يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (۷)
تعتبر الآيتان الشريفتان من الآيات التربويّة التهذيبيّة، التي تهتم بالجانب المعنوي من الإنسان أكثر من الجانب المادي الذي سبق الاهتمام به في الآيات السابقة، حيث ذكر سبحانه و تعالى فيها ما يتعلّق بلذائذ الطعام، و طيّبات الأكل، و ملذّة النكاح و غيرها.
و خصّ تبارك و تعالى في هاتين الآيتين الشريفتين الصلاة بالذكر؛ لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس و تكميلها، و تعدّ بحقّ من أعظم الروابط الخلقيّة مع خالقهم و أكبر الطاعات.
و لا ريب أنّ الصلاة لها من الشروط و الآداب و الأحكام ما لم تكن في غيرها من الطاعات، فذكر في الآية الأولى أعظم مقدّمة من مقدّماتها و شرطا عظيما من شروطها، و هي الطهارة- الحاصلة من الوضوء و الغسل و التيمّم- التي تعدّ هي بنفسها عبادة عظيمة يتقرّب بها إلى اللّه سبحانه و تعالى، و يحفظ فيها عهدا من العهود الربوبيّة، فهي حسن على كلّ حال، كما ورد في الحديث، و لأهمّيّتها فقد ذكر عزّ و جلّ حكم بعض هذه الطهارات في سورة النساء أيضا، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: ٤۳]، إلّا أنّ آية المقام أوضح أسلوبا و أبين حكما، حيث ذكر مواضع الطهارة و طريقتها و موجباتها و الغاية منها و شروطها.
ثمّ بيّن سبحانه و تعالى أنّ الغرض من تلك الأحكام و التكاليف هو تطهير النفوس- من درن الرذائل و الآثام- و الأبدان من أنواع الخبائث و الأدناس. و لم يرد سبحانه و تعالى منها إيقاع المكلفين في الحرج و المشقّة، فإنّه تعالى أعظم و أكبر من ذلك، فقد شرّع من الأحكام في الحالات الاضطراريّة ما يهوّن عليهم و يخفّف عنهم.
و أخيرا صرّح عزّ و جلّ أنّ تلك التكاليف و التشريعات هي من المواثيق التي أخذ عزّ و جلّ العهد عليها من المؤمنين بالسمع و الطاعة، فيجب عليهم الوفاء بها و تنفيذها و مراقبته تعالى بالتقوى و الشكر على تلك النّعم الإلهيّة.
و بذلك لم تخرج هاتين الآيتين الشريفتين عن الهدف الذي نزلت هذه السورة الكريمة لأجله، و هو إعداد المؤمن إعدادا عقائديّا و عمليّا، و تربيته بالتربية الإلهيّة، و إرشاده إلى الكمال الواقعي و السعادة الحقيقيّة.
و يرشد إلى ذلك الابتداء بخطاب المؤمنين بالنداء الربوبي الذي يتضمّن معاني دقيقة، و إشارات عرفانيّة، و حقائق منطوية لم تكن في أي خطاب آخر، مذكّرا لهم بما افتتحت به هذه السورة بالوفاء بالعهود التي أخذها اللّه تعالى عليهم.