الاستدلال على اعتباره و الجواب عنه
تقدم الكلام في الظنون الخاصة،و أما مطلق الظن فقد استدلوا على اعتباره بأمور:
أحدها:أن مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنة للضرر
و دفع الضرر المحتمل واجب فكيف بالمظنون،فيكون العمل بالظن القائم على الحكم الإلزامي واجبا،و هو المطلوب.
و يرد عليه:أن الكبرى ممنوعة،لأنه إن اريد بالضرر فيه العقاب الاخروي،فالضرر العقابي الذي يجب دفعه منحصر بما إذا كان في أطراف العلم الإجمالي أو في الشبهات البدوية قبل الفحص،و في غيرهما تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان عقلا و البراءة شرعا،و ليس المقام منهما،و مع فرض كونه من أحدهما فصحة النتيجة متوقفة على تمامية باقي مقدمات الانسداد،لأنه حينئذ يصير من إحدى مقدماتها كما لا يخفى.و يأتي عدم تمامية دليل الانسداد.
و إن كان المراد به الضرر الدنيوي فيرد عليه:
أولا:أن تبعية الأحكام مطلقا للمصالح و المفاسد الدنيوية تحتاج إلى دليل
و هو مفقود على نحو الإطلاق و العموم،و إن كان مما لا ينكر إجمالا.
و ثانيا:كل ضرر دنيوي ليس بواجب الدفع مطلقا
بل السيرة العقلانية على الخلاف،فإن بناءهم على ملاحظة الجهات المرجحة،فربما يتحمّلون الضرر لما يترتب عليه من المقاصد الصحيحة العقلائية التي يكون الضرر المتحمل بالنسبة إليها بحكم العدم.
نعم،لو كان الضرر على نحو لا يغلبه شيء من الأغراض العقلائية و يكون غالبا على جميعها،فلا ريب في وجوب دفعه حينئذ،و لا دليل على كون المقام منها إن لم يكن على عدمه.
و ثالثا:على فرض تحققه
فما لم يدل دليل على أن الحكم الذي في مورده من الكبائر فهو مكفّر بالحسنات،كما في الآيات مثل قوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ و الروايات،و هذا يجري في ما إذا كان الضرر المحتمل عقابا أيضا،فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام أصلا.
ثانيها:أنه من البديهي وجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة
و مع عدم العلم بها تفصيلا وجب الاحتياط،و مع تعسّره وجب الأخذ بالمظنون.
ثالثها:إنه بعد لزوم الأخذ بها في الجملة لو لم يؤخذ بالمظنون
لزم ترجيح المرجوح على الراجح،و هو قبيح،فوجب الأخذ بالمظنون.
و يرد عليهما:أن كل واحد منهما مقدمة من مقدمات الانسداد الآتية،و لا ينتج إلا بعد ضم سائر مقدماتها،فلا وجه لذكرها مستقلة.
رابعها:دليل الانسداد
مقدمات دليل الانسداد و المناقشة فيها
و هو مركب من مقدمات أغلبها قابلة للمناقشة،و لم يكن لهذا الدليل رسم في كتب المتقدمين و إنما حدث بين متأخر المتأخرين.
المقدمة الاولى:
العلم بتشريع أحكام في الشريعة،بل يكفي الاحتمال العقلائي لذلك.
المقدمة الثانية:
انسداد باب العلم و العلمي فيها.
المقدمة الثالثة:
عدم جواز إهمال الوقائع المثبتة للتكليف.
المقدمة الرابعة:
بطلان العمل بوظيفة الجاهل من العمل بالاحتياط و الاصول و الأخذ بفتوى الغير.
المقدمة الخامسة:
بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.
و مع صحة جميع هذه المقدمات تنتج حجية مطلق الظن لا محالة.
و لكن يرد عليها:
أولا:بأن حق بيان المقدمة الاولى أن يكون هكذا: «نعلم بوجود أحكام في موارد الطرق المعتبرة تأسيسا أو إمضاء،بحيث لو تفحّصنا و ظفرنا بها و رجعنا في غيرها إلى الاصول المعتبرة،لم يلزم محذور عقلي و لا شرعي أبدا،و قد تفحّصنا و ظفرنا بها فنرجع في غيرها إلى الاصول المعتبرة».و لا ريب في صحة هذه المقدمة،كما لا ريب في تحققها خارجا، و معها لا تصل النوبة إلى سائر المقدمات أصلا،فتكون عقيمة رأسا،فلا وجه للبحث عن سائر المقدمات صحة و فسادا.
و ثانيا:أنه لا ريب في فساد المقدمة الثانية،لأن المراد بالعلم فيها إن كان مطلق ما يوجب الاطمئنان و سكون النفس-كما يكون المراد بالعلم في الكتاب و السنة ذلك-فلا ريب في انفتاح بابه في الأحكام،كما لا يخفى على العوام فضلا عن الأعلام.و إن كان المراد به ما هو المصطلح لأهل المعقول أي:ما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا،فهو و إن كان مسدودا في غير الضروريات، و المتواترات،و المسلّمات الفقهية،و ما استفاضت فيه الإخبار،أو نقل الإجماع، و موارد الإجماعات المتحققة.و لكن باب العلمي مفتوح في الأحكام إلى يوم القيامة بلا شبهة فيه و لا كلام هذا.
و لا ريب في صحة المقدمة الثالثة إما للقطع بأن إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال مبغوض لدى الشارع،أو للإجماع القطعي على عدم صحة الإهمال من الإمامية،بل من المسلمين،و إما لأن نفس العلم الإجمالي منجز عقلا،فلا يصح الإهمال لدى العقلاء.و هذه وجوه ثلاثة لتمامية المقدمة الثالثة،و قد ابتني عليها الكشف و الحكومة،فإن استند البطلان إلى أحد الأولين،فالنتيجة هي الكشف لكونها تابعة لأخس المقدمات،و لا ريب في كون كل واحد منهما شرعيا لا عقليا.و إن استند البطلان إلى الأخير تستنتج الحكومة،لكون جميع المقدمات-على فرض تماميتها-عقلية.و لكن هذا الابتناء ممنوع،لأنه بعد تحقق العلم الإجمالي و حكم العقل بعدم صحة الإهمال،لقاعدة دفع ضرر العقاب المعلوم،يكون حكم الشرع إرشادا إليه لا محالة،سواء كان دليله الإجماع القطعي،أو القطع بالمبغوضية لدى الشارع،كما في سائر موارد حكم الشرع مع وجود حكم العقل البتي.و لو كان المدرك تمام الوجوه الثلاثة لتعين الحكومة أيضا،لكفاية حكم العقل للمدركية،و تكون البقية إرشادا إليه.
و لا ريب في صحة المقدمة الرابعة أيضا،أما الرجوع إلى العالم فلفرض عدمه،إذ المفروض انسداد باب العلم و العلمي،و الرجوع إليه يكون من العلمي، هذا مع إباء نفوس المجتهدين عن الرجوع إلى غيرهم،بل لا وجه له بالنسبة إليهم،كما لا يخفى.
جملة القول في الاحتياط أقسامه بيان الإشكال فيه
و أما الاحتياط فجملة القول فيه:أنه إما تام مخل للنظام،أو موجب للعسر و الحرج،أو لا يوجب شيئا منهما.و الأولان منفيان لدى العقلاء كافة في كيفية الامتثالات و يرون ذلك منكرا،بل يلومون من احتاط بما يوجب العسر و الحرج فضلا عما أوجب اختلال النظام،و يكفي في ذلك عدم بلوغ الردع في الشريعة فكيف بالأدلة الكثيرة الدالة على أنه لا حرج في الدين،و إنه سمحة سهلة.و قد لاحظ الشارع الأقدس في جعله للأحكام قدرة الضعفة،لا سيما الشريعة الختمية المبنية على بيان المعارف و الأحكام و نشرها و تعليمها و تعلمها و التفقه فيها،و قد جرت سيرة الرواة و من بعدهم في كل طبقة على تبويبها و تفصيلها جزئية و كلية و اهتموا بذلك نهاية الاهتمام في كل عصر،و ذلك كله يلازم سقوط الاحتياط الموجب للعسر في كيفية الامتثال فكيف بما إذا كان مخلا للنظام.
و الحاصل:أن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية،فيكون خلاف الطريقة الشرعية أيضا إلا مع التنصيص على الجواز،فكيف بالتصريح بالمنع.
نقل كلام صاحب الكفاية في الحرج الحاصل من الامتثال و الرد عليه
و قال صاحب الكفاية:«إن أدلة نفي الحرج إنما تنفي الجعل الحرجي»، يعني لا يتعلّق جعل للشارع بالتكليف الحرجي،و لا تشمل الحرج الحاصل من ناحية الامتثال،لأنه لم يحصل من طرف الشارع.
و يرد عليه:
أولا:أنه لا حرج في الدين مطلقا،سواء كان في جعل أصل التكليف،أو في امتثاله لعموم دليل نفيه الشامل لهما معا،و يدلّ عليه صحيح ابن سنان حيث جعل عليه السّلام فيه الابتلاء بالوسوسة في الوضوء من الشيطان.
و ثانيا:بأن الامتثال الحرجي-خلاف الطريقة العقلائية-يكفي عدم ثبوت الردع فيه شرعا،فلا تصل النوبة إلى البحث عن أن دليل نفي الحرج هل له الحكومة بالنسبة إلى الامتثال الحرجي أيضا أو لا.هذا كله مضافا إلى ما يأتي من عدم تنجز هذا العلم الإجمالي أصلا.
هذه خلاصة الكلام في الاحتياط المخل للنظام،أو الموجب للعسر و الحرج على الأنام.
و أما ما لا يوجبهما:فجملة القول فيه أنه لا دليل على وجوبه أصلا،لأن دليل وجوبه منحصر بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الواقع،و لا أثر لهذا العلم الإجمالي أصلا.
أما أولا:فلأن الحق في بيان العلم الإجمالي أن يكون هكذا:«إنا نعلم إجمالا بتشريع أحكام في الشريعة،لو تفحصنا عنها لظفرنا بها في موارد الطرق المعتبرة،و قد تفحّصنا و اطلعنا عليها فيها فيزول العلم الإجمالي حينئذ رأسا»، فلا يبقى بعد ذلك موضوع لوجوب الاحتياط أصلا.
و أما ثانيا:فلأن هذا العلم الإجمالي غير منجز،لخروج جملة كثيرة من أطرافه عن مورد الابتلاء في كل عصر و زمان من أول البعثة إلى ظهور الحجة،إلا أن هذه الجملة تتبدل بحسب الظروف و الجهات الخارجية،كخروج أحكام العبيد و الإماء و نحوها في هذه الأعصار عن محل الابتلاء،و في أوائل الإسلام جملة مهمة منها غير الضروريات كانت خارجة عن مورد الابتلاء.
و بالجملة:الابتلاء و عدمه من الامور التدريجية الوجود و الانقضاء،كما لا يخفى على المتأمل.
الإشكال في وجوب الاحتياط الذي لا يوجب العسر و الحرج
إن قيل:العلم الإجمالي الكبير يكون كذلك،فلا تنجز له من هذه الجهة. و أما الصغير-و هو الحاصل بين الأحكام الابتلائية-فلا ريب في تنجزه فيجب الاحتياط فيه،و هو المطلوب.
يقال:ينحل ذلك أيضا،و لا أثر له بسبب الأمارات المعتبرة و الضروريات و المسلّمات و غيرها،فلا تنجز للعلم الإجمالي بكبيره و صغيره،فلا وجه لوجوب الاحتياط و لا تبعيضه،كما لا يخفى.و قد استقصى صاحب الوسائل في كتابه المسمى ببداية الهداية:الواجبات بألف و خمسمائة و خمسة و ثلاثين، و المحرمات بألف و اربعمائة و ثمانية و أربعين،و الظاهر أنه قدّس سرّه عدّ جميع الشواذ و النوادر أيضا و استقصى ذلك نهاية الاستقصاء.و لا ريب في كفاية الأمارات و القواعد و الاصول المعتبرة بهذا المقدار،كما هو معلوم على الخبير البصير.
و أما ما عن الشهيد قدّس سرّه من أن واجبات الصلاة ألف،و كتب فيها كتابه «الألفية».فلا يخفى أن ابتلائيات الصلاة لا تبلغ إلى ذلك الحدّ كما هو واضح على من راجعها.و أما ما ورد من أن للصلاة أربعة آلاف حدّ،فلا بد من ردّ علمه إلى أهله،أو حمله على بعض المحامل.هذا ما يتعلق بالاحتياط.
الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه الجواب عن الإشكال المعروف من التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله
الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه و أما الرجوع إلى الاصول فإن كانت مثبتة للتكليف فلا محذور من الرجوع إليها حينئذ،و إن كانت نافية فقيل بعدم صحة الرجوع إليها إما لأجل استلزامه الخروج عن الدين،أو لأجل الإجماع على الخلاف،أو لأجل العلم الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية في البين،فيلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله حينئذ في قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»،كما يأتي بيانه.و لا مجرى لسائر الاصول معه أيضا،لاختصاصها بالشك البدوي دون المقرون بالعلم الإجمالي.
و يرد الأول:بأنه صحيح إن جرت الاصول النافية في جميع أحكام الشريعة أو في معظم الأحكام،و لا يقول به أحد بل لا يرضى به عاقل، لاختصاص مجراها لدى العقلاء بمورد فقد الأمارات و القواعد و الاصول المثبتة المعتبرة،و هي موجودة كافية.فيرجع في غير مواردها إلى الاصول النافية بلا محذور أبدا.
و يرد الثاني:باستقرار بناء الفقهاء في كل عصر إلى الرجوع إليها بعد الفحص و اليأس عن غيرها،و سيأتي أن نزاع الأخباري مع الاصولي نزاع صغروي،لا أن يكون كبرويا.
و يرد الثالث:بما مرّ غير مرة من سقوط هذا العلم الإجمالي عن التنجز بالمرة،فالمقتضي لجريانها في مورد فقد الأمارات-و هو الشك-موجود، و المانع عنه مفقود،فتجري الاصول النافية بلا محذور في البين.
إن قلت:عند تحقق الشك و الظن،مقتضى الفطرة الأخذ بالأخير،فلا تصل النوبة إلى الأصل،فيصح استنتاج اعتبار مطلق الظن حينئذ.
قلت:نسلّم أن مقتضى الفطرة في الظنون الخاصة المعتبرة بالخصوص. و أما مطلق الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل فاقتضاؤها للأخذ به و ترك الأصل الذي دل على اعتباره الأدلة ممنوع،كما لا يخفى.
و أما لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله،فالجواب عنه إن محذور جريان الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي:
تارة:ثبوتي.
و اخرى:إثباتي.
أما الأول:فالقول بوجوب الاجتناب-مثلا-عن جميع الأطراف مقدمة للعلم،و عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما محذور بنفسه،لا ينبغي صدوره عن عاقل فضلا عن الحكيم.و كذا عدم وجوب الاجتناب عن الأطراف جميعا، للأصل مع وجوب الاجتناب عن أحدها لا بعينه.
و أما الثاني:فإنه بناء على شمول اليقين في قوله عليه السّلام:«لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»لليقين الإجمالي أيضا.فتقرير لزوم التناقض أن مقتضى الصدر حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الطرفين، و مقتضى الذيل حينئذ عدم حرمة نقض اليقين بالشك في مورد العلم الإجمالي، فيلزم التناقض.
و يرد عليه:
أولا:إمكان منع شموله لليقين الإجمالي فلا يلزم المحذور أبدا.
و ثانيا:على فرض الشمول إن اليقين الاجمالي إما أن يلحظ بالنسبة إلى يقين كل واحد من الطرفين بالخصوص الذي كان سابقا،ثم شك في البقاء،أو بالنسبة إلى مجموعهما من حيث المجموع،أو بالنسبة إلى المردد من حيث الترديد،أو بالنسبة إلى المعلوم واقعا و في علم اللّه تعالى.
أما الأول:فلا ريب في عدم اليقين بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين على خلاف اليقين الاستصحابي.
و أما الثاني:فلا ريب في عدم تحققه في الخارج حتى يكون مجرى الاستصحاب و يلزم التناقض بين صدره و ذيله،فإن مجراه هو الفرد الشخصي الخارجي دون المجموع من حيث المجموع الذي ليس إلا أمرا وهميا فقط.
و أما الثالث فلا تحقق له أصلا،إذ التحقق و الوجود مساوق للتشخّص في الجملة،و المردد من حيث هو لا تشخّص له رأسا.و أما الرابع فهو حق و لكنه ليس مجرى الاستصحاب في شيء حتى يلزم التناقض في دليله،إذ لا شك فيه مع أنه ليس له أثر عملي لفرض التردد الظاهري هذا.
و لكن يمكن أن يقال:إن التنافي الثبوتي بين جريان الاصول النافية في الأطراف و العلم الإجمالي بالخلاف،يسري إلى مقام الإثبات أيضا،لمكان التلازم العرفي بينهما،كما هو أوضح من أن يخفى.و لعل هذا مراد من قال بلزوم التناقض أيضا أي التنافي بالعرض لا بالذات،فيصح أن يجمع بهذا بين الكلمات،فمن ينفيه يريد به ما بالذات،و من يثبته يريد ما بالعرض.
بيان المختار في دليل الانسداد
فتلخّص مما مرّ:أنه لا نتيجة لدليل الانسداد أصلا،و على فرضها فهي تكون التبعيض في الاحتياط،لو فرض أن دائرة العلم الإجمالي بالأحكام تكون أوسع من موارد الأمارات،و القواعد،و الاصول المعتبرة فيعمل حينئذ بالاحتياط حتى يضعف العلم و تصير الأطراف عرفا كالشك البدوي،فيعمل بالاصول النافية حينئذ.فمن قال بأن النتيجة-على فرض التمامية-العمل بالاصول النافية. أي بعد ضعف العلم الإجمالي و صيرورة أطرافه كالشك البدوي،و من قال بأن النتيجة التبعيض في الاحتياط أي قبل ذلك،فيصير هذا النزاع أيضا لفظيا بلا ثمرة،فراجع و تأمل.
و ينبغي التنبيه على امور:
الأول:هل تكون نتيجة دليل الانسداد في المسألة الأصولية أو في الأحكام أو فيهما معا
الأول:هل تكون نتيجة دليل الانسداد-على فرض تماميتها-اعتبار الظن في المسألة الاصولية أي الحجية و الطريقية فقط،أو في نفس الأحكام فقط،أو فيهما معا.
و الحق سقوط هذا البحث من أصله لأن نفس دليل الانسداد من المسائل الاصولية،و المناط في المسألة الاصولية ما كانت مستلزمة لصحة الاعتذار، و حينئذ فكل ظن مطلق صح الاعتذار به لدى الشارع الأقدس يشمله دليل الانسداد،سواء كان في الطريق،أو في الحكم،أو فيهما معا بلا واسطة،أو معها و ما لا يصح فلا يشمله الدليل،سواء كان في الطريق أو في غيره،مع أن ظاهرهم التسالم على لزوم الأثر الشرعي فيه،مضافا إلى أن الظن بالطريق في الغالب يستلزم الظن بالواقع و بالعكس.
نعم ينفك كل منهما عن الآخر عقلا بل و أحيانا في الخارج أيضا،و لكنه ليس بنحو يفصل فيها لقول.
و استدل من قال بالاختصاص بخصوص الطرق:
تارة:بانحصار الواقعيات بمؤدياتها.
و يرد:بأنه إما من التصويب المحال،أو المجمع على بطلانه.
و اخرى:بأن امتثال التكاليف مقيد بأن يكون منها.
و يرد:بعدم دليل عليه بعد الانسداد.
نعم،منع عن العمل بالقياس و الاستحسان و نحوهما،و ذلك لا يستلزم التقييد،مضافا إلى ما مرّ من الملازمة الغالبية بينهما و لا وجه للتقييد،كما لا يخفى.
و ثالثا:بأن الظن بالطريق أقرب إلى الواقع.
و يرد:بأنه من مجرد الدعوى.
و رابعة:بأنه كما إنا نعلم بالواقع نعلم بجعل طرق إليه أيضا،و بعد تمامية المقدمات يعمل بالظن بالطريق و في غيره يرجع إلى البراءة.
و يرد:بأن الطريق المجعول لا موضوعية فيه بوجه،بل هو طريق محض إلى الواقع،و المدار كله عليه فجعل الطريق على فرض حجيته لا أثر له إلا الطريقية،بلا فرق بينهما مع الملازمة الغالبية بينهما،فالحق عدم الفرق في الحجية على فرض تمامية المقدمات بين الظن بالواقع،أو بالطريق،أو بهما معا.
الثاني:هل تكون نتيجة دليل الانسداد الكشف أو الحكومة؟
الثاني:هل تكون النتيجة بعد تمامية المقدمات اعتبار الظن شرعا-المعبر عنه بالكشف-أو لغاية امتثال المظنونات-المعبر عنه بالحكومة-الحق هو الأخير،لأنه بعد فرض تماميتها يحكم العقل بكفاية الامتثال الظني ما لم يردع عنه الشرع،و لا ردع إلا في مثل القياس،فلا نحتاج بعده إلى استكشاف حكم الشرع،و لو فرض ذلك لكان إرشادا محضا،لفرض كفاية المقدمات في لزوم الامتثال الظني و كفايته عقلا،فيكون حكم الشرع حينئذ إما إرشادا أو مؤكدا لحكم العقل.هذا مع أن المقدمات إما عقلية أو عقلائية.فتكون النتيجة تابعة لها أيضا،لأن العلم بالأحكام وجداني و انسداد بابي العلم و العلمي على فرض التمامية كذلك،و بطلان الإهمال عقلي أيضا،لأنه ظلم و كفران بالنسبة إلى المنعم الحقيقي،بل ظلم بالنسبة إلى نفس المكلف أيضا،و بطلان الاحتياط المطلق بل عدم جوازه كذلك.و كذا الرجوع إلى الاصول النافية مطلقا و رجوع العالم إلى غيره أيضا خلاف مرتكزات العقلاء،و قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلي فتكون النتيجة عقلية لا محالة.و ابتناء الكشف و الحكومة على أنه إن كان مدرك بطلان المقدمة الثالثة الإجماع القطعي،أو الخروج من الدين فيتعين الكشف حينئذ،و إن كان مدركه غيرهما فالحكومة لا وجه لها،إذ الإجماع القطعي أو الخروج من الدين لا موضوعية لهما قطعا،بل مرجعهما إلى أن ترك الامتثال المطلق بعد العلم بالتكاليف ظلم على المنعم و على النفس فيرجعان إلى ما مرّ و لا محالة تكون النتيجة الحكومة.
إن قلت:إن مدرك بطلان مطلق الاحتياط هو الإجماع و هو شرعي، و النتيجة تابعة لأخس المقدمات فيستفاد منه جعل الشارع للظن حجة.
قلت:بطلان الاحتياط المطلق أوضح من أن يتمسك له بالإجماع،و لا ريب في كونه عقلائيا،و لو فرض تمامية الإجماع فهو حاصل من المرتكزات العقلائية،لا أن يكون إجماعا فقهيا معتبرا،كما لا يخفى.
إن قلت:معنى الحجية هو أن يكون الشيء تخصص به العمومات أو تقيد به المطلقات،و يعمل به كسائر الحجج المعتبرة.و الظن بناء على الحكومة ليس كذلك،لأن معناه-كما مرّ-كفاية الامتثال الظني،و ليس هذا من الحجية في شيء،بل يكون مثل كفاية الاحتياط في الامتثال.
قلت:الحجة عند العقلاء،ما يصح أن يحتج بها العبد لدى المولى؛مع أن من مقدماته العلم بالأحكام و هو حجة بالذات،و لا ريب في إطلاقها بهذا المعنى على الظن بناء على الحكومة،فلا محذور في أن يخصص به عام أو يقيد به مطلق.هذا مع أن الحجية إنما هي لأجل الطريقية للامتثال و لا موضوعية فيها بوجه،و هو الأصل الذي لا بد و أن يعتنى و يهتم به،فلا ثمرة عملية في هذا البحث بل و لا علمية معتنى بها و إن اطيل الكلام فيه.
الثالث:هل تكون النتيجة كلية أو مهملة؟
الثالث:هل النتيجة كلية-بمعنى اعتبار الظن من أي سبب حصل و في أي مورد،و بأي مرتبة كان-أو هي مهملة و يحتاج في التعميم إلى دليل آخر فيكون دليل الانسداد على فرض التمامية جزء الدليل لا تمامه؟
الحق هو الأول إلا مع القرينة على الخلاف،لأن مقتضى طبع الاستدلال على شيء أن يكون وافيا بحدود المدلول و قيوده مطلقا،و ذلك مقتضى السيرة العقلائية أيضا في استدلالاتهم في علومهم و محاوراتهم،و الإجمال و الإهمال في الأدلة خلاف السيرة العقلائية،و لا فرق فيه بين الكشف و الحكومة.
نعم،مع وجود الظن الاطمئناني في البين و كفايته،مقتضى بناء العقلاء و المتشرعة عدم التعدي عنه إلى غيره،و كذا لو فرض أهمية المورد بحيث لا يكتفى فيه بغير الاطمئناني،أو بأصل الظن مطلقا و تشخيص ذلك ليس من وظيفة الاصول،بل لا بد و أن يثبت في الفقه،و يكفي فيه هذا المقدار من البحث.
و يمكن جعل النزاع لفظيا،فمن قال بالإهمال أي الاكتفاء بالقدر المتيقن لو كان،و من قال بالتعميم قال به بحسب عموم الدليل ثبوتا،و لكن مع وجود القدر المتيقن الكافي لا ريب في الاقتصار عليه خارجا،و لا يجترئ كل فقيه أن يتعدى عنه.
ثم إنه لو كانت أسباب حصول الظن و مرتبته و موارده متحدة من تمام الجهات فالنتيجة كلية لا محالة،و مع الاختلاف بالقوة و الضعف و بالأهمية يتحقق القدر المتيقن،فيقتصر عليه مع الكفاية و يتعدى عنه مع عدمها.
و لا يخفى سقوط هذا النزاع و عدم الثمرة له من أصله لعدم اجتراء أحد على التعدي عن المتيقن إلى غيره،سواء قيل بالكلية أو بالإهمال.
و كيف كان،فإنه بناء على الإهمال استدلوا بوجوه للتعميم:
منها:دعوى الإجماع عليه.
و يرد:بأن المسألة من المستحدثات،مع أن التعميم مع الاحتياج إليه في الجملة من المرتكزات،فكيف يكون هذا من الإجماع التعبدي الذي يستكشف منه رأي الإمام عليه السّلام،لا سيما في هذه المسألة المبتنية على مقدمات جعلية فكرية كجملة من المقدمات المنطقية،و يجلّ شأن الإمام عليه السّلام من التدخل في مثل هذه المقدمات و توابعها.
و منها:الظن المطلق بعد تمامية المقدمات يكون كالقطع،فلا فرق فيه بين الموارد و الأسباب و المراتب.
و يرد:بأنه كذلك لو لم يكن قدر متيقن للثلاثة،من السبب،و المورد، و المرتبة في البين،و مع وجوده يكون القياس مع الفارق،كما لا يخفى على كل أحد.
و منها:مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في جميع موارد الظنون و مراتبها و أسبابها هو التعميم،مع أنه مقتضى قاعدة الاشتغال بعد العلم باعتبار الظن في الجملة.
و يرد:بانحلال العلم الإجمالي بما هو متيقن الاعتبار في الجهات الثلاث، و معه لا موضوع لقاعدة الاشتغال في غير معلوم الاعتبار.
الرابع:الإشكال على النهي عن الظن القياسي و الرد عليه
الرابع:قد استشكل في النهي عن الظن القياسي بعد تمامية مقدمات الانسداد من وجهين:
أولهما:أنه قد يصيب الواقع و قد يخطئ،كسائر الظنون،فالنهي المطلق عنه،تفويت للواقع على المكلفين عند الإصابة،و هو مناف لمقام الشارعية.
و يرد عليه:بأن إصابة الواقع فيه أحيانا مع المفاسد الكثيرة المترتبة عليه من الخير القليل النادر المستلزم للشر الكثير،و ليس بناء العقلاء في مثله الأخذ بالخير القليل النادر و التحمّل للشر الكثير الغالب،بل و لا يلتفتون إلى مثل هذا الخير القليل أصلا،و لا فرق في هذا الإشكال بين الكشف و الحكومة.
ثانيهما:بناء على الحكومة يكون الظن كالقطع عند العقل فكما لا وجه للنهي عن اتباع القطع،فكذا الظن الانسدادي بناء عليها،و قد اشتهر:أن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.
و يرد:بأن الحكم العقلي غير القابل للتخصيص منحصر في ما إذا كان العقل الحاكم به محيطا بما له دخل في حكمه جزئية و كلية،جزء و كلا،إحاطة واقعية من كل حيثية و جهة،و مثل هذا العقل منحصر بالعقول المؤيدة بروح القدس،فإنه يكشف عليهم الواقع فيرونه على ما هو عليه،و أما سائر العقول فمطلق أحكامهم تعليقية و ليست تنجيزية،فهي معلّقة على عدم ورود التخطئة أو التخصيص من عقل آخر يكون قاهرا عليها الذي يكون نسبة جميع العقول إليه نسبة الشمع إلى الشمس،فمع ورود التخطئة أو التخصيص لا حكم أصلا لها،كما لا يخفى.
الخامس:لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر
الخامس:لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر يتعين الأخذ بالظن المانع، لأن طرحهما معا مخالف لفرض تمامية النتيجة،و الأخذ بهما معا مخالف لاعتبار الظن المانع،و الأخذ بالممنوع ترجيح المرجوح على الراجح،فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التخصيص و التخصص،فإن إخراج الظن المانع عن المقدمات يحتاج إلى مخصص،و لكن خروج الظن الممنوع عنها يثبت بوجود الظن المانع،و مع دوران الأمر بينهما مقتضى المحاورات العقلائية تقديم التخصص على التخصيص.
السادس:كلام في الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف
السادس:نتيجة دليل الانسداد على فرض التمامية إما حجية الظن في إثبات الواقع المعبّر عنه بالكشف،أو كفاية امتثال مظنونات التكليف-المعبّر عنه بالحكومة-و أما اعتبار الظن بالفراغ بعد تعلّق أصل التكليف و ثبوته بحجة معتبرة،فلا ربط له بدليل الانسداد أصلا،لعدم تكفّل مقدماته له.و النتيجة تابعة لها،لأنه من المقدمات العلم بالواقع إجمالا،و انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إليه،و أين هذا مما إذا علم الواقع و تنجز التكليف به فعلا من كل جهة و ظن بامتثاله؟!فمقتضى أصالة عدم الحجية عدم اعتبار مثل هذا الظن مع ما ارتكز في الأذهان:إن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك:إلا إذا دلّ دليل خاص على تسهيل الشارع و تيسيره،و الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا،كما دل على عدم الاعتبار بالشك بعد الوقت،و بعد الفراغ،و التجاوز عن المحل،و مثل حديث:«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»،و غيره من القواعد الامتنانية التسهيلية.
السابع:في الظن الغير المعتبر
السابع:الظن غير المعتبر ساقط عن الاعتبار مطلقا،فلا يجبر به ضعف السند و لا الدلالة و لا جهة الدلالة،كما لا يوهن به ذلك كله،لفرض عدم اعتباره.
نعم،بناء على اعتبار الخبر الموثق به لو حصل به الوثوق صح الاعتماد عليه حينئذ من جهة الوثوق،كما أنه لو كان من القرينة المحفوفة بالكلام التي منعت عن تحقق الظهور،يسقط الظهور حينئذ،فتكون من السالبة بانتفاء الموضوع،لا لأجل اعتبار الظن،كما أنه لو كان في الفقه مورد دلّ الدليل فيه على اعتبار مطلق الظن فيه،يعمل به و لو لم يكن معتبرا لأجل الدليل حينئذ،و قد مرّ بعض القول في بحث الظواهر و التعارض أيضا.
الثامن:اعتبار الظن في الاعتقاديات
الثامن:هل يكون الظن-خاصا كان أو مطلقا على فرض اعتباره-معتبرا في الاعتقاديات،كاعتباره في الفرعيات؟
أقسام الاعتقاديات.الاستدلال على وجوب المعرفة عقلا و الرد عليه
الحق أن يقال:إن الاعتقاديات على قسمين:
الأول:ما وجب فيه تحصيل العلم.
و الثاني:لا يجب فيه ذلك،بل وجب الاعتقاد به على ما هو عليه في الواقع و لو لم يعلم،و لا موضوع لاعتبار الظن بقسميه فيهما،كما يأتي.و من الأول معرفة المبدئ تعالى،و النبي صلّى اللّه عليه و آله،و الإمامة التي هي من المناصب الإلهية.
و استدل على وجوب المعرفة فيها عقلا:
تارة:بقاعدة حسن شكر المنعم،إذ لا ريب في كون اللّه تعالى هو المنعم على الكل بجميع أنحاء النعم،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام وسائط الفيض و النعمة، كما لا ريب في توقف الشكر على معرفة المنعم و الواسطة،فتجب المعرفة عقلا.
و يرد عليه:
أولا:أن شكر المنعم حسن عقلا،و ليس كل ما هو حسن عقلا بواجب كذلك،فلا تتم قاعدة المقدّمية في المقام إلا بناء على وجوب الشكر،و هو يحتاج إلى دليل عقلي آخر.
الاستدلال على وجوب معرفة المعاد و المناقشة فيه
و ثانيا:أن معرفة اللّه التي هي أجلّ الكمالات النفسانية أجلّ من أن يكون وجوبها غيريا،بل لا بد و أن يكون نفسيا،و كذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام.
و اخرى:بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل التي هي من القواعد العقلائية في الجملة،إذ لا ريب في احتمال الضرر في ترك معرفة اللّه تعالى و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام،خصوصا مع احتمال أن اللّه تعالى يريدها من خلقه، فيحكم العقل بوجوبها دفعا للضرر.
إن قيل:الضرر المحتمل إن كان دنيويا فليس كل احتمال ضرر دنيوي بواجب الدفع،كما مرّ.و إن كان أخرويّا فهو متوقف على تحقق المخالفة،و هو متوقف على إثبات المولوية له تعالى و صدور الأمر منه و ثبوت المخالفة،و ذلك كله متأخر عن أصل المعرفة،فكيف تثبت به المعرفة.
قلنا:المراد بالضرر في المقام الدنيوي و الاخروي معا لأهمية المورد الذي لا أهم منه.أما الضرر الدنيوي فلأن الجهل باللّه تعالى و بنبيه و خليفته نقص نفساني،فإذا كان عدم العلم بالحساب،و النحو و الصرف و نحوها نقصا عرفيا عقلائيا،فكيف لا يكون في الجهل بما هو أهم الكمالات النفسانية نقصا.
و أما الضرر الاخروي فهو و إن كان في الغالب مترتبا على مخالفة التكليف و لكن ليس متقوّما بذلك،بل المناط فيه تفويت الواقع بعد التوجه إليه في الجملة عن عمد و اختيار،و لا ريب في المقام بعد احتمال العقاب في ترك المعرفة و احتمال أن اللّه تعالى يريدها من عباده.
و أما المعاد فاستدل على وجوب معرفته في الجملة:
تارة:بأن العلم به مقدمة لامتثال التكاليف،فيجب من باب المقدّمة.
و يرد:بأنه لا كلية فيه،لأن من عباد اللّه تعالى من يعبده حبا له تعالى،لا خوفا من ناره و لا طمعا في جنته.
و اخرى:بأنه من ضروريات الإسلام،بل جميع الشرائع الإلهية.
و يرد:بأن وجوب معرفته حينئذ شرعي لا أن يكون عقليا،كسائر الضروريات.
و ثالثة:بأن في ترك معرفته احتمال الضرر بنحو ما مرّ في معرفة اللّه تعالى،و الظاهر صحته،كما لا يخفى.
فتلخّص:أن دليل الوجوب العقلي لمعرفة المبدأ و المعاد،و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام هو قاعدة دفع الضرر المحتمل،فتبصّر.هذا ما يتعلّق بأصل المعرفة.
و أما إثبات أصل وجود اللّه تعالى و نفي الشريك عنه،و توحيده الذاتي، و انحصار المعبود به تعالى،و إثبات وجوب وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، فمحل البحث عن ذلك في علم الحكمة و الكلام.
الاستدلال على وجوب المعرفة شرعا و ردّه
ثم إنه قد استدل على وجوب المعرفة:
تارة:بالإجماع.
و يرد:بعدم كونه إجماعا تعبّديا،بل هو حاصل مما ارتكز في الأذهان من قاعدة دفع الضرر.
و اخرى:بما ورد في الترغيب إلى المعرفة و العلم.
و يرد:بأنه أعم من الوجوب مع أن الوجوب المولوي متوقّف على معرفة المولى،فلو توقفت عليه لدار،و على فرض دفع الدور بالإجمال و التفصيل و تمامية الاستدلال،يكون إرشادا إلى ما حكم به العقل.
و ثالثة:بقوله تعالى: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ بناء على تفسير العبادة بالمعرفة.
و فيه:مضافا إلى ما ورد على سابقه أخيرا،أن المراد بالمعرفة-على فرض صحة التفسير بها-إما المعرفة بمعنى الغاية التكوينية،أو الغاية الجعلية، أو المعرفة الحاصلة من العبادة.و الأول مستلزم للكذب،و الثاني حاصل،كما ورد في الحديث عن الصادق عليه السّلام:«خلقهم ليأمرهم بالعبادة»،و قد تحقق ذلك، عبده أحد أو لا.
و بعبارة اخرى:غاية الخلق بيان التكاليف بواسطة الأنبياء و الرسل،و قد حصل و ثبت بأحسن وجه.و الأخير لا ربط له بالمقام،مع أنه لا بد و أن يحمل على المعرفة الكاملة الحاصلة من العبادة لا أصل ذات المعرفة،لأن العبادة متوقفة عليها،كما لا يخفى.
و رابعة:بآية النفر و هي قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
و فيه:أنها في مقام الترغيب إلى التفقه و كيفيته في الجملة،و أما ما يجب التفقه فيه فليست في مقام بيانه،و على فرضه تكون إرشادا إلى حكم العقل لا أن يكون دليلا مستقلا.
فوائد:
الاولى:المناط في المعرفة هو الاعتقاد و الجزم
الاولى:لا ريب في أن مجرد المعرفة أعم من الاعتقاد و الجزم،و الواجب في الاصول الأربعة-التوحيد،و المعاد،و النبوة،و الإمامة-الاعتقاد و الجزم دون مجرد المعرفة،لأن احتمال دفع الضرر لا يندفع بمجرد العلم من دون اعتقاد و جزم.و كما أن العلم في الأحكام الفرعية العملية طريق إلى العمل يكون في الاعتقاديات طريقا إلى عقد القلب و الجزم بما علم،فلا يكفي مجرد العلم و المعرفة.
الثانية:عدم اعتبار حصول المعرفة من الاستدلال الفلسفي
الثانية:لا يعتبر في المعرفة أن تكون حاصلة عن الاستدلالات الكلامية و الحكمية أو غيرهما من البراهين العلمية،بل يكفي حصول الاعتقاد و الجزم و لو من تلقين الآباء و الأجداد و نحوهم،للاتفاق على صحة إسلام العوام و غيرهم ممن حصل لهم الجزم بها مما ذكر،و لا يقدرون على شيء أزيد منه.
الثالثة:تعيين أحد مراتب الاعتقاد و الجزم،تعيين مراتب القصور
الثالثة:للاعتقاد و الجزم مراتب متفاوتة يكفي أدناها في تحقق الإسلام و الإيمان،لثبوت سيرة الأنبياء و الأوصياء العظام(عليهم الصلاة و السلام)على الاكتفاء بذلك بالنسبة إلى السواد،و لو لا ذلك لاختل النظام و تعطّلت الأحكام، فمن أقرّ بالشهادتين يترتب عليه جميع أحكام الإسلام،و من لم يقرّ بهما لا يترتب عليه أحكامه،سواء كان قاصرا أو مقصرا مطلقا.
و أما استحقاق العقوبة فمقتضى الأدلة ثبوته بالنسبة إلى المقصر الملتفت، بل و غيره أيضا مع الانتهاء إلى الاختيار.و أما بالنسبة إلى القاصر فاللّه تعالى أعلم بما يفعل به،و في بعض الأخبار أنه تتم عليه الحجة في البرزخ،و للقصور مراتب أيضا.
منها:ما إذا لم يكن للشخص استعداد فهم الامور.
و منها:ما إذا كان له ذلك و لكن لم يلتفت إلى اختلاف الأديان أصلا.
و منها:ما إذا التفت إليه و لكن قطعه بحسن طريقة الآباء و الأجداد،و عدم احتماله للخلاف يمنعه عن اتباع الحق.و لا ريب في وجود القسم الأول و الأخير في الجملة،و أما الثاني فالظاهر عدم تحققه خصوصا في هذه الأعصار، و بذلك يمكن أن يجمع بين الأقوال و الأخبار،فما يظهر منها عدم وجوده أي القسم الثاني.
الرابعة:أن ما يعتبر فيه الجزم لا يكفي فيه الظن
الرابعة:ما كان من الاعتقاديات يعتبر فيها تحصيل الجزم،فلا وجه لاعتبار الظن فيها مطلقا،لعدم كونه من الجزم أبدا،و كذا ما يعتبر فيه الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه،لأن عقد القلب شيء غير الظن،فلا مورد لاعتبار الظن في الاعتقاديات مطلقا.