البحث في هذا القسم من الخمس من جهات:
الأولى: في أصل تشريعه كسائر الأقسام، و يدل عليه مضافا إلى أخبار مستفيضة، بل متواترة- تأتي جملة منها- استقرار المذهب عليه قديما و حديثا، و السيرة المستمرة في جميع الأمصار و العصور بين الإمامية من زمن الأئمة و اهتمامهم (عليهم السلام) على أخذه و جعلهم الوكلاء لذلك، و إنكارهم (عليهم السلام) أشدّ الإنكار على من يمنعه عنهم. و لم ينسب الخلاف إلا إلى ابني جنيد و عقيل و هما مع كونهما مسبوقين بالإجماع على خلافهما و ملحوقين به. لم يستظهر من عبارتهما الخلاف في هذه الجهة بل في الجهة الثانية التي يأتي التعرض لها.
فمن الأخبار موثق سماعة قال: «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال (عليه السلام): «في كل ما أفاده الناس من قليل أو كثير»٥۷.
و صحيح ابن الصلت قال: «كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): «ما الذي يجب عليّ يا مولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي، و في ثمن سمك، و بردي، و قصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب (عليه السلام) يجب عليك فيه الخمس إن شاء اللَّه تعالى»٥۸.
و صحاح أربع لابن مهزيار المتقاربة المفاد٥۹ عن الأشعري قال: «كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): «أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيده الرجل من قليل و كثير من جميع الضروب، و على الضياع، و كيف ذلك؟
فكتب بخطه (عليه السلام) الخمس بعد المؤنة»٦۰.
و تأتي جملة أخرى منها في المسائل الآتية، فلا تقصر مثل هذه الأخبار عن أخبار تشريع سائر الأحكام لو لم تكن أقوى منها.
الجهة الثانية: في التحليل و العفو عنه بعد ثبوت أصل التشريع و استدل عليه بجملة من الأخبار:
منها: صحيح النصري عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام): «قلت له إنّ لنا أموالا من غلات و تجارات و نحو ذلك و قد علمت أنّ لك فيها حقا، قال (عليه السلام):
فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم، و كل من والى آبائي فهو في حلّ مما في أيديهم من حقنا فليبلغ الشاهد الغائب»٦۱.
و منها: صحيح الفضلاء قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): هلك الناس في بطونهم و فروجهم، لأنّهم لم يؤدوا إلينا حقنا ألا و إنّ شيعتنا من ذلك و آبائهم في حل»٦۲.
و منها: خبر الكناسي: «أ تدري من أين يدخل على الناس الزنا؟ فقلت لا أدري؟ فقال (عليه السلام): من قبل خمسنا أهل البيت إلا لشيعتنا الأطيبين، فإنّه محلل لهم و لميلادهم»٦۳.
و منها: خبر مؤذن بني عيسى- الوارد في تفسير الغنيمة- «هي و اللَّه الإفادة يوما بيوم إلا أنّ أبي جعل شيعتنا في حلّ من ذلك ليزكوا»٦4.
و منها: خبر ابن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام): «إنّ أشدّ ما فيه الناس يوم القيمة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا ربّ خمسي، و قد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم و تزكو أولادهم»٦٥.
و منها: خبر مسمع عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) حيث جاء بثمانين ألف درهم خمس الغوص إليه (عليه السلام) فقال (عليه السلام): «قد طيبناه لك و حللناك منه، فضم إليك مالك و كل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون و محلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا»٦٦.
و في التوقيع الشريف: «و أما الخمس فقد أبيح لشيعتنا و جعلوا منه في حل»٦۷ إلى غير ذلك من الأخبار.
و فيها- أولا: أنّها خلاف المشهور، بل المجمع عليه عند الفقهاء.
و ثانيا: أنّها خلاف سيرة الشيعة- رفع اللَّه شأنهم- في جميع العصور و الأمصار.
و ثالثا: أنّها خلاف سيرة المعصومين في زمان حياتهم و ظهورهم من اهتمامهم بجمع الخمس و التشديد فيه، و جعل الوكلاء في الأطراف.
و رابعا: أنّها موافقة للعامة.
و خامسا: أنّها معارضة بالأخبار المعتبرة المعمول بها عند الطائفة.
و سادسا: أنّها مجملة من حيث التحليل هل أنّه واقعيّ أو ظاهريّ، و على الثاني هل هو لأجل عدم تمكن المبيح من أخذ ماله، أو عدم تمكن المباح له من الإيصال إليه أو هما معا، و المعلوم بحسب القرائن هو الأخير، فلا يستفاد منها على فرض الإغماض عما تقدم إلا الإباحة العذرية ما دام العذر، مع أنّه يحتمل أن يراد بالتحليل تحليل التأخير و عدم التعجيل في الأداء لمصالح في ذلك، أو تحليل الصرف في المصارف الشرعية مباشرة من نفس الملاك و عدم الرجوع فيه إلى الإمام (عليه السلام) مطلقا لمفاسد كثيرة في المراجعة إليه (عليه السلام) و لو بالاستيذان منه في كل واقعة كما لا تخفى تلك المفاسد على من راجع تواريخ الفريقين و تأمل فيها، حيث يجد أنّ عمدة السبب للبغضاء بين العلويين و غيرهم إنّما هو جباية الأموال إليهم، و لا بد للإمام (عليه السلام) أن يدفع ذلك عن نفسه بما يرى فيه حفظا لنفسه و من يتبعه من شيعته.
و بالجملة: التحليل بأيّ وجه لوحظ تحليل وقتيّ خاص لمصلحة تقديم الأهمّ على المهمّ.
و سابعا: أنّ المحلل من الخمس يحتمل أن يكون ما يصل إلى الشيعة ممن لا يعتقد الخمس، أو من الأنفال، فلا ربط لها حينئذ بالمقام.
و ثامنا: أنّ من التعليل بقولهم (عليهم السلام)- كما تقدم-: «لتطيب ولادتهم و تزكو أولادهم»٦۸ يستفاد أنّ المراد تحليل الجواري المغنومة دون مطلق خمس الفوائد.
و تاسعا: يمكن حمل بعضها على وقوع الشيعة في الحرج من إعطاء الخمس بقرينة قوله (عليه السلام): «من أعوزه شيء من حقي فهو في حل»٦۹.
و عاشرا: إنّ مثل قول أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «لا يحل مال إلا من وجه أحلّه اللَّه، إنّ الخمس عوننا على ديننا، و على عيالنا، و على موالينا و ما نبذله و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته فلا تزووه عنا و لا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم و تمحيص ذنوبكم و ما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم- الحديث-»۷۰ غير قابل للتخصيص و التقييد بمثل هذه الأخبار المجملة المعرض عنها، مع أنّ عمدة الخمس من الفوائد، لاستيلاء الجور على المعادن و غيرها، فلو كانت محللة للملاك لاختلت أمور الذرية الطيبة مع حرمة الزكاة عليهم، فلا ينبغي لمن له أدنى درجة من الفقاهة أن يحتمل أنّ أخبار التحليل وردت لبيان حكم اللَّه الواقعي.
ثمَّ إنّ أخبار التحليل أقسام:
الأول: بالنسبة إلى الأراضي. الثاني: بالنسبة إلى الغنائم. الثالث: بالنسبة إلى ما يشتري ممن لا يعتقد الخمس. الرابع: بالنسبة إلى المناكح و هي كثيرة في الأبواب المتفرقة. الخامس: بالنسبة إلى من لم يتمكن من الإيصال لموانع يعرفها الإمام (عليه السلام) و ربما لا يعرفها غيره.
و لا ربط للجميع بالتحليل المطلق الأبدي، إذ الأول: من الأنفال، و هي للإمام (عليه السلام) له أن يحلل ماله إن شاء و أراد و الثاني: كذلك أيضا إن وقعت الحرب بغير إذنه، و الثالث: صحيح لا خلاف فيه نصّا و فتوى، و الرابع: يمكن حملها على الجواري المغنومة، و الأخير: تحليل وقتيّ جهتيّ لا مطلقا.
نعم، بعض الأخبار- كما تقدم- مطلق و لا بد من حمله على بعض المحامل جمعا و إجماعا.
الجهة الثالثة: في تعميمه لكل فائدة و عدم الاختصاص بخصوص أرباح التجارات و يأتي التعرض لها قريبا إن شاء اللَّه تعالى.
الجهة الرابعة: في اعتبار الزيادة عن مئونة السنة و يأتي التعرض لها في [مسألة ٦۱].