في الكافي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «إن أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أن اللّه تبارك و تعالى يقول: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فالمنسوخات من المتشابهات، و المحكمات من الناسخات».
أقول: هذه الرواية محمولة على ذكر بعض المصاديق، لا الحصر الحقيقي.
في تفسير العياشي: «سئل الصادق عليه السّلام عن المحكم و المتشابه؟ قال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».
أقول: المراد بالجاهل من لم يكن راسخا في العلم، و إلا فمن كان كذلك مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلا وجه للتشابه و التأويل بالنسبة إليه، و سيأتي في البحث العلمي ما يدلّ على ذلك.
في تفسير العياشي- أيضا-: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان القرآن محكم و متشابه، فأما المحكم فتؤمن به، و تعمل به، و تدين به، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، و الراسخون في العلم هم آل محمد».
أقول: هذه الرواية تدلّ على ما تقدّم في التفسير من أن الجملة عطف على اسم الجلالة، و أن الذين في قلوبهم زيغ يعتقدون بأن جميع الآيات بأصنافها من عند اللّه تعالى، و لكنهم يتّبعون المتشابه لابتغاء الفتنة و يعملون به.
و قوله عليه السّلام: «و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به»، فهو مطابق لفطرة العقول، إذ المجمل لا اعتبار به لديهم، فلا بد من ردّه إلى المحكم و المفصّل.
و أما قوله عليه السّلام: «و الراسخون في العلم هم آل محمد»، فقد تقدّم أنهم علموا ذلك بالوراثة عن خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و يأتي ما يدلّ على ذلك.
في تفسير العياشي: عن مسعدة بن صدقة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه؟ قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».
أقول: تقدّم في الرواية الاولى عن الصادق عليه السّلام ما يتعلّق بهذه الرواية.
و في رواية اخرى: «الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا».
أقول: المراد من الثابت، أي: الحجّية في العمل به، كما أن المراد من ما مضى، أي مضى أمده و انتفت حجّيته، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بالمقام.
و في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «المنسوخات من المتشابهات».
أقول: تقدّم أنه من باب ذكر أحد المصاديق، فلا بد و أن يحمل على قبل العلم بالناسخ، و إلا فيزول التشابه لا محالة.
في الكافي: عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله».
أقول: لأن علمهم من علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ورثوا ذلك منه بالوراثة العلمية و النسبية.
في الكافي: عن بريد بن معاوية، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فرسول اللّه أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه اللّه عزّ و جلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، و الذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم اللّه بقوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، و القرآن خاص، و عام، و محكم، و متشابه، و ناسخ، و منسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه».
أقول: هذا بيان لأصل الراسخ في العلم، و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما يتفرّع منه، و هم أوصياؤه العظام، كما مرّ في التفسير، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بذيل الرواية.
في الكافي: عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام: «نحن قوم فرض اللّه عزّ و جلّ طاعتنا، لنا الأنفال، و لنا صفو المال، و نحن الراسخون في العلم».
أقول: المراد من الطاعة هنا اتّباع أقوالهم و أفعالهم، لأن قولهم و فعلهم عليهم السّلام حاكيان عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فعله، و كلّ من قال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيئا يجب إطاعته، لأن قوله يكون قول النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو قول اللّه عزّ و جلّ.
عن علي عليه السّلام في حديث له مع معاوية: «القرآن حق و نور و هدى و رحمة و شفاء للمؤمنين الذين آمنوا، و الذين لا يؤمنون في آذانهم و قر و هو عليهم عمى، يا معاوية إن اللّه عزّ و جلّ لم يدع صنفا من أصناف الضلالة و الدعاة إلى النار إلا و قد ردّ عليهم و احتجّ في القرآن، و نهى عن اتباعهم و أنزل فيهم قرآنا ناطقا عليهم، علمه من علمه و جهله من جهله، و إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ليس من القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و لا منه حرف إلا و له حدّ مطلع على ظهر القرآن و تأويله و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا: آمنا به كلّ من عند ربنا، و أن يسلموا لنا و أن يردّوا علمه إلينا، و قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ و يطلبونه».
أقول: الروايات في أن للقرآن ظهرا و بطنا كثيرة، و في بعضها سبعة أبطن، و ذلك كلّه محمول على مراتب التأويل، التي يعلمها من علم تأويل القرآن، كما سيأتي.
و أما قوله عليه السّلام: «و له حدّ مطلع على ظهر القرآن»، المراد من هذا المطلع ما يفهمه العالم بالتأويل، و علمه مختصّ بالراسخ في العلم، و الرسوخ في العلم لا يحصل بكثرة الممارسة، بل نور يستوهب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما مرّ.
و أما قوله عليه السّلام: «و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا»، قد أثبتنا في التفسير أن ذلك لا ينافي كونهم راسخين في العلم، و مع ذلك يؤمنون بأن الكلّ منزل من عند اللّه تبارك و تعالى.
و أما قوله عليه السّلام: «ان يردوا علمه إلينا و قال اللّه عزّ و جلّ: و لو ردوه إلى الرسول و إلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، يظهر من سياق هذه الرواية و ذكر هذه الآية الشريفة في ذيلها أن الاستنباط من القرآن لا بد و أن يكون للراسخ في العلم فيه، و هو كذلك لما تقدّم غير مرة من أن القرآن الكريم لا يشرحه إلا السنّة، فهو كالمتن لها، لا يفهم المراد من المتن إلا بالرجوع إلى السنّة المقدّسة.
في تفسير العياشي: عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه التأويل، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، قال: جعلت فداك، إن أبا الخطاب كان يقول فيكم قولا عظيما، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنكم تعلمون علم الحرام و الحلال و القرآن، قال: إن علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث في الليل و النهار».
أقول: أما ان اللّه تبارك و تعالى علّم رسوله جميع ما أنزل، فهو حق واقع، إذ لا معنى للوحي و التشريع بالنسبة إلى خاتم الأنبياء إلا ذلك، و أما كون علم الحلال و الحرام يسير في جنب علم ما يحدث في الليل و النهار، لأنه من الأمور الغيبيّة و أسرار القضاء و القدر التي تحيّرت العقول في أصل دركها، فضلا عن الإحاطة بها، و يمكن أن يستظهر من هذه الرواية أن ذلك أيضا من متفرّعات الرسوخ في العلم، فكما أن أصل الرسوخ في العلم، بجميع مراتبه مختصّ به تعالى، فكذلك أسرار ما يحدث بالليل و النهار.
نعم استلهم أولياؤه بعض مراتبه.
عن مسعدة بن صدقة: عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام: «ان رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: هل تصف ربّنا نزداد له حبا و به معرفة؟ فغضب عليه السّلام و خطب الناس فقال- فيما قال-: عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته، و تقدّمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به و استضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه و لا في سنّة الرسول و أئمة الهدى اثره، فكل علمه إلى اللّه سبحانه، و لا تقدر عظمة اللّه، و اعلم يا عبد اللّه أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كلّ من عند ربنا، و قد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه منهم رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».
أقول: أما غضبه عليه السّلام بالنسبة إلى هذا الشخص فلأنه أراد توصيف اللّه تعالى بما هو خارج عن ظاهر الكتاب المبين و السنّة المقدّسة الشريفة، و يشهد لذلك قوله عليه السّلام: «عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته و تقدّمك فيه الرسول»، ثم ذمّه عليه السّلام للتعمق في ما وراء ذلك، و قد ورد في جملة من الأخبار ذم ذلك أيضا.
و أما قوله عليه السّلام: «و ما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه»، فالمراد التوهّمات أو الخيالات الحاصلة في النفس في المعارف، فليس لأحد أن يتبعها، بل لا بد من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه و إيكال علم ذلك إلى اللّه تبارك و تعالى، و الا فيدخل ذلك في اتباع الشيطان و إغوائه و التعمّق المنهي عنه.
و أما قوله عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب»، فقد ذكر صفات الراسخين في العلم و مدحهم، يعني: أنهم اكتفوا بما استفادوا من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من الرسوخ في العلم، و لم يتعدّوا ما وراء ذلك، لكونه حينئذ من التعمّق المنهي عنه، فمثل هذه الروايات تدلّ على أمرين:
الأول: كونهم راسخين في العلم، و استفادوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
الثاني: أنهم لا يقتحمون- في ما وراء ما استفادوا من الرسوخ في العلم- السدد المضروبة دون الغيوب.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث ثم قال: «إن اللّه جلّ ذكره لسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه، قسّم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تميّزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلا اللّه و أنبياؤه و الراسخون في العلم- الحديث».
أقول: هذا الحديث مطابق لما تقدّم من أن المتشابه و المحكم و غيرهما من مراتب الإدراكات، فلا بد في كلام الحكيم أن يلحظ فيه هذه المراتب.
و عن بريد بن معاوية قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام قول اللّه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، فرسول اللّه أفضل الراسخين قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كله، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم اللّه: يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا و القرآن له خاص، و عام، و ناسخ، و منسوخ، و محكم، و متشابه، فالراسخون في العلم يعلمونه».
أقول: المراد من «تأويل القرآن كله» ما اشتمل على المتشابه و التأويل، و إلا فالمحكمات ليس لها تأويل.
عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، نحن نعلمه».
أقول: تقدّم وجه ذلك.
في العيون عن الرضا عليه السّلام: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم- ثم قال- إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا».
أقول: قد ذكرنا في التفسير أن اشتمال كلمات الأعاظم و الأكابر على المحكم و المتشابه غالبي، بل فطري بالنسبة إلى مراتب العقول، كما يأتي في البحث العلمي.
في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه».
أقول: هذا من باب بيان بعض آثار الراسخين في العلم، لا جميعها.
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و غيره عن أنس و أبي امامة و وائلة بن اسقف و أبي الدرداء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل عن الراسخين في العلم فقال: «من برّت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عفّ بطنه و فرجه، فذلك من الراسخين في العلم».
أقول: هذا تفسير باللازم، لأن من لوازم التقوى و المواظبة على أحكامه الاتصاف بما ورد في الرواية، و يصير العالم بذلك راسخا في العلم، و ليس ذلك من باب الحصر الحقيقي، بل لا بد و أن يحمل على الحصر الإضافي.
و عن علي عليه السّلام أنه قيل له: «هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، إلا أن يعطي اللّه عبدا فهما في كتابه».
أقول: يستفاد منه أن فهم القرآن الذي أفاضه اللّه تعالى على عبده من مراتب الوحي و شؤونه، و هو كذلك، لأن جميع ما شرحه علي عليه السّلام في الأصول و المعارف و كذا أولاده المعصومون، خصوصا الباقران و الرضا عليهم السّلام، لا يكون إلا من مراتب الوحي الإلهي، المستفاد من الوحي الكلّي، و هو القرآن الكريم، بل جميع ما أعطاه اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله من جوامع الكلم الذي افتخر به صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء يكون كذلك.
في الكافي: عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أيها الناس، إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد، و يأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه، و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، و ما حل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق؛ له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجلّ جال بصره و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات، فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربّص».
أقول: أمثال هذه الرواية تدلّ على عظمة القرآن و رفعة شأنه، الملجأ في الفتن و الشدائد، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما حل مصدق»، أي خصم مجادل مصدق.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة»، أي جعله منهجا في عمله، كما أن المراد من الجعل في الخلف ترك العمل به، و معلوم أن العمل بالقرآن يوجب الفوز بالجنّة، كما أن ترك العمل به يوجب الدخول في النار.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و هو الفصل ليس بالهزل»، أي الفاصل بين الحقّ و الباطل.
و المراد من نفي الهزل نفي أي وجه من البطلان عنه.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و له ظهر و بطن»، المراد من الظاهر ما يفهم من ظاهر الآيات الشريفة، و المراد من الباطن الإشارات و الرموز التي يجمعها القرآن التي تحدث إلى يوم القيامة قرنا بعد قرن، و الظاهر و الباطن موجودان في كلمات الأكابر و العظماء، فكيف بكلمات اللّه تبارك و تعالى التي يتشعع معارف بطونها إلى يوم القيامة.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فظاهره حكم و باطنه علم»، المراد من الحكم التصديق الجازم، و ليس المراد بذلك الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء، بل هو الأعمّ منه، و المراد من العلم هو القضايا الحقيقيّة الكاشفة عن الحقائق التي هي العلوم الواقعيّة، لأنّ كلّ تصديق يكشف عن علم، و العلم تابع لظاهر التصديق.
و المراد من علمية الباطن- مع أن ظاهره علم أيضا- هو العلم الذي اختصّ به أولياؤه المكرمون.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ظاهره أنيق و باطنه عميق»، المراد من الأنيق حسن الأسلوب و الإبداع، و أن الأفئدة تهوى إليه، و أما أن باطنه عميق فلأن العقول قاصرة عن الإحاطة بتأويلاته، و كلّ ما تأمّل فيه يتجدّد لها معنى غير الأول.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «له تخوم و على تخومه تخوم»، التخم (بفتح التاء) حدّ الشيء و علامته، و الجمع التخوم، و المراد به حدّ معاني القرآن و علاماته، و لا ريب في أنها تتفاوت بحسب مراتب التأويل و معانيها.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة»، يعني: أن القرآن دليل على معرفته تبارك و تعالى لمن عرف أنه كلام نازل عن اللّه سبحانه، و حيث عرف صفة علمه تعالى من أنه غير متناه من جميع الجهات، فتتحقّق لديه المعرفة التامّة و يذعن بتلك الصفات المتقدّمة للقرآن.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فليجل جال بصره»، المراد من جولان البصر التفكّر في القرآن بما رغّب إليه الشرع، بحيث يكون تفكّره موافقا للحدود الشرعية.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و ليبلغ الصفة نظره»، يعني: يتأمّل بالمعنى الذي مرّ آنفا من أنه من اللّه تعالى، فحينئذ فإن بلغ إلى نظره معاني مستحدثة غريبة، طبّقها على الشرع، فإن وافقها يعتمد عليها و إلا يذرها في بقعة الاحتمال.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ينج من عطب»، أي يخلّصه عن تعبه الذي أتعبه في المعقولات، فإن القرآن منتهى جميعها، فلا بد و أن يرجع كلّها إلى كلام اللّه سبحانه و تعالى.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يخلص من نشب»، أي ينجى و يخلّص كلّ من تعلّق بالقرآن عن جميع المهالك و المتاعب.
و أماقوله صلّى اللّه عليه و آله: «فان التفكّر حياة قلب البصير»، فهو قاعدة عقليّة متّفق عليها في المعقول، و دلّت عليها نصوص كثيرة، فقد أثبتوا: «من أن غذاء الروح و حياتها المعنوية إنما هو بالتفكّر»، و الآيات القرآنية التي ترغّب إلى التفكّر في الطبيعة و ما وراءها تدلّ على ذلك، و سيأتي بيان تلك القاعدة إن شاء اللّه تعالى.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «كما يمشي المستنير في الظلمات»، فهو واضح، إذ ليس الخلاص من ظلمات الجهل إلا بالاستنارة من نور الفكر إن كان في المعارف الدينية.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فعليكم بحسن التخلّص»، يعني تخلّصوا من التفكّر في القرآن بوجه حسن، فلا تدخلوا فيه كلّ و هم و خيال.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و قلّة التربّص»، يعني لا تتعمّقوا في خصوصيات القرآن التي لا تصل إليها عقولكم، بل أوكلوها إلى اللّه تعالى بالرجوع إلى الراسخين في العلم، و من أوحى إليه.
و يمكن أن يراد بقلّة التربّص الممانعة عن دخول الأوهام الباطلة و الخيالات الفاسدة في القرآن.
في الكافي: عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة و ضياء من الاحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار».
أقول: تقدّم ممّا ذكرنا في الحديث السابق بيان هذا الحديث و عدم الريب فيه.
ثم إن هناك طوائف اخرى من الروايات التي ترتبط بالموضوع، فلا بد من التعرّض لها و بيان ما يتعلّق بها.