الإرث:
من الأمور الاجتماعية التي لازمت المجتمع الانساني من أول حدوثه و قد مرت اطوار كثيرة على هذا الأمر المهم حتى وصل إلى الحالة التي نراها في الإسلام الذي يعتبر بحق احسن ما شرع فيه لأنه يبتني على حكمة متعالية و مصلحة عامة و نحن نذكر في هذا البحث ما يتعلق به:
بداية الإرث و تحوله:
الإرث من أقدم الأمور الاجتماعية بل يمكن ان نقول انه امر طبيعي لا يسع لاحد إنكاره و قد برز للوجود بظهور الملكية و التملك عند الإنسان فانه من مصادر الملكية، لكنه يختلف عن سائر المصادر بانه مصدر قهري للملكية، فان بموت احد يتملك غيره سواء كان قريبا له أو لا ما كسبه في حياته و تركه لغيره، اختلاف المجتمعات في هذه الظاهرة شدة و ضعفا لا يضر ان يكون الإرث من اقدم العهود و السنن الاجتماعية.
و من الطبيعي ان هذا الأمر الاجتماعي كان في بداية ظهوره بسيطا كسائر الأمور الاجتماعية فان الحياة كانت بسيطة و غير معقدة و لم يتكون المجتمع إلا من افراد قليلين و لم يكن المال الذي يرثه سوى بعض الأشياء البسيطة، و لكنه تطور و تحول تدريجيا و ان لم تصل إلينا كيفية ذلك.
تطور الإرث و تقسيمه:
بعد ما عرفت ان الإرث و التوارث هو امر طبيعي و قد كان بسيطا ثم تطور و كان في ابتداء امره مبنيا على القرابة و الولاء فان لكل فرد أبوين و اولادا و زوجة و قرابة و صديقا و رحما و هذه الإفراد تتفاوت في القرب و البعد و الأولوية و من هؤلاء تتشكل العشيرة و القبيلة و نحو ذلك فكانت قسمة الإرث تتفاوت في المجتمعات تبعا لاختلاف الآراء في الأولوية و الاقربية، ففي المجتمع الجاهلي مثلا كانوا يحرمون كثيرا من الورثة عن التركة لأنهم كانوا يعتبرون القوة في الوارث فبعضهم كانوا يعتبرون القوي هو رئيس القبيلة، و الآخر يعتبره الأب و ثالث يعتبره أشجع القوم و ظل هذا الأمر الاجتماعي مختلفا فيه و يتحول من حال إلى حال آخر.
و لكن الأمر المتفق عليه انهم كانوا يحرمون الصغار و النساء و الضعفاء من الإرث. و بلغ هذا الأمر الاجتماعي أوج كماله في الشريعة الاسلامية لأنها تبتني على الفطرة و الحكمة بخلاف غيرها فإنها لا تنبع عن الفطرة بل تتبع العواطف و النزوات و الإحساسات حتى عند الأمم الراقية التي سنت القوانين في حياتها مثل اليونان و الرومان و لذا كان يطرأ عليها التغير و التبدل بخلاف ما شرعه الإسلام في الإرث فان المسلمين قبلوا هذا الحكم بمجرد نزوله على صاحب الشرع و اسرعوا إلى العمل به و ظلوا على ذلك منذ اربعة عشر قرنا.
مقارنة الإرث في الأمم المتمدنة:
أما اليونان فكانوا يحرمون النساء مطلقا الزوجة و البنت و الاخت من الإرث كما كانوا يحرمون صغار الأولاد و لكنهم كانوا يحتالون في توريث من حرموه من الميراث بالوصية إليهم.
و اما الرومان فإنهم كانوا يقسمون الإرث على القرابة التي يبتني عليها البيت عندهم و ما يريده أب البيت، فإنهم كانوا يعتبرون ان للبيت شخصية قانونية و استقلالا مدنيا عن المجتمع العام و كانت تشكيلة البيت من رب البيت و الزوجة و الأولاد و العبيد، و كان رب البيت هو المعبود لأهله و هو يعبد رب البيت السابق من اسلافه كما انه المالك و غيره لا يملك و القيم عليهم و الأولاد ان بقوا في البيت بعد تأسيسهم لبيت جديد فانه تابع لرب البيت و إلا فهو رب للبيت الجديد بعد ما كان من افراد البيت القديم و اما إذا مات فانه يرثه احد ابنائه أو إخوانه و لا ترث النساء مطلقا الأم و البنت و الاخت و الزوجة بحكم القانون الذي يسنه أب البيت، فالنساء ذوات قرابة طبيعية دون القرابة الرسمية التي بموجبها يرث افراد البيت. و لعل السبب في ذلك انهم كانوا يحرمونهن من الإرث لئلا ينتقل مال الميت إلى بيت آخر بالازدواج، فان المال عندهم ملك للبيت الذي اكتسبه و لا يجوزون انتقال الثروة من بيت إلى بيت آخر.
و اما سائر الأمم- كالهند و الصين و غيرهما- فإنهم كانوا يحرمون النساء و ضعفاء الأولاد و يقتربون في ذلك إلى اليونانين و الرومانيين.
و اما الفرس فإنهم كانوا يحرمون بعض النساء في بعض الحالات مثلما كانوا يحرمون البنات المزوجات و الزوجات غير الكبيرات و اما الزوجة الكبيرة و البنت غير المزوجة فإنهما ترثان، و رب البيت قد يحب بعض النساء حبا بجعلها مقام الأولاد فترثه كما يرث الابن و الدعي لأنهم كانوا يجوزون الإرث للبنين و اما البنت فإذا لم تتزوج فهي ترث نصف الابن و اما إذا تزوجت فلا ترث شيئا لئلا تنتقل الثروة إلى خارج البيت.
و اما في العصر الجاهلي المعاصر لنزول القرآن فإنهم كانوا يورثون الأولاد تبعا للرشد و القوة، فحرموا النساء و صغار الأولاد فان لم يكن في الأولاد رشيد قوي فيرث المال العصبة.
الإرث في الإسلام:
بعد ما عرفت حال هذه السنة الاجتماعية قبل الإسلام و عصر نزول القرآن و قد اتفقوا على منع النساء و الضعفاء و من لا حول له و لا قوة من الإرث و الجميع أسسوا هذه القواعد و الاحكام على أساس العصبية و العواطف التي لا تهدى إلى السعادة و الحقيقة.
اما الإسلام فقد سن حكمه على الفطرة و الحكمة و التعقل و شرع قانون الإرث على أساس محكم متين و هو النسب و السبب و الولاء، و اعتبر ان القرابة تقوم على أساس الرحم الذي هو أم تكويني و الغي كثيرا من الأمور التي كانت متبعة عند المجتمعات قبل الإسلام منها التبنّي و الادعاء و القوة و النفوذ و الشجاعة و الرشد و نحو ذلك من الأوهام الخاطئة التي بها حرم كثير من الورثة، بل يمكن ان نقول ان الإرث مطلقا كان يبتني على ارادة رب البيت و ما تمليه العادات و التقاليد دون الحكمة و التعقل. و قد عرفت ان الإسلام يبني الإرث على اصلين جوهريين هما اصل القرابة و الرحم الذي هو الرابط بين الفرد و أقربائه و في هذا الأصل لا يختلف الذكور و الإناث و الكبار و الصغار بل حتى الجنين في بطن امه فإنهم جميعا يشتركون في الرحم و القرابة لكن الإفراد تختلف في القرب و البعد و لذلك سنّ قانون الاقربية و ان الأقرب يمنع الأبعد و على ذلك بنيت طبقات الإرث المتتالية و هي ثلاث طبقة الآباء و الأبناء، و طبقة الأجداد و الاخوة، و طبقة الأعمام و الأخوال على ما هو المعروف و لا ترث الطبقة اللاحقة عند وجود فرد من الطبقة السابقة و في كل طبقة تجري قانون أن الأقرب يمنع الا بعد. و كان أساس ذلك أمر تكويني و حكم رباني مبني على الحكمة المتعالية و المصلحة العامة.
كما له اصل آخر قويم و هو: اختلاف الذكر و الأنثى في الإرث و أسس القانون العظيم و هو: «للذكر مثل حظ الأنثيين» و ذلك لاختلاف الطبائع في كل واحد منهما الموجب لاختلاف منزلتهما الاجتماعية و ان كان الجميع سواء في الشخصية الانسانية بلا اختلاف بينهما في هذه الجهة، و بذلك أبطل جميع التشريعات الوضعية التي أسست على العاطفة و الاحساس، فكانوا يحرمون النساء لأنهم كانوا لا يرون لهن منزلة في المجتمع الانساني و لكن الإسلام رد المرأة إلى منزلتها الطبيعية و ارجع لها الحقوق التي اغتصبت برهة من الزمن.
و اما ما تدعيه المدنية المعاصرة من تساوي الحقوق بين المرأة و الرجل فهذه ليست إلا بدعة أرادوا بها إذلال المرأة و جعلها لعبة يستفيد منها المغرضون في الميل عن الحق و اثبات أغراضهم الفاسدة و اعمال نواياهم السيئة فاي حق لها كان ضايعا في الإسلام حتى يردوه إليها.
و كيف كان فالإسلام بنى الإرث على هذين الأصلين و قسّمه على الكيفية المعهودة كما عرفت سابقا. و جاء رد الإسلام واضحا في قول اللّه تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فإنهم قصدوا المنافع الدنيوية من الإرث و في تقسيمه و لكنهم جهلوا خصوصياته فضلّوا و اضلّوا.
و من ذلك تعرف الفرق الجوهري بين النظامين الاسلامي و الوضعي فانه يفترق عن غيره في المنهج و القاعدة و الغرض كما عرفت مما سبق.
و من نافلة القول ان بعض من يدعي الفضل يرى ان قانون الإرث في الإسلام مأخوذ من الإرث الروماني، و كأنه غفل عن التباين الكلي بينهما و انه جهل أساس كل من القانونين و نحن في غنى عن التفصيل بعد ما اتضح لك الحال.
الإرث في الأمم المعاصرة:
يختلف الإرث في الأمم المعاصرة المتمدنة عن قانون الإرث في الإسلام في الأصل و المنهج، و لكنها تتفق معه في توريث المرأة لاعتمادهم على تساوي الحقوق بين الرجل و المرأة و يدّعون انهم خالفوا بذلك جميع المجتمعات التي حرمت النساء من حقوقهن و لكن بعد التأمل في ما ذكرناه ترى ان فضل ذلك يرجع إلى الإسلام عند ما اعتبر المرأة جزء من الاجتماع و ان لها حقوقا كما للرجال.
و لقد ثارت في الجاهلية المعاصرة منذ القرن السادس عشر قضية المرأة و شغلت بال النساء و الرجال على حد سواء برهة من الزمن و كانت في بداية الأمر لا تتعدي عن بعض الأمور و لكنها اتسعت و تعدت حتى وصلت إلى المساواة المطلقة في كل شيء بل نادى بعضهم بالحرية للمرأة في ان تهب نفسها لمن تشاء. و شتان بين الجاهلية التي جعلت المرأة كالمتاع و حكّمت العواطف و الإحساسات على التعقل و الحكمة و بين ما أثيرت في عصر نزول القرآن من المسلمات المؤمنات اللواتي أردن المساواة بينهن و بين الرجال في الحقوق و درجة الشهادة و التساوي في الميراث فجاء الخطاب السماوي الذي يفصل بين الواقع و الخيال وردا على التمنيات التي توجب الفوضى و الفساد قال تعالى: «وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» النساء- 32 فان اللّه خلق كل واحد من الجنسين لمهمة معينة تقوم بها الحياة و ينتظم النظام الأحسن و جعل لكل جنس حكمه المختص به التي تتطلبه وظيفته الفطرية و في غيرها يشترك الجنسان في جميع الاحكام و الحقوق، و قد أسست في الفقه الاسلامي قاعدة معروفة يعتمد عليها الفقهاء و هي: «اشتراك الرجال و النساء في جميع الاحكام إلا ما خرج بالدليل» كما عرفت في احد مباحثنا السابقة. و تطبيقا لتلك المشاعر العاطفية و النعرات الجاهلية فقد وضعت القوانين الحديثة احكاما تشرك النساء مع الرجال في جميع المجالات منها تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالاباء و الأمهات و البنات و البنون سواء فيه.
و قد سن القانون الوضعي في فرنسا في الإرث أمورا منها انه رتب الطبقات على اربع: الاولى البنون و البنات. الثانية: الآباء و الأمهات و الاخوة و الأخوات. الثالثة: الأجداد و الجدات. الرابعة: الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات. و لم يجعل القانون موضعا للزوجية في هذه الطبقات لأن الجاعلين اعتبروا علاقة الزوجية من مجرد المحبة القلبية و لكنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج فلا يحق لها ان تتصرف في الأموال التي ترثها من أقاربها إلا باذن زوجها. إلا ان القوانين التي وضعت بعد ذلك أخرجت المرأة عن قيمومية الرجل و ساوت بينهما في الملك و التصرف. و بعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعرف الفرق الكبير بين قانون الإسلام و القوانين الوضعية التي تباين الإسلام من جهات كثيرة، فان الشريعة التي وضعت على الحكمة و المصلحة العامة و أعرضت عن الاحساس و العواطف الوقتية لجديرة بالعمل بها و الاعراض عن غيرها.