الوضع من الامور النظامية يقوم به نظام الاجتماع في الإنسان قديما و حديثا،فاللازم في فهم معناه من الرجوع إلى العرف،و إذا رجعنا إليه نرى أنه عبارة عن:
إظهار المعنى باللفظ حدوثا بداعي كون اللفظ علامة للمعنى و وجها من وجوهه،و لا فرق بينه و بين مطلق استعمال اللفظ في المعنى إلا من وجهين:
الأول:أنه حدوثي فقط بخلاف سائر الاستعمالات،فإنها تتحقق بعده.
الثاني:أنه بداعي كون اللفظ علامة للمعنى و سائر الاستعمالات تكون بدواع اخرى،وجهة الاشتراك في الجميع إظهار المعنى باللفظ و إبرازه به،بلا فرق في ذلك بين الوضع التخصيصي و التخصصي.
نعم الفرق بين التخصيص و التخصص أن كثرة الاستعمال في الثاني لها دخل في الجملة،بخلاف الأول،فإن نفس الاستعمال بداعي كون اللفظ علامة للمعنى يكفي في حصول الوضع.و الدليل على ما قلناه إنما هو الوجدان في الأسماء التي نضعها لأولادنا،و ما حصل من الأوضاع الكثيرة المستحدثة في زماننا.
هذا إذا لوحظ الوضع بالمعنى المصدري،و أما إذا لوحظ بمعنى الاسم المصدري،فهو نحو ارتباط حاصل بين اللفظ و المعنى ناشئ من تخصيصه به تارة،و من تخصصه به اخرى.
ثم إن من قال بأن الواضع هو اللّه تعالى،فإن أراد الوضع بمباشرته تعالى، كما في مباشرته تعالى لوحي القرآن و التكلم مع موسى بن عمران،فمقتضى الأصل و الوجدان عدمه،و لو كان كذلك لاشتهر اشتهار نسبة الكتب السماوية إليه تعالى في هذا الأمر المهم،و يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا عدم مباشرة الوضع،لأن تعلم الأسماء أعم من مباشرة الوضع،إذ يمكن أن يكون تعالى علّمه لأن يضع آدم بعد ذلك بمباشرته.و إن أراد أن ذلك بإلهام منه تعالى،أو أنه تعالى جعل استعدادا في آدم و بنيه و حصل له الاقتدار به على الوضع،فهو حسن.
كما أن من قال بالمناسبة بين اللفظ و المعنى،فإن أراد بها الذاتية الطبيعية و من تمام الجهات،فهو باطل.و إن أراد لحاظ المناسبة الاعتبارية في الجملة عند الوضع إجمالا و ارتكازا،فله وجه.
ثم إن للوضع أقساما:
منها:الوضع النوعي،كوضع الهيئات.
و منها:الوضع الشخصي،كوضع الأعلام،و أسماء الأجناس.
و منها:الوضع التعييني،و التعيّني،و يسمى بالتخصيصي و التخصصي أيضا،و يمكن أن يصير المجاز حقيقة لكثرة الاستعمال،كما يمكن أن تصير الحقيقة مجازا لهجر الاستعمال،و كل منهما شائع في المحاورات.
و منها:الأصلي و التبعي،و الأول كالمستقلات،و الثاني كالنسب و الإضافات.
و منها:الوضع العام،و الوضع الخاص،أي أن المعنى الموضوع له اللفظ إما عام أو خاص،و على الأول إما أن يوضع له اللفظ،فهو الوضع العام و الموضوع له العام،كأسماء الأجناس،و هو على قسمين:فتارة يتصور العام بذاته و يضع اللفظ بإزائه،و اخرى يتصور العام من حيث الإضافة إلى الحصص مع قطع النظر عن المضاف إليه و يضع اللفظ بإزاء مثل هذا العام الملصق بالحصص،و يأتي قسم آخر أيضا.
و على الثاني إن وضع اللفظ له،فهو الوضع الخاص و الموضوع له كذلك، كالأعلام،و يمكن أن يكون الأعلام من الوضع العام و الموضوع له الخاص،بأن يلحظ مطلق الذكور مثلا،ثم يضع لفظ(الحسن)للمصداق الخاص،أو يلحظ مطلق الإناث،ثم يضع لفظ(فاطمة)للمصداق المخصوص.
و المعروف أنه لا يصح أن يوضع اللفظ للكلي الذي يكون هذا الخاص من مصاديقه حتى يكون من الوضع الخاص و الموضوع له العام،لأن الموضوع له لا بد و أن يتصور حين الوضع و لو بوجه،و الخاص لا يصلح لأن يكون وجها من وجوه الكلي و العام،بخلاف العكس.
و فيه:أنه لمكان اتحاد العام مع الخاص يصلح لكونه وجها من وجوه العام في الجملة،و هذا المقدار يكفي في تصوره،فلا مانع منه ثبوتا.
نعم،هو غير واقع إثباتا في المحاورات.
ثم إنه لا ريب في وقوع الوضع العام و الموضوع له كذلك،كأسماء الأجناس.و لا في وقوع الوضع الخاص و الموضوع له الخاص،كالأعلام.
و أما الوضع العام و الموضوع الخاص،فعن جمع وقوعه أيضا،كالحروف و ما يلحق بها.و عن جمع آخر أن الوضع فيها-كالموضوع-عام،فينحصر الواقع من أقسام الوضع في القسمين الأولين فقط.
و خلاصة ما استدل به على عدم كون الموضوع له فيها خاصا:أن الخصوصية إما خارجية،أو ذهنية.و على الأول يلزم أن يكون استعمالها بنحو الكلية مجازا،كقولك(من)للابتداء مثلا.و على الثاني يلزم عدم الصدق على الخارجيات،و كلاهما خلاف المحاورات.
و يمكن المناقشة فيه:أما الأول:فلأن الكلية فيها تبعية على ما يأتي، و الكلية التبعية من جهة لا تنافي الخصوصية من جهة اخرى،كما هو واضح.
و أما الثاني:فلأن الخصوصية الذهنية اخذت مرآة إلى الخارج،فيصح الصدق على الخارجيات قهرا.
نعم،لو قيدت بما في الذهن لا تصدق عليها حينئذ.
و لكنه باطل لا يقول به أحد.
ثم إن لحاظ الاستقلالية في الأسماء،و الآلية في الحروف من دواعي الوضع،لا أن يكون قيدا في الموضوع له،أو المستعمل فيه،فلا وجه لخصوصية المعنى من هذه الجهة في الحروف أصلا،و لا يلزم في كونها داعيا الالتفات التفصيلي،بل يكفي الارتكازية فقط.
هذا،و من ذهب إلى أن الموضوع له فيها خاص قال:إن تقوّمها بالغير أوجب خصوصية المعنى؛فلا يكون إلا خاصا.
و فيه:أن هذا النحو من التقوّم بالغير لا ينافي الكلية،فالمعنى في حدّ نفسه لا اقتضائي،يكون مع الخاص خاصا،و مع العام عاما.
و الحق أن يقال:إن المعاني الحرفية،و النسب و الإضافات،تكون في الغير من تمام الجهات مفهوما و ذاتا و وجودا،لا في الأخير فقط حتى تكون كالأعراض،بل مفهومها و ذاتها و وجودها،فانيات في الغير فناء تاما و لا نفسية لها بوجه،نظير الربط المحض الذي لا نفسية له أبدا،و ما هي كذلك يكون وضعها تبعيا و غيريا أيضا،فهي مع أسماء الأجناس يكون الوضع و الموضوع له فيها عامين،و في الأعلام يكونان خاصين لأجل تبعيتها المحضة و الفناء المطلق، فيكون وضعها نوعيا تبعيا لمتعلقاتها،إن عاما فعام،و إن خاصا فكذلك.
و ظهر مما مرّ أن الربط ينافي التشخّص مطلقا،فلا وجه لقول الحكيم السبزواري«ره»:«إن الوجود رابط و رابطي…»مع قولهم:إن الوجود مساوق للتشخّص،و لا تشخّص في الربط المحض،إلا أن يراد به التشخّص التبعي.
ثم إن الأقوال في المعانى الحرفية بين الإفراط و التفريط:فمن قائل بأنه لا معنى لها أصلا،و إنما هي علامات فقط،مثل كون الرفع علامة للفاعلية.و فيه من الفساد ما لا يخفى.
و من قائل بأنه لا فرق بين المعاني الحرفية و الاسمية إلا بلحاظ الآلية في المعاني الحرفية و الاستقلالية في الاسمية،و هو خلاف الوجدان المحاوري و إن أمكن توجيهه بوجه.
و من قائل-و هو الحق-بأنها في ذاتها مباينة مع المعاني الاسمية جوهرا كانت أو عرضا،لأن المعاني الإمكانية إما تحصل في الذهن مستقلا و في الخارج كذلك،و يعبّر عنها بالجوهر بمراتبه الكثيرة؛أو توجد في الذهن مستقلا و لا توجد في الخارج إلا في الموضوع،و يعبّر عنها بالعرض،أو لا توجد في الذهن و الخارج إلاّ في الغير و بالغير،و يعبّر عنها بالمعاني الحرفية،فلها معان لكن في الغير من كل جهة.
فالمعاني إما للغير و بالغير و في الغير،و هي المعاني الحرفية.و إما بغيره في نفسه،و هي المعاني الاسمية الجوهرية.و إما بغيره في غيره،و هي الأعراض- اسما كانت أو فعلا-و إما لنفسه في نفسه بنفسه،و هو منحصر في اللّه تبارك و تعالى.
هذا،و لكن قد نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال:«الاسم ما أنبأ عن المسمّى،و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى،و الحرف ما أوجد معنى في غيره». و المراد بالجملة الاولى هو الدلالة على المسمّى،و هو صحيح بالنسبة إلى جميع الأجناس و الأعلام.و المراد بالثانية إنما هو بالنسبة إلى أفعال الممكنات،حيث أن غالبها متقوّمة بحركة ما،و لو الحركة الإرادية.و المراد بالأخيرة إيجاد النسب و الإضافات في استعمالات المعاني الاستقلالية،كما تقدم.
و عن مولانا الرضا عليه السّلام:«و اعلم إن الإبداع،و المشيّة،و الإرادة،معناها واحد و أسماؤها ثلاثة،و كان أول إبداعه و إرادته و مشيته:الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء،و دليلا على كل مدرك،و فاصلا لكل مشكل…».و هنا مباحث نفيسة ليس المقام محل التعرض لها.
ثم إن المعاني الحرفية المبحوث عنها في المقام كل ما لا يستقل بالذات أو لا تحصّل له إلاّ في الغير و بالغير،فتشمل جميع النسب و الإضافات و الهيئات التي لا استقلال لها بوجه من الوجوه،و هذا كله إذا لوحظت من حيث الفناء في المتعلق و القيام به.
و أما إذا لوحظت في نفسها و بنفسها فيخرج عن موضوع البحث قهرا، لصيرورتها بذلك من المعاني المستقلة الملحوظة بنحو العنوان المشير إلى المعاني الحرفية،لا أن تكون عينها لاستحالة ذلك.
و كيف كان،فلا ثمرة عملية في البحث عن المعاني الحرفية و ما يلحق بها من النسب و الإضافات و الهيئات،إلا في مورد واحد و هو إمكان تقييد الهيئة بناء على كون الموضوع له فيها عاما،دون ما إذا كان خاصا.و هذه الثمرة ساقطة رأسا،كما أشرنا إليه سابقا.
أما أولا:فلأن الخصوصية لا تنافي التقييد،كما في تقييد الأعلام.
و ثانيا:فلأنها بتبع متعلقاتها تقبل كل شيء،كما هو واضح.
هذا كله في نفس المعاني الحرفية و ما يلحق بها.
و أما الأسماء التي تشبهها،المعبّر عنها بالمبنيات في العلوم الأدبية و المبهمات أيضا،كالضمائر و الموصولات و الإشارات،فوضعها استقلالي،لكن الموضوع له فيها الذات المبهم من كل حيثية و جهة،القابل الانطباق على الجزئي و الكلي،نظير ما يأتي في معنى الإطلاق إن شاء اللّه تعالى.
و لعل المراد بالوضع العام و الموضوع له العام ما يعم هذا القسم أيضا،فلا يلزم زيادة في أقسام الوضع المشهورة.