أصل المادّة تنبئ عن الذلّ، والخضوع، والاستكانة، والانقهار، في أيّ هيأة استعملت، ومنها العبد والمملوك؛ فالمادّة تشمل العبوديّة التسخيريّة، والعبوديّة الاختياريّة والواقعيّة، والعبادات الباطلة الاعتقاديّة، نحو: قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ[1]. وقوله تعالى: إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ[2]، وقوله تعالى: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا[3].
وللعبد في القرآن دلالات:
الأولى: في مقابل الحر، وهو الذي يباع، ويشترى، كسائر الأمتعة، وله أحكام خاصة في الإسلام، مذكورة في الكتب الفقهيّة، قال تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والْأُنْثى بِالْأُنْثى[4].
الثانية: عبد الإيجاد، يعني خلقهم للعبوديّة، والخضوع له تعالى، نحو: قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا[5].
الثالثة: المخلصون من عباده تعالى، الذين لهم مع اللّه جل جلاله حالات، وله عزّ، وجلّ معهم عنايات، ولهم في القرآن قصص، وحكايات، وهم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته، فقال تعالى حكاية عنه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[6]، لأنّهم اتخذوا اللّه تعالى بذاته الأقدس معبودًا لأنفسهم، بتمام معنى العبوديّة الحقيقيّة، فاتّخذهم اللّه تعالى عبادًا لنفسه، ومدحهم بأبلغ المدائح، ولعلّ أرقّها قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا [7].
الرابعة: عبد للّه تعالى، ولكنّه يطيع الشيطان، ويتّبعه، قال تعالى حكاية عنه: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبًا[8]، سواء أكان مسبوقًا بالكفر، ثم آمن، أم لم يكن، والجميع عبيده عزّ وجلّ، لكثرة رأفته، وعنايته بخلقه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[9]، وقوله تعالى: وأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ[10]، على الرغم من أنّهم كانوا من سحرة فرعون، فإنّ المنساق من هذه الآيات أنّ مجرّد الإيمان باللّه جلّت عظمته في مقابل الكفر به، يكفي في شمولها له، وهو مقتضى الرحمانيّة، والرحيميّة المطلقة، له عزّ، وجلّ.
والعباد: جمع عبد، ويختص استعماله بما إذا نسب الى اللّه تعالى، يقال: عباد اللّه؛ قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ[11]، ولعلّه لأنّ العباد من العبادة، دون العبيد الذي هو من العبوديّة، التي لا تمتنع أن تكون لغير اللّه تعالى، يقال: عبيد فلان، ولا يقال: عباده.
والعبادة: الطاعة.
وهي خضوع خاص، ناشئ عن الإعتقاد بأنّ للمعبود عظمة، ولا يحيط بها العقل في المعبود الحقيقيّ، لعدم وصول الإدراك الى عظمته، فضلًا عن ذاته، وإن كان مُدرَكًا بالآثار، فإنّه أعلى، وأجلّ من أن يرقى إليه إدراك أحد، ولذا لا تصدق العبادة على الخضوع لغيره تعالى؛ وقد تطابق العقل، والنقل، على عدم جوازها لغيره تعالى، لأنّ حقيقتها الخضوع لمن هو في أعلى درجات الكمال، فلا كمال فوقه، وهو منحصر باللّه تعالى، وفي قوله تعالى: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ[12]، إشارة إلى ذلك، وأنّه لا تكون العبادة إلّا للخالق، ومفيض الحياة، والإطلاق بالنسبة إلى غيره تعالى اعتقاديّ باطل، لا واقعيّ حقيقيّ.
والعناوين الشايعة ثلاثة: العبادة، والطاعة، والانقياد.
فالعبادة: إتيان العمل بقصد التقرّب إلى اللّه تعالى، سواء كانت صحّة العمل في حدّ نفسه متوقفة على قصد القربة، نحو: الصّلاة، والصوم، والحجّ، فإذا أتى بها من دون قصد القربة يبطل أصل العمل، أو لم تكن كذلك، نحو: قضاء حوائج الإخوان، وأداء حقوق النّاس، أو مثل النظافة، فإذا كان للّه تعالى يثاب عليه مع حصول الطاعة، وإذا لم يكن له تعالى تحصل الإطاعة دون الثواب، فالإطاعة أعمّ من العبادة، والانقياد أعمّ من كلٍّ منهما، لإطلاقه عليهما، وعلى إتيان ما يحتمل أنه محبوب للّه تعالى، وترك ما يحتمل أنّه مبغوض له عزّ وجل، وإن لم يكن أمر، ونهي منه تعالى.
ثم إنّ العبادة هي التوجّه إلى المعبود في القيام بما جعله من الوظيفة، وإتيان المطلوب الذي أراده من العبد، ولمّا كان اللّه تعالى يطّلع على النوايا، كاطّلاعه على الأعمال، فلا بدّ من أن تكون النوايا القلبيّة متوجّهة إليه تعالى، ومنحصرة في العبوديّة له تعالى.
وبعبارة أخرى: كما أنّ العابد حاضر لدى اللّه تعالى، ولا يخفى منه على اللّه شيء، وهو عالم السرّ، والخفيّات، بل وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ[13]، يعلم خطرات القلوب، وحركات الجوارح، ولحظات العيون، فلا بدّ من أن يكون توجّه العابد إلى مثل هذا المعبود كاملًا، وكذا في قلبه تامًّا، فلا يخطر في قلبه غيره، فإنّ ذلك يوجب النقص في العبادة، والعبوديّة، بل قد يوجب الطرد، والهجران، والإثم، والعصيان، “وروي أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سُئل عن الإحسان فقال: “أن تعبد الله تعالى كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك“[14].
والعبادة تارة: تسخيريّة، أي: تكوينيّة، وهي عامّة تلازم الخلق، وعالم الإمكان، قال تعالى: ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ[15]، وقال تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ[16]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ[17]، ولا يترتّب على هذا القسم سوى الكمال الذاتيّ النفسيّ.
وأخرى: اختياريّة، أي: لا جبر في البين، قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وإِمَّا كَفُورا[18]، ولا بدّ في هذا القسم من التقرير الشرعيّ، ويترتّب عليها الكمالات المعنويّة، نحو: التقرّب إليه تعالى، والوصول إلى أعلى المقامات، والآثار الوضعيّة.
ومنشأ العبادة الشعور بالافتقار بأيّ مرتبة كان الشعور، وهو ما ثبت في الفلسفة الإلهيّة، فهو الدافع للعبوديّة له جلّ شأنه، ولذلك لا بدّ في المعبود من الصفات المتفرّد بها، ويكون هو في منتهى الكمال، وذلك مختصّ باللّه جلّت عظمته، وغيره لا يستحقّ العبادة لافتقاره إليه جلّ شأنه.
[1] يس: 60
[2] الأنبياء: 98
[3] العنكبوت: 17.
[4] البقرة: 178
[5] مريم: 93
[6] ص: 83
[7] الفرقان: 63.
[8] النساء: 118
[9] الحجر: 49
[10] الشعراء: 52
[11] آل عمران : 79
[12] الصافات: 95- 96
[13] الحديد: 4
[14] مجمع البيان – ج 3 – ص 200
[15] النحل: 49
[16] النحل: 48
[17] الحج: 18
[18] الإنسان:3