البحث فيها من جهات:
الأولى: في حقيقتها و هي من الفطريات لكلّ فاعل مختار، لأنّ تقوّم الفعل الاختياري بالقصد و الإرادة وجداني للحيوان، فكيف بالإنسان. نعم، تزيد العبادات على غيرها باعتبار القربة فيها- و هي خارجة عن حقيقة القصد و الإرادة- دل عليها الدليل، فإيكال معنى النية إلى الوجدان أولى من التعرض له، لأنّ كلّ أحد منا يصدر منه في كلّ يوم أفعال عادية متقوّمة بالقصد و الإرادة، فما هو المراد و المدرك في القصد فيها هو المراد في المقام أيضا.
الثانية: اعتبار القصد و الإرادة في العباديات فطريّ و لا وجه لتعلق الوجوب الشرعي به، و لو فرض وجود دليل يدل عليه فهو إرشاد محض لا أن يكون تعبديا شرعيا، إذ لا وجه للتعبد الشرعيّ في الفطريات و التكوينيات فعدّ النية بمعنى القصد من الواجبات الشرعية للصلاة مسامحة واضحة.
الثالثة: اختلفوا في أنّها جزء أو شرط، و استدلوا على كلّ منهما بما هو ظاهر الخدشة كما فصل في المطولات و لا ثمرة عملية، بل و لا علمية في ذلك بعد كونها فطرية و لا بد منها في كلّ فعل اختياري، و بعد الاتفاق على أنّ تركه يوجب البطلان عمدا كان أو سهوا. و الحق أنّه إن قلنا بتعميم الجزء إلى أفعال الجوارح و الجوانح فلا محذور في كونها جزءا، و إن خصصناه بالأولى فهي شرط.
و يمكن أن تكون برزخا بين الجزئية و الشرطية و لا إشكال فيه كما يمكن أن تكون جزءا من جهة و شرطا من جهة أخرى و لا إشكال فيه أيضا.
و ما يقال: في عدم جواز كونها جزءا و لا شرطا لصحة قولنا أردت الصلاة فصلّيت بلا تجوز و لا عناية، و يلزم اتحاد العارض و المعروض على الأول و تقدم الشيء على نفسه على الثاني، لأنّ قيد المعروض كذاته مقدم على العارض.
(مخدوش): بكفاية الاختلاف الاعتباري، فلا يلزم الاتحاد من كلّ جهة على الجزئية و كفاية تعدد الحيثية في تحقق الاثنينية المانعة عن تقدم الشيء على نفسه، فلا يلزم تقدم الشيء على نفسه على الشرطية.
و ما يقال: بأنّها ليست جزءا من موضوع الأمر و لا شرطا له لأنّها ليست اختيارية و يمتنع الأمر بما لا يكون اختياريا سواء كان عدم الاختيارية بجزئه أم قيده. (مردود): بأنّ القصد و الإرادة و الاختيار اختيارية بنفس ذاتها و يكفي ذلك في تعلق التكليف بها جزءا كان أو شرطا و يشهد لذلك ما ورد من الترغيب في نية الخير و التحذير عن نية الشر٦ فكلّ ذلك لا طائل في البحث عنه بعد وضوح الخدشة فيها.
الرابعة: يكفي في القصد واقعه سواء كان ملتفتا إليه تفصيلا أم لا لأنّ
القصد شيء و الالتفات إليه شيء آخر، و ما يتقوّم به الفعل الاختياري هو الأول دون الثاني، فيمكن أن يكون التوجه و الالتفات مصروفا إلى شيء آخر و مع ذلك يصدر أصل الفعل المأمور به بالإرادة الإجمالية الارتكازية الكائنة في النفس، و لا دليل على اعتبار أزيد من ذلك القصد الإجمالي الارتكازي، بل مقتضى الأصل عدم الاعتبار و إلا لبطلت عبادات جميع من لا يتوجهون إلى العمل تفصيلا.
الخامسة: استدلوا على وجوب النية في العبادة، بقاعدة الاشتغال، و الإجماع، و الأخبار التي جمعها في الوسائل في أبواب مقدمة العبادات مثل قوله عليه السلام: «لا عمل إلا بنية»۷.
و الكل مخدوش، لما تقدم من أنّ اعتبار القصد في الأفعال الاختيارية من الفطريات و لا مجال للتعبد فيه و لو فرض وجود دليل معتبر في البين يكون إرشادا إلى الفطرة، مع أنّ الأخبار لا ربط لها بالمقام، بل سياقها سياق الترغيب إلى المنويات الخيرية كما لا يخفى على من راجع جميعها، فلا وجه لتطويل القول فيها.
السادسة: لا ريب في ترتب الثواب على العبادة و هل هو بالاستحقاق أو التفضّل؟ لكل منهما قائل، و استدل كلّ منهما بأدلة، و الحق سقوط النزاع من أصله، لأنّ أصل جعل الاستحقاق إنّما هو من اللّه تعالى تفضلا منه عزّ و جلّ على عباده، فيكون أصل هذا الحق مجعولا فيه لمصالح كثيرة، فمن قال بالاستحقاق نظر إلى نفس الحق المجعول و يصح له التمسك بالأدلة الظاهرة في الاستحقاق، و من قال بالتفضّل نظر إلى منشإ الجعل الذي هو تفضّل منه تعالى.
ثمَّ إنّ مورد الثواب إما فعل اختياري أو لا، و الأول إما عبادة أو لا، و الكلّ صحيح، و تدل عليه الأدلة الأربعة، أما الفعل الاختياري العبادي، فترتب الثواب عليه من ضروريات الدّين. و أما الأمور غير الاختيارية، فتدل عليه جملة من الروايات الواردة في الأمراض و المحن، و موت الأولاد۸ و نحوها من الحوادث
غير الاختيارية. و أما الأخير، فتدل عليه إطلاقات الكتاب و السنة مثل قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها۹.
و الأخبار الخاصة الواردة في الأبواب المتفرقة التي لا مجال للتعرض لها۱۰. و هذا البحث أيضا ساقط، لأنّ فضل اللّه تعالى غير متناه و الجهات التي بها يتفضل على عباده، بل على جميع مخلوقاته غير معلومة لغيره تعالى، لأنّها من أهمّ أسراره الربوبية، كما أنّ جهات الحرمان عن فضله تعالى أيضا كذلك لا يعلمها غيره.