تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:
يدل قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» ان ما اوحي إلى الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) هو العلم المطابق للواقع الذي يلزم قبوله و ان غيره من مجرد الظن و هو لا يغنى من الحق شيئا.
و يستفاد منه أيضا ان ما مع الرسول الكريم يشتمل على البرهان الساطع الذي لا يشك فيه احد، و لعل ارتداع النصارى عن المباهلة لأجل اقتناعهم بذلك.
الثاني:
يدل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» ان الذي جاء مع الرسول (صلى اللّه عليه و آله) هو الحق المطابق للعقل السليم الذي يتقبله كل فرد فلا فرق حينئذ بين ان يكون مع الرسول أو مع غيره.
و بعبارة اخرى: ان المورد لا يكون مورد تعبد شرعي مختص به فان ما انزل اللّه تعالى عليه هو من الاحكام المستقلة العقلية التي يقبله الطبع المستقيم فيكون مع كل احد و ان الرسول الكريم هو واسطة الفيض.
الثالث:
ذكرنا ان إتيان هيئة الجمع في قوله تعالى: «أَبْناءَنا- و نِساءَنا- و أَنْفُسَنا» لا تدل على لزوم تعدد الإفراد في كل عنوان من العناوين الواردة في الآية الشريفة بل المقصود هو جعل هذا الجمع مقابل ذلك الجمع و ان القضية ليست من قبيل القضايا الخارجية التي يطلب فيها وجود الإفراد و تعددها بل هي من قبيل القضايا الحقيقية سواء تعددت الإفراد أولا و قد ذكرنا الوجه في إدراج الأبناء و النساء مع شخص الرسول الأمين (صلى اللّه عليه و آله) مع ان المباهلة انما كانت بينه و بين النصارى.
الرابع:
يدل قوله تعالى: «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» على ان اللعنة موجودة و مقررة و امر مفروغ عنه لان بها يمتاز الحق عن الباطل و لذا كانت دعوة طلبها غير مردودة فالتعبير ب (نجعل) كان ادل على المطلوب من غيره.
الخامس:
تدل آية المباهلة على الفضل العظيم و المنزلة الكبرى، و المنقبة العظمى لأهل بيت النبي (صلى اللّه عليه و آله) من وجوه عديدة:
منها: اختصاصهم باسم النفس و النساء و الأبناء للرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) دون سائر الامة رجالا و نساء و أبناء.
و منها: دلالة الآية الشريفة على ان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) شركاء معه في الدعوة و الدعاء و الصدق مقابل الطرف الآخر الذين وصفوا بالكذب كما عرفت في التفسير.
و منها: ان الدعوى لما كانت مختصة بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و قائمة به و قد عرض نفسه الأقدس للبلاء و اللعن و الطرد و العذاب على تقدير الكذب و لا يتعدى إلى غيره لو لم يكن معه شخص و لكن إتيانه (صلى اللّه عليه و آله) بمن كان معه يدل على انهم في المنزلة كنفسه الشريفة و انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء و النساء و الأنفس بمن أتى بهم، و غير ذلك من الوجوه المستفادة من لحن الآية الشريفة و سياقها الدالين على فضل اهل البيت و منزلتهم.
و نوقش في الاستدلال على ذلك بوجوه:
الاول: ان إحضار الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بمن أحضرهم انما كان على سبيل الا نموذج لان جميع الامة من غير اختصاص بأحد تعتقد بأن اللّه واحد لا شريك له و ان عيسى بن مريم (عليه السلام) عبده و رسوله في مقابل النصارى الذين يعتقدون بخلاف ذلك فكانت المقابلة بين دعويين بلا فرق بين رجال كل طرف و أبنائهم و نسائهم فان الجميع في ذلك سواء، فلا يكون لمن أحضره الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فضل على غيره.
و فيه: أولا: ان الأمر لو كان كذلك لكان في إحضار رجل واحد أو امرأة واحدة أو غيرهما الكفاية، و لم يحتج الى إحضار رجل و امرأة و ابنين إلا لأن فيهم سرا الهيا لم يكن في غيرهم.
و ثانيا: ان الدعوة في عيسى بن مريم كانت قائمة بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) كما يستفاد من الآيات السابقة و أما سائر الامة الذين اتبعوه فلم يكن للنصارى الذين وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بهم ارتباط و نسبة فيكون إتيان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأهل بيته ليس الا انهم كانوا مشتركين في الدعوة و الدعاء.
الثاني: ان الآية المباركة لا تدل على اكثر من ان إتيان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأهل بيته في المباهلة كان لأجل وثوقه بالسلامة و العافية و استجابة دعائه و اما انهم كانوا شركاء في الدعوة و غيرها فهي بمعزل عن ذلك.
و فيه: ان الآية الشريفة بمجموعها- كما عرفت- تدل على ان كل طرف من طرفي الدعوة في المباهلة شركاء في الدعوة و هي إما صادقة أو كاذبة و لذا احجمت صاحبة الدعوة الكاذبة عن المباهلة لما علمت صدق الطرف الآخر.
الثالث: ان الأمر لو كان كذلك- و كانت الآية المباركة تدل على فضلهم و كرامتهم- لاشتركوا مع الرسول في النبوة لان الدعوة التي كانت مختصة به انما كانت كذلك لان اللّه اوحى اليه.
و فيه ان الاشتراك في الدعوة لا يستلزم اشتراكهم في النبوة فإنها غير الدعوة بل هي من شئونها و لوازمها.
الرابع: ان الآية الشريفة تأمر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) ان يدعو المحاجين و المجادلين في عيسى من اهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا، و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا و يبتهلوا إلى اللّه تعالى بأن يلعن الكاذب، و لا تدل الآية الشريفة على اجتماع الفريقين في مكان واحد بحيث يشتمل على النساء و الأولاد و الأنفس مع ان الآية المباركة نزلت في النصارى و لم يكن معهم نساؤهم و لا أولادهم.
و فيه: ان ما ذكر خلاف ظاهر الآية الشريفة فإنها تدل على دعوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى اجتماع المتخاصمين و المجادلين من الفريقين إلى المباهلة مع الأولاد و النساء و الأنفس فكأنه قد جمع اهل بيته مع وفد النصارى الموجودين حين الابتهال و اما ان النصارى لم يكن معهم الأولاد و النساء فهذا مطلب آخر و قد ذكرنا ان المفهوم من الآية المباركة شيء و المصداق شيء و الخلط بينهما أوجب الالتباس.
السادس:
ذكرنا ان الآيات الشريفة و الاستعمال الفصيح يدلان على صحة استعمال النساء في البنات، و لكن استبعد بعض المفسرين ذلك و ذكر في معرض كلامه: «ان كلمة نسائنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج و لا يفهم هذا من لغتهم».
و المناقشة في ما ذكره واضحة بعد الاحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة و الشواهد القرآنية و الشعر العربي الفصيح تدلان على صحة استعمال الكلمة في البنات و لم يستشكل احد من فرسان البلاغة و الفصاحة على القرآن الكريم في استعماله هذا لا سيما إذا كان قصد المتكلم الاحتشام من التصريح بابنته، مع ان الروايات الكثيرة المتواترة التي تدل على ان المراد من النساء ابنته (صلى اللّه عليه و آله) فاطمة الزهراء (عليه السلام) كافية في رده. و أحسب ان الأمر أوضح من ان يخفى إلا ان يراد عدم صحة استعمال الجمع في الواحد. و لكنه مردود بما ذكرناه من ان الآية المباركة تدل على استعمال الجمع مقابل الجمع من دون النظر إلى الإفراد. و الاشتباه انما حصل من خلط المفهوم بالمصداق.
السابع:
انما ذكر سبحانه و تعالى النساء مع ان بناء القرآن على الكناية عنهن و التحفظ عليهن مهما أمكن لأمور:
منها: الأعلام باشتراك النساء في امور الدين اصولا و فروعا إلا ما خرج بالدليل.
و منها: الاهتمام بالدين و الاعتناء بشريعة سيد المرسلين (صلى اللّه عليه و آله).
و منها: جعلهن في سياق المتدينين بتعلمهن الأعمال الصالحة و تلبسهن بالمعارف الحقة. و غير ذلك من المصالح.
الثامن:
انما أخر سبحانه و تعالى «أنفسنا» و ذكرها بعد تفدية الأبناء و النساء لبيان اهمية المباهلة و التفدية للّه جلت عظمته لإثبات الحق و إظهاره بتفدية جميع العلائق حتى علاقة الأهل.
التاسع:
ان كلمة «أنفسنا» تدل على شمولها لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) تنزيلا له منزلة نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا لأجل ان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو كما ذكره بعض المفسرين بل لان وجود علي (عليه السلام) في الأثر و المزايا و الفضيلة و الصفات بمنزلة وجود رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا سيما إذا كان التنزيل بأمر من اللّه تعالى و لم يوجد احد غير علي (عليه السلام) يكون واجدا لتلك المزايا التي تؤهله لهذه المنحة الإلهية و يكون كنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و لا يمكن ان يكون احد نفس شخص آخر إلا إذا كان مشتملا على مزايا كبيرة يكون ثانيا في مزاياه أو الوجود المكرر له في الخصال و نحوها.
و يستفاد من الآية المباركة المنزلة الجليلة و المنقبة العظمى لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، و هذا ما يستفاد من سيرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى علي (عليه السلام) في مواطن كثيرة تكون مبنية لمعنى «أنفسنا» في هذه الآية المباركة و مع ذلك فقد أشكل على دلالة الآية الشريفة بوجوه:
الاول: ان المراد بالأنفس في الآية المباركة من يتصل بالقرابة و القومية و استشهد لذلك بقوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» البقرة- ٥٤ و قوله تعالى: «وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» البقرة- ۸٤ و قوله تعالى: «هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» البقرة- ۸٥.
و فيه: ان اطلاق الأنفس باعتبار رابطة القرابة و القومية صحيح و لا بأس به و لكن هذا الاستعمال في الآية الشريفة بعيد فان جعل الأنفس مقابل الأقرباء مثل النساء و الأبناء لا يراد منها إلا المعنى الحقيقي الواقعي و الادعائي التنزيلي و نظير ذلك في القرآن كثير قال تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ»* الشورى- ٤٥ و قال تعالى: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً» التحريم- ٦.
الثاني: إن المراد من النفس القريب و قد عبر عن علي (عليه السلام) بالنفس لما كان له (ع) اتصال بالنبي (صلى اللّه عليه و آله) في النسب و المصاهرة و اتحاد في الدين.
و فيه: ان التنظير لو كان في القرابة فقط لما كان في علي (عليه السلام) خصوصية فان العباس عم الرسول و أولاده و بني هاشم كانوا من قرابته (صلى اللّه عليه و آله) و من المسلمين و المهاجرين.
مع انا ذكرنا انه ليس المراد من هذه الكلمة على (عليه السلام) بل المراد انه بمنزلة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و لذا لم يأت في مقام الامتثال غير علي (عليه السلام) و انه المصداق الوحيد لأنفسنا فلعل الاشتباه نشأ من الخلط بين المفهوم و المصداق.
الثالث: انه لو كانت الآية الشريفة دالة على المساواة بين علي (عليه السلام) و بين النبي (صلى اللّه عليه و آله) لزم كون علي (عليه السلام) نبيا. و انه أفضل من الأنبياء و المرسلين (عليه السلام).
و فيه: انه لا ملازمة بين كون علي (عليه السلام) نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و بين مشاركته في النبوة، و قد تقدم ما يتعلق بذلك، و اما افضلية علي (عليه السلام) من الأنبياء و المرسلين فهي ثابتة مستفادة من قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» البقرة- 124 و ادلة اخرى تقدم بعضها و يأتي بعضها الاخرى.
العاشر:
الآية الشريفة تدل على صحة نبوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بل هي من أجلاها و قد اعترف الخصم بها باباءهم عن المباهلة لما دعاهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إليها و أحجموا عنها و رضوا بالجزية.
الحادي عشر:
يدل قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ» على الحد الفاصل في كل من دعوى الألوهية و دعوى الشرك أو الحلول فانه قصر الألوهية في اللّه عز و جل المستجمع لجميع صفات الكمال و الجلال و قد وردت هذه الجملة الشريفة في نفي التثليث في قوله تعالى: «وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» النساء- 171 و في قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» المائدة- 73 و يحمل على المعنى الأعم من نفي الشرك في الذات أو المعبودية أو الصفات حملا لظاهر اللفظ على إطلاقه، و حينئذ لا فرق بين ان يكون القصر قصر افراد أو غيره.
الثاني عشر:
يدل قوله تعالى: «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» على وجه انحصار الألوهية فيه عز و جل و لعله في خلق عيسى (عليه السلام) من غير أب فهو الحكيم المتقن في صنعه العليم بما فعله، العزيز الذي لا يمنعه احد و لا يغلبه فهو الإله الذي لا نظير له و ليس كمثله شيء.
الثالث عشر:
يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» على ان كل من امتنع عن قبول الحق فهو من المفسدين و اللّه تعالى عليم بحالهم و يجزيهم في الحال و المآل.