بضرورة من المذهب إن لم تكن من الدين، كما في جميع الواجبات النظامية، فضلا عن الإجماع.
(مسألة ۱): القضاء واجب كفائي (۱)، و يصير عينيّا مع الانحصار (۲)، و تعرضه الأحكام الخمسة (۳).
كما في جميع الواجبات النظامية إذا انحصر، و ذلك لأن ذات الوجوب في العيني و الكفائي و التعييني و التخييري واحد بذاته، و خصوصية الكفائية و التخييرية إنما تحصل من جهات خارجية، فإذا انعدمت تلك الجهات يبقى ذات الوجوب المطلق، و الإطلاق يقتضي أن يكون عينيا تعيينا نفسيا، ما لم تكن قرينة على الخلاف، و المفروض عدم القرينة. هذا إذا انحصر و لم يتمكن غيره من تحصيل الشرائط.
و أما إذا انحصر المجتهد فعلا في شخص و تمكّن غيره من تحصيل الاجتهاد مثلا، فالظاهر عدم الانقلاب الى الوجوب العيني، للأصل بعد عدم دليل عليه حينئذ، ثمَّ إنه يمكن أن يكون شيء واجبا كفائيا فينقلب عينيا، ثمَّ ينقلب كفائيا- كما في المقام- إذا وجد من به الكفاية بعد صيرورته عينيا ثمَّ فقد.
ثمَّ إن المراد من الانحصار، العرفي منه دون الدقي العقلي، لابتناء الأحكام على العرفيات دون الدقيات العقلية.
أما الوجوب- عينا أو كفاية- فعلى ما مر.
و أما الحرام: فهو قضاء كل من فقد شرطا من الشرائط الآتية المعتبرة فيه، و يدل على ذلك النصوص، و الإجماع، كما سيأتي.
و أما الاستحباب: فهو مستحب ذاتا- فيما إذا قام به من به الكفاية- لمن يثق من نفسه العمل بوظائفه، و عدم الوقوع في المخاطر، لما يترتب عليه من الإصلاح و غيره من الفوائد المعلوم رجحانها عقلا و نقلا، و لعظم المقام لأنه تشبّه بالأنبياء و المرسلين، مضافا إلى ظهور إجماعهم عليه، و عن علي عليه السلام: «يد اللَّه فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة فإذا حاف وكله اللَّه إلى نفسه»۱، و الحيف الظلم.
و توهم: عدم جواز اجتماع الاستحباب و الوجوب في شيء واحد.
مدفوع: بأنه لا بأس به مع تعدد الجهة، كما هو واقع كثير في الفقه.
و أما الكراهة فهي في موارد تأتي الإشارة إليها.
و أما الإباحة: فيمكن فرضها فيما إذا تعارضت مصلحة تولي القضاء مع مصلحة عدم توليه، أو ظن من نفسه السلامة عن خطراته، و لم يصل ظنه إلى مرتبة الاطمئنان الجازم.
(مسألة ۲): تجب مقدماته عينا مع وجوبه العيني، و كفاية مع وجوبه الكفائي (٤).
لقاعدة تبعية مقدمة الواجب لذيها في أصل الوجوب و خصوصياته، و قد أثبتناها في الأصول.
و المقدمات كثيرة: منها تحصيل أحكام القضاء، و العلم بالموازين الشرعية المقررة لفصل الخصومة على الأدلة المعتبرة، و تنظيم وقائع الخصومات و المرافعات نظما صحيحا شرعيا، و هذا هو العمدة في القضاء إلى غير ذلك من المقدمات.
(مسألة ۳): يحرم القضاء بين الناس و لو في الأشياء اليسيرة- لمن لم يكن من أهله- لعدم العدالة أو الاجتهاد أو لجهات أخرى- (٥)، و إن اعتقد أنه واجد للشرائط (٦).
إجماعا، بل ضرورة من الفقه، و نصوصا كثيرة، منها صحيح ابن خالد عن الصادق عليه السلام قال: «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي الإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبي (كنبي) أو وصي نبي»۲، و منها ما تقدم من قول علي عليه السلام لشريح: «قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي، أو وصي نبي، أو شقي»۳، و انه تصرف في سلطان اللَّه بغير إذن منه، فيحرم تكليفا و وضعا بالأدلة الأربعة4، و تقدم في مسألة ٤۳ من بحث الاجتهاد و التقليد، و كذا في مسألة ۳۷ منه ما يناسب المقام، و سيأتي في مسألة ۱٥ من (فصل شرائط القاضي) ما ينفع المقام.
لأن تلك الشرائط شرائط واقعية، للإجماع، و ظواهر الأدلة، و لا دليل على كفاية إحرازها عند نفسه، بل مقتضى الأصل عدم الكفاية، و عدم الاعتبار لقوله و فعله. نعم تقدم في مسألة ۱٦ من فصل شرائط إمام الجماعة جواز تصدّي الشخص لإقامة الجماعة، إذا لم يعرف من نفسه العدالة و اعتقد المأموم عدالته فان الشرط فيه احرازي تسهيلا على الناس، بخلاف الفتوى و القضاء، فاشتراط الأهلية فيهما واقعية بالنسبة إلى المتلبس بهما، و بالنسبة إلى من يرجع إليهما، كما في أصل النبوة و الإمامة.
(مسألة ٤): لو وجد من يكون متصديا للقضاء و الناس يرجعون إليه في دعاويهم و كان أهلا له لا يجب على غيره عينا (۷). و إن علم بعدم أهليته- لعدم الاجتهاد أو عدم العدالة أو نحو ذلك- وجب إعلام الناس مع جهلهم بالحال (۸)، و إرشادهم إلى من تستجمع فيه الشرائط و لو كان ذلك نفسه (۹)، و إن علم الناس بأنه ليس أهلا للقضاء و مع ذلك تعمدوا في الترافع إليه وجب نهيهم عن ذلك (۱۰)، و إن لم يعلم كونه أهلا أو لا، حمل على الصحة (۱۱)، و لم يجب التصدي عينا (۱۲)، و يصح له إنفاذ حكمه و ترتيب الأثر عليه (۱۳).
لفرض قيام الغير به و وجود من به الكفاية، فلا موضوع للوجوب العيني، مضافا إلى الأصل و الإجماع، و كذا الكلام في جميع الواجبات النظامية.
لوجوب قطع مادة الفساد لكل من يعلم بها و يقدر عليه، و تصدّي من ليس أهلا للقضاء لهذا المنصب من أقوى موارد الفساد و أشدها، و لا اختصاص لهذا الوجوب بالمجتهدين، بل يجب على الجميع مع العلم و القدرة.
لوجوب إقامة العدل و بسطه بين الناس، و المقام من أجلى موارده.
لأنه حينئذ من أظهر موارد النهي عن المنكر و أوجبها، و لا اختصاص لهذا الوجوب بشخص دون آخر، بل هو واجب كفاية على الكل مع العلم به و القدرة عليه، و مع الانحصار يصير واجبا عينيا.
ثمَّ إنه لا بد و أن يكون منشأ العلم بالأهلية أو العلم بعدمها، ما اعتبر شرعا.
لقاعدة الصحة، التي هي من القواعد النظامية المقررة شرعا.
لفرض قيام الغير به بحسب الموازين الشرعية و قواعدها الظاهرية، التي منها قاعدة الصحة، فيصح قضاؤه و يسقط الوجوب العيني عن غيره.
لفرض صحة القضاوة، و صحة الحكم بحسب الموازين الشرعية، كما في سائر موارد جريان الأصول و القواعد المعتبرة الشرعية، فيصير حكمه بذلك حكم الإمام عليه السلام و حكم اللَّه تعالى، كما إذا اعتمد نفس الحاكم في حكمه إلى أصل معتبر، أو قاعدة معتبرة، فيجب إنفاذه و يحرم نقضه.
و احتمال انصراف ما دل على وجوب الإنفاذ و حرمة النقض عن مثله، بدعوى أن مورده ما إذا استند الحكم بنفسه إلى ما وصل عنهم عليهم السلام إلينا، بأن يكون مفاد أمارة معتبرة بحيث انطبق قولهم عليهم السلام عليه انطباق الكلي على الفرد.
فاسد: لفرض أن اعتبار الأصول و القواعد يستند إليهم عليه السلام، فيجب إنفاذ مفادها و يحرم نقضه إن كان مورد حكم الحاكم.
إن قيل: إن الحكم الذي يجب إمضاؤه و يحرم نقضه هو ما إذا علم بأنه حكم الحاكم الجامع للشرائط، و مع الشك في الصحة لا يعلم ذلك.
يقال: لا موضوعية لهذا العلم، بل هو طريق محض للثبوت الشرعي، و بأصالة الصحة يثبت ذلك، كما في جميع الموارد مثل ما لو شك في صحة فتوى المفتي و عدمها، و في صحة صلاة الإمام و نحو ذلك من موارد جريان أصالة الصحة.
(مسألة ٥): لو تعدد من له أهلية القضاء بين الناس- أو خصوص المتنازعين و اختاروا واحد منهم لا يتعين عليه سواء علموا بأهلية الباقين أم لم يعلموا بها و أمكنهم الفحص و العثور عليه (۱٤).
لأن خصوصية العينية خصوصية مشكوكة، و مقتضى الأصل عدم تحققها، و كذا في كل ما إذا شك في تحقق العينية. نعم لو لم يمكنهم الفحص و العثور عليه يتحقق الانحصار و يجب عينا، كما هو واضح، و كذا لو اثبتوا بالحجة الشرعية عدم أهلية غير ما اختاروه، فيتعين القضاء عليه حينئذ.
(مسألة ٦): لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور اختيارا (۱٥) – أي: من لم يوجد فيهم شرائط القضاء (۱٦)- و لو ترافع إليهم كان عاصيا (۱۷)، و لا يحل ما أخذ بحكمهم إذا كان دينا (۱۸)، و في العين إشكال (۱۹).
للأدلة الأربعة: من الكتاب قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ٥.
و من السنة: نصوص مستفيضة دالة على حرمته وضعا و تكليفا، منها قول الصادق عليه السلام في خبر أبي خديجة: «إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور»٦، و منها موثق عمر بن حنظلة قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أ يحل ذلك؟ فقال عليه السلام: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنما يأخذ سحتا و إن كان حقه ثابتا، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، و قد أمر اللَّه أن يكفر به، قال اللَّه تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ الحديث»۷.
و من الإجماع: الضرورة المذهبية بل الدينية.
و من العقل: أنه تأييد و تقرير للباطل و هو قبيح، و بناء العقلاء في كل مذهب من المذاهب- خالقيا كان أو خلقيا- إذا اعتبروا شروطا في قضاتهم يستنكرون الرجوع إلى شخص إذا فقد شرطا من الشروط المعتبرة لديهم. نعم غير المبالين بدينهم لا يبالون بذلك أيضا.
لتحقق الجور أيضا، إذ ليس المناط فيه خصوص صنف خاص من فاقدي الشرط، بل يعم كل من لم يستجمع فيه جميع ما ورد في الشرع من الشرائط للقضاء، و لو أطلق على صنف خاص في الأزمنة القديمة لكان الإطلاق من المثال في تلك الأزمنة. فكل من فقد شرطا من شرائط القضاء. أو الفتوى، و مع ذلك أبدى نفسه لتصدي المنصب فهو جائر، و أي جور أشد من ذلك؟! إلا إذا دل دليل على أن حكما مخصوصا بخصوص صنف خاص منه، مع إطلاق حديث أن القضاة أربعة۸، و فاقد الشرط لا يمكن أن يكون في الجنة فلا بد و أن يكون في النار، و الحصر في قول نبينا الأعظم صلّى اللَّه عليه و آله: «لسان القاضي بين جمرتين من النار حتى يقضي بين الناس، فإما إلى الجنة و إما إلى النار»۹، و فاقد أي شرط لا يكون في الجنة، و لا بد و أن يكون في النار.
لأنه ترويج للباطل، و هو حرام بالأدلة الأربعة- كما تقدم في المكاسب المحرمة- و إعانة على الإثم، مضافا إلى نصوص خاصة يأتي بعضها، بل يشكل جواز الجلوس عند مثل هذه القضاة و لو لعدم فصل الخصومة، قال محمد بن مسلم: «مرّ بي أبو جعفر عليه السلام و أنا جالس عند قاض بالمدينة، فدخلت عليه من الغد، فقال لي: ما مجلس رأيتك فيه أمس؟ قلت: جعلت فداك إن هذا القاضي لي مكرم فربما جلست إليه، فقال: و ما يؤمنك أن تنزل اللعنة فتعم من في المجلس»۱۰.
إجماعا، و نصا، قال الصادق عليه السلام في موثق عمر بن حنظلة: «و ما يحكم له فإنما يأخذ سحتا، و إن كان حقه ثابتا»۱۱، و لأن المال في الدين باق على ملك مالكه، و عدم خروجه عنه بحكم مثل هذا الحاكم، فيكون سحتا.
لفرض كونه ملكا للآخذ، فكيف يكون سحتا حينئذ؟ فهو كما إذا سرق شخص مال زيد، فأخذ زيد ماله عن السارق بحيلة، فيحمل قوله عليه السلام «فإنما يأخذ سحتا»، على أنه سحت حكما، للتوصل في أخذه إلى الحرام، لا أن يكون سحتا موضوعا، فلا يكون تصرف الآخذ فيه كتصرفه في مال غيره، و من الجمود على الإطلاق فلا يحل.
(مسألة ۷): لو توقف استيفاء الحق على الترافع إلى قضاة الجور يجوز مع عدم مفسدة أخرى في البين (۲۰)، خصوصا في صورة الحرج (۲۱)، و لو توقف استيفاء الحق على الحلف كاذبا جاز أيضا (۲۲).
لانصراف الأدلة المانعة عن هذه الصورة، و يشهد له ما ورد من جواز الحلف كاذبا للمصلحة۱۲، مع انسباق إمكان الرجوع إلى الأهل من مجموع الأدلة، فلا تشمل صورة الانحصار و الاضطرار، مضافا إلى حديث نفي الضرر۱۳.
لشمول أدلة نفي الحرج۱4، و الضرر لهذه الصورة أيضا.
إجماعا، و نصوصا، منها قول أبي عبد اللَّه عليه السلام: «إن خفت على مالك و دمك فاحلف تردّه بيمينك»۱٥، و قال زرارة: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم و يخلون سبيلنا و لا يرضون منا إلا بذلك، قال عليه السلام: فاحلف لهم فهو أحلى من التمر و الزبد»۱٦، إلى غير ذلك من الأخبار.
(مسألة ۸): لا بأس للقاضي أن يرتزق من بيت المال ان لم يتعيّن عليه القضاء (۲۳)، و لو كان غنيا (۲٤)، و إن كان الأولى التنزه حينئذ (۲٥)، و كذا يجوز مع تعينه عليه خصوصا إن كان محتاجا (۲٦)، و أما أخذ الأجرة من المتخاصمين أو أحدهما أو غيرهما فالأحوط الترك حتى مع عدم التعين عليه (۲۷). نعم لو كان محتاجا يجوز له أخذ الأجرة على بعض المقدمات (۲۸)، دون الحكم.
للأصل، و الإجماع، و أن بيت المال معدة للمصالح العامة، و هذا من أهمها، و لقول علي عليه السلام: «لا بد من قاض و رزق للقاضي، و كره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم، و لكن من بيت المال»۱۷، و أما صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السلام قال: «سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال عليه السلام: ذلك السحت»۱۸، و ما ورد من أن السحت أنواع كثيرة منها: «أجور القضاة»۱۹، فلا بد من حملهما على غير المورد، و إلا لكان مخالفا للإجماع، و تقدم في بحث المكاسب المحرمة ما ينفع المقام.
لما مر من الأصل، و الإجماع.
لما نسب إلى المشهور من الكراهة حينئذ.
للأصل، و إطلاق ما دل على أن بيت المال لمصالح المسلمين، و هذا من أهم مصالحهم، و جعل المال للقضاة من بيت المال و لو كانوا أغنياء نحو توقير للمنصب و تعظيم له، و هو بنفسه من مصالح بيت المال، فكيف إذا كان محتاجا، و يدل على ذلك عهد علي عليه السلام إلى مالك الأشتر: «و أفسح له بالبذل ما يزيح علّته و تقل معه حاجته إلى الناس»۲۰، و ما أطنبوه من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب قد أثبتنا فساده كما تقدم۲۱، و أن المورد ليس من أخذ الأجرة بل هو من وظائف الشرع تشويقا للقضاة و ترغيبا لغيرهم.
عمدة الدليل على عدم الجواز أن المنصب من فروع الرسالات السماوية، و هي بأصولها و فروعها لا بد و أن تكون منزهة عن المقابلة بالمال، و إلا لهانت على أهل الأرض أصولها، فضلا عن فروعها. فإن تمَّ هذا الوجه، و إلا فالأدلة التي ذكروها و أطالوا الكلام فيها من عدم جواز أخذ العوض على الواجبات، قد ذكرناها في هذا الكتاب مع المناقشات الواردة عليها، من شاء فليراجع بحث عدم أخذ الجعل على الواجبات۲۲، و عدم أخذه على الأذان و نحوه.
الخارجة عما يتعلق بالحكم تعظيما للحكم، مهما أمكن من أن يتدخل فيه توهم المقابلة بالمال، و على هذا يجوز و لو كان غنيا، و إن كان الأولى تركه في هذه الصورة أيضا.
(مسألة ۹): تحرم الرشوة أخذا و دفعا (۲۹)، و هي: ما يبذل للقاضي للتوصل إلى الحكم له بالباطل (۳۰)، نعم لو توقف التوصل إلى حق لم يأثم الدافع لها و إن حرمت على الآخذ (۳۱)، و تحرم أيضا إن كان محقا و لم يتوقف التوصل إلى الحق عليها (۳۲).
للأدلة الأربعة، أما الكتاب فقوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ۲۳.
و أما السنة: فهي متواترة منها قوله عليه السلام في خبر عمار: «فأما الرشا في الأحكام فإن ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله صلّى اللَّه عليه و آله»۲4، و عن أبي جعفر عليه السلام:
«لعن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله رجلا احتاج الناس إليه لتفقهه فسألهم الرشوة»۲٥، إلى غير ذلك من الأخبار كما تقدم في المكاسب المحرمة.
و أما الإجماع فهو من المسلمين، بل جميع العقلاء الذين لهم قاض و حاكم، لاستقباحهم أخذ الرشوة للحكم.
و أما العقل: فلأنه إحقاق للباطل و إبطال للحق، و هو ظلم و أي ظلم أشد منه. ثمَّ إنه لا فرق في حرمتها بين الدافع و الآخذ، لشمول ما تقدم من الإطلاق.
فيكون المعنى المصطلح فيها أخص من معناها اللغوي، و قد أخذ و فيه الاتصال و لكن في المصطلح اتصال خاص.
أما الجواز للدافع، فلحديث نفي الضرر، و حديث رفع ما اضطروا إليه، و ما ورد من جواز الحلف كاذبا لأخذ ماله كما مر. و اما الحرمة للآخذ فلصدق الرشوة عليه، و عدم مجوّز له على ذلك، فتشمله أدلة الحرمة حينئذ، لوجود المقتضي و فقد المانع، و مثله صورة الإكراه على الدفع.
لصدق الرشوة مع قصد الباذل، فيشملها إطلاق الأدلة.
و لكن يظهر من المحقق في الشرائع و الفاضل، الجواز في هذه الصورة، و لعلهما أرادا صورة عدم الصدق، فلا يجوز الرجوع إلى الإطلاق، لكونه من التمسك بالدليل في الموضوع المشكوك، فيرجع إلى أصالة الإباحة.
و لكنه مخدوش مع قصد الرشوة المتعارفة، و يمكن جعل النزاع لفظيا.
(مسألة ۱۰): يجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها (۳۳)، و لا يجوز له التصرف فيها (۳٤)، و لو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له (۳٥)، بلا فرق فيها بين أن تكون بعنوان الرشوة أو بعنوان آخر كالهدية أو البيع المحاباتي أو نحو ذلك (۳٦)، كما لا فرق فيها بين أن يكون ذلك بالمشارطة أو كان ذلك من قصدهما أو قصد الباذل و علم الآخذ بها (۳۷).
لبقاء المال على ملك مالكه شرعا، و إسقاط الشارع رضاءه في النقل، فيجب ردّه إليه بالأدلة الأربعة، كما تقدم في كتاب الغصب.
لفرض أنها ملك الغير، و لا يجوز التصرف فيه إلا بمجوز شرعي، و المفروض عدمه.
إجماعا، و لقاعدة «اليد»- على ما مر في كتاب الغصب- بعد عدم قصد المجانية المحضة من الراشي.
لأن الجميع مع قصد الرشوة إما أن يكون منها موضوعا، أو يلحق بها حكما، فيحرم الجميع قهرا.
لصدق الرشوة على الجميع، فيكون من الخيانة المستقبحة بحكم الفطرة.
(مسألة ۱۱): لا فرق في الرشوة بين كونها عينا أو منفعة أو انتفاعا كما لو خاط للقاضي ثوبا لأن يحكم له أو مدحه كذلك أو سلم عليه بقصدها (۳۸).
لأنه مع القصد المذكور يصدق عليه الرشوة، فيشمله الإطلاق لا محالة.
(مسألة ۱۲): كل قاض أخذ الرشوة يسقط حكمه و لا اعتبار به مطلقا (۳۹).
لخروجه بأخذها من العدالة إلى الفسق، و لا وجه لاعتبار حكم الفاسق و حجيته أبدا.
(مسألة ۱۳): ما يبذل بإزاء تمشية محرّم يكون من الرشوة، و كل ما يبذل بإزاء الحلال لا يكون منها و إن أطلق عليه الرشوة (٤۰).
أما الأول: فلأن الرشوة عبارة عما تستعمل في إحقاق باطل، أو إبطال حق- على ما تقدم في المكاسب المحرمة- و هو يشمل جميع المعاصي و المحرمات.
و أما الثاني: فللأصل، و قاعدة السلطنة، و ما عن الصادق عليه السلام في الصحيح:
«الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحول من منزله فيسكنه، قال عليه السلام: لا بأس به»۲٦، و المراد منه الأماكن المحازة المشتركة، و ما يستفاد منه المنع محمول كما تقدم۲۷.
(مسألة ۱٤): لو شك في شيء إنه من الرشوة المحرمة أو لا؟ يحل دفعه و أخذه و إن كان الاحتياط في الترك (٤۱).
أما الحلية: فلأصالة الحلية، و البراءة، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية، أما الاحتياط فلأنه حسن على كل حال.
(مسألة ۱٥): لا ترتب بين نفوذ الحكم و قبول الشهادة فينفذ الحكم مطلقا و لو كان من الولد على والده و من الخصم على خصمه (٤۲).
لعدم الملازمة بينهما من عقل، أو نقل.
و دعوى أن الحكم شهادة و زيادة، فيعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة مخالف للّغة و العرف، لحكمهما بالتغاير بينهما، فالدليل باطل، و الإجماع غير متحقق، فالملازمة باطلة.
(مسألة ۱٦): يجوز للمترافعين أن يختارا مجتهدين أو أكثر للحكم بينهما على وجه الانضمام (٤۳)، فلا ينفذ الحكم بينهما إلا مع اتفاقهما فيه (٤٤)، و مع اختلافهما يوقف الحكم و لا ينفذ (٤٥)، كما يجوز ذلك على وجه الاستقلال (٤٦)، و لو طلب أحدهما ذلك لا تجب الإجابة على الآخر (٤۷)، و إن كانت أحوط إن كان الطالب هو المدعي (٤۸).
لأصالة عدم اعتبار الوحدة، و إطلاق ما تقدم من الأدلة، و لكون ذلك أوثق في قطع الخصومة، كما يصح ذلك في الوكيلين و الوصيين و المتوليين للوقف، كما تقدم كل ذلك في محله.
لأنه لا معنى للتشريك و الانضمام إلا ذلك، كما في نظائر المقام من الأمثلة التي ذكرناها.
و توهم: عدم الصحة قياسا على الخلافة الإلهية العظمى.
باطل: أما أولا فلأنه قياس، و أما ثانيا فلأنه مع الفارق، لأن المقيس عليه مؤيد بالوحي السماوي و التأييد الغيبي الإلهي، مع أنه منقوض بنبوة ابني عمران موسى و هارون.
لفرض أنهما رجعا إليهما بعنوان التشريك و الانضمام.
للأصل، و الإطلاق، و تظهر الثمرة بين الانضمام و الاستقلال في صورة مخالفة حكمهما، فلا ينفذ الحكم عند المخالفة في مورد الانضمام، و ينفذ حكم من سبق الى الحكم مع المخالفة في صورة الاستقلالية، لوجود المقتضي و فقد المانع حينئذ.
للأصل بعد عدم دليل على وجوبها.
لما قالوا من أن تعيين الحاكم بيد المدعي، و لكن لا دليل لهم على هذه الدعوى، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
(مسألة ۱۷): إذا رجع المتخاصمان في الخصومة إلى الحاكم الشرعي الجامع للشرائط و حكم فيها على موازين القضاء لا يجوز لهما الرجوع إلى حاكم آخر، و ليس للحاكم الثاني النظر فيه و نقضه (٤۹)، و كذا لو تراضى الخصمان بذلك (٥۰). و لو ادعى أحد الخصمين بأن الحاكم الأول لم يكن جامعا للشرائط- كفقدان العدالة أو عدم الاجتهاد- حال القضاء كانت الدعوى مسموعة (٥۱)، فيجوز للحاكم الثاني النظر في الخصومة فلو تبين عند الحاكم الثاني عدم صلوحه للقضاء نقض حكمه (٥۲)، و كذا يجوز النقض لو كان الحكم مخالفا لضروري الفقه على نحو لو تنبّه الحاكم الأول يرجع عنه برفع غفلته (٥۳).
لأن كلا منهما كالنقض على الأول، و هو حرام إجماعا. و نصا۲۸.
لأنه أيضا نقض و ردّ، إلا أن يعنون بعنوان آخر لا يصدق عليه الرد و النقض. و منه يعلم أنه يمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا، فلا يجوز مع صدق النقض و يجوز مع عدمه.
لعدم كونه نقضا بل دعوى صحيحة شرعا، فالمقتضي للسماع موجود و المانع عنه مفقود، فيسمع لا محالة.
لعدم استناده إلى الموازين الشرعية في القضاء، فلا اعتبار بحكمه.
لأن الحكم الشرعي لم يتحقق من الأول حتى يحرم رده و نقضه، بل يجب تنبيهه و إرشاده إلى خطئه.
(مسألة ۱۸): لا يجوز نقض الحكم لحاكم آخر إن كان الحكم نظريا و اجتهاديا و لا يسمع دعوى المدعي لو ادعى خطأه في اجتهاده (٥٤).
لأن الظنون الاجتهادية الحاصلة من الجهد و الجد في المدارك المعتبرة، مختلفة باختلاف الأنظار، و ليس اجتهاد أحد أولى من اجتهاد الآخر، فعموم دليل الاعتبار يشمل الجميع مع ما عليه من هذا الاختلاف في مراتب الانظار و الاستعدادات، فالشارع قرر الجميع تسهيلا على الناس، و الواقع واحد و إن كان طرق الاعتذار للواقع متعددة، فالشريعة وردت على نفوس مختلفة الاستعدادات جدا، الموجب ذلك لاختلاف الآراء و الأنظار، و تبقى الشريعة مع هذه النفوس أيضا فلا بد له من التقرير عند تماميته. نعم لو اثبت دعوى الخطأ بالطرق المعتبرة بحيث رجع عن خطئه يسقط قوله حينئذ لا محالة.
(مسألة ۱۹): لا فرق في وجوب تنفيذ حكم الحاكم الجامع للشرائط بين أن يكون حيا أو ميتا باقيا على الأهلية أو لا (٥٥).
لشمول إطلاق ما دل على إنفاذ حكم الحاكم، و إن رده حرام- كما تقدم۲۹– لجميع ذلك بعد كونه حين الصدور جامعا للشرائط.
(مسألة ۲۰): لا يجوز نقض الحكم بالحكم و كذا نقضه بالفتوى (٥٦).
لعموم ما دل على وجوب إنفاذ الحكم و حرمة رده الشامل للقسمين.
نعم لو علم بفقده للشرائط حين الصدور و تقصيره فيه، لا موضوع للنقض حينئذ، بل يجب رده. و في المقام فروع تعرضنا لها في مباحث الاجتهاد و التقليد۳۰.
(مسألة ۲۱): الفرق بين الفتوى و الحكم من وجوه: الأول: أن الفتوى بيان الحكم الكلي للموضوع الكلي، و الحكم تطبيق الكلي على الموارد الجزئية. الثاني: أن الفتوى حجة للعامي الذي يقلّد المجتهد فيها بخلاف الحكم فإنه حجة في حق العامي و المجتهد و يجب على الكل إنفاذه. الثالث: أن الفتوى تنقض بالحكم دون العكس (٥۷).
يظهر منهم التسالم على هذه الفروق الثلاثة، و المراد بنقض الفتوى بالحكم إبطال الحكم الكلي في خصوص الجزئي، الذي يكون مورد الحكم بالنسبة إلى كل احد، من غير فرق بين الحاكم و مقلديه و غيرهم من الحكام المخالفين له و مقلديهم، فيبطل حكم الاجتهاد و التقليد في خصوص ذلك الجزئي، بلا فرق في ذلك بين العقود و الإيقاعات، و الأحكام التكليفية و الوضعية، حتى الطهارة و النجاسة، فلو تنازع شخصان في بيع شيء من المائعات لاقى عرق الجنب من الحرام، عند حاكم يرى طهارته، فحكم بالطهارة، كان طاهرا مملوكا للمحكوم عليه، و يترتب أثر الطهارة، و لو كان مجتهدا يرى النجاسة أو مقلد المجتهد كذلك، و كذا في نظائر المسألة، و ذلك كله لإطلاق ما تقدم من الأخبار من أن حكمه حكمهم عليهم السلام، و الرد عليه رد على الإمام عليه السلام۳۱.
ثمَّ إن الصور المتصورة أربعة:
الأولى: نقض الفتوى بالحكم، و قد تقدم.
الثانية: نقض الفتوى بالفتوى، و ذلك يتصور فيما إذا رجع شخص عن فتواه و تبين له خطأه فيه و ظهر له رأي جديد.
الثالثة: نقض الحكم بالحكم، يتصور فيما إذا ظهر للحاكم خطأه في حكمه السابق، فيحكم بحكم مستأنف ينقض حكمه السابق.
الرابعة: نقض الحكم بالفتوى، و لا يقول به أحد.
و لا فرق في عدم صحة نقض الحكم بالفتوى، بين ما إذا كان الفتوى المخالفة للحكم من غير الحاكم، أو من نفس الحاكم، بأن حكم بشيء ثمَّ تغيرت فتواه إلى خلافه، فيبقى حكمه صحيحا، للأصل، و عموم الأدلة الدالة على أن حكمه حكمهم عليهم السلام، كما تقدم.
(مسألة ۲۲): لا ينفذ حكم الحاكم الفاقد للشرائط بل لا يجوز إنفاذه و إن كان مطابقا للقواعد من باب الاتفاق (٥۸).
أما الأول: فللأصل، و الاتفاق، و الأدلة الدالة على اعتبار تلك الشرائط في صحة الحكم، و المفروض فقد بعضها. و منه يظهر الوجه في الثاني أيضا إذ لا معنى لوجوب إنفاذ ما هو باطل و غير واجد للشرائط.
(مسألة ۲۳): ليس للمحكوم عليه بعد تمامية الحكم حق استينافه عند حاكم آخر أو الأول إلا مع إبداء الخدشة في تمامية الحكم (٥۹)، و يجوز مع رضا الطرفين و احتمال الخطأ في الحكم (٦۰).
أما الأول: فللأصل، و عموم ما دل على عدم صحة نقضه ورده.
و أما الثاني: فلأصالة صحة دعواه، فيسمع حتى يثبت أن يرد.
لعدم صدق النقض حينئذ، خصوصا مع فرض احتمال الخطأ فيه.
(مسألة ۲٤): لو احتاج الحاكم إلى مترجم لسماع الدعوى أو الشهادة أو غير ذلك- يعتبر أن يكون شخصين عدلين (٦۱).
أما اعتبار التعدد، فلعدم ثبوت الموضوعات شرعا إلا بالبينة، و أما اعتبار العدالة في البينة فهو من ضروريات المذهب بل الدين، و يأتي في كتاب الشهادات بقية الكلام.
- الوسائل: باب ۹ من أبواب آداب القاضي الحديث: ۱.
- الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي.
- الوسائل: باب ۳ من أبواب صفات القاضي.
- راجع تهذيب الأصول ج: ۲ صفحة: ٦۸.
- سورة البقرة: ۱۸۸.
- الوسائل: باب ۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: 4.
- الوسائل: باب ۱۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ٥.
- تقدم في صفحة: ۸.
- الوسائل: باب ۱۲ من أبواب آداب القاضي الحديث: ۲.
- الوسائل: باب ۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: ۱۰.
- الوسائل: باب ۱ من أبواب صفات القاضي الحديث: 4.
- الوسائل: باب ۱۲ من أبواب الأيمان.
- الوسائل: باب ۱۲ من أبواب إحياء الموات.
- سورة الحج: ۷۸.
- الوسائل: باب ۱۲ من أبواب الأيمان الحديث: ۳ .
- الوسائل: باب ۱۲ من أبواب الأيمان الحديث: ٦.
- مستدرك الوسائل: باب ۸ من أبواب آداب القاضي الحديث: ۲.
- الوسائل: باب ۸ من أبواب آداب القاضي الحديث: ۱.
- الوسائل: باب ٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث: ۱۲.
- الوسائل: باب ۸ من أبواب آداب القاضي الحديث: ۹.
- راجع ج: ۱٦ صفحة: ۱۷۷- ۱۸۰.
- راجع ج: ۱٦ صفحة: ۱۷۷.
- سورة البقرة: ۱۸۸.
- الوسائل: باب ٥ من أبواب ما يكتسب به الحديث: ۱۲.
- الوسائل: باب ۸ من أبواب آداب القاضي الحديث: ٥.
- الوسائل: باب ۸٥ من أبواب ما يكسب به: الحديث: ۲.
- راجع ج: ۱٦ صفحة: ۹٦.
- تقدم في صفحة: ۱٥.
- راجع ج: ۱ صفحة: ۱۰۱.
- راجع ج: ۱ صفحة: ۱۰4.
- تقدم في صفحة: ۱٥.