قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً.
الاصطفاء، و الاختيار، و الاجتباء نظائر، و أصل الكلمة من الصفاء، و هو النقاوة من الدنس و الفساد، و الطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال، مثل الاختيار، فيكون الاصطفاء هو أخذ الشيء صافيا من كلّ ما يكدّره و يختلط معه. و يختلف باختلاف الجهات التي تكون سببا للصفاء، فقد يكون الاصطفاء من حيث الاختلاف مع الغير و الاندماج معه، فيكون بمعنى الاختيار للرسالة، كما في قوله تعالى في شأن موسى عليه السّلام: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: ۱٤٤]، أو يكون الاصطفاء للملك و السلطة، كقوله تعالى في شأن طالوت: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: ۲٤۷]، أو يكون باعتبار الانتساب إلى التوحيد و نبذ الأوثان، قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [سورة فاطر، الآية: 32]، أو يكون الاصطفاء باعتبار صنف على آخر، كما في قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ [سورة الصافات، الآية: ۱٥۳]. أو من حيث التخلّص من الشرك و كونه جامعا للكمالات، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ [سورة البقرة، الآية: 132]، أو باعتبار التخلّص من الشركاء في الملك، كما في المأثور: «إن أعطيتم الخمس و سهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصفي، فأنتم آمنون»، و الصفي: ما كان يأخذه النبي صلّى اللّه عليه و آله و يختاره لنفسه قبل القسمة، و يقال له الصفية.
و قد تكون جهة واحدة في الاصطفاء، و ربما تجتمع أكثر من جهة، كما في شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130]، فإن اختياره كان بسبب النبوّة و الملك و التقدّم في الإيمان و الدعوة إليه و الإخلاص للّه تعالى.
و في المقام الأنسب هو الاصطفاء للرسالة و الولاية و العبوديّة المحضة، التي هي أساس الكمالات الإنسانيّة، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: عَلَى الْعالَمِينَ، فلو كان الاصطفاء بمعنى الانتخاب منهم، لكان الأنسب أن يقول: (من العالمين)، فهو نوع اختيار لهم و تقديم على العالمين باعتبار أمر خاص فوق مقام النبوة و الصلاح لا يشاركهم غيرهم فيه، و هو العبوديّة و الزعامة و الإمامة على الناس.
و قد ذكر سبحانه و تعالى أربعة ممّن اصطفاهم على العالمين، و هم آدم، و نوح، و آل إبراهيم، و آل عمران، و لم يذكر غيرهم، لا سيما الذي بين آدم و نوح من الأنبياء و الرسل و الأوصياء، كهبة اللّه شيث و إدريس و غيرهم عليهم السّلام، و هذه قرينة اخرى أيضا على أن الاصطفاء فيهم خاص، كما ذكرنا.
و أوّل من ذكره سبحانه هو آدم عليه السّلام، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقارب من خمسة و عشرين موردا، و قد اعتنى به الجليل عزّ و جلّ اعتناء بليغا باعتبار كونه أبا للبشر، و أوّل الخليقة، و أوّل خليفته في الأرض، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة، الآية: 30]، و هو أول نبي من أنبياء اللّه تعالى، و أوّل من شرّع له الدين، و أوّل من اجتباه و تاب عليه، قال تعالى في شأنه: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى [سورة طه، الآية: 122]، و هو الذي خلقه اللّه تعالى بيده و أمر الملائكة أن يسجدوا له، و كان من ذرّيته النبيون و المرسلون و غير ذلك من المناقب التي لم يشاركه فيها غيره، و كفى بذلك منقبة، فهو مرآة الكمالات المعنويّة الإنسانيّة المتمثّلة في شخص خليل الرحمن و حبيب اللّه و آدم أبيهما.
و كم أب قد علا بابن له شرف كما علا برسول اللّه عدنان
و أما نوح: الأب الثاني للبشر، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من أربعين موردا، و هو أحد الأنبياء الخمسة و أولي العزم، بل أوّلهم، و صاحب الكتاب و الشريعة، و هو شيخ المرسلين، و ممّن سلّم عليه ربّ العالمين، قال تعالى: وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ* وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [سورة الصافات، الآية: 77- 79].
و نوح: اسم أعجمي إلا أنه ينصرف، لأنه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط.
و قيل: إنه مشتق من ناح ينوح، أي صاح، لأنه كان يصيح في قومه و يدعوهم إلى الإيمان، قال تعالى على لسانه: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [سورة نوح، الآية: ٥- ٦].
قوله تعالى: وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ.
الآل و الأهل سواء، إلا أن الأول يستعمل في خاصة الإنسان و الملحقين به، و من يؤول إليه أمره، و يختصّ بالأشراف من أعلام الناطقين دون النكرات و الأزمنة و الأمكنة، بخلاف الأهل، فيقال أهل الخياط، و أهل زمن كذا، و أهل بلد كذا، و قد تقدم الكلام فيه.
و كيف كان، فالمراد بآل إبراهيم و آل عمران هم خاصتهما و الملحقون بهما، فيختصّ ببعض الذرّية الطيبة الطاهرة لا جميعها.
أما آل إبراهيم فهم الطاهرون من آله، الطيبون من ذرّيته، لأن إبراهيم عليه السّلام أبو الأنبياء جميعا بعد نوح، حيث لا نبي منذ إبراهيم إلا من نسله الخاص، كإسماعيل و إسحاق و يعقوب، و سائر الأنبياء من بني إسحاق، و سيدهم و أعلاهم قدرا و أنبّههم ذكرا محمد خاتم النبيّين، الذي هو المصطفى بالقول المطلق و مظهر لكمال الحقّ و آله الطاهرون الذين يؤول أمرهم إليه صلّى اللّه عليه و آله في الجهات التشريعيّة و الكمالات الإنسانيّة، و مكارم الأخلاق، و الملحقون به في الولاية، و يشهد لذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: ٦۸]، فإنه ظاهر في أن المناط في مفهوم الآل هو المتابعة في الاعتقاد و العمل، و بهذا الاعتبار يشمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيته الطاهرين و الذين آمنوا به.
و يمكن الاستيناس له أيضا بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، فإن محبّة اللّه تعالى لمتابع النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله تكون من مقتضيات الاصطفاء له أيضا، و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [سورة إبراهيم، الآية: ٤۰]، «أنا دعوة أبي إبراهيم».
و الآية المباركة ليست في مقام تعداد المصطفين واحدا بعد واحد و الحصر فيهم، فلا يضرّ عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم و موسى و غيرهما عليهم السّلام، الذين ورد ذكرهم في غير موضع من القرآن الكريم، الدال على سمو قدرهم و علو شأنهم، و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية اخرى اصطفاء إبراهيم عليه السّلام قال تعالى: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130].
و أما موسى بن عمران و غيره عليهم السّلام، فقد ورد ذكرهم في آيات اخرى قال تعالى: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: ۱٤٤]، و قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة الحج، الآية: ۷٥].
و قد شرح سبحانه و تعالى هذه الآية في موضع آخر بما يرفع إجمالها، فقال سبحانه عزّ شأنه في سياق كلامه في شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام، الآية: ۸٤- ۸۷].
مع أنه لو كانت الفروع و الأغصان من المصطفين، فأصل الشجرة تكون كذلك بالأولى.
و من مجموع الآيات الشريفة يستفاد أنه ليس جميع ذرّية إبراهيم عليه السّلام هم من المصطفين، و لا جميع ذرية بني إسرائيل كذلك، و إن كان اللّه عزّ و جلّ فضّلهم على العالمين، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [سورة الجاثية، الآية: ۱٦]، فإن تفضيلهم على العالمين من جهة لا ينافي تفضيل غيرهم من جهات اخرى.
و أما آل عمران فهم من آل إبراهيم أيضا، و الظاهر أن المراد بهم هم ذرّية عمران أبي مريم أم عيسى، الذي ينتهي نسبه إلى إبراهيم عليه السّلام أيضا من ناحية امه.
و يدلّ على ذلك:
أولا: اقتضاء المقام التصريح به، لأن هذه الآيات و ما بعدها نزلت في مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب، اليهود و النصارى.
و ثانيا: خفاء الإشارة إلى عيسى بعموم آل إبراهيم.
و ثالثا: عدم ورود ذكر عمران أبي موسى في القرآن الكريم مع تكرار ذكر عمران أبي مريم.
و رابعا: تعقيب هذه الآية الشريفة بالآيات الذي يذكر فيها قصة امرأة عمران و مريم ابنته، قال تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فإنه قرينة على المراد من هاتين الآيتين، فهما كالمقدّمة لبيان حال مريم ابنة عمران و ابنها عيسى، فيكون آل عمران هم عمران و زوجته و مريم و عيسى.
و أما موسى بن عمران، فهو داخل في عموم آل إبراهيم و لا خفاء فيه، كما هو موجود بالنسبة إلى دخول عيسى عليه السّلام، كما عرفت.
ثم إن الحصر في الآية الشريفة ليس حقيقيا و لا مفهوم لها حتّى تدلّ على نفي الاصطفاء في غيرهم، و قد ورد في القرآن الكريم موارد اصطفاء اللّه تعالى، كما يأتي، مضافا إلى ما ورد في السنّة الشريفة من أن أهل التقوى أهل الاصطفاء.
نعم، للاصطفاء مراتب كثيرة تبعا لاختلاف سبب التفاضل، قال تعالى: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [سورة الإسراء، الآية: ٥٥].
قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ.
الذرّية من الألفاظ الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و أصلها من الذر بمعنى النشر و الانتشار، و استعملت في مطلق الأولاد و النسل لانتشارهم من مصدر واحد، و يطلق على الواحد و الكثير، و قد يأتي الذراري في الجمع، و تقدّم في قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: ۱۲٤]، بعض الكلام.
و الجملة عطف بيان، و نصب «ذرّية» على الحال.
و معنى (بعضها من بعض)، أن هذه الذرّية مضافا إلى أنها متداخلة متشعّبة بعضها من بعض، فكلّ بعض يفرض فهو مبتدئ لبعض آخر و منتهى بعض آخر، هي متشابهة الأطراف في الصفات و الخيرات و الحالات.
و الآية الشريفة تدلّ على أن هذه الذرّية متّفقة في الصفات التي اقتضت اصطفاءها على العالمين، فلم يكن جزافا و لا عبثا، فالجملة في موضع التعليل لتعميم الاصطفاء، أي: لأنهم متّفقون في الصفات و متشابهو الأفراد اصطفاهم اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: و اللّه سميع لأقول الذين اصطفاهم، و سميع لدعاء الداعين و رجاء الراجين، مستجيب لهم، عليم بمواقع اللطف و ضمائر الناس و ما في قلوبهم.
و الجملة في موضع التعليل لجهة الاصطفاء، أي: أنه تعالى سميع يسمع الأقوال و يستجيب الدعاء، و يعلم ما في القلوب و الضمائر، فهو أعلم حيث يجعل رسالته و يصطفي من عباده.
و يمكن أن يكون ذكر (عليم) للإشارة إلى أن الاصطفاء من القضايا العقليّة التي يكون دليلها معها، أي: حيث إنهم كانوا واجدين لشرائط الاصطفاء و فاقدين لموانعه، اصطفاهم اللّه تعالى، و لا يعلم وجدان الشرائط و فقدان الموانع إلا العليم بالضمائر و ما في القلوب.
و الآية الشريفة على إجمالها لا تبيّن سبب الاصطفاء، و لكن يمكن استفادة ذلك من آيات اخرى، فإن أسبابه كثيرة، بعضها اختياريّة و بعضها الآخر غير اختياريّة، و أهمّ تلك الأسباب كمال الإيمان باللّه تعالى، الذي هو جذبة معنوية غيبيّة، يجذب به اللّه تعالى عباده إلى الكمال المطلق، و آخر مقامات الجذبة الإلهيّة هو الاصطفاء، و من العجيب أن كلّ اصطفاء تحقّق في فرد وقع ضده في فرد آخر الذي هو مظهر الفساد و الشر، كآدم و إبليس، و إبراهيم و نمرود، و موسى و فرعون إلى غير ذلك، و بهذا التزاحم و التنافر يتحقّق الاختيار.
و من أسباب الاصطفاء أيضا المجاهدات في سبيل تكميل النفوس الإنسانيّة و التخلّق بأخلاق اللّه تعالى و التحلّي بالإنسانيّة الكاملة، حتّى يصل إلى مقام الاصطفاء، فهو آخر مقامات الإنسانيّة الكاملة.
و من أسبابه الصدق و الخلوص في العبوديّة و الإخلاص للّه تعالى و نهاية الانقطاع إليه، بحيث يصير الإنسان كالمرآة الأتم لجلال اللّه و جماله، و غاية الصبر في الدعوة إليه عزّ و جلّ بما يتحمّله من المصائب و المتاعب في سبيل تلك الدعوة، فيكون الاصطفاء مقارنا للابتلاء و الصبر.
و من الأسباب الدخول في مرتبة حبّ اللّه تعالى له بالعمل بما أنزله عزّ و جلّ و الصبر في جنبه و الإحسان إليه و التّقوى و الجهاد في سبيله و غير ذلك، فإن اصطفاء اللّه تعالى فرع محبّته عزّ و جلّ.
و من آثار الاصطفاء هو تشريع الشريعة على يديه و تأسيس الدين الإلهي و اقتداء سائر الأنبياء به، كما في إبراهيم عليه السّلام، فإنه مبدأ التشريع و آخره.
و بالجملة: فإن الاصطفاء لبعض العباد يرجع إلى أمر غيبي، لا يعلمه غيره عزّ و جلّ، و لكن ذلك لا يكون على نحو العليّة التامّة المنحصرة، بل الاتّصاف بالصفات الكاملة الحقيقيّة له دخل في الاصطفاء، فهو مركّب من أمرين اختياري و غيره، و مع فقد كلّ واحد منهما لا منشأ له.
ثم إن الاصطفاء لا يختصّ بالإنسان، بل قد يقع بالنسبة إلى غيره أيضا، و إن كنا لا نعلم ذلك. و يشهد لذلك بعض الأحاديث بأن العقل هو أوّل من اصطفاه اللّه تعالى، حيث قال: «بك أثيب و بك أعاقب»، فهو أوّل من اصطفاه اللّه تعالى و آخره في قوسي الصعود و النزول، فيكون المصطفى (بالفتح) حقيقة واحدة لها مراتب متفاوتة.
نعم، بناء على ما نسب إلى بعض أعاظم الفلاسفة المتألّهين و بعض أكابر العرفاء الشامخين من وحدة الوجود و الموجود، فالمصطفي (بالكسر) و المصطفى (بالفتح) واحد لكنهما مختلفان بالاعتبار، و لهم في ذلك كلمات نظما و نثرا، و التفصيل يطلب من محلّه.
و كيف كان، فالاصطفاء منشأ الخيرات و البركات في هذا العالم، و يكون شأن من اصطفاه اللّه تعالى في هذه الدنيا شأن ربان السفينة في البحر المتلاطم المحفوف بالمخاطر، و الناس في هذه السفينة حيارى قد أدهشهم الخوف، فلا بد لهذا الربان من علم إلهي بكيفية السير و السلوك، كما هو معلوم في السفر من الخلق إلى الحقّ.
قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً.
بيان لأحد أسباب الاصطفاء و تقرير لكيفيّته. و النذر هو إيجاب شيء على النفس و الالتزام به، و الإنذار الإخبار بالتخويف، و يمكن فرض الجامع بينهما و هو إعلان التخويف على المخالفة، سواء كان المنشأ حاصلا من نفس الإنسان على نفسه أم من اللّه تعالى ابتداء.
و محرّرا من التحرير، و هو الخلوص و التخلّص عن الوثائق، كتحرير العبد، أي خلوصه عن الرقيّة، و تحرير الكتاب هو تخليصه عن الفساد و الاضطراب، أو إطلاق المعاني عن قيد الذهن و الفكر، و يقال لكلّ ما خلص أنه حر:
تمسّك إن ظفرت بودّ حر فإن الحرّ في الدنيا قليل
و تحرير الولد للّه تعالى أو للأمكنة المقدّسة، أو النفوس المحترمة، هو التفرّغ للعبادة و العمل للآخرة، قد كان متعارفا في الأمم القديمة، و كانوا يعتبرون ذلك وسيلة لحفظ الولد عن الضياع و التربية الحسنة و عبادة اللّه الواحد القهّار، فلا يتزوج و لا يعمل للدنيا.
و معنى التحرير في تلك الأزمنة كان هو تحرير الولد من قبل الأبوين، أي: تحريره عن التبعيّة لهما و الولاية عليه، فليس لهما بعد التحرير السلطنة على الولد في استخدامه لاغراضهما، بل هو داخل بالنذر تحت ولاية اللّه تعالى، فلا بد من صرف خدمته في سبيله عزّ و جلّ، إما في التفريغ لعبادته تعالى أو خدمة الأماكن المقدّسة و النفوس المحترمة، و هذا العمل كان جائزا في الشرائع الإلهيّة السابقة، و يعتبرون ذلك من نذر الأبرار.
و اللام في «لك» للتعليل، أي لعبادتك و خدمتك، و يدلّ قوله تعالى: ما فِي بَطْنِي، على أنها كانت حاملا حين ما قالت هذا القول، و كان الحمل من عمران، كما تدلّ الآية على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكرا لا أنثى، فإن كلامها على نحو البت و الجزم، لا نحو التعليق.
و تذكير (محرّرا) لا يدلّ على كونها نذرت ما في بطنها كائنا من كان- ذكرا أو أنثى- و إلا لما كان وجه لتحسّرها و حزنها كما حكى عنها عزّ و جلّ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، و لما كان معنى لقوله تعالى: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى.
و حكاية اللّه تعالى هذه المناجاة عنها تدلّ على أنها لم تكن من غير فكر و جزافا، أو كان لأجل الظن الحاصل عن العادة المتّبعة في تلك الأعصار، بل أنها تدلّ على أنها تنتهي إما إلى إلهام من اللّه تعالى إليها، أو غاية العبوديّة و الإخلاص منها للّه تعالى و نهاية الانقطاع له عزّ و جلّ، و على كلّ منهما، فهي تدلّ على كون هذه المرأة كاملة و أنها من الأبرار الصالحات، و في ذلك سرّ إلهي يدلّ على تحقّق العبوديّة للّه تعالى في جدّة عيسى و امه و نفسه، فتفخر الجدّة بأنها نذرت ما في بطنها محرّرا لخدمة البيت الشريف، و تفتخر مريم بذلك، و عيسى عليه السّلام لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بالانقطاع إلى اللّه عزّ و جلّ و العبوديّة له، قال تعالى حكاية عنه: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30- 31]، و من كان كذلك نفسا و اما و جدّة، لا يصحّ توهّم الغلو فيه، و لعلّ ذكر كلمة (البطن) في الآية الشريفة و الفرج في قوله تعالى: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [سورة التحريم، الآية: 12]، و أكل الطعام في قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [سورة المائدة، الآية: ۷٥]، للدلالة على أن التلبّس بهذه الأمور لا يليق بمرتبة روح القدس، فضلا عن مقام الملك القدوس، إلا بناء على الحلول و وحدة الوجود و الموجود، و هما باطلان بالأدلّة العقليّة و النقليّة، و سيأتي التفصيل في مستقبل الكلام.
و كيف كان، فاستناد هذا النذر إلى الهام إلهي لا يدلّ على أنها ألهمت بكون ما في بطنها ذكر أيضا.
نعم، لو أريد بالذكوريّة الأعمّ من المنذور و ابنها فله وجه، و يشهد لذلك قولها: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ حيث أثبتت لها ذرية.
و لم يذكر سبحانه اسم هذه المرأة الصالحة تعظيما لها و عناية بشأنها، كما أنها لم يذكر اسمها في الكتب المقدّسة و تكلّف النصارى في كتبهم في إثبات نسب مريم و أبيها، إلا أنه ورد في بعض الروايات أن اسمها كانت حنة بنت قاقوذ بن قنبل الإسرائيلي، و كانت له بنتان أحدهما هي و قد تزوّجها عمران، و هو إسرائيلي أيضا و أولدها مريم، و اسم الثانية ايشاع و تزوّجها زكريا و ولدت منه يحيى، فيحيى بن زكريا و مريم ام عيسى هما ابنا خالة.
و مات عمران و حنة حامل منه فنذرت حملها لخدمة البيت المقدّس، كما عرفت.
قوله تعالى: فَتَقَبَّلْ مِنِّي.
التقبّل هو أخذ الشيء على وجه الرضا، و يمكن فرض الجامع القريب بينه و بين القبول و هو أصل الرضا، و لكن هيئة التقبّل تدلّ على عناية خاصة فيها، و هي لا توجد في القبول، و تشهد الآيات اللاحقة لهذه العناية، و للمقام نظائر كثيرة في القرآن الكريم، و قد اشتهر في علم اللغة: «أن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني»، و هي قاعدة متّبعة خصوصا في لغة العرب التي بنيت على الدقة و الفصاحة و البلاغة. و لكن يمكن أن يرجع ذلك إلى تعدّد الدال و المدلول.
و القبول الحسن هو السرّ المطوي في التقبّل، و قد ورد التقبّل في القرآن الكريم في عدّة موارد تبلغ العشرة. و في جميعها يدلّ على أن في المورد سرّا خاصا إما في الحال، أو العمل، أو الانقطاع إلى اللّه تعالى اقتضى ذكر التقبّل و وقوع الاستجابة مطابقة له.
و المفعول من قوله تعالى: فَتَقَبَّلْ مِنِّي و إن كان محذوفا، إلا أنه معلوم إما هو النذر، أي تقبّل نذري هذا، لأنه عمل صالح أرادت منه التقرّب إلى اللّه تعالى، أو هو الولد المحرّر، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ.
قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
ثناء منها عليه تعالى، لجعل الدعاء و المناجاة أقرب إلى القبول و رجاء الإجابة و التفضّل، أي: أنك أنت السميع للدعاء، العليم بنيّتي و صحتها و إخلاصها.
و التأكيد في هذه الجملة للدلالة على انقطاع رجائها عن غيره تعالى، و أنها على يقين في استجابة دعائها، و فيه نهاية التضرّع و الابتهال إليها عزّ و جلّ. و تقديم السميع على العليم لأجل أن المقام مقام استدعاء الإجابة و القبول.
قوله تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى.
الضمير في قوله: فَلَمَّا وَضَعَتْها راجع إلى ما في بطنها، و فيه إيجاز لطيف، و إنما أنّث الضمير باعتبار علم المتكلّم بأن المرجع مؤنّث و أن المولود أنثى.
و جملة: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خبريّة، يراد بها التحسّر و التحزّن ممّا داهمها من خيبة الرجاء، فليس الغرض هو الإخبار فقط.
و إنما أنّث الضمير في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها، باعتبار الواقع الخارجي، و فيه من الخيبة و انقطاع الأمل و المسارعة إلى إظهار التحسّر ما لا يخفى.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ.
الجملة معترضة مقولة له عزّ و جلّ: و (ما) ترجع إلى المولود الذي جهلت الام السرّ الإلهي فيه، و المراد من الجملة تعظيم شأن المولود، أي: أن اللّه تعالى هو الذي خلقها و صوّرها، و هو أعلم بها بما تحمل من الأسرار و عظائم الأمور، التي ربما لا تكون تلك ممكنة في المولود الذكر التي كانت ترجوه، و الام غافلة عن جميع ذلك، فلو كانت عالمة بذلك لما أظهرت التحزّن و التحسّر في وضعها أنثى.
و قيل: إن الجملة مقولة قولها، و إنما قالتها اعتذارا إلى اللّه تعالى ممّا كانت ترجوه في المولود الذي لا يصلح لذلك الغرض.
و لكن الاحتمال الأوّل أولى، و قد وردت فيه رواية أيضا.
قوله تعالى: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى.
جملة معترضة اخرى، لبيان ما اشتملت الجملة السابقة على علمه بالمولود.
و اللام في الذكر و الأنثى للعهد، أي ذلك الذكر الذي كانت امرأة عمران ترجوه و تتمنّاه، لأن يكون خادم البيت الشريف و رسولا، ليس مثل الأنثى التي وضعتها التي لا تقدر أن تقوم بما وقع النذر المحرّر لأجله، فالجملة من قول اللّه تعالى أيضا، أي: ليس الذكر الذي كانت تتمنّاه مثل الأنثى التي فيها سرّ إلهي يظهر بعد ذلك، فإنها خير من الذكر.
و قيل: إن الجملة مقوله قولها.
و لكن يردّ عليه: أنه لو كان الأمر كذلك لكان الأنسب أن تقول: «و ليس الأنثى كالذكر»، كما هو واضح.
قوله تعالى: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ.
عطف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، و ما بين الجملتين اعتراضية كما عرفت آنفا، من ذلك يستفاد شدّة الانس و المحبّة بين اللّه تعالى و بين هذه المرأة الصالحة.
و كمال الخلّة بينهما.
و مريم علم امرأة سريانيّة معناها خادمة الرب أو المرتفعة بالعبادة، و من مبادرتها بالتسمية يستفاد يأسها من كون الولد ذكرا تتحقّق فيه رغبتها، و إنما رضيت بكون الأنثى هي المنذورة المحرّرة و حولت النذر إليها، و أعدّتها للعبادة بالتسمية، و يدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ.
قوله تعالى: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
دعاء منها لحفظها و ذريتها دائما من جميع المساوئ و المكاره، و الحاصلة من دسائس الشيطان الرجيم. و قد استجاب اللّه دعاءها، فكانت صدّيقة عابدة صالحة و ذرّيتها أيضا من الصدّيقين الصالحين، فتطابق الاسم و المسمّى فيها، لأن مريم في لغتهم العابدة الخادمة، كما عرفت.
و يستفاد من قولها: (و ذريتها) من دون شرط و قيد أنها كانت تعلم بأنها سترزق ولدا ذكرا من عمران، فلما لم يتحقّق في حملها، توقّعت أن يكون من ذرّيّتها، و هي منحصرة في فرد واحد، و هو عيسى ابن مريم.
قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ.
التقبّل هو الرضا بشيء مع عناية خاصة به كما تقدّم آنفا. و مادة (حسن) من الألفاظ التي يكون لفظها و معناها مطلوبين مطلقا، أعمّ من أن يكون الحسن اعتقاديا، كما في قوله تعالى: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [سورة فاطر، الآية: 8]، و واقعيّا حقيقيّا، كما في قوله تعالى: وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [سورة التوبة، الآية: ٥۲]، نظير الخير و الصلح و الجمال و نحو ذلك.
و القبول الحسن هو القبول كما سألته أمها و زيادة عليه، و إنما أكّد سبحانه التقبّل الدال على القبول على الرضا بالقبول الحسن، للدلالة على اصطفاء مريم، لأنها هي التي وقعت مورد الرضا محرّرة للعبادة و التسليم للّه تعالى و خدمة البيت، مع صغرها و أنوثتها، و هذا هو الاصطفاء الذي تقدّم معناه، و لأجل ذلك دخلت في جملة المصطفين الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة.
و ممّا ذكرنا يظهر أن هذه الجملة وقعت استجابة لقولها: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، أي مع كونها أنثى و جعلتها محرّرة فتقبّلها ربّها بقبول حسن، و لم تكن هذه الجملة واردة لقبول تقرّب امرأة عمران بالنذر و إعطاء الثواب الاخروي، لما عرفت من أن القبول نسب إلى مريم المنذورة المحرّرة، و إن كانت تدلّ على قبول تقرّب امرأة عمران بالتبع و الملازمة.
و إنما خصّ سبحانه الربّ بالذكر، للدلالة على رعايتها آنا بعد آن، و العطف عليها في كلّ حال و تربيته تعالى لها.
قوله تعالى: وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً.
الإنبات هو التربية بما يصلح الحال و حسن النشأة، و تعهّدها حالا بعد حال، كما يتعهّد الزارع الزرع بالسقي و نموه.
و المراد من الآية الشريفة هو حسن نشأتها و تربيتها في صلاحها و كمالها، و تطهيرها من الرذائل الخلقيّة و الخلقيّة، و الإطلاق يشمل التربية الجسديّة و الروحيّة كلتيهما، لها و لذريّتها.
و الجملتان متكاملتان، إحديها تبيّن اصطفاءها، و الثانية تبيّن طهارتها و زكاتها و حسن تربيتها بما تصلح أن تكون اما لكلمة اللّه المسيح المرفوع إلى السماء، و تقدر على أن تؤدّي الأمانة التي وقعت على كاهلها، و تهيئتها لتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقها، و قبول السرّ الإلهي، فأصبحت مريم العذراء الصدّيقة الطاهرة المطهّرة المصطفاة على نساء العالمين، و بذلك استعدّت أن تتلقّى الخطاب الملكوتي: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ.
قوله تعالى: وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا.
مادة كفل تأتي بمعنى الضمان و التعهّد، و غلب استعمالها في ضمان الإنسان لمثله، و الكفيل من أسماء اللّه تعالى، لأنه عزّ و جلّ مدير ما سواه و رازقه و مدبّره.
و زكريا هذا من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود، و هو الذي طلب من اللّه تعالى أن يرزقه ولدا و هو شيخ كبير و كانت امرأته عاقرا كما يحكي عزّ و جلّ عنه في الآيات اللاحقة. و إن كان يظهر من التواريخ أن المسمّى بزكريا متعدّد.
و اللفظ ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.
و المعنى: و صار زكريا كفيلها و قائما بشؤونها، و الكفالة هذه إما أن كانت بحسب التقدير، أو بحسب القرعة التي أصابتها باسمه بعد أن كانت كفالتها مورد الاختصام ممّن هو قائم بشؤون البيت الشريف. كما حكى عنهم عزّ و جلّ في قوله: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران، الآية: ٤٤].
و يمكن الجمع بين الاحتمالين بأن المقدّر هو أن يكون الكفيل زكريا، و لكن اللّه تعالى هيّأ له ذلك عن طريق القرعة.
و كيف كان، فهو كفيل صالح أمين رؤوف، فأكرم به من كفيل، و الظاهر أن كفالتها إنما كانت من أوّل أمرها فوقع الإنبات الحسن بمباشرة زكريا و تسبيب من اللّه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ.
المحراب هو المكان العالي، و سمّي محراب المسجد محرابا لأجل علوه و شرفه بالنسبة إلى غيره من جهة قيام الإمام فيه.
و قيل: إن المراد بالمحراب هو المسمّى عند أهل الكتاب بالمذبح، و هو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة، يكون من فيه محجوبا عمّن في المعبد، و منها المقصورات التي أحدثها بعض الخلفاء لنفسه في الإسلام.
و قيل: إن المسجد حيث كانت مساجدهم تسمّى بالمحاريب.
و كيف كان، فالجملة بيان لقبول زكريا لها بالكفالة و عنايته لها، و لهذا لم تعطف.
و إنما قدّم الظرف عَلَيْها على الفاعل زَكَرِيَّا لإظهار كمال العناية و الاهتمام بأمرها.
قوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً.
أي: أصاب في حضرتها رزقا و ألوانا من الطعام، و التنكير للإعظام من كلّ جهة، و فيه الإيماء إلى كونه رزقا غير معهود، و لعلّ ما ورد في الرواية- أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف- مستفاد من نفس هذه الآية الشريفة، و يمكن أن يستشهد على ذلك من سؤال زكريا ب (أنى) الدالّة على التعجّب، و جواب مريم له بأنه من عند اللّه تعالى، فإنه يكشف عن أنه ليس برزق عادي هيئ في وقت خاص. كما أنه يدلّ على ذلك دعاء زكريا ربّه أن يهب له ذرّية طيبة بعد أن عرف أن هذا الرزق كرامة من اللّه سبحانه و تعالى لمريم الصدّيقة الطاهرة.
و يمكن أن يكون هذا الرزق من اللّه تعالى هو الذي أعدّه إعدادا حسنا لحمل عيسى عليه السّلام، فقد تحقّق في مريم حالتا المنعقديّة و الانعقاديّة، فصارت أهلا لأن يتمثّل روح الأمين لها، فتأثّرت بما هو ألطف من نسيم السحر و من ضياء الشمس و نور القمر، لتلد مريم العذراء رجلا هو كلمة اللّه، يرفع إلى السماء و يبشّر الناس بمقدم خاتم الأنبياء.
قوله تعالى: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا.
جملة استئنافيّة بيانيّة، و (أنى) كلمة استفهام بمعنى أين تدلّ على السؤال عن الوضع و الجهات، و فيها معنى التعجّب.
أي: من أين لك هذا الرزق. و السؤال إنما كان لعظمة هذا الرزق- كما عرفت- مع أنها امرأة عاجزة عن تحصيله في هذا الموضع المعيّن و هذه الحال.
قوله تعالى: قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
جملة مستأنفة كالسابقة، أي: أن الرزق الذي أوجب دهشة هذا النبيّ الكريم هو نازل من عند اللّه تعالى. و الإطلاق يشمل جمع الأنواع و الأصناف، فكان هذا الرزق خارقا للعادة من حيث الكم و الكيف و سائر الجهات، فسيطر ما عند اللّه على الطبع و الطبيعة و المادة، فكان ذلك كرامة لها. و قد قنع زكريا بهذا الجواب و لم يسألها عن شيء آخر.
و من ذلك يعرف الخدشة في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أن الإضافة إلى اللّه تعالى إنما هي عادة جرت من العرف بإضافة الرزق إليه تعالى، و ليس في هذه دلالة على أنه من خوارق العادات، و بالاخرة فليس ذلك كرامة لها.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
تتمّة مقالة مريم، أي: أن اللّه تعالى يقدر على رزق من يشاء من عباده بغير تقدير بحدّ.
و من هذه الكلمة يستفاد أمران:
الأول: عظمة هذا الرزق، حيث عبّر عنه بغير حساب.
الثاني: عظمة انقطاع القائل إلى اللّه تعالى، حيث ظهر لها هذا التجلّي العظيم الإلهي.
قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ.
جملة مستأنفة ترتبط بما قبلها لتثبيت ما ذكر فيها، و تقرير ما سيقت لأجله.
و (هنا لك) نظير هناك من أسماء الإشارة، إلا أن اللام في الأوّل للبعد و الكاف للخطاب، أي في ذلك المكان، و المعروف بين الأدباء أن الموضوع له في أسماء الإشارة خاص، و أنها من المبنيّات لتقوّمها بالغير، فأشبهت الحروف من هذه الجهة و انسلخت عن الإعراب فصارت مبنيّة.
و لكن الدعوى الأولى باطلة لما أثبتناه في علم الأصول- من أن الوضع منحصر في قسمين، الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كما في الأعلام. و الوضع العام و الموضوع له العام، كما في البقية مطلقا، و لا معنى للوضع الخاص و الموضوع له الخاص، أو الوضع الخاص و الموضوع له العام، كما لا وقوع للوضع العام و الموضوع له الخاص، راجع [تهذيب الأصول] و يظهر من ابن مالك أيضا، قال في الالفية: بذ المفرد مذكر اشر حيث جعل الموضوع له عامّا و جعل الخصوصيّة في ناحية الإشارة لا الموضوع له.
و أما الدعوى الثانية فتصويرها حسن، و لكن الحقّ أن تمييز الألفاظ بالإعراب و البناء إما أن يكون من لوازم الألفاظ، أو من لوازم الماهيّة، فإن جميع الجواهر و الأعراض متميّزات بعضها عن البعض، فلا بد أن تكون الألفاظ- التي هي من أعظم ما أنعم اللّه تعالى به على خلقه، هكذا أيضا.
و إذا دار الأمر بين التعليل بالذاتي أو التعليل بالعرضي، فالأول أولى بلا ريب، و ربما يكون مرادهم ممّا ذكروه ذلك أيضا، و إن قصرت عباراتهم عن ذلك، و على هذا فيسقط قول بعض النحاة.
الاسم منه معرب و مبني لشبه من الحروف مدني
كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا و المعنوي في متى و في هنا
هذا خلاصة ما يحقّ أن يقال في بناء الأسماء و إعرابها، كما أفاده بعض محقّقي مشايخنا (أعلى اللّه درجاتهم) في أثناء بحثه في مباحث الألفاظ من علم الأصول و قد بسط القول في ذلك.
و كيف كان، فإن زكريا بعد ما رأى الكرامة التي جرت لمريم عليها السّلام أقبل على الدعاء من غير تأخير، و يستفاد ذلك من تقديم الظرف، أي حين ما رأى زكريا أن رزق مريم خارق العادة و خلاف مجرى الطبيعة طمع في الدعاء و حمل نفسه على أن يسأل ربه ما هو خارق العادة و خلاف مجرى الطبيعة أيضا، و هو حمل العاقر من الشيخ الكبير مع علم زكريا بأن اللّه تعالى لا يجري الأمور إلا بأسبابها الطبيعيّة، و لكن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه يعترفون بأنه لا بد أن يكون في الممكنات امور خارقة للعادة و لنظام الطبيعة التي تكشف عن القدرة القهّارة، فسأل ربه من تلك القدرة، فوقع السؤال موقع الإجابة بحسب تلك القدرة الجبّارة لتسخير نواميس الطبيعة.
مع أننا ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن المعجزة لا تخرج عن نواميس الطبيعة و إن خفيت الأسباب عن الحواس الظاهرة.
و ممّا زاد في همّته قول مريم عليها السّلام له: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. و الطمع في الدعاء و طلب النعمة إذا شوهدت من اللّه تعالى على شخص يكون على أقسام ثلاثة:
الأوّل: أن يطلب النعمة لنفسه مع حبّ سلبها عن غيره.
الثاني: أن يطلب مثلها لنفسه أيضا، فإن مواهب اللّه تفيض و خزائنه لا تغيض، و يسمّى بالغبطة.
الثالث: أن يستسر بحصول النعمة له.
و الأوّل حسد مذموم، و الأخيران لا بأس بهما، بل هما ممدوحان. و سؤال زكريا من أحد الأخيرين.
قوله تعالى: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً.
بيان لكيفية الدعاء. و الهبة بمعنى العطية، و هي التمليك بلا عوض، و الذرّية هي النسل، تأتي واحدة و جمعا، ذكرا و أنثى، و إنما أنّثت (طيبة) لتأنيث لفظ الذرّية.
و الطيب ما يستطاب فعله و خلقه بالذات، أو بما يلائم صاحبه بما قرّره العقل و الشرع، و يقابله الخبيث، و يقال: عيش طيب، أي ما تسكن النفس إليه و يكون ملائما لها، كما يقال: ماء طيب، أي: عذب، قال تعالى: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: ٥۸]، أي ما يكون البلد موافقا لنفس أهل البلد من جميع الجهات.
و الذرّية الطيبة هي التي تسكن إليها النفس و يستطاب أفعالها و صفاتها، فتكون صالحة مباركة، كما في مريم لما لها من الكرامة و الصفات الحسنة و الشخصية الكاملة.
و قد استعمل الداعي أدب الدعاء و ما يوجب ترغيب المدعو إلى الإجابة، كما في قوله: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ، و قوله في موضع آخر: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [سورة مريم، الآية: ٤]، و قوله في موضع ثالث: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 89].
و قدّم اسم الربّ لأنه أقرب إلى الإجابة، و أدّى الطلب بالهبة، لأنها إحسان محض لا يكون في مقابله شيء، فيناسب المقام، حيث اعتبر نفسه عاجزا عن تحقيق رغبته إلا بعناية منه عزّ و جلّ.
و قد استجاب اللّه تعالى دعاءه و وهب له يحيى الذي لم يجعل له من قبل سميّا، و قد جمع اللّه فيه ما في مريم و عيسى عليهما السّلام من الصفات و الكمال و الكرامة، فكان أشبه الناس بعيسى عليه السّلام.
قوله تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ.
لفظ سميع يأتي بمعنى القبول و الاجابة، كما في قول: «سمع اللّه لمن حمده»، أي يقبل حمد من حمده و يثيب عليه، و ذكر السمع و إرادة القبول و الإجابة شائع في المخاطبات العرفيّة، يقال: فلان سمع حاجتي فقضاها، و في الحديث: «أي الساعات أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر»، أي أوفق لاستماع الدعاء فيه و أولى بالاستجابة.
و السميع من أسمائه تعالى، و هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفي، فهو يسمع بغير جارحة.
و المعنى: أنك كثير الإجابة لدعاء الداعين، و الجملة في موضع التعليل.
قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ.
العطف بالفاء يدلّ على سرعة الإجابة، و أن جميع ذلك دعاء واحد متعقّب بالتبشير، و المنادي هو جنس الملائكة تمييزا عن نداء البشر، و إن كان المنادي واحدا، و هو أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب، أو ظهور شخص الملائكة و التكلّم مباشرة مع المخاطب، و إن كان الظاهر هو الثاني، و الضمائر كلّها ترجع إلى زكريا، و المراد بالصلاة هي الأقوال و الأفعال المعهودة بين كلّ ملّة.
قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى.
البشارة و التبشير هو الإخبار بما يفرح الإنسان. و يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.
و قيل: إنه عربي منقول من الفعل، فيكون المنع من الصرف هو العلميّة و وزن الفعل، و قيل وجوه في تسميته بهذه الاسم: فعن بعض أنه لما علم اللّه تعالى أنه يستشهد، و الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون فسمّي به، و عن بعض آخر أنه يحيا بالعلم و الحكمة، أو يحيى به الناس بالهداية، و قال القرطبي: إنه كان اسمه حيّا في الكتاب الأوّل، و جميع ذلك يحتاج إلى دليل. و الموجود في الأناجيل المعروفة أنه يوحنا المعمدان.
و يستفاد من الآية المباركة أن التسمية كانت من اللّه تعالى، و يدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: 7]، كما يستفاد من مجموع قصتي امرأة عمران، و زكريا أنه لو لم تبادر امرأة عمران بالتسميّة لمولودها لأمكن أن تأتي التسمية من قبل اللّه تعالى، و لعلّ الحكمة في ذلك أن اللّه تعالى أراد أن ينفي جهات الغلو من مريم الصدّيقة الطاهرة، بأن تكون التسمية من ممكن محتاج لممكن آخر مثله.
و قد وصف اللّه تعالى هذا المولود المبشّر به بأوصاف تدلّ على عظمته و كرامته و جلالة قدره، و من مجموع ذلك يستفاد التشابه الكبير بين هذا المولود و مريم العذراء و ابنها عيسى عليهم السّلام.
قوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ.
هذا هو الوصف الأوّل ليحيى، و الجملة في موضع الحال من يحيى، و المراد بالكلمة هو عيسى بن مريم كما وصفه اللّه تعالى بها، قال عزّ و جلّ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [سورة آل عمران، الآية: ٤٥]، و هو إما لأجل أن أنبياء اللّه تعالى- لا سيما أولي العزم منهم- أجلّ كلمات اللّه التامّات، أو لأجل وجوده بكلمة «كن» من دون توسط أب في البين، فهو مشابه للإبداعيات في عالم الأمر، قال تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة البقرة، الآية: 117].
و التصديق به هو الإيمان به و الدعوة إليه، و هو مدح كبير منه عزّ و جلّ له و تمجيد له بالخضوع و التسليم له عزّ و جلّ، مع أن الإيمان بعيسى من أصعب الأمور في ذلك العصر.
و يستفاد من ذلك أن النبوّات السماويّة تتقوّم بأمرين:
أحدهما: الإخبار عن اللّه تعالى، أي الدعوة إلى التوحيد في العبوديّة و المعبوديّة.
الثاني: إخبار كلّ نبي سابق عن النبي اللاحق، فإنهم كلسان واحد في الدعوة إلى الواحد الأحد، و بدون ذلك لا يجب اتباع النبيّ، ففي المقام أن يحيى يدعو إلى عيسى، و هو يدعو إلى خاتم الأنبياء.
قوله تعالى: وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً.
السيد من السواد، أي ساد يسود، فهو سيد فقلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها ثم أدغمت، و هو الشخص المطاع، و السيادة هي تولي الأمور و زعامة الناس، فالسيد هو الذي يسود غيره إما في الزعامة و تولّي أموره، أو في الفضائل المحمودة و الأخلاق الكريمة، فيكون فائقا على غيره، و في الحديث: «أنا سيد ولد آدم، و لا فخر»، فأخبر صلّى اللّه عليه و آله عمّا أكرمه اللّه تعالى به من الفضل و السؤدد، تحدّثا بنعمة اللّه تعالى عليه، و يطلق على الباري جلّ شأنه، لأنه المتفرّد في جميع الكمالات و تحقّقت له السيادة الحقيقيّة المطلقة،
ففي الحديث: «انه جاءه رجل فقال: أنت سيد قريش؟ فقال: السيد اللّه»؛ و هي من الأمور الاضافية فيما سواه تعالى، ففي الحديث: «كلّ بني آدم سيد، فالرجل سيد أهل بيته، و المرأة سيدة أهل بيتها»، و كذا سيد القوم و سيد العشيرة، و لعلّ المراد في المقام سيد قومه و عشيرته، و لا يطلق على المنافق سيد، كما في الحديث: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن كان سيدكم و هو منافق فحالكم دون حاله، و اللّه لا يرضى لكم ذلك».
و قد وصفه تعالى بهذه الصفة لأنه ساد غيره في الكمال، وفاق الناس في الفضائل، فهو النبيّ الكريم المحمود الصفات.
و (حصورا) عطف آخر و صفة اخرى، و الحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه، و قد يطلق على الممتنع عن غيرها أيضا، و هو صفة كمال تدلّ على عزوفه عن مشتهيات الدنيا و زهده عنها، لأن الممتنع عن الجماع:
تارة: يكون لأجل آفة و نقصان فيه، و هو غير ممدوح.
و اخرى: يكون لأجل تقديم الأهمّ من المعنويات عليه، و هو ممدوح في الجملة إذا وافقته الشريعة، كما في زمان يحيى عليه السّلام، و أما إذا وصلت النفس إلى مرتبة من الكمال بحيث لا يشغلها المهم عن الأهم، فلا موضوع لهذا البحث فيه، كما في سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله.
قوله تعالى: وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
صفة رابعة و خامسة تدلّان على علو مقامه و كمالاته المعنويّة، و أن الصفات السابقة ممهدات لهاتين الصفتين، فإنهما نهاية المقامات المعنويّة و الكمالات الإنسانيّة و هي النبوّة، و كونه من الصالحين، و قد طلب خليل الرحمن من اللّه تعالى أن يجعله من الصالحين، فقال تعالى حكاية عنه: وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة الشعراء، الآية: 83].
و المراد به في الأنبياء صلاح الذات و الصفات و الأعمال، ليكونوا صالحين لاقتداء الأنام بهم، و بعبارة اخرى: الصلاح هو المرآة الأتم لأخلاق اللّه تعالى.
و بهذه الصفات الجليلة اختار اللّه تعالى يحيى و جعله من الذرّية الطيبة التي طلبها زكريا منه عزّ و جلّ.
و يستفاد من مجموع ما ورد في شأن يحيى و ما ورد في شأن كلمة اللّه عيسى بن مريم عليهما السّلام، الشبه الكثير بينهما، و هو ما كان يريده زكريا عند طلبه من اللّه تعالى أن يرزقه ولدا يكون له من الكرامة عند اللّه تعالى ما لمريم العذراء عنده، بعد ما شاهد الآيات الباهرات منها، فأوّل الشبه بينهما أن مريم و ابنها آية من اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91]، و أن تسمية عيسى من اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: ٤٥]، و أن يحيى آية منه عزّ و جلّ أيضا، حيث كانت تسميته من عند اللّه تعالى في بدء ما بشّر به زكريا، قال تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: 7].
الثاني: أن يحيى قد أوتي الكتاب و الحكم و هو صبي، قال تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [سورة مريم، الآية: 12]، و كذلك أوتي عيسى الحكم و النبوّة و الكتاب في صباه، قال تعالى حكاية عنه: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30- 31].
الثالث: أنهما اشتركا في الخصال الحميدة، كالبر بالوالدين و السيادة و الوجاهة، و أنهما لم يكونا من الجبّارين، قال سبحانه و تعالى في شأن يحيى: وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا* وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا [سورة مريم، الآية: 13- ۱٤]، و قال عزّ من قائل في شأن عيسى: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 32].
الرابع: أنهما اشتراكا في السّلام عليهما في المواطن الثلاثة المهمّة، الولادة و الموت و البعث، قال تعالى في شأن يحيى: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: ۱٥]، و قال عزّ و جلّ في شأن عيسى: وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 33].
و لكن يبقى الفرق بينهما أن عيسى عليه السّلام نبي من أولي العزم و صاحب شريعة، و أن يحيى عليه السّلام كان أوّل المصدّقين به، و ذلك لأن عيسى عليه السّلام كان أسبق من يحيى في التقدير، فإن زكريا بعد ما شاهد من مريم الصدّيقة عليها السّلام من عجائب الرزق و الكرامات طلب من اللّه أن يرزقه ذرّية طيبة، يكون وليا مرضيا. هذا ما يقتضي التدبّر في مجموع الآيات النازلة في هذين النبيين الصالحين عليهما السّلام في المقام، و في سورة مريم.
قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ.
جملة مستأنفة تدلّ على التعجّب، ففيها استفهام عن حقيقة الحال، و طلب لتفهّم خصوصيات الإفاضة و الإنعام، مع الاشتياق إلى المناجاة مع الحبيب و التلذّذ بالحديث معه، و هو من أعظم الابتهاج للنفس، و ليس فيها دلالة على أن الاستفهام كان لأجل الاستعظام و الاستبعاد، كيف و هو المبشّر بما طلبه، و إن اللّه سيرزقه الغلام الذي تجتمع فيه جميع الصفات الحميدة التي شاهدها في مريم الصدّيقة، و هو على يقين بقدرة اللّه تعالى على ذلك.
و قد ذكر زكريا عليه السّلام و صفين في المقام، هما المنشأ في التعجّب و الاستعلام، و كان لهما أبلغ الأثر في حزنه و تأثّره مع علمه بأن الأمور لا تجري إلا بأسبابها كما اقتضته الحكمة الإلهيّة، و هذا اعتراف من زكريا بحسن نظام هذا العالم و ما عليه من التناسل بين بني آدم، و لكن مع ذلك يعترف بأن الإرادة القهّارة الربوبيّة فوق جميع ذلك، و الكلّ مسخّر تحت تلك الإرادة، فيرجع المعنى إلى أن طلب الولد خلاف النظم الطبيعي من مثله و عن زوجة عاقر، لو لا قدرتك و رحمتك و مشيئتك القاهرة، و هذان الوصفان قد ذكرهما في ضمن الدعاء في موضع آخر، فقال تعالى حكاية عنه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [سورة مريم، الآية: ٤- ٥].
و الغلام الطار الشارب أو الابن في أوّل نبت شاربه. و مادة (غلم) تدلّ على شدّة شهوة النكاح و هيجانها، كما يظهر من جملة استعمالاتها، ففي الحديث: «خير النساء الغلمة على زوجها العفيفة بفرجها»، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن مفردا و تثنية و جمعا، و لعلّ ألطف ما ورد فيه هذا اللفظ جمعا، قوله تعالى: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [سورة الطور، الآية: ۲٤]، خدمة لأهل الجنّة و هي لذّة للمخدوم و الخادم، و قال تعالى: يا بُشْرى هذا غُلامٌ [سورة يوسف، الآية: 19]. و إنما ذكر الغلام باعتبار أنه قد بشّر به سابقا، قال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً، و قال تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [سورة مريم، الآية: 7].
و إنما خاطب زكريا ربّه من دون واسطة في البين مبالغة في التضرّع، و إعلاما لنهاية التأثّر و التحزّن.
قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ.
جملة حالية من ياء المتكلّم، و إسناد البلوغ إلى الكبر توسعا، فكأن الكبر قد طلبه و هو مطلوب له. و الجملة كناية عن عدم القدرة على الجماع و ممارسة الشهوة لبلوغه الكبر و طعنه في السن، و كانت له تسع و تسعون أو مائة و عشرون سنة، و لامرأته ثمان و تسعون، حين قال ذلك على ما قالوا، و إن كان ذلك كلّه رجما بالغيب. و فيه نهاية الأدب كما أن فيه تحريك المدعو إلى استجابة دعاء الشيخ العاجز.
قوله تعالى: وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ.
العقر بمعنى عدم الحمل، و يطلق على الرجل الأبتر الذي لا ولد له أيضا، و لفظ (عاقر) هنا بمعنى ذات عقر، و حينئذ لا فرق بين المذكّر و المؤنّث.
قوله تعالى: قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
الجملة مقول قول اللّه تعالى، سواء كان بواسطة الملك الذي ناداه سابقا بالبشارة، أم كان بغير وساطة، أي وحيا. و إن كان الظاهر هو الأوّل، و يدلّ عليه- مضافا إلى ظاهر السياق- قوله تعالى في موضع آخر من هذه القصة: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً [سورة مريم، الآية: 9].
و (كذلك) في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر و التقدير كذلك، و هو ظاهر في كونه من القضاء الحتم الذي لا يعتريه التغيير و التبديل، و يدلّ عليه قوله تعالى في هذه القضية: وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم، الآية: 21]، كما يشهد له قوله تعالى: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً، حيث جعل خلق يحيى مقدّرا من حين خلقه لزكريا.
و جملة (اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في موضع التعليل، أي: لأنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء من الأفعال الخارقة للعادة، يخلق الولد في تلك الحالة التي يستبعدها الناس عادة، فإن إرادته و مشيئته فوق الطبيعة، و هي مسخّرة تحت تلك الإرادة.
و إنما أتى بلفظ الجلالة للتعظيم، و لبيان أنه الجامع لجميع الصفات الجمالية و الكمالية، القادر على كلّ شيء، إليه تنتهي جميع العلل و الأسباب.
ثم إن الولادة- بخلاف الأسباب الظاهريّة- قد ذكرت في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء اللّه تعالى في موارد ثلاثة:
الأوّل: إبراهيم خليل الرحمن، قال تعالى حكاية عنه: وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [سورة هود، 71- 73].
الثاني: عيسى روح اللّه، قال عزّ و جلّ حكاية عن مريم العذراء: قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم، الآية: 21].
الثالث: زكريا الذي دعا اللّه أن يرزقه ذرّية طيبة: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم، الآية: 8]، و جميع من ولد في هذه الموارد الثلاثة هم من الأنبياء الذي وهبوا أنفسهم للّه تعالى.
قوله تعالى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً.
الآية العلامة الدالّة على شيء، و لهذه الكلمة أهمية عظمى في القرآن الكريم، فقد وردت فيه بأطوار مختلفة- مفردة و تثنية و جمعا- في ما يقرب من خمسمائة مورد، و لعلّ الوجه في ذلك هو إثبات أن جميع ما سوى اللّه تعالى آيات جماله و جلاله و شواهد أقواله و أفعاله، و هي إما آيات يستدلّ بها الخالق على الخلق، أو يستدلّ بها المخلوق على وجود الخالق و معبوديّته المطلقة، و قهّاريته التامّة، و رحمته الواسعة و جميع العوالم- الطولية و العرضية- آياته تبارك و تعالى، و لكنها مختلفة في جهة كونها آية، كاختلافها في مراتب الوجود.
و الجامع القريب العلامة التي تدلّ على ارتباط الممكن بالذات مع الحيّ القيوم، كما هي علامة عناية العزيز الجبّار الغني بالذات مع الفقير المحتاج، أو هما معا.
و الآية في قوله تعالى: اجْعَلْ لِي آيَةً، أي علامة يعرف الناس و البيئة البشريّة، بأني مرتبط معك، و دلالة ملموسة بها تطمئن نفسي، و تكون أنت المعين في اموري، لأدفع بها دعاوي المبطلين و تشكيك المنافقين، و اعترف بها عجزي و خضوعي و تسليمي لأمرك، و ابدي شكري على جميع نعمائك، و هذا ما تقتضيه هذه المحاورة بين زكريا النبيّ العظيم و بين اللّه تعالى الربّ الجليل، فإنها تدلّ على كمال الخلّة و نهاية التبتّل و الخضوع له عزّ و جلّ، و يشهد لذلك سنخيّة الآية مع المورد، فإن الآية التي جعلها اللّه تعالى له هي أمره بعدم التكلّم و قطع المحاجّة مع الكفّار و المنافقين، و إيكالهم إلى الأمور البديهيّة كالحسّ و الوجدان، كما ستعرف.
و من ذلك يعلم أن ما ذكره المفسّرون في المقام في حكمة جعل الآية غير صحيح، فقد ذكر بعض المفسّرين أن جعل الآية له إنما كان لأجل أن يستدلّ بها على حمل امرأته و يعلم وقت الحمل.
و فيه: أنه بعد معرفته بأنه سيرزق ولدا، و إن اللّه تعالى بشّره بذلك، و كان على يقين فيه، لا معنى لطلب آية تكون علامة على حمل امرأته، بل هو لغو من عاقل فضلا عن الأنبياء.
و قيل: إن الحكمة في جعل الآية هو الاستدلال بها على أن البشارة كانت من اللّه تعالى لا من الشيطان.
و هو مردود أيضا، فإنه إن كان باعتبار نفس مقام نبوّة زكريا عليه السّلام فهو باطل، لأنه بعد أن علم يقينا بخطاب الملائكة، و أن المحاورة المتقدّمة لا تدع مجالا للشك في أنها لم تكن من الشيطان، خصوصا مع ملاحظة مقام زكريا و نبوّته المرتبطة مع الملائكة ارتباطا تاما. و إن كان باعتبار تعريف غيره، فهو باطل أيضا، فإنه لم يعرف شيئا من هذه المحاورة حتى يشكّ فيها، بل هي من جملة الأسرار بين زكريا عليه السّلام و بين اللّه تعالى، كما في استجابة الدعوات بالنسبة إلى كلّ مؤمن مستجاب الدعوة، و سيأتي في البحث الكلامي الفرق بين خطاب الرحمن و كلام الملك و همسات الشياطين.
قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ.
أي: قال اللّه تعالى لزكريا: آيتك التي طلبتها هي أن لا تتكلّم مع الناس، و إنما خصّ الناس بالذكر لبيان أنه لم يكن ممنوعا من التكلّم بذكر اللّه و الدعاء، فيستفاد أن الممنوع منه إنما هو التكلّم مع الناس في شؤون الدنيا، لا عدم التكلّم المطلق، حتى التكلّم بالحقّ مع الحقّ، كالمناجاة و الدعاء و نحو ذلك، بقرينة ذكر الناس و التكلّم بالرمز.
و المشهور بين المفسّرين أن عدم التكلّم كان اضطراريا بالنسبة إليه، لأن اللّه عزّ و جلّ قد سلب قدرته على ذلك، إما باعتقال لسانه من غير آفة أو معها، و هي أنه ربّا لسانه و زاد في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، و إن كان قادرا على التسبيح و الصلاة و المناجاة معه عزّ و جلّ، و هذه آية كانت من قبل اللّه تعالى في نفس النبيّ لا يقدر عليها غيره، لمكان العصمة فيه.
و عن بعض المفسّرين أن حبس لسانه كان من باب العقوبة له، لأنه طلب الآية بعد المشافهة مع الملائكة و البشارة له، و السبب في ذلك تشكيك الشيطان له في كون البشارة من اللّه تعالى. و يقرب هذا ممّا ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا: و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا، لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته. [إنجيل لوقا: 1- 20].
و الحقّ أن يقال: إن الآية الشريفة لا تدلّ على شيء ممّا ذكروه، أما ما ذكره بعض المفسّرين فهو مردود من جهات كثيرة لا تخفى على من تأمّل فيه، و يكفي في وهنه أنه من الإسرائيليات، و لا وجه لكون ذلك عقوبة له بعد ما ذكرنا من أنه كان على يقين من أمره، و أنه إنما طلب الآية لدفع شبه المنافقين و إنكار المنكرين، و لإظهار الخضوع و الخشوع و التبتل إليه عزّ و جلّ، و بيان النعمة، فلا معنى لأن يكون عدم التكلّم عقوبة له.
الا أن يقال: إن عدم تكلّمه مع الناس لأجل ما حصل منه من ترك الأولى بقوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ، الظاهر في التعجّب من البشارة الإلهيّة، فإن مثل ذلك من أنبياء اللّه تعالى مع علمهم بكمال قدرته جلّت عظمته حتى على الممتنعات العادية، ممّا لا ينبغي، فأخذ بقوله هذا بعدم تكلّمه مع الناس ثلاثة أيام، فيكون هذا نحو توبة لما صدر منه، بقرينة قوله تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ و بهذا و إن أمكن الجمع بين جميع أقوال المفسّرين في المقام، و لكن مع ذلك أنه مجرّد احتمال.
و أما قول المشهور، فظاهر الآية الشريفة ينفي ذلك أيضا، لأن نسبة الفعل إلى الفاعل في قوله تعالى: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، و نفيه عنه ظاهر في كونه اختياريّا، فهي تدلّ على أن عدم التكلّم كان اختياريّا له، فإنه بعد أن طلب من اللّه تعالى الآية التي تكون علامة لصدقه أمام الناس، ليتمكن أن يدفع بها شبه الملحدين، و إظهار كرامته عند اللّه تعالى، و منزلة المولود الجديد لديه عزّ و جلّ، لا معنى لكونها آية اضطراريّة له، و نظير هذه الآية في ولادة يحيى عليه السّلام ما وقع عند ولادة عيسى، قال تعالى في مريم العذراء: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [سورة مريم، الآية: ۲٦]، و لم يقل أحد إن صوم مريم عليها السّلام كان اضطراريّا لها.
و قد ذكرنا أن هذه الآية الشريفة إنما جاءت موافقة و مناسبة لموردها ممّا قد يواجهه من الناس، و ليست كلّ آية تناسب موردها، و في المقام يتطلّب المورد أن تكون الآية لدفع إنكار المعاندين و شبه المنافقين و إظهار المنزلة و الكرامة للنبيّ و المولود الجديد، و أحسن شيء يتحقّق فيه هو الإرجاع إلى البديهيّة و الحسّ و الوجدان، و السكوت على تلك الشبهات التي لا يكون ردّها و التعرّض لها إلا من المغالطة و المحاجّة، التي يجلّ عنها مقام العقلاء فضلا عن الأنبياء، و هذا ظاهر لمن تأمّل في هذه الآية التي تحقّقت بالنسبة إلى عيسى و امه مريم العذراء عليهما السّلام من شبهات لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم الصدّيقة، و يمكن أن يستفاد ذلك من اضافة الآية إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: آيَتُكَ، أي الآية التي تناسب حالك و مقامك.
قوله تعالى: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.
مادة (رمز) تأتي بمعنى التحرّك، و الرمز هو الافهام بتحرك شيء، سواء كان بالرأس أم اليد أو العين أو غيرها، و قيل هو مختصّ بالشفة، و لم يدلّ دليل على التخصيص. و الاستثناء منقطع.
و المراد بثلاثة أيام مع لياليها، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 10]، و كلتا الآيتين قرينة على استمرار مدّة الرمز و تواليها.
و المعنى: أنه لا تتكلّم مع الناس في ردّ مقالاتهم في هذا الموضوع إلا إشارة باليد أو الرأس أو نحو ذلك، و هذا أعظم شيء لتسكيت خطاب الجاهلين عند تعرّضهم للمخاطبة.
قوله تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ.
العشي و الإبكار طرفا النهار، أي: و اذكر ربك باللسان و القول كثيرا، و أدم على صلواتك في أطراف النهار.