و على أي حال:لا بد في اعتبار الإجماع من كشفه عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره عليه السّلام،و لهم في طريق استكشاف ذلك أقوال:
الأول:دخول شخص المعصوم عليه السّلام في جملة المجمعين
و فيه:أنه في الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي يدور عليها مدار الإجماعات الفقهية!ممتنع عادة و إن أمكن ذاتا.
نعم،لو تحقق إجماع من زمان ظهور المعصوم عليه السّلام إلى ما بعد الغيبة الكبرى لكان له وجه.
و يمكن أن يكون من الإجماع الدخولي،و لكن كلام الأعلام في المقام في غيره،و لو تشرّف أحد بلقائه عليه السّلام بعد الغيبة الكبرى و أخذ حكما منه عليه السّلام و نقله بعنوان الإجماع،فاعتبار قوله مع ما ورد من التشديد في تكذيب ذلك مشكل،و على فرضه فكونه من الإجماع الاصطلاحي أشكل.
نعم،يمكن أن يراد بدخول شخصه دخول رأيه المبارك و لو تقريرا،و لا بأس به و هو صحيح،كما أن ما دلّ على تكذيب مدعي الرؤية إنما هو فيما إذا ترتبت عليها المفسدة،لا ما إذا كان المدعي ثقة من كل جهة و لم يكن في البين مفسدة.
الثاني: قاعدة اللطف
و اللطف عبارة عن عناية اللّه تعالى و لطفه بخلقه و تدبير موجبات كمالهم الذي أعده لهم في علمه الأزلي.و هو إما تكويني،أو تشريعي،و الأول إيصال الممكنات إلى الغايات المعدّة لها،و الثاني إيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الرسل و إنزال الكتب و إتمام الحجة عليه و الوعد و الوعيد،و قد حصل ذلك منه تعالى بأكمل وجه و أتم طريق.
و قد يطلق اللطف على أنه يجب عليه تعالى تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية بما لا ينافي الاختيار،فإذا حصل إجماع على ما لا يرتضيه اللّه،يجب عليه تعالى صرفهم عنه،أو إلهام ما هو الواقع إليهم.
و فيه:أن الواجب على اللّه تعالى إنما هو اللطف بما هو المتعارف بين الناس،و قد حصل ببعث الرسل و إنزال الكتب،و لا دليل على وجوب شيء زائد عنه عليه تعالى،لا بدليل عقلي و لا نقلي.و حينئذ فيكون احتمال الخطأ في إجماع المجمعين كاحتماله في فتوى فقيه يكون مرجعا للتقليد.
الثالث: الحدس
من آراء الرعايا و المرءوسين أن آراء الرئيس معهم.
و اشكل عليه:بأن له وجها إن كان باب المراجعة و المشاورة مع الرئيس مفتوحا و الرعية تشاوره و هو يراجعهم،و أما إذا كان الباب مسدودا بالمرة و حالت بينهما أستار الغيبة،فلا وجه لهذا الحدس أصلا،و لا يعتبر لدى العرف و العقلاء رأسا.
و يرد عليه:بأنه إذا كان باب معظم الأحكام الصادرة منهم عليهم السّلام مفتوحا و كان ذلك في متناولنا و جرت العادة إلى الرجوع إليها في زمان الحضور و الغيبة، يكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم عليهم السّلام،و العادة تقضي برضائهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم و رواة أحاديثهم.
و بالجملة:الملازمة العادية بين إجماع الإمامية و رضاء المعصوم عليه السّلام بما أجمعوا عليه ثابتة،و هذه الملازمة معتبرة عرفا،و على هذا لا وجه للفرق بين إجماع القدماء و سائر الأعصار،فلا بأس بهذا الوجه.
الرابع: تراكم الظنون من آراء الأعلام
يوجب القطع بموافقة الإمام عليه السّلام.
و اشكل عليه:بأنه إحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل و الآراء و الأشخاص.
و فيه:أن المدار على حصول الاطمئنان النوعي و هو مختلف بحسب المراتب،و يكفي حصول أول مرتبة منه كما في سائر الموارد،و هذا الوجه أيضا لا بأس به.
الخامس: لأجل كشفه عن دليل معتبر وصل إليهم و لم یصل إلینا
لأن بناء الأئمة عليهم السّلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص الأصحاب، و هم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم فوصلت إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعا عليها من دون ذكر نفس المدرك بالخصوص،و هذا وجه حسن متين يصلح أن يكون مدركا لاعتبار الشهرة أيضا،لكنه يختص بما إذا لم يكن في البين مدرك يصح الاستناد إليه،و هو قليل جدا،كما لا يخفى.
السادس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة عقلائية أو شرعية
قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في صلاة القضاء من كتابه:«و الذي يقوى في ظني أن كثيرا من إجماعات القدماء بمعنى الاتفاق على القواعد الكلية التي تكون مدركا لبعض الأحكام الجزئية»،و قال في كتاب الكفارات:«و إجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء،لا وثوق بالمراد منها على وجه تريح النفس في الفتوى بها بالوجوب و الحرمة،و إن قلنا بحجية الإجماع المنقول لكن في الغالب ينقلونه على مقتضى العمومات و نحوها…»و كلامه في المقامين حسن متين جدا،كما لا يخفى على أهله.
السابع: أن يتفرد فقيه في عصر و لم يكن فقيه آخر في طبقته
و لا الطبقة اللاحقة إلا أن يكون تلميذا له أو تلميذا لتلاميذه،و حيث أن مثل هذا الفقيه لا يرى في الخارج رأيا إلا رأيه يصح له دعوى الإجماع،و هذا كثير في دعوى الإجماع من مثل السيد المرتضى و الشيخ قدّس سرّهما بل و العلامة،و لا اعتبار بمثل هذا الإجماع.
الثامن: الإجماع القهري الانطباقي بعد استقرار رأي فقيه بين الناس
و من يتبعه قرنا أو أكثر،يتحقق الإجماع قهرا لعدم ظهور الخلاف،و ينقل في القرون اللاحقة عين ما تحقق في القرن السابق،و هذا أيضا كثير،كما لا يخفى على الخبير،و لا وجه لاعتباره أيضا.
و لو تردد إجماع بين ما هو معتبر و غير معتبر،لا وجه للاعتماد عليه كما هو معلوم إلا إذا عينت القرائن ما هو المعتبر منه.
تحقيق الكلام في الإجماع عند الإمامية
ثم إنه قد يكون الإجماع تقليديا و تشبيها،و ذلك لأن الإجماع كان شائعا بين العامة،و كانت الخاصة جامدين على نصوص الأئمة،و لذا سموا بالمقلّدة لدى العامة في أوائل الغيبة الكبرى،فادعى الإجماع أعلام تلك العصور حتى في المسائل التي تكون النصوص فيها كثيرة،لمصلحة التشابه مع العامة،و إزالة مثل هذه الأسماء عن أنفسهم،و هذا الوجه كثير في الإجماعات التي ادعاها الشيخ رحمه اللّه.
و يمكن زيادة قسم آخر من الإجماع،و هو(الإجماع الاحتفاظي)حيث أن العامة تشتت إلى مذاهب كثيرة بما تجاوز التسعين،كما لا يخفى على من راجع التواريخ،ثم استقرت مذاهبهم على الأربعة المعروفة بأمر من خليفة ذاك الوقت و كان أعلام فقهائنا قدس سرّهم متوجهين إلى هذه الجهات،فادعوا الإجماع في كل المسائل مع وجود الدليل،اهتماما ببقاء وحدة المذهب و عدم تشتته،ثم لما رأوا أن هذا الأمر يضرّ بهم من جهة اخرى،كما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في خبر أبي خديجة:«أنا ألقيت الخلاف بينهم لئلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم»ادعوا الإجماعات المعارضة لإلقاء الخلاف حفظا لدماء الشيعة،و ليسمّ الأول (الإجماع الاحتفاظي)،و الأخير(الإجماع الاختلافي)أي لأجل إيجاد الخلاف لمصالح شتى كما لا يخفى،و يأتي في بحث الشهرة بعض ما ينفع المقام أيضا.
ثم إنه لو علم أحد الوجوه الماضية بالقرائن فهو،و إلا فالظاهر تردده بين الخامس و السادس،و لا بد في تعيين أحدهما من ملاحظة القرائن و هي مختلفة بحسب الموارد.
نقل الإجماع:
نقل الإجماع..تارة:يكون من نقل السبب فقط،كما إذا سرد أقوال الفقهاء تفصيلا أو نقلها إجمالا بألفاظ مختلفة.
و اخرى:يكون من نقل المسبب-و هو رأي المعصوم عليه السّلام حدسا-كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة،أو حسا و هو النادر.
فإن كان من نقل السبب فيشمله دليل حجية الخبر إن كان ما نقله عند المنقول إليه سببا تاما للأثر،و أما إذا لم يكن سببا تاما ففي الكفاية و غيرها اعتباره أيضا بمقدار دلالته لشمول دليل اعتبار الخبر لمطلق الأخبار عن حس بما كان منشأ لأثر شرعي و لو بنحو جزء السبب،كما هو المنساق في ما ورد في السؤال عن حال الرواة و موضوعات الأحكام،كالكر،و الصاع،و السفر و نحوها مما هو كثير جدا،مع أن هذا مقتضى حجية الأمارة في جميع لوازم مدلولها و ملزوماته التضمنية و الالتزامية،فيتم المنقول إليه سببيته بالتفحص عن أقوال أخر،فيتحقق لديه حينئذ الإجماع المعتبر.
و يمكن الإشكال عليه:بأن موضوعات الأحكام و ما يتعلّق بحال الرواة دخيلة في ما يتعلّق بالحكم،بخلاف أقوال الفقهاء فإنها أجنبية عن حكم اللّه تعالى حقيقة،إلا أن يتمسك بذيل المسامحة العرفية،و يقال بأنه إذا كان مجموع الأقوال من حيث المجموع منشأ لاستفادة حكم اللّه تعالى لا يعدّ البعض منها أجنبيا محضا،كما لا يخفى،فيشمله دليل الاعتبار بالملازمة العرفية.
و كذا إن كان من نقل السبب و المسبب معا عن حس لو فرض تحققه،أو كان من نقل المسبب كذلك.و أما إذا كان عن حدس فلا تشمله أدلة اعتبار الخبر، إذ المنساق منها عرفا هو تصديق المخبر في سمعه و بصره،لا تصويبه في حدسه و نظره إلا بقرائن خارجية تدل على تصديق التصويب أيضا،فيعتبر حينئذ من جهة القرائن لا من حيث الإخبار به،كما هو مورد البحث في المقام، و هي نادرة في الإجماعات المنقولة،كما لا يخفى.
و لكن يمكن أن يقال:إن مناط الاعتبار مطلقا في نقل الحجج المعتبرة حصول الوثوق النوعي حسيا كان المخبر به أو حدسيا،فمع تحقق هذا المناط يعتبر المخبر به مطلقا،و قد استقرت السيرة على الاعتماد على تصديق الأطباء
و المهندسين و الخبراء الذين يخبرون عن حدسهم في جميع الفنون و الصنائع و الحرف،و كون الغالب هو الحسيات لا يوجب التقييد لأجل المناط بعد تحققه.
فتلخّص من ذلك كله:أن الإجماع المنقول معتبر،للملازمة العرفية بين اتفاق رواة أحاديث الأئمة على شيء بعد الفحص و التثبت و الدقة و بين رضاء المعصوم عليه السّلام به،بلا فرق فيه بين عصر الحضور و عصر الغيبة و سائر الأعصار المتأخرة.
نعم،يزيد القدماء على ذلك بإمكان وصولهم على حديث منهم عليهم السّلام لم يصل ذلك إلينا.و يمكن الاستدلال على اعتباره بكل ما دلّ على اعتبار حكاية فعل المعصوم و قوله و تقريره.
هذا كله إذا كان الإجماع المنقول معتبرا لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل.
أما لو لم يكن معتبرا لديه أو كان نظره في وجه الاعتبار مخالفا لنظر الناقل،فلا يعتبر من حيث نقل المسبب حينئذ،و إنما يعتبر من حيث نقل السبب بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل بناء على شمول دليل اعتبار الخبر الواحد لمثله أيضا،كما قلناه.