قوله تعالى: الم.
تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة القرآنية في أوّل سورة البقرة، و المتحصّل منه أن الاحتمالات المتصوّرة فيها خمسة .
الأول: أنها أسرار و رموز بين الموحي و الموحى إليه، لا يعلمها أحد حتى جبرائيل الذي هو أمين الوحي، فإن بين كلّ ملك و الخواص من وزرائه أسرارا في المخاطبة و الخطاب كما هو معلوم، بل هذا هو دأب المتيّمين من الأحباب، و قديما قالوا إن للحبّ لغة خاصة في مقابل كلّ لغة.
بين المحبّين سرّ ليس يفشيه قول و لا قلم للناس يحكيه
هذا في الحبّ المجازي، و أما الحقيقي منه فلا يعقل تمديده بحدّ أبدا.
الثاني: أن المركّب منها إشارة إلى أمر مهم في الشريعة المقدّسة.
و لكن يرد عليه أن ذلك لا يكفي في الاحتجاج على أهل العناد و اللجاج بل مطلق العناد، لما ثبت في محلّه من أنه لا أثر للمجمل و الرمز و اللغز التي تنبو عنها الأفهام و لا يعتمد عليها الأعلام في مخاطباتهم، فتدخل في متشابهات القرآن الكريم التي عجزت عن فهمها العقول.
الثالث: أنها اسم لنفس السورة التي بدأت بها.
و يرد عليه أن فيه من الغرابة ما لا يخفي.
الرابع: أنها ذكرت تمهيدا لإصغاء المخاطبين و السامعين.
و فيه: أنه بعيد من الحكمة.
الخامس: أنها ذكرت تجليلا للسورة، يعني أن السورة و إن كانت فيها هذه الحروف الهجائية بحسب الظاهر، و لكنّها مشتملة على معارف لا تحيط بها العقول و يعجز الإنسان عن الإتيان بمثلها.
و هناك وجوه اخرى، يمكن الجمع بينها. و القول بأن تمام تلك الوجوه منطوية فيها، و ليس ذلك من شأن الآيات الكريمة ببعيد. و تمام الكلام تقدّم في أوّل سورة البقرة.
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي [۲٥٥ من سورة البقرة]، و نزيد هنا: اللّه اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعيّة و الادراكيّة، و المسلوب عنها جميع النقائص كذلك، و نفس تصوّر هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله و جلاله و معبوديته المطلقة، و خضوع ما سواه له، و لا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك، فالهويّة المطلقة في الكمال المطلق مجرّدة عن كلّ قيد و إضافة، منحصرة فيه عزّ و جلّ، و قد روي أن عليا عليه السّلام قال: «يا من هو، يا من ليس هو إلا هو»، و عرض ذلك على سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله فقال لعلي: «علمت الاسم الأعظم»، نعم هو اسم أعظم لمن انقطع إليه تعالى كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذ حقيقة أنه ليس هو إلا هو.
و الحيّ القيوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الاحاطة بهما، لأنهما عين الذات المقدّسة، و العقول قاصرة من وصول تلك الساحة العظمى، بل الحياة في ما سواه عزّ و جلّ من المجرّدات، و غيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة.
كما أن المراد بالقيوميّة فيه عزّ و جلّ مديريّته و مدبريته و تربيته العظمى لجميع عوالم الممكنات، قيوميّة حياة تستلزم العلم و القدرة و الهيمنة و الإحاطة، لا أن تكون قيوميّة فاقدة للشعور و الحياة، كما في الأسباب الطبيعيّة التكوينيّة.
فيكون لفظ القيوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصة به تعالى كلفظ (اللّه)، و لكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق، و هو مطلق القيام بالشيء و على الشيء، و مطلق القيوميّة يكون من الوضع العام و الموضوع له العام بحسب أصل المعنى، و لكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عزّ و جلّ.
هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ علما له عزّ و جلّ و إلا فيسقط أصل البحث، و لعلّ أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدّسة عدم تدخّل الجهات اللغوية و الأدبية المتعارفة فيها، لتكون بنفسها مرجعا و أصلا يرجع إليها، لا أن يرجع فيها إلى غيرها.
و يصحّ أن يراد من القيوم مقوّم وجود كلّ موجود حدوثا و بقاء.
كما يصحّ أن يراد به مقوّم حياة كلّ ذي حياة، حيوانية كانت أو نباتية.
و يصحّ أن يراد به قيوم كمال كلّ ذي كمال.
و الحقّ هو الأخير و سائر المعاني منطوية فيه، و لذا عقّبه سبحانه و تعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (۷) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ، لأن ذلك من شؤون حياته و قيوميّته المطلقة.
و الحيّ و القيوم من أعظم الأسماء الحسنى.
و الأول من أسماء الذات، بل الثاني أيضا إن رجع إلى الحكمة التامّة التدبيرية و القدرة الجامعة التامّة، كما يصحّ أن يكون برزخا بين اسم الذات و اسم الفعل باختلاف الجهة.
و إنما ذكرهما سبحانه هنا و في آية الكرسي [255 من سورة البقرة]، لأنهما دون لفظ (اللّه) و فوق باقي أسمائه المباركة إلا الاسم الأعظم، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات، و يصحّ أن يكونا من بعض أجزائه التي من علم خصوصيات التركيب يؤثّر الأثر المطلوب.
و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود، بأن يقال إنه لا بد أن يكون حيّا قيوما، و الحيّ القيوم منحصر في واحد عقلا و نقلا، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.
و افتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال و الجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها، و حقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.
و فيها التعليل لما ورد في الآية التالية، أي اللّه الذي هو واحد في ألوهيته و ذو الحياة الكاملة، و القائم على تدبير خلقه بأحسن نظام و أتم حكمة، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحقّ و الباطل، و لا يخفى عليه أمر مخلوقاته، فمن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز، و من كفر فقد خاب و سيجزيه اللّه، أنه عزيز ذو انتقام.
قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.
المراد بالكتاب القرآن الكريم، و الباء في (بالحق) إما في موضع الحال، أو للمصاحبة، أي: حال كونه بالحقّ أو مصاحبا له لا يفارقه، و لا تعتريه شبهة، و لا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه.
و مصدقا حال آخر، أي: حال كونه معترفا بصدق ما بين يديه و مبيّنا له.
و المراد بما بين يديه: ما تقدّم من الكتب الإلهية، و هي التوراة و الإنجيل و غيرهما.
و التنزيل: هو النزول، و قد تقدّم في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، كيفية نزول القرآن، و الفرق بين النزول و الإنزال الذي يدلّ على الدفعة.
و الآية تدلّ على صحّة نسبة الكتب الإلهية المتقدّمة إلى الوحي الإلهي، و صدق بعض الحقائق التي ورد فيها، و تدلّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [سورة المائدة، الآية: ٤٤]، و قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: ٤٦]، و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: ٤۸]، و قال جلّ شأنه: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ [سورة الأعراف، الآية:۱٤٥]، و يستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية اللّه تعالى بالتوراة، لأن جميع الكتب السماويّة- بما فيها القرآن الكريم- تشترك في اصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جلّ جلاله و توحيده و نفي الأضداد و الأنداد، و منها المعاد و العدل الإلهي، و الترغيب إلى رحمة الرحمن و التحذير من الشيطان و عداوته للإنسان، و من عذاب اللّه تعالى، كما تذكر قصص الأنبياء و ما لا قوه من الظالمين في جنب اللّه و نصرة اللّه لهم، و تبيّن قصة ابتلاء آدم عليه السّلام و إخراجه من الجنّة.
كما أنها تشترك في بيان مكارم الأخلاق و ما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان و ما ينزله إلى حضيض الحيوان، و تشترك في بيان المستقلّات العقلية، كجنس الإحسان و قبح الظلم، و بيان جملة من التكوينيّات و الطبيعيات.
إلا انها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعية، و هذه كلّها اصول نظام التشريع التي لا بد و أن تجمعها جميع كتب السماء.
و بعبارة اخرى: أن الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء اللّه تعالى واحد بوجود نوعي، و التوراة و الإنجيل و القرآن من أفراد ذلك النوع، كما أن الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كلّية و هي الاتحاد في الكتب السماويّة، و لكن القرآن مظهر لجميعها، فما كان منها موافقا للقرآن يكون صحيحا و معتبرا، و ما كان مخالفا له يردّ علمه إلى أهله، إلا إذا ثبت بدليل معتبر جهة المخالفة، و الأدلة القطعية التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة، لا المساواة و الموافقة التي هي مقتضى الأصل و القاعدة فيها.
و الآية الشريفة و ان دلّت على صحّة نسبة التوراة و الإنجيل إلى اللّه تعالى، و لكن لا بد أن تكون في الجملة، لا على نحو الكلّية و المجموع، لدلالة آيات اخرى على وقوع التحريف فيهما، قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [سورة المائدة، الآية: 13]، و قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ [سورة المائدة، الآية: ۱٥].
قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ.
التوراة لفظ عبراني و معناها الشريعة، و تطلق على العهد القديم المتكوّن من أسفار موسى الخمسة، التي يسمّيها اليهود بالناموس، و هي: سفر التكوين، و سفر التثنية، و سفر الخروج، و سفر اللاويين أو الأحبار، و سفر العدد. و قد وقع الخلاف بين المؤرّخين في صحة نسبة التوراة الموجودة بين أيدينا إلى موسى عليه السّلام، و لا يزال كثير من اللاهوتيين يشكّون في صحّة النسبة و يرون أنها كتبت بعد عصر موسى عليه السّلام، و إن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو و إفراط في القول، فإن فيها ما يكون منسوبا إلى موسى عليه السّلام، كما تشهد له الأدلة الكثيرة إلا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقيّة المنزلة على موسى عليه السّلام بوحي من اللّه تعالى، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة، قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: ٤٤]، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موردا مقرونة بالتجليل و التعظيم.
و اختلف الأدباء في اشتقاقها، و نحن في غنى عن ذلك بعد كونها غير عربية الأصل.
و الإنجيل كلمة يونانية و معناها (الجلوان)، أي ما يعطى لمن يبشّر بالشيء، أو البشرى بالخلاص، و تطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة، و هي إنجيل لوقا، و إنجيل مرقس، و إنجيل متى، و إنجيل يوحنا، و العهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكوّنة من سبعة و عشرين سفرا، تتضمّن سيرة المسيح و تعاليمه و أعمال الرسل (الحواريين) و رؤيا يوحنا اللاهوتي، و قد اختلفوا في تأريخ كتابتها.
و لكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من اللّه تعالى على عيسى عليه السّلام الموصوف بأنه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور و الهداية، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثنى عشر موردا.
و قد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه، و لكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.
و يستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن الإنجيل كتاب واحد حقيقي و ليس هو متعددا كما يدّعيه المسيحيون، و أنه لم يؤمن من السقط و التحريف كالتوراة، و يرشد إلى ذلك إفراد الاسم و التوصيف بأنه هدى للناس، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
و إنما ذكرهما سبحانه في أوّل السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم و ما يتعلّق بولادة عيسى عليه السّلام.
و من سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة و الإنجيل نزلتا جملة واحدة، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجيا، حيث عبّر تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، و قال تعالى: وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ، كما مرّ سابقا.
إن قيل: ورد نفس التعبير في قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ، فيدلّ على نزول القرآن جمعا و دفعة، فيتحقّق التنافي بين الآيتين.
قلنا: لو كان النزول و التنزيل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد، و لكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقا في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، فمرّة نزل نجوما و مرارا نزل دفعة، و إنما ذكره هنا تجليلا و تعظيما لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة.
قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
الفرقان: ما يفرق بين الحقّ و الباطل، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا، و جميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهية و الأصول الحقّة النظامية، التي تبيّن وظيفة العبد و ما هو مطلوب في مقام العبودية و إقامة العدل و الحقّ، فيشمل الكتب الإلهية و أنبياء اللّه تعالى و الأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد، كما يشمل العقل و كلّ أمر محكم، و يدلّ على ذلك آيات متعدّدة، منها قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [سورة الأنفال، الآية: ٤۱]، و قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ [سورة الأنبياء، الآية: ٤۸]، و قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [سورة الفرقان، الآية: 1].
و المراد به هنا القرآن الكريم، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآنا، و باعتبار تفرقته بين الحقّ و الباطل يسمّى فرقانا، و باعتبار إرشاداته يكون نورا، و باعتبار كونه أساسا للعمل و الحكم بالعدل يسمّى ميزانا، و تختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.
و قيل: المراد بالفرقان: العقل، و قيل: الدلالة الفاصلة بين الحقّ و الباطل، و قيل: النصر، و قيل: الحجّة القاطعة للرسول صلّى اللّه عليه و آله على من حاجّه في أمر عيسى عليه السّلام.
و في بعض الروايات: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء»، و يظهر وجه جميع ذلك ممّا ذكرناه آنفا.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ.
أي: ان الذين كفروا بآيات اللّه و جحدوا بها لهم عذاب شديد، و ذلك لأن الكفر بآيات اللّه حرمان عن منبع النور و الهداية و السعادة، مع أن النفس مستعدّة لجميع ذلك و لها قابلية إبراز كلّ كمال من الكمالات الممكنة إلى الظهور، فيكون نفس هذا الحرمان عذابا لما يتبعه من الندامة و الشقاوة، فلا يختصّ العذاب بالآخرة، و هو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات اللّه بالعذاب في الدنيا و الآخرة، و هذا من الحقائق القرآنية التي تؤكّدها جملة من الآيات الشريفة، فتعدّ حرمان النفس عن الكمالات التي أعدّها اللّه تعالى لها من العذاب، و يعدّ المعرض عنها شقيا قد سلب السعادة عن نفسه، فكلّ ما يكون سببا لسعادة الإنسان إذا كفر به يكون عذابا و شقاء له، فتكون السعادة و الشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح و شقاوتها، و أما سعادة الجسم و البدن فهي ان أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمى و الكمال الأتم، و إلا كانت شقاء و عذابا، قال تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، فالعذاب الإلهي إنما يكون بالنسبة إلى الروح و الجسم، و لكن المهم هو الأول. و هذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادة و لم يتخلّق بأخلاق اللّه تعالى في السعادة و الشقاء، فإنه يعتبر ما يكون سببا للاستمتاع المادي- كالمال و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة- سعادة، و ما يكون بخلاف ذلك شقاء و عذابا، و هذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلّف من البدن و الروح، و الكتب الإلهية إنما نزلت لتهذيب الروح و إسعادها و رفع شقائها، لا خصوص سعادة الجسم فقط، و للبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
مادة (نقم) تدلّ على إراءة الكراهة، سواء كانت باللسان أم بالعقوبة، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و لا تدلّ المادة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقام للتشفّي، كما هو الدائر في انتقام الإنسان، فإن اللّه تعالى أعزّ جانبا و أبعد ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده. و لكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم)، و يقوم بهم قيام الصورة بالمادة، و بينهما تلازم، و لا يعقل انفكاكهما إلا في فرض الوهم.
و المعنى: أن اللّه قوي شديد نافذ في إرادته، منيع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه، ينتقم ممّن خالفها و أعرض عنها.
و ما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقيّة- من كلّ جهة- و القيومية المطلقة، و لا معنى لهما إلا إيصال كلّ ممكن إلى ما يليق به، بعد بسط العدل و الإحسان و الرحمة و العفو و الغفران.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ.
معلول آخر للحياة الحقيقيّة و القيوميّة المطلقة، فإن وحدة الحيّ القيوم تستلزم الإحاطة المطلقة، و أن لا يخفى عليه شيء ممّا سواه، و إلا كان خلفا و لا يعقل غفلة العلّة- العليم الحكيم- عن معلوله.
و يصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلّة، أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو الحي القيوم.
و إنما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين و انسهم بها، و إرشادهم إلى أن أرضهم- التي يفعلون فيها ما يفعلون- تحت إحاطته الفعلية.
و يستفاد من هذه الآية الكريمة أن معنى العلم فيه تبارك و تعالى يرجع إلى أمر سلبي، أي: لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الاثباتي، لقصورها عن درك ذاته، و يدلّ على ذلك أخبار كثيرة.
كما تدلّ الآية المباركة أيضا على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي للّه تعالى، و تدلّ عليه آيات اخرى، منها قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجر، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: ٥۹].
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ.
الصورة تطلق … تارة على الهيئة الخاصة، و بهذا المعنى يصحّ أن تكون من الأعراض، كالصور المتصوّرة في الأذهان، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرآة أو في كلّ جسم شفاف له قابلية المحاكاة. و في العصر الحديث اتسعت دائرتها، و هي بهذا المعنى تعمّ ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له.
و تطلق اخرى في مقابل المادة، فتكون جوهرا من مقوّمات الجواهر المركبة من المادة و الصورة، و يعبّر في الفلسفة عن المادة بالجنس باعتبار الوجود الذهني، و عن الصورة بالفصل كذلك أيضا، و إلا فالحقيقة واحدة و التصوير إلقاء الصورة.
و الرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكوّن فيه الجنين إلى حين الولادة و محل تربية الطفل. و استعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد.
و يتضمّن معنى الرأفة و الإحسان أيضا، و بهذا المعنى يطلق على اللّه تعالى، فهو الرحمن الرحيم.
و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لما خلق اللّه الرحم قال تعالى: أنا الرحمن و أنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك و صلته، و من قطعك قطعته»، و منه يظهر معنى الحديث الآخر: «الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، و اقطع من قطعني»، و مخاطبة الرحم للّه تعالى ليست ببعيدة، فإن الأشياء كلّها- بحقائقها الواقعيّة- مرتبطة مع اللّه عزّ و جلّ، يخاطبها اللّه تعالى و تخاطبه، و لكنها مستورة إلا على أهل البصيرة و البصائر.
و إنما خصّ سبحانه و تعالى تقدير الإنسان و تصويره بالذكر مع انه له التقدير العام في جميع المخلوقات، لكمال العناية بالإنسان، الذي هو أعزّ خلقه و أشرفه، فقد ذكر تعالى تصوير الإنسان في آيات اخرى، قال تعالى: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [سورة التغابن، الآية: 3]، و قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [سورة الانفطار، الآية: 8]، و لبيان كيفية خلق عيسى عليه السّلام الوارد في هذه السورة و التعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه عليه السّلام.
و قد أبدع سبحانه و تعالى في تصوير الإنسان، ممّا يدلّ على بديع صنعه و حكمته البالغة و علمه الأتم، و اعتنى بجميع تفاصيله اعتناء بليغا، و أودع فيه من الحكم و الأسرار وفق قوانين منظمة تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها و معرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم و المعرفة، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار و الحكم ممّا يبهر العقول و يجلّ عن الوصف، فحقيق للّه تعالى أن يقول في خلق الإنسان: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: ۱٤]، و يكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجّة على العباد،
و عن علي عليه السّلام: «الصورة الإنسانية أكبر حجّة للّه على خلقه، و هي الجسر الممدود بين الجنّة و النّار».
و أما ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان اللّه خلق آدم على صورته»، فإن المراد صورة مخلوقة اختارها اللّه تعالى لنفسه، و جعلها حجّة على عباده و سخّر لها ما في السماوات و الأرض، و ليس المراد صورة اللّه تعالى، لأنه يستحيل أن تكون للّه صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية، و يدلّ على ما ذكرناه
ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية، و هو أنه: «سب رجل شخصا بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: قبحك اللّه و قبح من على صورتك، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا تقل هكذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته»، أي على صورة الرجل المسبوب، فيكون سبّه سبّا لآدم عليه السّلام و سائر الأنبياء أيضا.
قوله تعالى: كَيْفَ يَشاءُ.
لفظ (كيف) يستعمل في ما فيه شبيه و ما لم يكن له شبيه، كالأبيض و الأسود و الصحيح و السقيم و نحوها.
و (كيف) من إحدى المقولات التسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة و الحديثة، و يدخل فيه الاشتداد و التضعف لاتصافه بالحركة، كما أن فيه الشدّة و الضعف بذاتها.
و هو من ألفاظ العموم، و لا يطلق عليه تعالى لتقوّمه بالغير كما في غيره، و في الحديث: «هو الذي كيّف الكيف و لا كيف له»، و إلى ذلك تشير القاعدة التي أسّسها أئمة الدين عليهم السّلام في المعارف الربوبية: «كلّ ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق»، و قصارى ما يمكن القول فيه عزّ و جلّ هو: إنه تعالى شيء لا كالأشياء و ذات لا كالذوات، حتّى لا يلزم التعطيل.
و إطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس و الإنسان المخلوق و أطواره في الأرحام، لا بالنسبة إلى الملك العلّام.
و مادة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده، فكلّ موجود شيء و بالعكس، و لا يطلق على العدم، و قد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية، و قال بعض أكابرهم:
ما ليس موجودا يكون ليسا قد ساوق الشيء لدينا ايسا
و لا يطلق بهذا المعنى على اللّه عزّ و جلّ، و تقدّم في الحديث: «انه شيء لا كالأشياء».
و المشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل: و الفرق بينها و بين الإرادة بالكلّية و الجزئية، أو الحدوث و البقاء، فالحدوث يسمّى مشيئة، و البقاء و الإبقاء إرادة.
بيان ذلك أن كلّ فعل اختياري صادر من الفاعل المختار لا بد و أن يسبقه امور لا يمكن تخلّف واحد منها، كما هو الثابت بالوجدان و البرهان، و هذه الأمور تسمّى ب «أسباب الفعل»، و هي:
الأول: هو العلم بالفعل و لو على نحو الإجمال، و في الجملة لئلا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل، بل هو محال في نفسه، لأن توجّه النفس إلى شيء لا يتحقّق إلا بتعين ذلك الشيء في الجملة.
الثاني: المشيئة بمعنى توجّه النفس إلى طلبه إجمالا.
الثالث: التقدير، و هو التفات النفس إلى خصوصياته كما و كيفا و من سائر الجهات.
الرابع: القضاء، أي: حكم النفس بإيجاده خارجا.
الخامس: إبرام هذا القضاء، أي الاستقامة فيه و جعله بحيث لا يتخلّف.
السادس: الإرادة الموجودة للفعل.
و هذه كلّها موجودة في كلّ فعل اختياري يحصل من الفاعل المختار، و لو كان هو اللّه تعالى الخالق القهّار.
نعم، في الإنسان واقعها موجودة في النفس و مرتكزة فيها إجمالا و إن لم يعلم بها تفصيلا، و لا يضرّ ذلك، لأنها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.
و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فإن جميع تلك الأمور موجودة و معلومة له تعالى تفصيلا، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل و شؤونه، بل عالم بما سواه كلّية و جزئية قبل الإيجاد و بعده و جميع مراتب التغيّرات و التبدّلات، و كذلك هو عالم بقدره و قضائه و إمضائه و إبرامه و إرادته- التي هي عين فعله الأقدس- علما تفصيليا إحاطيا.
و يمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض، و يمكن تكثيرها بتفصيل بعضها إلى امور، و لذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلّة و كثرة.
و كيف كان، فقد وقع الكلام في أن هذه الأسباب من صفات الفاعل أو من صفات الفعل. أما في الإنسان فيصحّ أن تعدّ من صفات الفاعل، كما يصحّ أن تعدّ من صفات الفعل، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، فيقال: فاعل مريد، و فعل مراد، و فاعل مقدّر (بالكسر). و فعل مقدّر (بالفتح)، خصوصا في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد أنه من صفات الفاعل في الخالق و المخلوق، و كذا القدر و القضاء و الإبرام، إما باعتبار منشئهما و هو العلم الاحاطي الأكمل و الحكمة البالغة، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.
و أما بالنسبة إليه تعالى، فما كانت مستلزمة للتغيير و التبدّل فمن صفات الفعل، و ما لم تكن كذلك فمن صفات الذات.
و أصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة و الإرادة من صفات الذات، أن الإرادة علّة تامّة منحصرة لحصول المراد، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إما تعدّد القدماء، أو كون الذات المقدّسة محلا للحوادث، و كلّ منهما مستحيل. و قد اثبتوا امتناع كلّ ذلك بالبراهين المتقنة.
و لكن يمكن الجواب عن ذلك.
أولا: بأن علّية الإرادة لحصول المراد إنما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح)- أي الفاعل غير المختار- دون الفاعل العالم المختار، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبدا، خصوصا في الإرادة الأزلية، فالاختيار في الفعل و الترك، و القدرة القهّارية باقية قبل الإرادة و حينها و بعدها، و حين حصول الفعل أيضا، و لعلّ إحدى مصالح جعل البداء للّه جلّ جلاله ترجع إلى ذلك، حيث قال تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [سورة الرعد، الآية: 39].
و ثانيا: أنه على فرض كون الإرادة علّة تامّة لحصول المراد، و لكن العلّية لا تكون على نحو الجزاف، بل هي على نحو منظم بالنظام الأحسن الأكمل الأتم، فإذا أراد جلّت عظمته خلق آدم- و هبوطه، أو طوفان نوح، و بعثة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و قيام الساعة، و جزاء أهل الجنّة و النّار، بل جميع العوالم الطولية و العرضية، يكون مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل، و إلا يكون من تخلّف المراد عن الإرادة، و هو محال.
و ثالثا: أن الإرادة إن كانت علّة تامّة لحصول المراد، فإنما هو بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. و المراد بالأصل فيه عزّ و جلّ يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته، بلا محذور في البين، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه، و سمعه، و بصره.
و في الحديث: «عالم إذ لا معلوم، و سامع إذ لا مسموع، و بصير إذ لا مبصر».
و بعبارة اخرى: تكون الإرادة التكوينيّة من هذه الجهة، كالإرادة التشريعيّة، فإذا أراد اللّه تعالى الصلاة- مثلا- من عباده، أرادها وفق نظام خاص، بحيث يكون أوّلها تكبيرة و آخرها تسليمة، مع تخلل القيام و الركوع و السجود و الأذكار في البين، فإرادته انبساطية على جميع ذلك، كما أن إرادته الأزلية التكوينيّة تكون كذلك.
قد يقال: إن ما ذكر ينافي قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة آل عمران، الآية: ٤۷].
و يمكن الجواب عنه: بأن مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة، كما هو ظاهر الآية الكريمة. هذا كلّه بحسب القواعد العقلية.
و أما بحسب ظواهر النصوص التي تدلّ على جعل الإرادة و المشيئة من صفات الفعل لا الذات، فلا بد من اتباعها، و لا محيص عمّا ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلّق بموضوع القضاء و القدر، اللذين هما من أسباب الفعل في كلّ فاعل مختار.
و أما أسرار القضاء و القدر في فعل اللّه جلّ جلاله، فقد حيّرت الملائكة المقرّبين و الأنبياء المرسلين.
و في الحديث عن علي عليه السّلام: «بحر عميق فلا تلجه، و طريق مظلم فلا تسلكه، و انه سرّ اللّه فلا تتكلّفه»،
و سيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.
و تعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل جميع أقسامه في أصل الخلق و الصفات و الكيفيات الأخلاقيّة و الطبيعيّة، و الإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام و العقول، كما لا يمكن الإحاطة بالمشيئة الإلهية.
و المشيئة في قوله تعالى: يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ، مشيئة تقدير و إرادة مشيئة حتم، و هو يرشد إلى اختلاف الحالات و العوارض و اللوازم الواردة على النطف في الأرحام، فإن جميع تلك الأمور- سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهيّة، التي هي مجعولة بالعرض- تكون تحت القدرة الإلهية، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة و الذلّة و السعادة و الشقاوة و الإيمان و الكفر و العذاب و نحو ذلك، فإن جميعها يكون في الرحم على نحو الاقتضاء و المشيئة، كما يظهر من الأخبار، منها قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «السعيد من سعد في بطن امه، و الشقي من شقي في بطن امه»، و لا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.
و من ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدّمة بهذه الآية الشريفة، و يصحّ أيضا أن تكون تحذيرا و تخويفا بقدرة اللّه تعالى، فإنه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة اخرى، إتماما للحجّة و بيانا للقدرة الكاملة، ليرتدع الناس عن المعاصي و الآثام.
قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
تعليل لما تقدّم، و عود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد، أي: هو المتوحّد في الالوهية و المتفرّد في جميع شؤون خلقه، العزيز بقدرته و سلطانه، لا يغلب في إرادته و قضائه، هو الحكيم، أي: يفعل بمقتضى الحكمة التامّة.