على المشهور المدعى عليه الإجماع، لكونه من الملبوس- بالقوة القريبة- عرفا كما إنّ الحنطة من المأكول مع توقفها على مقدمات تصير بها مأكولا. و أما الأخبار الواردة فهي على قسمين:
الأول: ما يدل على المنع، كحديث شرائع الدّين: «لا يسجد إلّا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّا المأكول، و القطن، و الكتان»۲٦.
و في رواية فضل قال: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): لا يسجد إلّا على الأرض أو ما أنبتت إلّا القطن و الكتان»۲۷.
الثاني: ما يظهر منه الجواز كخبر داود الصرمي قال: «سألت أبا الحسن الثالث (عليه السلام) هل يجوز السجود على القطن و الكتان من غير تقية فقال:
جائز»۲۸.
و عن ابن كيسان قال: «كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن السجود على القطن و الكتان من غير تقية و لا ضرورة، فكتب إليّ ذلك جائز»۲۹.
و فيه: مضافا إلى قصور سندهما- فإنّ عليّ بن كيسان مهمل، و داود الصرمي لم يوثق- إمكان حملهما على التقية، لأنّ فرض السائل عدم التقية أعمّ من أن لا يكون الجواب موردا لها بنظر الإمام (عليه السلام) لجواز أن يكون نفس السائل ممن يتّقى منه و ذكر ذلك حيلة لاستكشاف رأي المعصوم (عليه السلام) و يجب على الإمام بيان الحكم بحسب ما يريد لا بحسب ما يفرضه السائل.
و أمّا خبر منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أ فنسجد عليه؟
قال: لا، و لكن اجعل بينك و بينه شيئا قطنا أو كتانا»۳۰.
فلا ربط له بالمقام، لظهوره في مورد الضرورة و لا إشكال في الجواز حينئذ كما يأتي في [مسألة ۳]، كما إنّ خبر ياسر الخادم: «قال مرّ بي أبو الحسن (عليه السلام) و أنا أصلّي على الطبري و قد ألقيت عليه شيئا أسجد عليه، فقال لي ما لك لا تسجد عليه؟ أ ليس هو من نبات الأرض»۳۱.
أيضا لا ربط له بالمقام. إلّا بناء على أن يكون الطبري قطنا أو كتانا منسوبا إلى طبرستان، و لكنّه مشكل، لاحتمال أن يكون سداه من النباتات و لحمته من القطن و الكتان أو بالعكس و حينئذ يصح السجود عليه بلا إشكال.
هذا مع أنّه لو كان السجود على القطن جائزا لاشتهر نصّا و عملا في هذا الأمر العام البلوى في زمان الصادقين (عليهما السلام) لشدة الحاجة إليه، مع أنّه قد اشتهر الخلاف في زمانهما (عليهما السلام) بحيث عدّ ذلك من شعار الشيعة في كلّ عصر بحيث كانوا يعرفون بهذا الشعار في كلّ طبقة عند غيرهم من المذاهب، و أجمع فقهاؤهم على عدم جواز السجود على القطن و الكتان مطلقا. و من ذهب منهم إلى الجواز- كما نسب إلى المرتضى في الموصليات و المصريّات- قد أفتى بالمنع في جملة من كتبه، بل نقل الإجماع عليه، فلا وجه بعد ذلك لما نسب إلى المحقق في المعتبر من الجواز على كراهة، و تبعه الكاشاني، لأنّ ظاهر الأول في شرائعه المنع، و الأخير لا بأس بمخالفته للمشهور بين الفقهاء، إذ لا تكون آراؤه الشريفة عن تثبت من حيث ملاحظة الإسناد و الإجماعات كما لا يخفى على من راجعها، فكيف يعتمد في مثل هذا الحكم على خبرين قاصرين في السند؟! و كيف يمكن أن يخفى ذلك على أصحاب الصادقين (عليهما السلام) الذين سئلوا عنهما عن كلّ ما يتعلق بالصلاة بمندوباتها فضلا عن شرائطها و موانعها؟! و لم لم يصدر عن الصادق (عليه السلام) الذي هو مؤسس المذهب خبر دال على الجواز لا سؤالا من الرواة عنه و لا ابتداء منه، بل ورد منهما ما هو ظاهر في المنع، ففي صحيح حمران عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «كان أبي (عليه السلام) يصلّي على الخمرة يجعلها على الطنفسة و يسجد عليها»۳۲.
و صحيح الحلبي قال: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): دعا أبي بالخمرة، فأبطأت عليه فأخذ كفّا من حصى فجعله على البساط ثمَّ سجد»۳۳.
و في صحيحه الأخير قال: سألته عن الرجل يصلّي على البساط، و الشعر، و الطنافس قال: لا تسجد عليه و إن قمت عليه و سجدت على الأرض فلا بأس، و إن بسطت عليه الحصير و سجدت على الحصير فلا بأس»۳4.
فإنّ ظهورها، بل صراحتها في عدم الجواز على البساط و الطنافس مطلقا حتّى لو كانا من القطن، أو الكتّان مما لا ينكر.
و أمّا الجواز قبل النسج، و المنع بعده كما نسب إلى العلامة- في بعض كتبه- جمعا بين الأخبار، و لخبر التحف عن الصادق (عليه السلام)- في حديث- قال: «و كلّ شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه، أو مشربه، أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه، و لا السجود إلّا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر، قبل أن يصير مغزولا، فإذا صار غزلا، فلا تجوز الصلاة عليه إلّا في حال ضرورة»۳٥.
فلا وجه له، لأنّه خالف نفسه في التذكرة و لأنّ هذا الجمع ساقط، لسقوط ما دل على الجواز سندا، و جهة، فلا وجه لتوهم المعارضة حتّى يجمع بينهما. و أمّا خبر التحف، فهو موهون بقصور السند و الهجر.
و أمّا توهم: أنّه يجوز السجود على البساط إن كان من القطن لأنّه غير ملبوس فعلا فهو فاسد جدّا، لأنّ مادة القطنية مانعة بأيّ صورة تصوّرت، فهو مثل أن يقال: إنّ من العجين مثلا إذا صنع جلد كتاب و يبس، يصح السجود عليه و بطلانه لا يخفى على أحد.
و خلاصة الكلام: أنّ أخبار القطن، و الكتان على فرض التعارض بينهما، فالجمع بينهما إمّا بحمل أخبار المنع على الكراهة أو بحملها على ما بعد النسج، و ما دل على الجواز على ما قبلها، أو بحمل دليل الجواز على الضرورة، و دليل المنع على الاختيار. و الكلّ باطل إلّا الأخير، بشهادة جملة كثيرة من الأخبار المتقدمة.