صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (۷)
قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. بيان للصراط المستقيم و إنما كرر لفظ «الصراط»، لأهمية الموضوع و أنّ المطلوب ليس مجرد حدوث الهداية فقط بل بقاؤها و إبقاؤها؛ و قد بيّن تعالى الصراط المستقيم بنفسه، لأن صراطا يكون مبدؤه من اللّه تعالى و منتهاه اليه كيف يمكن وصفه و بأي وجه يتحقق نعته؟!! فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلّا بما وصفه الخالق بالقول الجامع في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فمن يقدر أن يحد هذه النعمة العظمى التي هي أجلّ مواهب اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و أعلى الكمالات الإنسانية في ما يرد عليه من العوالم كلها و أنّى للممكن المتناهي من كل جهة أن يحيط بحقيقة ما يكون كله منه تبارك و تعالى.
و عن جمع من اللغويين أن استعمال النعمة يختص بذوي العقول فلا يستعمل في غيرهم إلّا بالعناية و له وجه إن أريد منه أن الغاية من خلق النّعم هو الإنسان، كما في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة البقرة، الآية: 29]. و أما لو أريد ملاحظة الوسائط بعضها مع البعض فلا كلية له، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [سورة لقمان، الآية: 31].
و إنما اطلق لفظ النعمة في الآية المباركة، ليفيد التعميم من كل جهة تتصور من النّعم الظاهرية و الباطنية، قال تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً [سورة لقمان، الآية: 20].
كما بين تعالى بعض مصاديق نعمه في الآية المباركة: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ [سورة النساء، الآية: ٦۹] فإنهم نعم مطلقا و ان النّعم الواردة من المبدأ غير محدودة بحد خاص، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: ۳٤].
ثم إنّ مادة (نعم) استعملت في القرآن العظيم بهيآت مختلفة كلها تشعر بالحنان و الرأفة و العطف و الرحمة قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [سورة الغاشية، الآية: 8]، و قال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: ٤۷]، و قال تعالى: وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [سورة الدخان، الآية: 27] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ما ذكرنا.
تلخيص ما تقدم في أمور:
الأول: لا ريب في أنّ تشريع الأديان السماوية و إنزال الكتب الإلهية و تكميل النفوس الإنسانية بل و تنظيم العالمين- الدنيا و الآخرة- متقوّم بهدايته تبارك و تعالى و لكثرة أهمية ذلك صارت الهداية من شؤونه المختصة به، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ [سورة آل عمران، الآية: 73] و قال جل شأنه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: ٥٦] و كما تكون نفس الهداية من فعله تعالى كذلك تكون مراتبها و أقسامها لأنّه حكيم عليم بخصوصياتها و لكنّها في الإنسان بتوسط الإختيار دون غيره من سائر المخلوقات.
ثم إنّ هذه الهداية- بالمعنى الذي تقدم- واجبة في النظام عقلا لأنّ في تركها إهمالا للنفوس المستعدة و تضييعا لها و هما قبيحان عقلا و كل قبيح ممتنع بالنسبة إليه جل شأنه.
و سبل الهداية بالنسبة إلى اللّه تعالى كثيرة فكل ما يسوق العبد اليه عزّ و جل يكون من مظاهر هدايته و مصاديقها فالقرآن من هدايته تعالى لعباده قال تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 97]، و قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]. و كذلك سائر الكتب السماوية، قال تعالى: وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: ٤٦]، و قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: ٤٤]. و جعل الكعبة المشرفة أيضا من مظاهرها قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: ۹٦]. كما أن السنة الشريفة أيضا كذلك، لأنها أحسن سبيل لتكميل النفوس الإنسانية.
الثاني: إنّ هدايته جل شأنه لعباده على أنواع:
الأول: عام يشمل الجميع قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً [سورة الدهر، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]. و لا ريب في شمولها لجميع أفراد الإنسان كما يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة.
الثاني: الهداية الخاصة و هي تخص بجمع بذلوا وسعهم في العمل بالشريعة المقدسة فزادهم اللّه تعالى بذلك أنحاء الهداية لقوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: ٦۹]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [سورة السجدة، الآية: ۲٤]، و قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام، الآية: 90] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
الثالث: ما هو أخص من الثاني كما ورد في شأن رسوله و حبيبه (صلى اللّه عليه و آله): لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: ۷٥]. و غير ذلك مما ورد في شأن أنبيائه الكرام و هذا مقام عظيم لا يليق لأحد إلّا لهؤلاء (صلوات اللّه عليهم أجمعين). و لكل من هذه الأنواع مراتب كثيرة أيضا.
(الثالث): حيث إنّ منشأ الصراط المستقيم- بكلا معنييه- من علمه تعالى و إبداع حكمته التامة و إحاطته به من جميع الجهات فهو الأصل في الكمالات و ينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات، فيكون مبدؤه علمه تعالى و بقاؤه بديع حكمته جل شأنه و منتهاه الخلود في جنته و في مثل هذا الأمر- الذي لا يدرك عظمته- لا يتصور فيه نقص و ينطوي فيه جميع المعارف الإلهية، و ما يتصور فيه من الاشتداد و الضعف إنما هو من ناحية المتعلق و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.
(الرابع): تقدم أن الصراط هو الطريق المؤدي إلى المطلوب و استعمل في القرآن الكريم موصوفا بالاستقامة و الإستواء غالبا، و قد أضيف اليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى: وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [سورة الأنعام، الآية: ۱۲٦]، و قوله تعالى: صِراطِ اللَّهِ [سورة الشورى، الآية: ٥۳] و قال اللّه تعالى: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة سبأ، الآية: ٦].
و لم يضف الصراط الى غيره تعالى إلّا نادرا بخلاف السبيل فإنه أضيف إلى غيره تعالى كثيرا، كما أنّه ذكر بلفظ المفرد و الجمع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: ۱٥۳]، و قال تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: ٦۹].
و السبيل هو الطريق الموصل إلى الصراط و اختلاف السبل لا يوجب الاختلاف في أصل الصراط، فمثل الصراط المستقيم و السبل المؤدية إليه مثل البحر و ما يتفرع عنه من الجداول فالبحر يفيض على الكل و الكل مستفيض من البحر و كلها موصوفة بالاستقامة و الرشاد و بإزائها الاعوجاج و الانحراف و السبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان كما تقدم.
(الخامس): للصراط المستقيم مراتب من الوجود. (الأولى): مرتبة البيان و إتمام الحجة و هي من اللّه تبارك و تعالى و أنبيائه العظام و أوصيائهم (عليهم السّلام) و يدخل في ذلك جميع الشرايع الإلهية و الرسالات السماوية. (الثانية): مرتبة الاعتقاد. (الثالثة): مرتبة العمل و هما من وظائف العبد إلّا أن الثاني أشقهما عليه (الرابعة): مرتبة ظهوره في النشأة الآخرة و من هذه المرتبة الصراط في يوم القيامة الذي لا بد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود.
فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفيا، إذ لا تكليف في يوم القيامة و ان اختلف زمان العبور و كيفيته تبعا لاختلاف درجات العابرين و معنوياتهم.
قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ. بيان للآية السابقة اهتماما بصراط المنعم عليهم و اعتناء بشأنهم و أنه يباين طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فالجملة الأولى وقعت في مقام المدح لعباد الرحمن و الأخيرة كأنها وردت في مقام رجم الشيطان و من تبعه.
و الغضب: هو الشدة، و رجل غضوب أي: شديد الخلق. و غضب اللّه تعالى عقابه دنيويا كان أو أخرويا أو هما معا، كما أن رضاه ثوابه، و هما من صفات الفعل لا من صفات الذات و تقدم بيان الفرق بينهما.
الضلال بمعنى التحير و يستلزمه الهلاك و الغيبة عن المقصود الحقيقي و العقاب و الهلاك متلازمان، و إنما ذكرهما معا بيانا للمبدأ و الأثر، فالضلال مبدأ العقاب و منشأ استحقاقه و العقاب مترتب على الضلال ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) و إنما قدم الغضب و العقاب على الضلال إرشادا للإنسان بأن لا يرتكب ما يوجب غضب اللّه تعالى.
و الغضب استعمل في القرآن مع اللعن و مع الرجس و مع العذاب كما في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: ٦۰]، و قوله تعالى: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ [سورة الأعراف، الآية: 71]، و قال تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل، الآية: ۱۰٦]، و قال تعالى: وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ [سورة الفتح، الآية: ٦] بل ورد في مورد بعض المحرمات أيضا: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ [سورة النساء، الآية: 93].
و يستفاد من ذلك كله شموله لكل من انحرف عن الصراط المستقيم بالكفر سواء كان مشركا أو غيره من أي ملة كان.
و أما الضلال فهو بمعنى التحير كما عرفت فيشمل مطلق الكفر أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [سورة النساء، الآية: ۱۳٦] فتفسير الأول باليهود و الثاني بالنصارى من باب التطبيق لا التخصيص حتّى أنه أطلق الضلال على مطلق العصيان أيضا قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: ۳٦].