.
و من تعليق التحذير على نفسه يستفاد أن التحذير إنما يكون عن نفسه القادر على إنفاذ ما أوعده، و الذي لا يعجزه شيء، و أنه يكفي نفس الذات في ذلك من دون استعانة بشيء.
و فيه نهاية التهديد و عظيم التوعيد، فإن شدّة العقاب تتبع قوة المعاقب و قدرته على تنفيذه، و لبيان أنه ليس هناك من يدفع عنه العقاب و العذاب، فهو قضاء حتمي، لا بد أن يقع عند تحقّق المخالفة، و هذا من ملاحم القرآن الكريم الذي أخبر عزّ و جلّ به قبل وقوعه، كما نراه بالوجدان.
و ما ورد في هذه الآية الشريفة قضية عقليّة من أوضح القضايا بعد التأمّل فيها، لأن من بيده الإيجاد و الإفناء، و الحياة و الموت، و الحدوث و البقاء، لا بد و أن يتحذّر عن مخالفته و يحذّر عن التعرّض لسخطه و عقابه، فالآية المباركة تتضمّن الحكم و الدليل بوجه لطيف.
و من ذلك يعلم أنه لا يحتاج إلى التقدير في الكلام، كما عليه جمهور المفسّرين، أي: يحذّركم اللّه عقاب نفسه، فإن عذابه و إن كان لا بد ممّا يحترز عنه، كما أكّد عليه سبحانه و تعالى في آيات اخرى، قال عزّ شأنه: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [سورة الإسراء، الآية: ٥۷]، و لكن ظاهر الآية أشدّ تحذيرا من التقدير.
قوله تعالى: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
تأكيد للتحذير، لأن من كان مصيره إلى اللّه تعالى و لا مفرّ منه و لا صارف له، لا بد من التحذير عن الوقوع في مخالفته و التحذير عن سخطه و عقابه.
قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
خطاب إلى الرسول الكريم بإبلاغ أعظم حقيقة، و هي علم اللّه تعالى بالمضمرات في النفوس و ما هو الظاهر، و أنه تعالى الذات المحيطة بجميع ما سواه إحاطة حقيقيّة واقعيّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، لأن العلم و كشف الواقع عين الذات، فلا بد أن تكون لهذه الذات الإحاطة العلميّة بجميع ما سواها و انكشاف الحقائق لديها.
و بحث العلم الربوبي من أهم البحوث في الفلسفة الإلهيّة، و يمكن إقامة البرهان على ذلك بوجه مختصر سديد، و هو أن الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعيّة و الادراكيّة موجودة، و لا بد أن يكون عالما بما في الضمائر و ما يبدو منها، و إلّا يلزم الخلف، و هو محال، فيكون فرض إحاطة الذات و إحاطة الربوبيّة، و إحاطة الحكمة و التدبير، ليس إلّا فرض إحاطة علمه تعالى بجميع مخلوقاته، كلّياتها و جزئياتها، قال تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك، الآية: 13، ۱٤].
مع أن العلم بالكلّي يستلزم العلم بالفرد و الجزئي، خصوصا في العلم الواقعي الإحاطي الحقيقي الفعلي، فلو كانت الشمس ذات قوة درّاكة فعليّة، لكانت مدركة لجميع أشعتها الجزئية المنبسطة على ذرات الأشياء، فمن ذهب من الفلاسفة إلى نفي العلم بالجزئيّات عنه تبارك و تعالى، لأنها لا تدرك إلّا بالمدارك الجزئيّة، و هو تعالى منزّه عنها. فهو و إن أراد التنزيه، لكنه وقع في التعطيل، و لعلّ هذا من أحد معاني قول علي عليه السّلام: «من أراد ما ثم هلك»، و في سياقه أحاديث كثيرة، و الأدلّة العقليّة شاهدة على أن المحدود لا يعقل أن يحيط بغير المحدود.
و هذه الآية الكريمة مكرّرة بأساليب مختلفة في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة، الآية: ۲۸٤]، و الاختلاف في تقديم المخفي و البادي في الآيتين باعتبار مناسبة الحساب للبادي، و مناسبة العلم بالمخفي، فقدّم سبحانه المخفي في المقام، بخلاف الآية الواردة في سورة البقرة. أو الحمل على مراتب الإخفاء و الإبداء، فبعض مراتبهما تستحق المحاسبة، و البعض الآخر يعفى عنه، و إن تعلّق العلم بالجميع. و نظير المقام قوله تعالى: وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ [سورة النمل، الآية: ۲٥].
و ربما يكون الوجه في التكرار هو الاعلام بأن علمه تعالى ليس حصوليّا مستلهما من ظواهر الممكنات و صور الموجودات، كما هو المعلوم في علم الإنسان، و لذا قيل: «من فقد حسّا قد فقد علما»، بل علمه عزّ و جلّ حضوري إحاطي فوق ما نتعقّله من معنى الحضور و الإحاطة، و فقر الممكن إلى اللّه عزّ و جلّ- حدوثا و بقاء- يستلزم هذا النحو من الحضور، و كيف يخفى عليه ما هو أوجده؟!! أم كيف يغيب عنه ما هو يدبّره؟!!
و في جملة من الدعوات المأثورة: «سبحانك تعلم خطرات القلوب و لمحات العيون و ضجيج الوحوش في الفلوات و أنين الحيتان في البحار الغامرات»، و لا عجب في ذلك بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة، و من يكون ما سواه كذرة ملقاة بين يديه.
كما أنه يمكن أن يكون الوجه في التكرار هو استحضار الإنسان جلال ربّ العزّة، فتستولّي عليه خشية هذا الربّ العظيم، و يسعى كمال السعي لأن يتقرّب إلى وجهه الكريم، فقد جمعت هذه الآيات الكريمة التحريض و الترغيب إلى الكمال المطلق، و التخويف عن سطوة العليم الخبير الحقّ المبين.
و في الآية الشريفة التحذير عن النفاق و الموادّة مع من حاد اللّه تعالى، و عن ولاية الكفّار فإنه لا تخفى عليه ضمائركم و إليه المصير، و هو محاسبكم على كلّ ذلك.
قوله تعالى: وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ.
تأكيد لإحاطة علمه بما سواه من جميع الممكنات، لأنه خالق لها و هو يعلم ما خلق، و تقدّم الكلام في تفسير هذه الآية في سورة البقرة، الآية: ۲۸٤.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
تأكيد لهيمنته على ما أحاط به علمه الأتم، فإن إثبات القدرة بعد ثبوت العلم فيه عزّ و جلّ تأكيد بليغ على الإحاطة القيوميّة و الهيمنة و القهّارية. فإن كلّ مخالفة له- سواء كانت مخفية في الضمائر، أم بادية على الظواهر- أن اللّه تعالى يعلمها و محاسبكم عليها و قادر على مجازاة فاعلها، فان مصيركم إليه تعالى.
و في الآية الشريفة تأكيد على عموم قدرته، و أنها تتعلّق بكلّ شيء، فهي تشمل جميع ما سواه بكلّ ما هو ممكن إلّا ما كان مستحيلا ذاتا، فإن القدرة لا تتعلّق به لقصور المقدور حينئذ، لا ثبوت النقص في قدرته عزّ و جلّ، و لا فرق في الممكن بين الحقائق الواقعيّة- الجوهريّة أو العرضيّة- و الأمور الاعتباريّة، كالملك و العزّة و الذلّة و الجزاء و نحو ذلك، فإن كلّ ممكن يقع تحت قدرته، سواء كان الوجود هو المعلول و المترشّح من وجود العلّة، أم كانت الماهيّة، فإن جميع ذلك مفتقر إليه تعالى.
نعم، بعض الأمور له تأصل في الواقع، و البعض الآخر ليس له كذلك، بل هو تابع لجعل الحقائق الواقعيّة، و لكن ذلك لا يستلزم الخروج عن تحت قدرته.
و إن شئت قلت: إن مقدورية الأشياء له تعالى أعمّ من أن تكون بدون الواسطة أو معها، لانتهاء الجميع إليه عزّ و جلّ، و أنها مفتقرة إليه، كما هو كذلك في سلسلة العلل و المعلولات.
و من ذلك يعلم النظر في ما عن بعض المفسّرين من الإشكال في تعلّق القدرة بالأمور الاعتبارية، لأنها غير مستندة إليه عزّ و جلّ، إذ لا وجود حقيقي لها أصلا، و إنما وجودها اعتباري لا يتعدّى ظرف الاعتبار و الوضع، فاستشكل في انتساب ما في الشريعة من الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة إليه تعالى، لأن كلّها امور اعتبارية. و لكنه أجاب عن ذلك بأنها و إن كانت كذلك، إلّا أن آثارها امور حقيقيّة مقصودة تنسب إليه عزّ و جلّ و تتعلّق بها القدرة.
و ما ذكره قدس سرّه تطويل بلا طائل تحته، فإن تعلّق القدرة بالأثر عين تعلّقها بمنشإ الأثر، فإنه إذا تعلّقت بأحدهما تتعلّق بالآخر، و كونها أمرا اعتباريا لا يوجب عدم الانتساب، و ما سواه يفتقر إليه تعالى و منسوب إليه عزّ و جلّ إما بواسطة أو بغيرها، كما عرفت.
قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً.
بيان لما تقدّم في الآيات الشريفة و شرح إجمالي لبعض خصوصيات المصير إليه، و إعلام بكشف الحقائق، و ظهور الأعمال و بروز الأسرار و ما تطويه الضمائر و الأحوال، و إرشاد للتحذّر عمّن خضعت له الأملاك و الأفلاك، و التعريض للعباد بالرأفة بهم في أشدّ حالات احتياجهم إليها يوم التناد، فيكون ما في الآية الشريفة برهانا و دليلا على ما تقدّم في الآيات بأتمّ برهان و هو الوجدان.
و تجد من الوجدان و هو حضور الشيء لدى النفس، و هو إما في الدنيا، و ذلك إما أن يكون عين الواقع كالإحساس بحرارة النار أو برودة الماء و نحو ذلك، أو تكون من الأمور الوجدانيّة المستعملة في العلوم التي تكون مشوبة بالتخيّلات و الأوهام حتى تعدّ بعض المعتقدات من الوجدانيّات.
و أما في الآخرة و هو كشف الواقع بما هو عليه في نفس الأمر بلا مدخلية شيء من الوهم و الخيال فيه، و هو الوجدان الحقيقي.
و الظرف «يوم» متعلّق بالمصير في قوله تعالى: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، الذي هو كالمرآة لجميع التكاليف الإلهيّة و جزاء لها و لا يضرّ الفصل الطويل، و قيل وجوه اخرى سيأتي في البحث الأدبي نقلها.
و (ما) في قوله تعالى: ما عَمِلَتْ موصولة تشمل جميع الأعمال، و العائد محذوف مقدّر.
و (من) في قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ بيانيّة، و التنكير في «خير» للتعميم و الشمول للجميع، أي كلّ خير و هو يشمل جميع أنواع الخير من الاعتقاد، أو الأقوال، أو الأفعال، حركة أو سكونا، حتى الأعدام، مثل كفّ الأذى و إماطتها عن الطريق، و تحمّل الأذى و نحو ذلك، نظير قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة، الآية: 110]، و أمثالها من الآيات الشريفة.
و كلّ نفس تشمل جميع الخلائق و العباد، سواء كانوا من المؤمنين أم غيرهم، إذا صدر منهم الخير و لم يصدر منهم ما يمحقه و يحبطه، فهو محفوظ عند اللّه، كما يدلّ قوله تعالى: وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سورة سبأ، الآية: 21].
و إنما عبّر سبحانه و تعالى بقوله: مُحْضَراً دون حاضرا و نحوه، لبيان أن جميع الأعمال موجودة عنده محفوظة لديه، و لكنه يعدّها اللّه تعالى و يحضّرها لخلقه المحسنين تكريما و تبجيلا لهم، فهو تعالى يعلمها و يحفظها و يحضرها لئلا يكونوا في تسويف و بعد منال.
قوله تعالى: وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.
الجملة معطوفة على قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، أي و تجد كل نفس من العباد ما عملت من سوء و ما يترتب عليه من الجزاء، فتتمنّى النفس من شدّة الأهوال و ما يتبعها من الآلام و الأحزان لو أن بينها و بين هذا السوء بعدا كبيرا.
و الأمد هو الغاية ينتهي ما ينتهي إليها، و جمعه آماد، و لم يذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في مواضع- أربعة، قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: ۱٦]، و قال عزّ شأنه: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [سورة الجن، الآية: ۲٥]، و قال تعالى: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [سورة الكهف، الآية: 12].
و المراد منه في المقام البعد، و الفرق بينه و بين الأبد بعد تقاربهما، أن الأبد ليس له حدّ محدود و لا يمكن تقييده، بخلاف الثاني، فإنه يمكن تقييده، فيقال: أمد كذا، أو يقال: للإنسان أمدان، مولده و موته، كما أن الفرق بينه و بين الزمان أن الثاني عام يستعمل في المبدأ و الغاية، بخلاف الأمد، فإنه باعتبار الغاية، كما عرفت.
و الآية المباركة تخبر عن حال كلّ نفس مع عملها، و تدلّ على تجسّم الأعمال، و أنها تحضر بالحال التي تسرّ النفس بها إن كانت خيرا، و تسوؤها إن كانت سيئة، بحيث تودّ البعد بينه و بينها من شدّة الهول و المكاره.
و إنما تمنّى النفس البعد عنها دون أن تتمنّى عدمها، لما كانت تعلم أنها محفوظة بحفظ اللّه تعالى و باقية بمشيئته عزّ و جلّ، فلم يكن بوسعها إلّا عدم حضورها في أشدّ الأحوال و أشقّ الأهوال، كما تتمنّى في القرين السوء في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ* حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [سورة الزخرف، الآية: ۳٦- 38]، و يستفاد من الآية المباركة الأخيرة أن تمنّي النفس بعدها عن المكاره إنما يكون في الدارين.
و إنما أكّد الأمد بكونه بعيدا لشدّة الهول و الموقف المروع، و هيهات ذلك مع حصول اليقين و شهود الحقائق.
قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
تأكيد جديد لأهمية الموضوع، و بيان نهاية التحذير، و من لطيف الأسلوب أنه جميع بين الإنذار و التبشير، و يمكن أن يكون تكرار التحذير من رأفته أيضا، فإنه من إحدى سبل النجاة و الهداية، و من سياق العبارة يستفاد أنه تعالى في مقام الترأف بعباده، لا يريد لهم إلّا الخير و الصلاح مع إعلامهم بعدم التعرّض لسخطه، فلا ينافي التحذّر عن نفسه تعالى مع سبق رحمته غضبه، فإن من رحمته إنزال الأحكام الإلهيّة، و النهي عن المعاصي التي لها الآثار المهلكة و الواقعة قريبا، و التي لا تنفع في رفعها شفاعة الشافعين، فإذا تعرّض لها أحد من عباده فإنها تصيبه و يقع في سخطه و خذلانه.
و المراد من النفس: الذات الداركة بمراتبها المختلفة غير المتناهيّة، فيطلق عليه تعالى و على غيره حقيقة حسب المرتبة، و لا حاجة فيها إلى تعدّد المعاني و الاستعارة كما تقدّم.
و إنما أضاف التحذير إلى نفسه الأقدس، لأن العلم و الحكمة عين ذاته المقدّسة، و الذات هي المنشأ لجميع الحوادث في الدنيا، التي هي جنود اللّه تعالى فيها، و هي مسخّرات تحت أمره، و كذلك في العقبى التي لا حدّ لها، قال تعالى: وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة الفتح، الآية: 7]، فالتحذير من مثل هذه الذات موافق للعقل و الفطرة إذا توجّه الناس إليه في الجملة، و قال علي عليه السّلام: «احذر اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك حيث نهاك».
و يستفاد من الآية الشريفة أهمية التحذّر من اللّه تعالى، كما أنها ترشد إلى حكم عقلي، لأنه واجب في النظام الأحسن، فإن إرشاد الناس إلى المهلكات و تحذيرهم عنها واجب على الحكيم العلام تعالى.
و التحذير منه تعالى تترتب عليه آثار كثيرة متعدّدة الجوانب، فإن من الآثار التي تترتب عليه إنما هو استقامة الإنسان، التي هي أشرف غاية و أعظم كمال، بل هي منتهى الكمالات، و هي قرّة عين الأنبياء و مطلوب كلّ عبد صالح، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت، الآية: 30].
و من الآثار المترتّبة عليهم تنظيم الروابط بأحسن وجه بين العبد و بين اللّه تعالى و بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض.
و منها: أنه يوجب استشعار العبد عظمة اللّه تعالى، فيكون خائفا منه عزّ و جلّ مراقبا لنفسه.
و منها: أنه يوجب التحلّي ببعض مكارم الأخلاق، كالرضا به تعالى لانحصار الأسباب فيه عزّ و جلّ، و التوكّل عليه، فإن القدرة إذا انحصرت في واحد انقطع الرجاء عن غيره.
و منها: أنه يوجب التخلّي عن جملة من الأخلاق الذميمة، كالحرص في طلب الدنيا- بل يطلبها من حيث ما أمره اللّه تعالى- و الحسد على الأمثال و الأقران، لفرض استناد الكلّ إلى المدبّر الحكيم، و غير ذلك من محاسن الأخلاق، و لعلّ ذلك من أحد أسباب تكرار هذه الجملة المباركة.
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي.
الآية الشريفة من روائع الآيات التي تخاطب الضمير الإنساني بأسلوب لطيف، فقد بدأت بالخطاب مع أشرف خلقه، واسطة الفيض و مظهر الحبّ الإلهي و من تجلّت فيه المعارف الربوبيّة، و من هو قطب رحى الوجود و مكارم الأخلاق، تستمد منه الأرواح.
ثم في تقديم حبّ اللّه تعالى و الوعد بالغفران و إثبات الرحمة و المبالغة في المغفرة و الوعد بأكمل الكمالات الإنسانيّة، و هو محبّته تعالى التي بلغت في الجمال و الجلال ما لا يمكن دركها بأي مشعر من المشاعر، بل لا يدانيها من الجذبة الأحدية للذات المحمّديّة حتّى يظهر الحال.
فالآية الشريفة جذبة روحانيّة تدفع الغفلة عن الإنسان، و ترفع عنه الضلالة و الخسران، و من عجيب الأمر دعوة الحنّان القدير القهّار المقتدر الفعّال لعبده الضعيف إلى محبّته، و إخراجه من الظلمات إلى النور، و هو مع ذلك يمتنع عنه، فسبحان من كان خيره إلينا نازلا، و شرّنا إليه صاعدا، و هو مالك قادر على يشاء، فعال لما يريد.
و تقدّم معنى الحبّ في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [سورة البقرة، الآية: ۱٦٥]، و ذكرنا أنّه لا يختصّ بالإنسان، بل يتحقّق في جميع الموجودات، الواجب منها و الممكن، و هو من المعاني الوجدانيّة التي يدركها كلّ أحد، و إن قصرت الأفهام عن درك حقيقته، فهو الترابط الوثيق الذي يربط بين الموجودات بعضها مع بعض و الجميع مع الخالق.
و القول بأن الحبّ يختصّ بغيره لأنه نوع من الإرادة، و هي لا تتعلّق إلا بالمعاني و المنافع، فيستحيل تعلّقها بذاته و صفاته.
غير صحيح: لأنه إخراج للحبّ عن معناه الحقيقي مع أنه أطلق عليه سبحانه و تعالى في كثير من الآيات الشريفة، قال عزّ شأنه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة، الآية: 222]، و قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة، الآية: ۱۹٥].
و الحبّ من المعاني القلبيّة التي لا بد أن يظهر أثرها على الجوارح، و هو الداعي إلى نيل المطلوب عمّا يحبّه، فالإنسان يحبّ الغذاء ليرفع به الجوع، و النكاح ليدفع ما عليه من الغريزة الجنسيّة، فهو لا بد أن يقترن بالأثر و إلا فهو مجرّد و هم و خيال.
و الحبّ يتعلّق بكلّ شيء، فقد يتعلّق باللّه تعالى و يسمّى بالحبّ الإلهي، و هو وليد كمال معرفة اللّه جلّت عظمته، و الناشئ عن الجمال المطلق و لا يحصل إلا بالتخلية عن الرذائل و التطهير عن كلّ ما يشغل القلب عن اللّه تعالى و التحلية بالفضائل، و قد أمر اللّه تعالى عباده بالإخلاص له، قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة المؤمن، الآية: ٦٥]، و قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [سورة المؤمن، الآية: ۱٤]، و لا ريب في أن الإخلاص لا يتحقّق إلا بحبّه عزّ و جلّ، و لا يحصل مع تعلّق القلب بما سواه و لو كان أمرا أخرويا، إلا إذا رجع إلى اللّه تعالى، فالعبد المخلص لا يحبّ إلا اللّه و لا يشغل قلبه أمر من الأمور إلا ما يرجع إلى محبوبه و هو اللّه تعالى، و هو يقضي التدين بدينه بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، فهو علامة محبّة العبد للّه تعالى، و يدلّ على ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه و آله الذي بيّن سلوكه في محبّته للّه تعالى، حيث حكى عنه عزّ و جلّ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف، الآية: 108]، فإن سبيله الدعوة إلى اللّه عن بصيرة و علم، و الإخلاص له و نبذ كلّ ما يشغله عنه عزّ و جلّ، و من كان متّبعا له صلّى اللّه عليه و آله، لا بد أن يكون كذلك. و هذا هو أفضل مراتب الحبّ و كلّ ما أزداد الشخص عرفانا باللّه العظيم، ازداد محبّة له عزّ و جلّ.
و هو ذو مراتب متفاوتة، آخرها الفناء فيه ثم البقاء به، و لا يحصل إلا بمتابعة سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و الجامع بين جميع تلك المراتب هو الحبّ للّه، و في اللّه، و كلّ ما كان الحبّ أشدّ كانت السعادة أتمّ و أعظم. و هذا هو الدين الخالص الذي أمرنا به، و هو الدين الذي يندب إليه الأنبياء العظام، و قد وصفه تعالى بالخضوع و التسليم و الإخلاص في كتابه المجيد، فقال جلّت عظمته: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، و قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ [سورة الزمر، الآية: 3]، و هو الذي تدعو إليه الفطرة، قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [سورة الروم، الآية: 30]، و لأجل ذلك عقّب سبحانه و تعالى بأنّ محبّة العبد للّه لا تتحقّق إلا باتباع هذه الشريعة التي تضمّنت جميع أسباب المحبّة له عزّ و جلّ.
و من ذلك يظهر أن ذكر الآية الشريفة بعد نهي اللّه سبحانه و تعالى موادّة الكفّار و المشركين أن الاتباع لهذه الشريعة لا يحصل إلا بنبذ تولّي الكفّار، و أنه مع محبّة اللّه أمران متضادان لا يجتمعان في قلب امرئ، و ممّا يؤكّد ذلك قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [سورة الجاثية، الآية: 18- 19]، فإن المستفاد منه أن ولاية اللّه إنما تثبت للمتّقين المطيعين للّه و الرسول و المتّبعين شريعته، و غيرهم خارجون عن ولايته تعالى، التي لا تحصل إلا بحبّ اللّه عزّ و جلّ و نبذ كلّ ما يوجب الخروج عنه.
قوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.
أي: أن اتباع اللّه سبحانه و تعالى و الدخول في ولايته عزّ و جلّ باتباع الرسول الكريم الذي هو الكتاب الناطق، فإنه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم، الآية: 3- ٤]، يستدعي محبّة اللّه تعالى له، و كفى بذلك فخرا و سعادة. و هو المقام السامي الذي يقصده كلّ مخلوق.
و يستفاد من الآية الشريفة أن محبّة اللّه تعالى للعبد تترتب على محبّة العبد للّه تعالى، و عند التخلّف لا يكون إلا ادعاء، بل هي محبّة الهوى لا محبّة اللّه تعالى، و لكن لكلّ منهما مراتب متفاوتة.
و علامة محبّة اللّه تعالى للعبد هي التوفيق للطاعة و الهداية و البعد عن المعصية، و الانقلاع عن دار الغرور، و الانقطاع إلى دار الخلود، و هذا هو الفوز المبين.
و إنما ذكر سبحانه محبّته للعبد دون ولايته، فإن الحبّ هو الأصل الذي تبتنى عليه الولاية، و به يصل العبد إلى مقام الولاية.
قوله تعالى: وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.
عطف اللازم على الملزوم، أي: إذا تحقّقت محبّة اللّه تعالى لعبده، يتحقّق غفرانه لا محالة. و الذنوب هي التي تمنع من أن يحظى العبد مقام القرب من اللّه تعالى، كما أنها هي التي توجب ستر الحقائق عنه و حجبه عن ربّه، قال تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [سورة المطففين، الآية: ۱٤، ۱٥].
و المحبّة هي الجذبة الروحانيّة بين الحبيب و المحبوب، و هي لا تتحقّق مع الذنوب، فكما أن محبّة العبد للّه تعالى توجب الإخلاص له، كذلك محبّة اللّه العبد تستدعي قربه تعالى له و إزالة الحجب التي حصلت من الذنوب عنه، فالحبّ يقتضي غفران الذنوب و ما يتبعه من الإفاضات المعنويّة و الظاهريّة و المقامات التي تقصر العقول عن دركها، فإن إفاضاته غير محدودة إلا ما كان من جهة المستفيض، قال تعالى: وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [سورة الإسراء، الآية: 20].
قوله تعالى: وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إعلان عامّ لسعة غفرانه و رحمته مع قابلية الموضوع، و هو في مقام التعليل لصدر الآية الشريفة.
قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ.
تأكيد لما تقدّم، و بيان لحقيقة متابعة الرسول، و شرح لمعنى محبّة اللّه تعالى، فإن الآية السابقة تدعو إلى محبّة اللّه و متابعة الرسول، و هما لا تحصلان إلا بإطاعة اللّه و الرسول، و هي لا تحصل إلا باتباع الشريعة التي أنزلها اللّه تعالى على نبيّه بإخلاص، و به تتحقّق طاعة اللّه و رسوله، فتكون إطاعة اللّه و إطاعة الرسول واحدة. و يدلّ على ذلك عدم تكرار الأمر، فلو كانت الإطاعتان مختلفتين لقال عزّ و جلّ: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59].
نعم، يكفي صدق إطاعة اللّه و رسوله بإتيان العبادات تقرّبا إلى اللّه تعالى، و إتيان غيرها على حسب الوظيفة الشرعيّة التي أرادها اللّه تعالى، و به تتحقّق متابعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، سواء قصدها حين العمل أم لا، لأن هذا القيد يحتاج إلى دليل و هو مفقود.
و ظاهر الأمر إرشاد إلى إتيان نفس التكاليف كلّها، كما في أوامر (أطيعوا الرسول) في كلّ ما ورد في القرآن الكريم.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
أي: أن التولّي من إطاعة اللّه و الرسول كفر، و اللّه لا يحبّ الكافرين، و التولّي إما أن يكون اعتقادا و عملا فهو الكفر، و إن كان عملا فقط مع بقاء الاعتقاد- لو فرض- فهو الفسق، و قد يوجب الكفر، و لعلّ إجمال قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ، لأجل هذه الجهة.
و في الآية المباركة اشعار بأن الحبّ المنفي إنما يكون في التولّي عن طاعة اللّه و الرسول، كما أن صدر الآية الشريفة يثبت أن الحبّ إنما يكون في متابعة اللّه و الرسول، و لا يخلو ذلك من اللطف كما لا يخفى.