۲٦۱- قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
المثل: تبين أحد الشيئين بالآخر لما بينهما من المشابهة و المناسبة، و في الحديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل» أي الأشبه بهم من حيث الشرف و علو المرتبة أو المنزلة.
و أصل الكلمة من المثول: و هو القيام، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار» أي يقومون له.
و الأمثال قديمة و معروفة عند العرب، و كلمات الفصحاء و الفلسفة العلمية و العملية مشحونة بالأمثال، و لها من الفوائد و الآثار الكبيرة في تنشيط الذهن و توضيح المراد و تأكيد المطلوب، و الترغيب، و التحريض، و الإنذار، و التخويف و التذكير ما هو معلوم في المحاورات، و قد كثر ضرب الأمثال في القرآن الكريم قال تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر- 21]، و قال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ [الروم- ٥۸].
و سبيل اللّه: كلّ ما فيه رضاء الرّحمن و أوجب كمال الإنسان و التباعد عن الشيطان، و سبل اللّه كثيرة و متعددة و لا تنحصر في جهة خاصة و أمر خاص، و هو يجتمع مع كلّ أمر ما لم يكن نهي شرعي في البين فهو الكمال الفعلي الدائمي القابل للنمو و التعالي و فيه يقول عزّ و جلّ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ و هو روح العمل و السرّ في بقائه و دوامه بل هو شعاع من عالم الغيب على القلوب المنزّهة عن الشك و الريب، و هو الجذبة الروحانية التي تحيط بالعبد إذا تحققت الشرائط التي منها الوقوف عند الشريعة المقدّسة و العكوف على حدودها و العمل بأحكامها و هو الذي إذا حصل جعل العمل مباركا و إذا فقد كان العمل فاسدا و السّعي ضلالا و التجارة خاسرة خسرانا مبينا.
و المعنى: إنّ المثل الذي يضرب لمن ينفق في سبيل اللّه في جزائهم المضاعف يكون كما ذكره تعالى.
قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ.
الحبة- بالفتح- واحدة الحب اسم جنس لكلّ ما يقتاته الإنسان و الطّير و غيرهما من الحنطة و الشعير و نحوهما من المطعومات و بزور الرياحين قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى [الأنعام- ۹٥].
و الحبة- بكسر الحاء- بذور البقول مما لا يكون قوتا و في الحديث: «فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» و هو ما يحمله من الغثاء و الطين.
و السنابل جمع سنبلة على وزن فنعلة: و هي ما علا الزرع من الحب أي: مثل الذي ينفق في سبيل اللّه في الجزاء المضاعف الكبير كمثل تلك الحبة التي زرعت في أرض خصبة فأنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة و قد أسند الفعل (أنبتت) إلى بعض الأسباب.
و الممثل به من الأمور المتحققة في الخارج و إن كان قليلا و ليس هو فرضا موهوما كما يدعيه بعض المفسرين.
و إنّما أتى سبحانه و تعالى بجمع الكثرة في «سبع سنابل» مع أنّ القاعدة تقتضي الإتيان بجمع القلّة في التمييز. كما في قوله تعالى: وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ [يوسف- 43]، لبيان إثبات الكثرة في كلّ ما يمكن أن يتوهم في المقام فأتى بالعدد ثم بالجمع ثم بالكثرة ثم بالضعف.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ.
أي: و اللّه يزيد زيادة كثيرة لا حدّ لها لمن يشاء من خلقه كما في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة- ۲٤٥].
و المضاعفة أعم من أن تكون في الكمية أو الكيفية أو هما معا مثل ما أنفقه المنفق أو من غير مثله، و تختلف اختلافا كثيرا بحسب الأفراد و الخصوصيات.
و ذكر بعض المفسرين أنّ هذه المضاعفة محدودة بسبعمائة. و هو مردود لأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة و تحديد في جوده و كرمه، و إنّما يضاعف بحسب درجات الإخلاص في العمل و الإقبال على الخير فإنّه الجواد الذي لا نهاية لجوده، و الغني المطلق الذي لا ينقصه البذل و العطاء كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد- 10]، و قد يضاعف الجزاء بغير حساب قال تبارك و تعالى: وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [البقرة- 212].
و يصح أن يراد بالعدد- أي السبعمائة- أنّه مقتضى لطف اللّه تعالى و عنايته على نحو الاقتضاء لو لم تكن موانع تمنع عن البركات و توجب النقص و الحرمان.
و لم يبيّن سبحانه و تعالى صفة من يضاعف له في هذه الآية الشريفة و إنّما ذكرها على الإجمال في آية أخرى، قال عزّ و جلّ: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [الأعراف- ۹٦]، مع أنّ ذلك من أسرار القضاء و القدر التي لا يحيط بها غيره، كما أنّه لم يقيّد عزّ و جلّ الجزاء بالدنيا أو الآخرة فهو يشملهما، و هذا هو مقتضى سعة رحمته وجوده أيضا، فإنّه يقبل اليسير و يعفو عن الكثير.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
الواسع بالنسبة إليه تعالى يراد به عدم الحد لقدرته، و علمه، و رحمته، وجوده، و غيرها من الصّفات العليا.
أي: إنّ اللّه تعالى واسع في رحمته وجوده و جزائه لا يحده شيء و لا يغلبه أمر، عليم بالأعمال و النيات و من يستحق الجزاء الأوفى.
۲٦۲- قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
تقدم الكلام في ذلك، و مقتضى الإطلاق شمول الإنفاق لكل أعمال الخير، فلا يختص بخصوص مورد معيّن، و سبيل اللّه عام يشمل كل سبل الخير الموصلة إلى مرضاته كما عرفت، فتتصف جميع الأفعال المباحة إذا أضيفت إليه تعالى بكونها من سبيل اللّه تعالى لأنّ سبيله كرحمته لا حدّ لكلّ واحد منهما بلا فرق بين أن تكون مع العوض أو بدونه فالاتجار بالمال إذا كان بقصد أن يعود به على نفسه أو أهله و أراد به وجه اللّه تعالى فهو من سبيل اللّه، و كذا التزويج إذا كان بقصد رضاء اللّه فهو من سبيله عزّ و جل، فهو يجتمع مع كلّ شيء إذا لم يكن منهيّا عنه شرعا، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «و لتكن لك في كلّ شيء نية» أي نية القربة للّه تعالى.
و الإنفاق في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته هو السبب التام في نموّ العمل و زيادة الأجر و الثواب فلو لم يكن الإنفاق في سبيل اللّه و لم يقصد به وجه اللّه و كان لغرض خاص و لو كان نبيلا فإنّما يكون شخصيّا عائدا إلى شخص المنفق و لم يتعدّاه و ربما يستلزم آثارا جانبية تؤثر على المنفق و المنفق عليه أو المجتمع فيكون وبالا عليه.
و المال كلّ ما تميل إليه النفس، فيشمل إنفاق الأعيان و المنافع بل الانتفاعات.
قوله تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً.
الإتباع: اللحوق و الإلحاق. و المنّ، و المنّة: بمعنى النعمة الثقيلة العظيمة و عظم النعمة و ثقلها تارة: تكونان بحسب الذات و أخرى بالقول كأن يقول لمن أعطاه ألم أعطك أو تثقيل النعمة و تعظيمها و إكبارها و ثالثة: بالفعل كأن يتطاول المعطي على من أعطاه.
و الأولى: إذا كانت النعمة ممن اتصف بالجود و العظمة و الكبرياء حسن و هي من صفات اللّه تعالى و من أسمائه الحسنى المقدّسة «المنان» و قد وردت مشتقات هذه المادة في القرآن الكريم في موارد كثيرة، و لعلّ من أعذبها و أعظمها قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص- ٥]، و قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران- ۱٦٤].
و الثانية و الثالثة: مذمومتان و هما من مساوئ الأخلاق، و في الدعوات المأثورة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) الاستعاذة باللّه العظيم من المنّ على الغير، ففي الصحيفة الملكوتية السجادية «و أجر للناس عليّ الخير و لا تمحقه بالمن».
و الأصل في معناه: القطع كأنّ المعطي بالمنّ يقطع الصلة بينه و بين عمله و يمحقه.
و الأذى: كلّ ما يصيب الإنسان من ضرر و مكروه سواء كان جسمانيا أو معنويا، و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.
و المعنى: الذين ينفقون أموالهم و يبذلونها يقصدون بذلك وجه اللّه و يطلبون مرضاته و لا يلحقون إنفاقهم المنّ على من أحسنوا و لا يتبعونه الأذى بهم لهم عند ربّهم الأجر الجزيل.
و يستفاد من هذه الآية الشريفة: أنّ شرط ترتب الثواب أمور ثلاثة: قصد وجه اللّه تعالى، و كونه في سبيله عزّ و جلّ، و ترك المنّ و الأذى.
و إنّما كرر «لا» في الآية المباركة لبيان أنّ كلّ واحد من الأمرين منهيّ عنه و يوجب الإحباط و عدم استحقاق الأجر الجزيل، و يدل عليه قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى [البقرة- ۲٦٤].
و إنّما عبّر عزّ و جلّ ب «ثم» للدلالة على أنّ الإنفاق الذي غلب فيه مرضاة اللّه تعالى إذا تعقبه المنّ أو الأذى أوجب حبطه فكيف إذا كان الإنفاق متصفا بأحدهما أو كليهما حين صدوره فإنّه لا يكون في سبيل اللّه، و لا يدخل المنفق فيمن أنفق أمواله في سبيل اللّه و لم يسلك في زمرة السالكين في مرضاة اللّه تعالى و لا يعتد به و بإنفاقه.
و الآية الشريفة ترشدنا إلى خلق كريم من مكارم الأخلاق التي أمرنا بالاتصاف بها، و في هذه الخصلة الحميدة تجتمع مصلحة النوع و مصلحة الفرد، و بمراعاته يتحقق التآلف بين أفراد الناس الغني و الفقير على حدّ سواء و هو يكشف عن حسن نية المنفق و عطفه و رأفته على الغبر و لم يطلب من إنفاقه سوى رضاء اللّه تعالى فلا يتفاضل الغنيّ على الفقير، بل يكون قبول الفقير لما أنفق عليه موجبا لدخول السرور على المنفق لأنّه أوجب دخوله في رضوان اللّه تعالى، و يشكر الفقير الغنيّ لأنّه الواسطة في فيض اللّه تعالى، و كذا كلّ إعانة تصدر من كلّ معين إلى المحتاج المستعين، فهو خلق كريم من ذوي النفوس القدسية و الهمم الرفيعة الأبية.
قوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الخوف: توقع الضرر و هو قابل للشدة و الضعف و غالبه يرجع إلى الاعتقاد، و هو قد يحصل عن مباد حقيقية كالخوف من عقاب اللّه تعالى و عظمته و قهاريته، و قد يكون عن مباد ظنية خيالية.
و الحزن- بسكون الوسط، أو بفتحتين- غمّ يحصل للنفس، و هو أيضا قابل للشدة و الضعف و له مباد واقعية و ظنية.
و الآية تبيّن أنّ الجزاء المضاعف للمتقين محفوظ عند اللّه تعالى، فيفيد الترغيب على الإنفاق، و يكون أهنأ للنفوس، و إنّما أضافهم إلى ربّهم تشريفا لهم و إعلاء لشأنهم و تعظيما لعملهم.
و المعنى: الذين يبذلون أموالهم في سبيل اللّه و يبتغون مرضاته و لا يتبعون إنفاقهم بالمنّ و لا بالأذى فإنّ لهم أجرهم الكبير محفوظا عند ربّهم و لا يصيبه الفناء و الزّوال و لا يصيبهم خوف عن أهوال القيامة و لا حزن عما يكون في المحشر.
و الآية الشريفة تبيّن حكما فطريا و هو أنّ الارتباط مع من لا نهاية لعظمته في الجمال و الجلال يوجب استكمال من يرتبط به فإنّ المضاف ربما يكتسب الشرف، و هذه الإضافة هي إضافة الإنفاق في سبيل اللّه تعالى الحاضر لدى المنفق و لا ريب في أنّ العبد يصل بها إلى أعلى درجات يمكن أن يصل إليه الممكن إن خلصت الإضافة عن المادة و اشتدت بالنسبة إلى اللّه تعالى.
۲٦۳- قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً.
المعروف اسم لكلّ ما يعترف العقل أو الشرع بحسنه فعلا كان أو قولا بخلاف المنكر، و المراد به في المقام الرد الجميل المستحسن.
و مادة (غفر) تأتي بمعنى الصّون عن الدنس، و بمعنى العفو عن العذاب، و المغفرة و الغفران مصدران أي: إنّ الرد الجميل بالقول و المجاملة مع السائل و الفقير بما لا يوجب كسر قلبه إذا لم يقترن سؤاله بما يسيء الأدب مع المسؤول عنه، و العفو و الإغماض عما يقترن بالسؤال أو الحال بما هو خلاف الواقع أو الإلحاح في السؤال بما لا ينبغي الإلحاح فيه لغير اللّه جلّ جلاله، أو الحلف بالمقدّسات الدينية في شيء يسير من الدنيا الدنية أو الإساءة في السؤال أو زمانه أو مكانه، أو الإزعاج و نحو ذلك مما يكبر على النفوس، فإنّ الرد كذلك من غير عطاء خير عند اللّه تعالى من صدقة يتبعها أذى.
و من مقابلة الأذية للقول المعروف و المغفرة يعرف أنّها سوء المقال أو سوء المقابلة.
و الآية الشريفة باختصارها تبيّن جملة من مكارم الأخلاق الاجتماعية و ترشد الإنسان إلى ما هو الخير له في أفعاله و أقواله دون ما يعتقده خيرا مهما عظم في عينه و هو في الواقع ليس بخير، و تبيّن قبح المنة على الخلق و التأكيد على الابتعاد عن هذه الرذيلة فإنّ آثار السيئات و مفاسد الأخلاق تبقى و لا تفنى حتّى تظهر في هذه الدنيا، و تنقلب من العرض إلى الجوهر في العقبى، و في بعض الأحاديث إنّها تظهر في النسل و لو بعد سبعين بطنا، و كذا آثار الحسنات، و ذلك من مكنون علم اللّه جلّ جلاله الذي لا يحيط به غيره، فكم من ذرية سادت بفعل الآباء و كم منها ذلت بطغيان الآباء و لا معنى للربوبية العظمى إلا هذا، و يرشد إلى ذلك القاعدة المعروفة «كما تدين تدان» التي قرّرتها الشريعة.
و بالجملة إنّ هذه الآية ترشدنا إلى أهم الأحكام الاجتماعية التي لوحظ فيها المصلحة الفردية و المصلحة العامة فإنّ قول المعروف و المغفرة من الآداب العامة التي تبتهج بها النفوس و تميل إليها القلوب و تحث على العمل و تبعث العزيمة على البذل و توجب نمو الإنفاق و الزيادة، و هذا معنى الخيرية فيهما دون الأذى فإنّه من موانع القبول و من مثبطات العمل و موهنات العزائم تجلب البغضاء بين الأفراد.
و قد وردت في القول المعروف الذي يرد به السائل و المغفرة عن إسائته روايات كثيرة منها ما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار و لين إما ببذل يسير، أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس و لا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللّه تعالى» و يدل على صحة ما ورد في هذه الآية الشريفة قصص و حكايات تكفي واحدة منها للعبرة و الاعتبار لمن كان من ذوي البصيرة و الرشاد و نعم ما قيل: لا تهيننّ الفقير علّك أن تركع يوما و الدهر قد رفعه.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
الغني و الحليم من الأسماء الحسنى للّه جلّ جلاله، و كلّ منهما من أسماء الذات الحقيقية.
و الأول: عام بالنسبة إلى جميع جهات الكمال فلا يختص بشيء و يمكن إرجاعه إلى نفي الإمكان و في بعض الدعوات المأثورة «يا من يستغني من كلّ شيء و لا يغني عنه شيء» فهو تعالى غنيّ ملكا و علما و قدرة و حكمة و تدبيرا إلى غير ذلك من صفات الجلال و الجمال.
و أصل الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغصب و يطلق على غير اللّه تعالى قال جلّت عظمته: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة- ۱۱٤].
و إذا اطلق عليه تعالى يراد عدم التعجيل في عقوبة العصاة، لأنّه لا يستخفّه شيء من عصيان العباد و لا يستفزّه الغضب عليهم.
و في تعقيب الآية الشريفة بهذين الاسمين الشريفين للدلالة على أنّه غنيّ بالذات- و ما سواه يرجع إليه و لا يعظم عليه ما أنعم على عباده- فلا يطلب صدقة يتبعها أذىّ لعباد اللّه أو أنّ جزاء الصدقة يرجع إليهم فإنّه مع غناه يستقرض من عباده الصدقة لأجل مصالحهم و تطهير نفوسهم يغني من يشاء من عباده فهو الجواد و لا يبخل عن شيء حليم لا يعجل في عقوبة المسيء إليه، ففيها دلالة على لزوم التخلق بأخلاقه سبحانه و تعالى في إعطاء الصدقة.
و في الآية الشريفة تسلية للفقراء عما يكابدون من الفقر، و إرشاد للأغنياء إلى نبذ الانتقام و التحلّي بالعفو و المغفرة.
۲٦٤- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى.
أي: لا تحبطوا صدقاتكم بالمنّ و الأذى فإنّ رذيلة المنّ و الأذى و مفسدتهما تذهبان فضيلة الإنفاق و تهدمان الغاية الشريفة منه.
و في الآية التأكيد على الابتعاد عن هاتين الرذيلتين، و المبالغة في التنفير عنهما و الحث على تركهما.
قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ.
أي: إنّ المتصدق الذي يتبع صدقته بالمنّ و الأذى كالمرائي الذي تكون أعماله باطلة.
و الرثاء و الرياء و المراءاة بمعنى واحد و هو العمل لأجل إراءة الغير مباهيا به فيكون عمل المرائي و عمل ذي المنّ و الأذى مشتركين في عدم القبول و عدم الصحة، و إنّما الفرق بينهما أنّ عمل المانّ و المؤذي يقع صحيحا ثم يعرض عليه البطلان بخلاف عمل المرائي فإنّه باطل من حينه.
قوله تعالى: وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: إنّ المرائي إنّما يعمل لأجل أن يراه الناس و لا يعمل ابتغاء مرضاة اللّه و رجاء ثوابه و الخشية من عقابه.
و يستفاد من هذه الآية المباركة: أنّ الرياء في العمل يستلزم عدم الإيمان بالذي يدعو إلى العمل لليوم الآخر الذي يتجلّى فيه جزاء الأعمال، و من حيث عدم كون المرائي مؤمنا لم يعلّق النهي في الآية على الرياء كما علّق النهي على المنّ و الأذى باعتبار كون الخطاب للمؤمنين و المرائي غير مؤمن و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا اللّه في الرياء فإنّه الشرك باللّه، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر حبط عملك و بطل أجرك فلا خلاص لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».
قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً.
المثل مضروب للمرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس. و الصفوان (و الصّفا): الحجر الأملس و جمعه صفيّ و قيل: إنّه جمع واحده صفوانة كسعدان و سعدانة، و مرجان و مرجانة.
و الوابل: المطر الشديد، و الصّلد: الحجر الذي لا ينبت فيه شيء لصلابته.
و المعنى: إنّ مثل المرائي في إنفاقه المنافق في عمله مثل ذلك الحجر الصلب الذي عليه التراب فإذا أصابه المطر الغزير أزال عنه ذلك التراب و جعله أملس ليس عليه شيء، فتكون حقيقة المرائي كالحجر الصّلد الذي لا ينفعه كلّ ما هو سبب للحياة من المطر و التراب كذلك المرائي لا تنفعه الأعمال الصالحة و الطاعات التي يتقرّب بها إلى اللّه تعالى و تجلب السعادة له فيكون بفعله قد سلب الاستعداد عن نفسه، و الا فإنّ الإنفاق في سبيل اللّه من الأسباب التي تجلب السعادة في الدارين و لكنّه رائى في فعله فسلب القابلية عن فعله.
و حقيقة هذا المثل إنّما هي شرح ما تكون عليه الدنيا و الآخرة فإنّ الأولى هي دار كون و فساد، و تبدّل و انقضاء و انصرام، و برق خاطف يبرق ثم يذهب، لذتها حليف الألم، و فرحها أليف الحزن و السقم، بخلاف الثانية فإنّها دائمة بدوام الحيّ القيوم نعيمها لا يفنى و بركاتها لا تتناهى، و الإنسان مخيّر بينهما فإن اختار الدنيا فبئس الحليف و إن اختار الآخرة فنعم القرار و نعم المعين، و لو دل مخلوق مخلوقا آخر على مثل ما أرشدنا اللّه جلّ جلاله من كشف الحقائق و بيان الدقائق لاستحق التعظيم و التجليل، فكيف بما إذا أرشدنا اللّه تعالى إليه العالم بحقائق الأشياء و الخالق للسّموات و الأرض و ما فيهما.
قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا.
الضمير في لا يقدرون راجع إلى من ينفق ماله رئاء الناس، لأنّه في معنى الجمع و الجملة بيان لوجه الشّبه بين المشبّه و المشبّه به أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم لا في الدنيا و لا في الآخرة فلا يقدرون على شيء من أعيان أموالهم التي أنفقوها و لا على شيء من الأجر و الثواب فقد أبطلوا أعمالهم بالرياء فذهبت الأعيان و بقيت الحسرات.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
الآية الشريفة في موضع التعليل: أي: إنّ المرائي كافر، و اللّه لا يهدي القوم الكافرين.
و من الآية المباركة يستفاد أنّ شرط قبول العمل هو الإخلاص فيه للّه تعالى. و أنّ الرياء من الموبقات التي تهدم الأعمال و تجلب الشقاء و تزيل الآثار.
۲٦٥- قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
الإنفاق: العطاء. و ابتغاء منصوب على المصدر، و تثبيتا عطف عليه، و الجار و المجرور مفعول لتثبيت.
و قيل: إنّ «من» نشوية، و أنفسهم في معنى الفاعل و (ما) في معنى المفعول مقدّر و تثبيتا منصوب على التمييز و هناك وجوه أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في محالّها.
و مرضاة مصدر من رضى يرضى، و ابتغاء مرضاة اللّه أي: طلب ما فيه رضاء اللّه تعالى، و إنّ رضاه ثوابه و سخطه عقابه، و في الدعاء المأثور: «أللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، و بمعافاتك من عقوبتك، و أعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» و الرضاء و السخط من صفات الفعل لا من صفات الذات إلا إذا رجعا إلى علمه.
و تثبيتا من أنفسهم أي: بقوة اليقين و اطمينان القلب بأنّهم يجدون ضعف ما أنفقوا و يمكنون أنفسهم من طاعة اللّه تعالى.
و المعنى: إنّ الذين يبذلون أموالهم يطلبون بذلك مرضاة اللّه تعالى بجدّ و اهتمام من دون تقصير منهم فيه و يحصل ذلك بعزيمة ثابتة في أنفسهم من دون أن يعترضهم و هن و لا يتخلّل غير مرضاته تعالى في البين بوجه من الوجوه لا منّا و لا أذى و لا رياء و نحو ذلك من الخطرات القلبية و الحركات الخارجية التي تنافي الخلوص. و إنّ غاية مراتب الخلوص و الإخلاص هي أن لا يكون شيء سوى مرضاة اللّه، لأنّ مرضاته غير محدودة بحدّ خاص إلا بالأمر العدمي أي عدم إذنه فيه.
قوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ.
الجنة: البستان الكثير الشجر، لأنّها تجنّه أي: تستره، و الربوة- مثلّث الفاء-: المحلّ المرتفع، و الطلّ: صغار المطر، و الأكل- بالضم- جمع أكلة: ما يؤكل من الشيء.
و إنّما شبّه سبحانه و تعالى بالجنة التي فوق الأرض المرتفعة لأنّها أزكى ثمارا و أعظم نماء و أنقى هواء و أبهج منظرا و أبعد عمّا يضر بالأشجار من المياه العفنة و فساد المستنقعات، فإذا أصاب هذه الجنة المطر الغزير كانت أسرع نموّا، و أحسن تنمية و أكثر ثمرا مثلا ما تكون في سائر الجنان و أجودها، و كذا لو أصابها مطر ضعيف فإنّ الأثر فيها كذلك لكرم منبتها وجودة مغرسها، و حسن موقعها.
و الغرض من المثل بيان أنّ الأثر يترتب على الإنفاق في مرضاة اللّه تعالى من دون أن يتخلّف كمثل الجنة التي فوق الأرض المرتفعة إذا أصابها المطر فإنّه يجنى ثمارها بأحسن وجه كذلك الإنفاق في مرضاة اللّه تعالى فإنّ آثاره حسنة لاتصاله باللّه تعالى فتشمل عنايته له و قبوله عزّ و جل له بأحسن قبول و خيره دائم و بره أبدي لا يزول و إن كان مختلفا باختلاف مراتب الخلوص و الإخلاص، و لكن أصل الإنفاق محبوب لديه لكونه في مرضاة اللّه تعالى و خلوصه عما يشينه و يفسده.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: و اللّه يعلم نيات عباده و مراتب إنفاقهم بصير بأفعالهم فهو يجازي كلّ فرد حسب مراتب الخلوص و الإخلاص لا يشتبه عليه أمرهم، و فيه تأكيد على اختلاف مراتب الثواب تبعا لاختلاف مراتب النيات، و تحذير للمنفقين من الرياء و النوايا الباطلة فإنّ اللّه بها عليم.
و في هذه الآية الشريفة كمال الاهتمام بأمر الإنفاق و شدة العطف بالمنفقين، تبتهج إليها النفوس، و تشعر بالطمأنينة و الراحة حين الإنفاق الصحيح الذي ينبغي اتباعه في هذا الأمر العظيم الذي قلّما يخلو من شوائب المادة و الأوهام الفاسدة.
۲٦٦- قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
هذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لمن ينفق ثم يتبعه بما يفسده و يحبطه.
و الآية الشريفة تمثل حقيقة الأعمال و النيات بكلمات يتلألأ منها النور كأشعة الشمس في ظلماء الديجور تبتهج لها القلوب الواعية و تلتذ منها الآذان السامعة ترشد الإنسان إلى الحقيقة و الواقع و تهديه إلى ما هو الأرشد و الأصلح، و تبيّن تأثير الأفاعيل المفسدة و النيات الباطلة في النفوس و الأعمال، و تحثه على التفكر و التمييز بين النافع و الضار.
و الود: المحبة، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا، و الودود من أسماء اللّه الحسنى، فإنّه الغفور الودود، و يصح إضافته إلى اللّه تعالى و إلى خلقه.
و الاستفهام لإنكار وقوع ود الإنسان لما ذكر في الآية الشريفة و كيف يود ذلك؟!!.
و النخيل جمع نخل أو اسم جمع يذكر و يؤنث و هو شجر التمر و الأعناب جمع عنب و هو ثمر الكرم، و إنّما خصّهما بالذكر لجمال منظرهما و كثرة نفعهما و «من» تكون بيانية، تبيّن أنّ الغالب في الجنة هو النّخل و الكرم و فيها أيضا من كلّ الثمرات.
و قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كناية عن وفور المياه و كثرة الأشجار و التفاف أغصانها بحيث تكون الجنة ذات بهجة و سرور دائمة السقي و النضارة و الأثمار.
و الكبر هو الشيخوخة، و الذرية الأولاد، و الضعفاء جمع الضعيف و الإعصار ريح شديدة تنبعث من الأرض نحو السّماء عموديا تسمّيه العامة (الزوبعة).
و المثل يبيّن شدة الاحتياج و غاية الانقطاع، و منتهى الأمل و الرجاء فإنّ الإنسان إذا كبر و شاخ احتاج إلى غيره في رفع نوائبه و قضاء حوائجه و ليس له غير تلك الجنة التي قد عقد عليها آماله و يرتجى منها كلّ شيء و له من الذرية الضعفاء الذين لا يقدرون على العمل و لا يستطيعون الكسب و القيام بأيّ شأن من الشؤون فهم عالة عليه ففي مثل هذه الحالة يأتي على جنته الإعصار فيحرقها و يبدد آماله و ينقطع رجاؤه فلا يقدر هو و ذريته على شيء.
و قد جمع سبحانه في هذه الآية الشريفة جميع ما يوجب الانقطاع و الحاجة، و انعدام المعين و الناصر، و الأمل الكبير، فلو كان صاحب الجنّة شابا أو شيخا وحيدا ليس له ذرية أو كان معه ذرية أقوياء يمكنهم القيام بشؤونهم لما أفاد ذلك تلك الصورة التي تحصل من الآية الشريفة.
و وجه التمثيل أنّ الذي ينفق أمواله يعقد عليه آماله في الحصول على ما يترتب عليه من الآثار في الدنيا و الآخرة فإذا عقّب إنفاقه المنّ أو الأذى أو سائر ما يوجب حبطه فإنّها تحرقه و يذهب هدرا لا يجني منه شيئا مع شدة احتياجه إلى ثمراته.
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ.
أي: كذلك يرشدنا اللّه تعالى إلى كشف الحقائق و بيان الدقائق.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
رجى منهم التفكر في حالهم لأنّ الإنسان قرين الشهوات و الأوهام لا تدع فيه مجالا للتفكر و الرجوع إلى الرشد فلا بد من تثبيت النفس و العزيمة عند العمل و الإخلاص للّه تعالى.
و هذه الآية المباركة تبيّن حقيقة ما عليه الدنيا و الآخرة فإنّ الأولى تكون زائلة فانية يعتريها الفساد و التبدل و الانقضاء و الانصراف فهي كبرق خاطف أليف الهم و الغم بخلاف الثانية فإنّها دار أنس و مقام لا يفنى نعيمها و لا تنعدم بركاتها و لا بد من التأمل و التفكر فيما يؤول إليه الإنسان و التبصر في الأمور، و الاعتبار من الدنيا و ما فيها ليفوز بالسعادة في الدارين.
۲٦۷- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
الآية المباركة تبيّن نوع المال المنفق به و أوصافه فاعتبر سبحانه أن يكون من الطيبات التي يرغب إليها الناس و تستلذها النفس لا أن يكون من الخبيث الذي يتنفر منه الطبع و يستكرهه الإنسان، و هذا و إن كان وصفا للمال في المقام و لكنّ الآية تربط ذلك بالجانب الأخلاقي فتجعله من مكارم الأخلاق، و هذا هو دأب القرآن الكريم إذا أراد التأكيد على أمر و الاهتمام به و تهذيب النفس و ترويضها على التحلّي بمكارم الأخلاق، فإنّ الإنفاق من الطيّب أمر مرغوب فيه عند العقل و العقلاء و الآية الشريفة ترشد إلى هذا الأمر العقلي، و يجهد كلّ فرد في تحصيل الطيبات و الاحتفاظ بها و اللّه تعالى أمرنا بالإنفاق من هذه الطيبات دفعا لرذيلة الشح الكامن في النفس الإنسانية و الاجتناب عن اللؤم و الخساسة و هو الكمال الذي يطلبه الإنسان في جهده و عمله.
و من هنا يظهر الجانب الأخلاقي في هذا الحكم الإلهي.
و الطيّب معروف و هو يعرف تارة: بالمعنى الثبوتي أي ما تستلذه النفس و الحواس، و أخرى: بالمعنى العدمي أي ما ليست فيه منقصة أو غير الرديء، و له مراتب كثيرة تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، كما أنّ له استعمالات متعدّدة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و يستعمل في الجواهر و الأعراض و الذوات، و لكن لم أجد- في ما تفحصت عاجلا- إطلاق لفظ الطيّب على اللّه جلّ جلاله، و لعلّ الوجه في ذلك استعماله في الجسمانيات، و هو تعالى منزه عنها.
و ما كسبتم أي: ما حصل لكم من الأموال بسبب التجارة و غيرها و ما أخرجه اللّه تعالى من الأرض من النبات و المعادن و نحوهما.
قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ.
التيمم: هو القصد إلى الشيء و عمده و لم يستعمل لفظ التيمم في القرآن الكريم إلا في ثلاثة موارد أحدها المقام، و الآخران في الطهور بالصّعيد قال تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة- ٦].
و مادة خبث تأتي بمعنى الرديء المنفور، و الخبيث مقابل الطيّب و هو يعم الجواهر و الأعراض و الذوات قال تعالى: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم- ۲٦]، فيستعمل في الاعتقاد أيضا قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران- 179]، و في الدعوات المأثورة «أعوذ باللّه من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» فالمادتان في الخبيث و الطيّب متقابلتان في جميع المراحل و الصور و العوالم، و في أية نشأة وجدتا، و يرجع ذلك إما إلى اختلاف الذوات أو إلى تقدير العزيز العليم، لكن على نحو الاقتضاء لا العلية التامة كما ذكرنا مرارا.
و المعنى: لا تقصدوا الرديء المنفور مما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض فتخصّوه بالإنفاق و تعرضوا عن الطيّب.
قوله تعالى: وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ.
الواو للحال، و الجملة حال عن فاعل تنفقون، و العامل فيه الفعل، و أن في موضع النصب.
و الآية المباركة ترجع الموضوع إلى وجدان المنفقين لتوضيح الأمر و رفع المغالطة في مصاديق الخبيث و لتثبيت الحكم و التحريض على ترك ذلك و التوبيخ لمن يفعله.
و مادة (غمض) تأتي بمعنى وضع أحد الجفنين على الآخر، و تستعمل في التغافل و التساهل أيضا و في الحديث: «أصبت مالا و أغمضت في مطالبه» أي: تساهلت في حلاله و حرامه- كما هو عادة أهل هذا الزمان- و لم تستعمل هذه المادة في القرآن العظيم الا في هذه الموارد.
و المعنى: إنّكم لا تأخذون الخبيث و لا ترضون به لأنفسكم الا أن تتغافلوا عن خبثه و تتساهلوا في رداءته و هذا ليس من الأخلاق الكريمة و الإنسان بإعطائه لا يتصف بالجود و السخاء كما أنّه ليس كمالا أن يأخذ الشيء الرديء فإنّه ليس من المعروف المحبب.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أي: و اللّه غنيّ منزه عن النقائص محمود على أفعاله و آلائه فلا ينبغي أن تتقربوا إليه بالخبيث.
و في الآية المباركة تحذير عن أن يدنس ما يراد به وجه اللّه جلّ جلاله بالمعايب الظاهرية و النقائص الواقعية. و يقصد به ما يتنزل عن مقام الأحدية المطلقة، فكما أنّ الذات المقدّسة و أفعاله المباركة منزهتان عن شائبة النقص و الشرك لا بد أن يكون ما يقصد به وجهه الأقدس كذلك أيضا، فينبغي مراقبة النفس و الأفعال حينئذ.
۲٦۸- قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ.
الفقر: الحاجة و لكنّه يستعمل على أقسام.
الأول- الحاجة الضرورية الفعلية، و هي عامة لجميع الموجودات الممكنة لأنّ كلّ ممكن محتاج و كلّ محتاج ممكن قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر- ۱٥]، و قال تعالى في وصف الأنبياء: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء- 8].
الثاني: عدم المقتنيات و هو المراد بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ [التوبة- ٦۰]، و غيره من الآيات.
الثالث: فقر النفس الذي أشار إليه نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله: «كاد الفقر أن يكون كفرا» و هو في مقابل غناء النفس الذي هو من أجلّ الصّفات و أكملها.
الرابع: الفقر إلى اللّه تعالى و هو أرفع المقامات و أعلى الدّرجات فعن سيد الأنبياء في كلمته المباركة التي جمعت فيها أبواب من المعارف «اللهم اغنني بالافتقار إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك و يعجبني فقري إليك و لم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر».
و الفقر الذي يعد به الشيطان: هو فقر النفس فيكون الفقر في الدنيا و للدنيا و هو من أقبح الذمائم و مصدر كلّ فحشاء و سوء.
و الفحشاء صفة كالسوداء و الحمراء، و الفحش و الفواحش و الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال، و لم يرد لفظ الفحش في القرآن الكريم، و لعلّه لأجل عظمة قبح هذه المادة لم يبق لها مفردا بذاته بل الفرد الواحد يشتمل على أنحاء من القبح من إيذائه الغير و بذاءة اللسان و قباحة الألفاظ و البيان فيشتمل كلّ فحش على فواحش لا محالة.
و الآية الشريفة تبيّن أهمّ المثبطات للإنفاق في سبيل اللّه تعالى و أكبر الموانع في وجه الخلوص و الإخلاص فيه، و تقيم الحجة على ما ذكر في الآية السابقة فإنّ اختيار الخبيث للإنفاق من تسويلات الشيطان و وساوسه و هو بإغوائه يحرم الإنسان من الفضل العظيم الذي يكون في إنفاق الطيبات.
كما أنّها ترشد الناس إلى حقيقة من الحقائق القرآنية و هي أنّ كلّ ما يوهن عزيمة الإنسان من الأوهام و التخيلات و الوساوس النفسانية يرجع إلى إغواء الشيطان سواء كان بواسطة أو بغيرها، و هي التي تؤكد رذيلة الشح الكامن في كلّ نفس و تورث البخل و الإمساك فتؤدي إلى انتهاك أوامر اللّه تعالى و مخالفتها، و ترجع أخيرا إلى نبذ ما أراده اللّه تعالى من المصالح في هذا الأمر الخطير المهم بالنسبة إلى الفرد و المجتمع فتختل سعادتهما المرجوة التي كتبها اللّه سبحانه لهما و تفشو الرذائل و الفحشاء، و لذا أكد سبحانه أنّ الشيطان الذي يغوي الإنسان بإلقاء خوف الفقر في نفسه و إظهار البخل و الإمساك و الحرص في الإنسان و هي من سفاسف الأخلاق التي تؤدي إلى ارتكاب الفحشاء التي يأمر بها الشيطان و الإغواء الذي يطلبه للإنسان، و هذا هو الضّلال المقابل للحق الذي أمر به اللّه سبحانه و تعالى فإنّه لا ثالث بينهما، و لذا عقب سبحانه ذلك بقوله: وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا لبيان أنّ هذا هو الحق الصالح و ترشدنا إلى ما هو الخير للإنسان دون ما يريده الشيطان.
و الشيطان- سواء كانت نونه أصلية أو زائدة من شاط- معروف في جميع الملل و الأديان و هو اسم لذلك المخلوق الناري الذي هو مثال لكلّ شرّ و رذيلة مهلكة و المعاصي الموبقة، و يطلق على كلّ غاو من الجن و الإنس و الحيوان، و له وجود جمعي و انبساطي مضل للإنسان كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع كثيرة منه قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [الإسراء- ٥۳]، و لكن بالعقل و جنوده يمكن إرغامه و التغلب عليه فهو و جنوده يضادان الشيطان و ينافيانه في جميع الشؤون و الحالات و هو في المنطقة السّفلى، و العقل و جنوده في المنطقة العليا و بينهما الخصام الشديد و النزاع الأكيد في جميع الأطوار و الحالات حتّى يفرّق اللّه تعالى بينهما بالموت، فإنّ الشيطان مرجوم في غير هذا العالم و ليس له سلطان فيه، و لذا كانت الدنيا سجن المؤمن و دار البلية و لا سجن أعظم و لا بلية أشد من الابتلاء بهذا الخبيث و سيأتي في الموضوع المناسب الكلام في الشيطان مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا.
الوعد من الإنشاء لا من الإخبار فلا يتصف بالصدق و الكذب بل يتصف بالوفاء به و عدمه و هو المراد بصدق الوعد و كذبه. و يستعمل في الخير و الشر و لكن الإيعاد يستعمل في الشرّ فقط.
و مادة (غفر) بمعنى صون اللباس عن الدنس و الوسخ قالوا: غفّر ثوبك في الوعاء و اصبغ ثوبك فإنّه أغفر للوسخ. و غفران اللّه و مغفرته للعبد هو صونه عن العذاب.
و الفضل الزيادة عن الاقتصاد، و يختلف في المدح و الذم باختلاف متعلّقه ففضل العلم و الحلم ممدوح، و فضل الغضب مذموم، و ما كان من اللّه تعالى فلا حدّ له.
و في ذكر وعد اللّه بالمغفرة و الفضل مقابل وعد الشيطان بالفقر و الفحشاء إرشاد إلى اختيار الإنسان ما هو الأصلح له.
و المعنى: إنّ اللّه تعالى يعد الإنسان الذي اختار الطيّب من أمواله لينفقها في سبيل اللّه المغفرة و غفران الذنوب و زيادة في الثواب و الدّرجات و منه يستفاد أنّ الإنفاق لا يخلو عن العوض.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: و اللّه واسع غير محدود بحد الإمكان مطلقا، عليم بجميع الأمور محيط بحقائق الأشياء و دقائقها فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فهو واسع يعطي عباده ما وعدهم به عليم لا يجهل أمورهم.
و الواسع من أسمائه المباركة الحسنى و هو كثير الاستعمال في القرآن الكريم موصوفا في مواضع بالعلم و في اخرى بالحكمة، و لم أجده فيه و في الدعوات المعتبرة مطلقا من غير وصف. نعم، ورد في الأسماء الحسنى «يا واسع» و لا بد من تقييده بما في القرآن و يمكن أن يجعل ذلك ردا لمن يقول بوحدة الوجود و الموجود.
إن قيل: إنّ السعة العلمية تستلزم السعة الذاتية أيضا لأنّ علمه تعالى عين ذاته.
يقال: أصل ذلك مبنيّ على وحدة الوجود و الموجود مطلقا، و الاشتراك الحقيقي مع التشكيك. و أما مع البينونة أي بينونة صفة لا بينونة عزلة فلا موضوع لهذه الإشكالات أصلا.
و سياق الآية الشريفة في المقام يدل على أنّ المراد سعة الفضل و المغفرة لكن على ما يقتضيه العلم و الحكمة لا مطلقا، فإنّه لا يليق به عزّ و جل، و قد شرح ذلك كلّه الأئمة الهداة (عليهم السلام) دفعا لهذه الشبهات.
۲٦۹- قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ.
الإيتاء: الإعطاء. و الحكمة وزان فعلة و مادة (حكم) تدل على المنع الخاص و هو الحاصل عن الإحكام و الإتقان. و الحكمة هي التي تمنع صاحبها عن القبائح و الرذائل اعتقادا و قولا و عملا على نحو تكون محكمة في النفس لا يصيبها ضعف و لا فتور غالبة على قوى النفس و الإرادة توجهها نحو الخير و السعادة و في الحديث: «ما من آدمي إلا و في رأسه حكمة إذا همّ بسيئة فإن شاء اللّه أن يقدعه بها قدعه» أي تمنع من هي في رأسه من السيئة بنحو الاقتضاء كما تمنع الحكمة الدابة.
و يوصف بها اللّه تعالى، فإنّ من أسمائه الحسنى (الحكم) و (الحكيم) و قد ورد في أكثر من تسعين موردا في القرآن الكريم مقرونا إما بالعزيز و العليم أو الخبير أو العليّ و لعلّ ذلك لملازمة حقيقتها فيه تعالى لتلك الصّفات فجيء بها تبيينا و إيضاحا، كما يوصف بها الإنسان قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لقمان- 12].
و إذا تتبعنا الموارد التي ذكر فيها الحكمة في القرآن الكريم نرى أنّها تذكر تارة مقرونة مع الكتاب قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ [البقرة- 129]. و اخرى بعد ورود جملة من الأحكام الشرعية التي نزلت لتهذيب الإنسان و سوقه إلى الكمال و السعادة كما في سورة الإسراء قال تعالى بعد سرد جملة كثيرة من التكاليف الإلهية و الأحكام الفطرية: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء- 39].
و يستفاد من ذلك: أنّ الحكمة هي تلك المطالب الحقة التي ترتسم في النفس و توجب التوفيق بين الاعتقاد و العمل و السوق إلى الكمال المنشود للإنسان، فتشمل جميع الحقائق الفطرية و الأحكام الشرعية و المعارف الحقة التي تتعلّق بالمبدإ و المعاد، و تشرح الحقائق المتعلقة بالنظام الأحسن من حيث ارتباطه بسعادة الإنسان و التي لا تقبل الكذب و البطلان، فتكون للحكمة مظاهر كثيرة متفاوتة فتارة تتجلّى في القرآن الكريم الذي هو مصدر كلّ ما يكون في العالم من أنواع الحكمة المتعالية و هي من أشعة هذا النور العظيم و شوارق ذلك النيّر المعظم، تأخر زمان وجودها أو تقدم لأنّ القرآن من اللوح المحفوظ، و هو محيط بهذا العالم، كما أنّ الكتب الإلهية من مظاهر هذا التجلّي الأعظم.
و من مظاهرها أيضا الدّين و معرفته و التفقه فيه فإنّ الدّين هو القانون المتكفل لجميع مطالب الإنسان من حين نشأته إلى ما بعد مماته
و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه آتاني من الحكمة مثل القرآن و ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الا كان خرابا ألا فتعلّموا و تفقهوا و لا تموتوا جهالا».
و من أجلّ أفراد الحكمة و أعظمها شأنا معرفة اللّه الواحد الأحد المتفرد الصمد. فهي بحسب المبدإ هو الجهد الأكيد في التصدّي لمرضاة اللّه الحكيم، و بحسب الغاية لذة روحانية مفاضة من الغيب العليم، و يلزم الإحاطة بحقائق الأشياء على قدر طاقة الإنسان و لأجل هذا تطلق الحكمة على تلك المعلومات الحقة الصادقة و يسمّى العارف بها حكيما إلهيّا أو متألها.
و بالجملة: هي الخير الكثير كما وصفها به عزّ و جل، و في الحديث: «إنّ في الجنة دارا- و وصفها ثم قال- لا ينزلها الا نبي أو صدّيق أو شهيد أو محكّم في نفسه».
و من الحكمة ما تكون فطرية إفاضية من عالم الغيب، و منها: ما تكون اكتسابية تكتسب بالمجاهدات و الرياضات الشرعية، و منها ما هو مركب منهما.
و من الحكماء من اجتمع جميع أنواع الحكمة فيه و هم رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه بكلّ معنى الصدق و الوفاء، فشرح اللّه صدورهم بكلّ معنى الانشراح، تشتاق إليهم الجنان العاليات و هذه هي إحدى مراتب الحكمة و قس عليها سواها.
و لكن للحكمة مرتبة خاصة محجوبة عن البصائر و الأفكار لا تليق الا لمن يقدر على تحمل الأسرار، و يشهد لما قلناه شواهد من العقل و الآثار و الأخبار، كما أنّها ليست منحصرة بالبحث و النظر و الفكر فقد تحصل للنفوس المستعدة من إفاضات الباري فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا رأيتم المؤمن سكوتا فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة» و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه».
و لكنّ الأصل في إفاضة جميع أفراد الحكمة و العرفان و مراتبها هو الإخلاص للّه جلّ جلاله فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه» و عن جمع من أكابر علماء النفس دعوى التجربة في ذلك، فتكون حقيقة الحكمة ارتباطا خاصا مع عالم الغيب و أما غيرها فهو فنّ و صناعة و هما شيء و الحكمة الواقعية شيء آخر.
نعم، الحكمة تارة تكون علمية و اخرى عملية و لا نهاية لمراتبهما اما الثانية فغايتها الرضوان و لقاء اللّه تعالى و لا نهاية لكلّ واحد منهما و أما الأولى فإنّ غايتها الاستلهام من الغيب و هو غير محدود، و التحديد إنّما يكون من الممكن المستفيض لا في المبدإ المفيض.
و قال بعض الأعاظم من الحكماء المتألهين: «إنّ غاية ما للإنسان من الكمال هو الاتصال بالعقل الفعال المسيطر على الملك و الملكوت تسيطر الروح على الجسد». و هذا صحيح إذا كان المراد بذلك روح القرآن و الشريعة الأحمدية المنبعثة عن الحقيقة المطلقة الأحدية لأنّ الإحاطة بالواقعيات صعبة جدّا إن لم تكن ممتنعة مهما بلغت فطنة العقول في الحدة و الذكاء و الدقة لا سيّما بالنسبة إلى المعارف و أسرار القضاء و القدر التي لا يمكن أن يحيط بها غير علّام الغيوب، و قد ورد النّهي عن الخوض في جملة منها و أنّه لا يزيد الخوض فيها إلا تحيّرا، فلا مناص للحكيم الا الوقوف على ظواهر الكتاب و السنة المقدّسة و هي تحتوي على معادن العلم و الحكمة و المعارف و ما يكفي لتكميل النفوس الناقصة و إيصالها إلى أوج الكمال و المعرفة و هي الحكمة الحقة التي تفيد لجميع النشآت قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام- 28]، أي الكتاب المشروح بالسنة أو السنة الشارحة للكتاب، و قال تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام- ٥۹]، و هو مصدر كلّ علم و معرفة هذا بالنسبة إلى الحكمة العلمية.
و أما الحكمة العملية فلا بد و أن تكون مطابقة للشريعة المقدسة الختمية و إلا كانت لغوا محضا.
ثم إنّه غلب استعمال الحكمة على الفلسفة المتوارثة عن اليونان و قد اصطلح على قدماء الفلاسفة بالحكماء و قسموهم إلى الإشراقيين و المشّائيين و الرّواقيين كما أنّهم قسموا الحكمة الاصطلاحية (الفلسفة) إلى علمية و عملية و الثانية عبارة عن علم الفقه و الأخلاق و قسموا الفقه إلى العبادات و المعاملات (أي العقود و الإيقاعات) و الأحكام و السياسات و أنّ بمعرفتها و العمل بها يصل الإنسان إلى مقام الإنسانية و الخروج عن حدود الحيوانية البهيمية و بذلك تتم المدينة الفاضلة التي خلق الإنسان لأجل ورودها و الاستكمال فيها.
و قسّمت الحكمة العلمية إلى قسمين: الإلهيات و الطبيعيات، و لكلّ واحد منهما فصول و أبواب، و قد جعل كلّ فصل من فصول الطبيعيات في العصر الحديث علما مستقلا برأسه.
كما أنّ من فصول الفلسفة الإلهية البحث عن كلام اللّه تعالى من حيث قدمه و حدوثه و كثر النقض و الإبرام فيه حتّى جعل ذلك علما مستقلا له أبواب كثيرة و فصول طويلة.
و لكن كلّ من نظر في الحكمة الاصطلاحية يرى أنّها كغبار على اللجين و لو فرض فيها شيء صحيح فهو مستلهم من الوحي المبين أو السنة المقدسة و غيره ليس الا من الأوهام و التخيلات و المغالطات و كلّ واحد منها حجاب عن الوصول إلى الواقع و لذلك كثر الخلاف و قلّ الوصول إلى المراد، و قد ذكرنا أنّ الحكمة بمعزل عن البطلان و التكذيب و منزّهة عن جميع ذلك، و إذا كانت الحكمة ما ذكروه فليست هي الا العلم بالمصطلحات فقط فهي كعلم اللغة مثلا و هي صنعة و فنّ لا تزيد على سائر الصنايع و الفنون بل ربما يكون بعضها أفضل منها كما هو المحسوس.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
يؤت مبني للمفعول مجزوم بأداة الشرط، و الحكمة مفعول ثان و إنّما أبهم تعالى الفاعل مع أنّه معلوم مما تقدم و هو اللّه تعالى لبيان أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالحكمة و الخير الكثير مقرونان فمن تلبس بها فقد حظي بالخير الكثير فلا يحتاج الانتساب إلى الفاعل في توصيفها به.
و توصيف الخير بالكثير لبيان أنّ الحكمة من جميع جهاتها خير كثير كما عرفت آنفا فيكون القيد توضيحيا و من مقومات ذاتها و يشهد لذلك ما نسب إلى عليّ (عليه السلام): «علّمني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب» و عن ابنه الصادق (عليه السلام): «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا».
و يستفاد من الآية الشريفة: أهمية الحكمة و عظيم منزلتها و شرافتها من وجوه:
الأول: ذكرها في سياق فضل اللّه تعالى و هو واسع عليم.
الثاني: تعليق إتيانها على من يشاء و هم خلّص عباده فيفهم من ذلك أن ليس لكلّ أحد الوصول إليها الا بعناية منه عزّ و جل.
الثالث: توصيفها بالخير الكثير.
الرابع: الحصر المستفاد من قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فإنّه يدل على أنّهم المتيقنون من مورد المشيئة لإفاضة الحكمة.
الخامس: ذكرها في القرآن الكريم مقرونا بالتجليل و التعظيم فتكون هذه الموهبة الربانية نصيب من أفنى جميع شؤونه الإمكانية في مرضاة ربه و صار قلبه متيّما بحبه و ولها في عظمته و لم يكن له بقاء الا منه تعالى و به عزّ و جل. و حينئذ تصير ذاته و نفسه حكمة جوهرية و أعماله حكمة عملية، و أفكاره حكمة علمية، و هم الذين ثبت الحق في ضمائرهم، و ازهق الباطل عن سرائرهم، و انقشعت عن بصائرهم سحائب الارتياب و عن قلوبهم أغشية المرية و الحجاب، ففازوا بالمحل الأعلى، و حازوا القدح المعلّى، و نظروا إلى جميع ما سوى اللّه تعالى بالنظرة الاولى، و حيث إنّ لهذا المقام مراتب كثيرة من الظهور، و كلّما كثرت مظاهر الشيء كثرت أسماؤه فقد تكون الحكمة القرآن الذي يعمل به و قد تكون السنة المقدسة و العمل بها، و العلم بحقايق الموجودات مع الالتفات إليها من حيث المبدأ و المنتهى.
و من ذلك يعلم أنّ مجرد العلم بلا عمل ليس من الحكمة في شيء كما عرفت.
قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
اللب: هو العقل الخالص أي: إنّ الحكمة لا ينالها الا من كان متذكرا و المتذكر لا يكون الا من كان ذا لب خالص عن شوائب الأوهام و الماديات.
و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ أجلّ مقامات العقل مقام تذكره عزّ و جل فينبعث منه العمل بما يرتضيه. و للتذكر مراتب و درجات و بحسبها تختلف درجات اللب فإنّ بعضها هو العقل و الإدراك و الشعور و الفكر.
270- قوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ.
(ما) موصولة تتضمن معنى الشرط و العائد ضمير محذوف يفسره مِنْ نَفَقَةٍ. و الآية عامة تشمل جميع أنحاء الإنفاق سواء كان قليلا أم كثيرا في الطاعة أم في المعصية، كان مع الإخلاص أم مع الرياء واجبا كان أو مندوبا.
قوله تعالى: أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ.
النذر: التزام بعمل للّه تعالى على نحو مخصوص و لا ينعقد النذر المشروع الا أن يقول: «للّه عليّ» و هو إما مطلق أو مشروط، من فعل أو ترك، و الفعل يشمل جميع الأفعال الراجحة، كما أنّ الترك يشمل جميع التروك الراجحة.
و بعبارة اخرى: يشترط أن يكون المنذور طاعة للّه تعالى سواء كان فعلا أو تركا.
و لا يختص النذر بالإسلام بل واقع في بقية الأديان و المذاهب قال تعالى حكاية عن مريم ابنة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم- ۲٦]، و قال تعالى حكاية عن امرأة عمران: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران- ۳٥]، و هذا أيضا عام يشمل جميع أنحاء النذر.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ.
جواب للشرط و الجملة خبر للموصول و الرابط الضمير في «يعلمه» و دخل عليها الفاء لأنّها وقعت جزاء للشرط، أي: إنّ اللّه يعلم أعمالكم و نياتكم فيثيب على الطاعة و يعاقب على المعصية، و يجازي على ما يستحق من الجزاء و لا يخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء.
و الآية مشتملة على الحث على الطاعة و الزجر عن المعصية و المخالفة ففيها وعد و وعيد و أكد الوعيد بقوله تعالى: وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
و إنّما عبّر عزّ و جل بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ دون سائر التعبيرات لأنّه إخبار عما هو حاصل بالضرورة و كائن لا محالة لأنّ علمه تعالى الأزليّ بجميع ما سواه كلية و جزئية يمتنع أن يزول، و أما غيره من القبول و الثواب فهما مترتبان على امور اخرى ربما لا تتحقق، فليس كلّ معلوم له تعالى مقبولا لديه.
قوله تعالى: وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
أي: إنّ الظّالمين في إنفاقهم و نذرهم بأن لا يكون في مرضاة اللّه تعالى ليس لهم أنصار ينصرونهم و لا معين لهم يستعان به سواء في الدنيا أو في الآخرة، فإنّ المال إنّما يقي الإنسان و يفتدى به عنه إذا كان صرفه و إنفاقه في سبيل اللّه تعالى و في مرضاته و الا كان هدرا و على المنفق حسرة، و أما الشفعاء فإنّما تنصر الإنسان إذا كان مرضيا عند اللّه تعالى و المنفق في غير مرضاة اللّه تعالى لم يكن كذلك و الآية المباركة نظير قوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر- 18].
كما أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإخلال في الإنفاق أو تركه من الظلم الذي لا يقبل التكفير لأنّه في حقوق الناس و هو لا يقبل التوبة و التكفير الا برد الحق إلى أهله.
و من ذلك يستفاد الوجه في إتيان الأنصار بصيغة الجمع، فإنّ جميع أفراد الأنصار منفية عن الظالم في حقوق الناس ما لم يرد الحق إلى صاحبه.
271- قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.
مادة (ب د ا) تأتي بمعنى ظهور الشيء ظهورا بينا، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا [الزمر- ٤۸]، و قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر- ٤۷]، و منها البدو في مقابل الحضر قال تعالى: وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف- 100]، و هو في مقابل الإخفاء، قال تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام- 28] و منه: باسم الإله و به بدينا و لو عبدنا غيره شقينا و حبذا ربّا وحب دينا
و الإبداء و الإخفاء من الأمور النسبية الإضافية و يصح اجتماعهما في شيء واحد من جهتين.
و الصدقات جمع الصّدقة و هي في الأصل: كلّ ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، و هي أعمّ من الواجبة و المندوبة، و ربما تطلق على كلّ معروف يترتب عليه الخير و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كلّ معروف صدقة» فتعم المال و الأقوال و الأفعال الحسنة.
و حيث إنّ الصّدقة- أي: المال الذي ينفق في سبيل اللّه تعالى- خير محض لا بد أن تصرف فيما أذن فيه اللّه جل جلاله، و قد أذن عزّ و جل في موارد ثمانية قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة- ٦۰] و هذه الموارد الثمانية تختلف إبداء و إظهارا فإنّ الصرف على الفقراء لا يكون فيه إبداء غالبا لا سيّما إذا كان الفقير من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، و أما الصّرف في سبيل اللّه فيلازمه غالبا الإظهار و الإعلان.
و المستفاد من الكتاب الكريم و السنة المقدّسة أنّ الصّدقات مطلقا إنّما شرّعت لأجل الصرف على الفقراء، فهم الأصل في تشريعها، و تقتضيه القاعدة العقلية و هي (تقديم الأهم على المهم).
و الصّدقات مطلقا- واجبة كانت أو مندوبة- متقوّمة بقصد القربة فإذا لم يرد بها وجه اللّه تعالى فهي باطلة لا ثمرة لها و لا تبرئ الذمة لو كانت من الواجبة و قد عرفت سابقا أنّ الإضافة إليه عزّ و جل في كلّ عمل هي بمنزلة روح ذلك العمل و لا أثر لجسد إذا فقد منه الروح.
و نعمّا هي أي نعم شيء هي، و هو ثناء على إبداء الصدقة، و قد اختلف في قراءتها فالمشهور قراءتها بكسر النون و العين، و قرأ بعضهم بكسر النون و سكون العين «فنعما». و قرأ ثالث بفتح النون و كسر العين (فنعمّا).
و ما في (نعمّا) في موضع نصب، و قيل «هي» تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر فالفاعل هو الإبداء ثم حذف و أقيم ضمير الصدقات مكانه و لكنّه لا يخلو عن تكلّف بل الفاعل نفس الصدقة أي: الصّدقة نعم الشيء في ذاتها فيكون الإبداء و الإخفاء من عوارضها التي لا تغيّر وجه الحسن في نفس الذات ما لم يطرأ عليها ما يبطلها.
و كيف كان ففي الآية الشريفة ثناء على إبداء الصّدقات و أنّ الإبداء لها لا يذهب آثارها إذا كانت لوجه اللّه تعالى ما لم يعرض عليها ما يبطلها كالرياء و المنّ و الأذى لأنّ صدقة العلن أكثر نتاجا و أبعد أثرا.
قوله تعالى: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
لأنّ الإخفاء أقرب إلى الإخلاص و أبعد من الرياء و فيه حفظ عزة الفقير و إكرام له و تقدم سابقا أنّ الإسلام إنّما يراعي في جميع التكاليف جانب الخلوص و الإخلاص فكلّما كان الشيء أقرب إلى الإخلاص كان أهمّ و أعظم و أظهر و لذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن مطلقا و خيرا منها و في الحديث: «إنّ صدقة السرّ تطفي غضب الرب»
و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.
و إنّما قدم تعالى الإبداء على الإخفاء لأنّه الغالب في صدقات الناس و الموافق لطبائعهم و الإخفاء إنّما هو حظ الخواص بل أخصهم و لذا كان الترغيب عليه أكثر.
و يستفاد من قوله تعالى: وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ ما ذكرنا آنفا من أنّ الأصل في تشريع الصّدقات الفقراء، و إنّما ذكرهم في خصوص الإخفاء لأنّ فيه حفظ كرامتهم خصوصا حرمة المتعفف و من ذلك يعرف أنّ كلمة «خير» أفعل التفضيل و قيل: إنّها اسم و ليست بمعنى التفضيل فيتساوى حينئذ الإبداء و الإخفاء، و يصح الاختلاف باختلاف الخصوصيات.
قوله تعالى: وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ.
أي: إنّ الإخفاء في الصدقات سبب لأن يمحو اللّه تعالى بعض ذنوبهم. و يمكن أن يجعل ترتب تكفير السيئات بالنسبة إلى كلّ واحد من الإبداء و الإخفاء فإنّ الصدقة بنفسها من موجبات التكفير.
و إنّما ذكر «من» التبعيضية لأنّ الصدقة لا تكفّر جميع الذنوب بل بعضها لا تكفر الا برد الحق إلى صاحبه كما عرفت.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: و اللّه خبير بأعمال العباد و نياتهم لا يخفى عليه شيء لفرض أنّ جميع ما سواه تحت إحاطته و قيوميته و ربوبيته العظمى لا يعزب عن علمه شيء في الأرض و لا في السّماء و كيف يغيب عنه شيء و هو الشاهد الحاضر.
272- قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول تسلية لقلبه الشريف عما كان يشاهده من بعضهم في أمر الإنفاق و الصّدقات فأبلغه عزّ و جل بأنّه ليس عليك إيصالهم إلى الحق المطلوب و لم تكن أنت مسئولا عن ذلك فهو الذي يهدي من يشاء في أصل التوفيق و إنّما عليك البلاغ فلا تحزن على ما يصدر عنهم و لا يضيق صدرك بأفعالهم و هو الحريص على هداهم.
و المراد بالهداية: هي الخاصة المنبعثة عن الفطرة التي فطر الناس عليها الموصلة للحق قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النّور- ٤۰]، أو المراد درجات الهداية و مراتبها كما قال عزّ و جل: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد- 17]، و قال تعالى: وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم- ۷٦].
و يمكن أن يكون سياق هذه الآيات بعد رد بعضها إلى بعض سياق قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال- 17]، و إذا لاحظنا هذه الآية الشريفة مع قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ تصير النتيجة ليس عليك هداهم على نحو الإكراه، و يكفي الإبلاغ و الإنذار، و قد حصل كلّ منهما، فتشمل الآية جميع موارد الهداية و متعلّقاتها من الإنفاق و غيره و لا دليل على التخصيص، فيكون المعنى ليس عليك هداهم أي: إيصالهم إلى المطلوب لأنّ النبوة و الرسالة إنّما هي الإبلاغ و البشارة و الإنذار و لكنّ اللّه يهدي إلى المطلوب من يشاء بالتوفيقات الخاصة و العنايات المخصوصة بنحو الاقتضاء لمن يرى فيه الصلاحية فيوصله إلى المطلوب و هذه قضية عقلية تشهد على صحتها التجربة أيضا و يؤيدها النقل.
ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين و أرشدهم إلى الإنفاق الصحيح و بيّن لهم الوجه في الإنفاق ب: قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ.
التفات إلى خطاب الناس أو المؤمنين ليبيّن الباعث في الإنفاق و هو أمر فطري يبينه القرآن الكريم حثّا عليه و لذا كان الكلام خاليا عن أيّ من فنونه كالتبشير و الإنذار و نحوهما.
و الخير في المقام: ما كان من الطيب أو ما قصد به وجه اللّه تعالى.
أي: ما تنفقوا من خير فنفعه يعود إليكم و اللّه تعالى منزه عن الانتفاع بما تنفقون، و يمكن إقامة الدّليل العقلي على ذلك فإنّ نفع الإنفاق إما أن يرجع إلى اللّه تعالى أو إلى غير المنفق أو إلى نفس المنفق، و الأول مستحيل، لأنّ اللّه هو الغنيّ المطلق، و الثاني ظلم و هو قبيح بالنسبة إليه تعالى، فيتعيّن الثالث مع تحقق الشرائط و فقد الموانع فالقضية من قبيل القضايا التي قياساتها معها.
قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ.
بيان لعلة رجوع نفع الخير إلى نفس المنفق إذا كان لوجه اللّه تعالى فإذا كانت الغاية هي وجه اللّه تعالى دون غيره ففيه النفع العظيم و يعود إلى المنفق و إلا كان وبالا و حسرة.
و الجملة خبر بمعنى النهي، أي: لا تنفقوا الا لوجهه عزّ و جل أو حال عن ضمير الخطاب و عامل متعلّق الظرف أي: إنّ النفع يعود إلى أنفسكم في حال ابتغاء وجه اللّه به.
قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ.
تثبيت للمدعى ببيان أوفى. و لفظ يُوَفَّ ظاهر في تأكد الوفاء، و أنّ الأمر من الحقايق التي لا تقبل الشك و الوهم، فهو تعالى يفي بما وعد به من الثواب في الدنيا و الآخرة، كما و كيفا و من سائر الجهات.
و إنّما أبهم الفاعل في قوله تعالى: يُوَفَّ لبيان أنّ الغرض من الانتفاع يعود إلى الفاعلين للإنفاق و ليس هناك فاعل غيرهم.
و ذكر بعض المفسرين أنّ هذه الجملة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ مختصة بالآخرة فإنّ مثوبة الإنفاق توفى إليكم في الآخرة.
قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
أي: لا تظلمون في شيء من أمر الإنفاق لا في أصله و لا في نقصان الجزاء و لا في تأخيره عن محلّ الحاجة، و لا سائر خصوصياته فما تريدون و تطمئنون إليه من الربح و الزيادة و اصل إليكم و لا ينقص منه شيء.
273- قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
مادة (حصر) تأتي بمعنى الضيق و المنع بلا فرق بين مناشئهما بحسب أصل اللغة و قد تقدم في قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة- ۱۹٦]، بعض الكلام فيه فراجع.
و الآية المباركة تبيّن مصرف الإنفاق و الصدقات فإنّه تعالى بعد ما حث على الإنفاق بأبلغ أسلوب، و أتم وجه ثم بيّن ما يوجب و هن العزائم و أمرنا بالابتعاد عنه ثم ذكر ما يوجب الخلوص و الإخلاص فيه، ذكر في المقام مصرف الإنفاق و هم: الفقراء الذين منعوا عن شؤونهم الدنيوية في سبيل اللّه تعالى. و أطلق عزّ و جل الكلام لأنّ أسباب المنع في سبيل اللّه تعالى كثيرة منها ما هو عادي و منها ما هو عقلي و منها ما هو شرعي مثل المرض أو الاشتغال بأمر أهمّ ديني لا يسعه الاشتغال بالكسب أو كثرة العيلة و نحو ذلك مما هو في سبيل اللّه تعالى، كما يشمل منع كلّ مانع مباشريا كان أو تسبيبا و لو على نحو الاقتضاء.
و من ذلك يعرف أنّ الجار و المجرور متعلّق بالنفقة و الإنفاق المقدّر المذكور في الآيات السابقة مكرّرا.
و يستفاد من الآية الشريفة: ما ذكرناه آنفا من أنّ الأصل في تشريع الإنفاق هو الفقر و إن كان سبيل اللّه أعم من ذلك، فيكون ذكر الفقراء من باب بيان أحد المصارف، و قد وصفهم سبحانه و تعالى بأوصاف جليلة و عظيمة تدل على نبلهم و شدة ما قاسوه في سبيل اللّه تعالى، و هي ست:
الأولى- الفقر كما قال تعالى: لِلْفُقَراءِ.
الثانية- الحصر في سبيل اللّه تعالى.
قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ.
هذه هي الصفة الثالثة فيهم أي: عاجزون عن الكسب و التجارة و نحوهما.
قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.
هذه هي الصفة الرابعة. و مادة (حسب) تدل على الحكم على أحد النقيضين بدوا و ترتيب الأثر عليه بلا تفكر في الطرف الآخر لا في الحال و لا في المآل. و هذه صفة رذيلة بخلاف الظنّ الذي هو ملاحظة الطرفين و الحكم بالراجح منهما، و قد يطلق الحسبان على الظن و بالعكس.
و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت- 2]، و قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران- ۱٤۲].
و التعفف: التلبس بالعفّة و هي حالة تحصل للنفس تمنعها عن غلبة الشهوة و هي من الصفات الممدوحة و من مكارم الأخلاق، بل من علامات العقل و في الحديث: «أفضل العباد العفاف» و لها مراتب كثيرة أعلاها:
استيلاء العقل على جميع القوى الشهوانية بحيث تأتمر النفس بأوامره و تنزجر عن نهيه و هي أعلى مراتب الإيمان لأنّ
«العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان».
و «من» في قوله تعالى: مِنَ التَّعَفُّفِ لابتداء الغاية أو لبيان الجنس.
و المعنى: يتخيل الجاهل بأحوالهم أنّهم أغنياء لكثرة ملازمتهم للعفّة و ترك سؤال الناس و إظهار حوائجهم إليهم.
و يستفاد من قوله تعالى: مِنَ التَّعَفُّفِ الدال على كثرة ملازمتهم لهذه الصفة المبالغ فيها أنّهم غير متظاهرين بالفقر و لا يظهر عليهم أثر الحاجة و المسكنة الا ما خرج عن القدرة و ما لا سبيل لهم إلى ستره.
قوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ.
هذه هي الصفة الخامسة و السيماء و السماء: العلامة أي: يعرفون بالعلامات الظاهرة الدالة على أحوالهم نظير
قول عليّ (عليه السلام) في وصف المتقين: «يخال مرضى و ما بالقوم من مرض» فكأنّ السيماء تكفي في تعريف حالهم و أنّهم في شدة الحاجة و الخصاصة.
و من توجيه الخطاب إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) دون الجميع فيه حفظ لشؤونهم و صون لجاههم لأنّهم أرادوا حفظ أنفسهم بالتعفف، و لا يستفاد من الآية الشريفة أنّ معرفة حالهم منحصرة بالسيماء فقط. بل لها طرق اخرى كما هو معلوم.
قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً.
هذه هي الصفة السادسة. و الإلحاف كالإلحاح لفظا و معنى، و أصله من اللحاف و هو ما يغطّي الإنسان و يحيط به، و كثرة السؤال مذمومة الا من اللّه تعالى فإنّه عزّ و جل يحب الإلحاح إليه في الدعاء.
أي: مع شدّة حاجتهم و تمادي الفقر بهم لا يسألون الناس سؤال الإلحاح.
و الجملة تحتمل معنيين:
الأول: أنّهم لا يسألون الناس إلا ما دعت الحاجة و الضرورة إليه أي: نفي الإلحاف دون أصل السؤال.
و الثاني: أنّها كناية عن نفي السؤال أبدا لأنّ كثرة تعففهم أوجب الانقطاع عن الناس و عدم السؤال منهم أبدا، فيكون صرف السؤال و لو مرة واحدة منهم إلحافا كما في قوله تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت- ٤٦]، فإنّ صرف انتساب الظلم إليه منشئ لصدق الظلّامية بالنسبة إليه جلّ جلاله و ذلك كثير في الاستعمالات الفصيحة و الأساليب البلاغية فيستعظم الفعل لأجل أهمية الفاعل و عظمته و في الآيات المباركة و السنة الشريفة شواهد لما قلناه.
و الصحيح أنّ النفوس تختلف في ذلك فإنّ من انقطع إلى اللّه تعالى و لازم العفة بحيث ظهرت على جميع جوارحه و أفعاله و أقواله لا يسأل الناس أبدا لأنّه ينافي الانقطاع إليه عزّ و جلّ فضلا عن الإلحاف في السؤال الا إذا أذن الشارع فيه حفظا للنظام و لا ينافي ذلك فضل التعفف فيهم فإنّ السؤال قد يكون واجبا و قد يكون مندوبا.
و بهذه الصفة تنهي الآية الشريفة أوصاف الفقراء الذين تصرف الصدقات فيهم و هي أوصاف ممدوحة كلّ واحدة منها كافية لتهذيب النفس و توجب تخفيف ما يقاسونه من الفقر و الخصاصة و إذا اجتمعت هذه الأوصاف في فرد فهو القدر المتيقن من مصارف النفقات و الصدقات و لا يكفي ثبوت أصل الفقر في الإنفاق عليهم و أخذ الصّدقات و قد فصّلنا ذلك في الفقه من كتابنا (مهذب الأحكام).
قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
أي: إنّ اللّه تعالى عليم بما تنفقون من الخير يوفّيكم جزاءه.
و في الآية الشريفة وعد بالجزاء و المضاعفة، و ترغيب إلى الخير و تحذير عن سوء النية فإنّ اللّه عليم بنواياكم و حكمته البالغة و قضاؤه المبرم و قدره المحتوم على طبق علمه، فهذه الآية الشريفة على اختصارها متضمنة لجملة من القضايا المحكمة المشروحة في الكتاب الكريم و السنة المقدّسة.
۲۷٤- قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً.
أعظم آية تحث على الإنفاق و تبشّر المنفقين بعظيم الأجر و الثواب و خطاب إلهي للمنفقين بالأمن و الأمان.
و في الآية الشريفة بيان عموم الأوقات و الأحوال، و يمكن أن يكون ذكر الليل و النهار و السر و العلانية كناية عن الاستمرار على الإنفاق بحيث يصير طبيعة ثانية لهم.
و إنّما قدم سبحانه و تعالى الليل و السرّ على النهار و العلانية لبيان فضل صدقة السرّ لأنّ العمل فيهما أخلص للّه تعالى فيكون أقرب للقبول و إن كان الجمع بين الأربعة فيه للدلالة على أنّ لكلّ واحد منهما موضعا معينا.
و السرّ خلاف العلانية و هما من الأمور الإضافية و يلحظان بالنسبة إلى المخلوق و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فإنّ الجميع عنده علن لا تخفى عليه خافية، بل السّرائر ظاهرة عند ذوي البصائر من عباده ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه».
و الآية الشريفة تدل على اهتمام المنفقين بالبذل و العطاء ليشمل جميع الأوقات و الأحوال ليستوفوا عظيم الأجر و الثواب و توغلهم في كسب مرضاة اللّه تعالى و نصب أنفسهم في إرادة وجهه عزّ و جل و تزكية نفوسهم، و هم القليلون بين أفراد الناس، و لذا وردت روايات كثيرة بل متواترة بين المسلمين أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) و سيأتي في البحث الروائي نقل جملة منها.
قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وعد حسن من الباري عزّ و جل بأجر عظيم لهم و كرّمهم بإضافتهم إلى نفسه، و الآية الشريفة تشعر بالرأفة و التلطف معهم.
و الأجر و الاجرة: ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال تعالى: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [العنكبوت- 27]، و قال تعالى: لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [يوسف- ٥۷]، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و لا تقال الا في النفع دون الضّرر بخلاف الجزاء فإنّه يستعمل فيهما معا قال تعالى:
وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً [الدّهر- 12]، و قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ [الكهف- ۱۰٦].
و جملة عِنْدَ رَبِّهِمْ جملة تشريفية و هي تدل على عدم تناهي الأجر من جميع الجهات الفاضلة كما يأتي.
قوله تعالى: وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: لا خوف عليهم ممّا هو الواقع و لا هم يحزنون من المتوقع و نفي جنس الخوف و الحزن يشمل جميع الأحوال و الأزمان من الدنيا و البرزخ و النشر و الحشر إلى عالم الخلود في الجنة الذي هو عالم الكمال و نشأته و ظهور الحق بالحق.