الحُكم: لغةً، هو: الجزم، وفقه الأمور، وإليه يرجع ما قيل من أنّه المنع، لأنّ العلم، والجزم، يمنع جميع الاحتمالات، وإليه ترجع التعريفات التي ذكروها له في مختلف العلوم.
ففي العلوم الفلسفيّة تطلق على النسبة التصديقيّة بين أجزاء الكلام، نحو قولنا: فلان عادل. وفي الأمور الاجتماعيّة، والقضايا العلميّة التي تدور بين أفراد الاجتماع، يقال عن نوع النسبة: حكم، نحو: إدراك وقوع النسبة، أوعدم وقوعها. ويطلق على التأليف بين المدركات بالحسّ، أو بغير الحسّ على وجه يعرض المؤلّف لذاته إمّا للصدق، وإمّا الكذب.
ويطلق على القضيّة نفسها، وتسمى حكمًا، نحو ما يقال: يجب على الإنسان أن يفعل كذا، أو يحرم عليه كذا، ولكن إذا قصد به المعنى المصدريّ، يُراد به: إيجاد الحكم، وجعله إمّا في مقام التشريع، والتقنين، بتشريع الأحكام الصالحة التي ترجع الى تحصيل السعادة، والفوز بالفلاح، فردًا واجتماعًا، أو في مقام التشخيص، والنظر في المنازعات، نحو: ما في حكم القضاء، أو في مقام الإفتاء، نحو: ما هو الدائر عند المجتهدين في الفتوى، أو في مقام إنفاذ الحكم والسلطة التنفيذيّة، نحو: حكم الوالي على الناس، واذا أطلق على نفس الوجوب، والحرمة، والإباحة، والكراهة، والاستحباب، فإنها تُسمّى أحكامًا، وتسمّى القضايا المشتملة عليها أحكامًا.
ويعرفه الفقهاء بأنّه: خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين على نحو الاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.
ويطلق أيضا على ما هو دائر في الألسنة ماينشأ من نسب أخرى، نحو: الملك، والرياسة، والنيابة، والكفالة، والولاية. وله إطلاقات أخرى، نحو: الإطلاق على الحكمة.
إلا أنّ المناسب في قوله تعالى: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ[1]، بقرينة ذكر الكتاب، وغيره، تلك الشرائع الإلهيّة، والدين الحقّ، الذي يرجع الى كمال الانسان علمًا، وعملًا، والصلاح العام، وقطع المنازعات، والقضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو ما تدلّ عليه عدّة من آيات، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ [2]، وقال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [3].
وقال تعالى بعد سرد جملة التكاليف التشريعيّة: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [4] .
وللحكم إطلاقات أيضًا في الكتاب المجيد، فإنّ منها: القضاء الوجوديّ، أي: الإيجاد الذي له مراتب، قال تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [5]، وهو يختصّ بما إذا نُسب اليه سبحانه وتعالى؛ ومنها: مايرجع الى تدبيره ــــ عزّ شأنه ـــــــ في خلقه من أنحاء التدبيرات الربوبيّة، وإليه يشير قوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ[6] ، ومن مراتبه قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ[7].. ومنها: القضاء الذي هو منصب إلهيّ أكرم به سبحانه أنبياءه العظام (عليهم السلام)، قال تعالى: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ[8]، وربّما يراد به: التشريع، نحو ما يشعر به قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[9] ، ولكن يمكن إرجاع الأوّل الى الثاني بوجه صحيح.
ومنها: ماينسب الى سائر الناس، فإمّا هو بمعنى: القضاء أيضًا، نحو ما في قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [10]، وإمّا بمعنى: التشريع، فلا ينسب إليهم إلّا على نحو الذمّ، قال تعالى : إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[11] .
وأمّا قوله تعالى : وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [12]؛ فإنّه يراد به: إنجاز الوعد، وإنفاد الحكم.
والمادّة (ح ك م) تدل على المنع الخاص الحاصل عن الإتقان، والمنع عن التعدّي، وهي ملازمة في الجملة للعقل النظريّ، والعمليّ.
والمادّة تدلّ على الإبرام، نحو ما يستشعر به الإنسان في مطلق الحكم الدائر في جميع شؤونه، بينه وبين خالقه، أو بين سائر أفراد الناس، ومنها: الإحكام، والتحكيم، والحكومة.
وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أكثر من مئتي موضع، تتعلّق بجميع الموجودات: الواجب منها، والممكن، وسائر شؤون الحياة: المادّيّة، والمعنويّة، وأعظمها تأثيرًا ما ورد في قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[13]، ونظيراتها نحو قوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ[14]، وقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[15]، وقوله تعالى: وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[16]، وقوله تعالى: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ[17]، وغيرها ممّا تدلّ على اختصاص الحكم به تعالى، وعمومها يشمل: التكوينيّ، والتشريعيّ، وأنّ حكمه لامعقّب له، فلا يعارض مشيئته شيء.
وهناك آيات أخرى تدلّ على اختصاص كلّ واحد من الحكمين به عزّ وجلّ، فممّا يدلّ على اختصاص التشريعيّ به، قوله تعالى : إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[18] .
ويدلّ قوله تعالى : مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا[19]، على اختصاص الحكم التكوينيّ به عزّ وجلّ، ويعضد اختصاص الحكم مطلقًا به سبحانه، الأدلّة العقليّة أيضًا.
إلّا أنّ هذا الاختصاص بالنسبة الى الحكمين، لا ينافي الانتساب الى غيره عزّ وجلّ، إذا دلّ عليه الدليل، فقد ورد الإذن صريحًا في انتساب الحكم التشريعيّ، الاعتباريّ، الى غير الله سبحانه، نحو قوله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [20]، وقوله تعالى لرسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ[21]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ[22]، وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ[23]، وغير ذلك من الآيات .
والمفاد من مجموع الآيات الكريمة أنّ الحكم الحقّ لله سبحانه أصالة، ولغيره تبعًا لأذنه، ويقتصر على معرفة خصوصيّات الإذن، وعلى الرغم من ذلك لا تكون له الاستقلاليّة على ما هو ثابت لله عزّ وجلّ، ولعلّه لأجل ذلك عدّ ــــ عزّ وجلّ ــــ نفسه أحكم الحاكمين، قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ[24]، وقال تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ[25].
هذا بالنسبة الى الحكم التشريعيّ، وأمّا الحكم التكوينيّ، فلا يوجد في القرآن الكريم ما يدلّ على نسبته الى غير الله تعالى، بل صريح قوله سبحانه : ما لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا[26] الاختصاص، ونفي الشريك له مطلقًا، وفي بعض الأدعية الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ما يدلّ على ذلك أيضًا، إلّا أنّه يمكن الاستشهاد بالعموم أيضا، وهو الحال في الحكم التشريعيّ، بأنّ هذه الصفة لا تخرج عن عامّة الصفات، والأفعال، المنسوبة إليه عزّ وجلّ، التي ورد الإذن في الانتساب الى غيره نوعًا ما، نحو: العلم، والقدرة، والحياة، أو الخلق، والرزق، والإحياء، والمشيئة؛ وجميعها من مظاهر حكمه التكوينيّ، ومصاديقه. نعم، يتوقّف نسبة الحكم إلى غيره عزّ وجلّ، على الإذن صريحًا، فلا يصحّ من دونه، مراعاةً لحرمه جانبه، وأنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة؛ ومن ذلك يظهر أنّ المراد من الحكم في قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[27]، ما يشمل: التكوينيّ، والتشريعيّ كليهما، لدلالة ما قبلها على التكوينيّ، وهو استعجال العذاب المترتّب على ما اقترحوه من الآيات، ودلالة ما بعدها على الوضعيّ.
والَحكَم: (بفتحتين كالجبل)، صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها، وهو الذي يتحاكم الناس إليه باختيارهم، ويرضون بحكمه، وهو والحاكم واحد، إلّا أنّ الحَكَم أمدح، وأبلغ، لأن فيه استحقاق أن يُتحاكَم إليه، وأنه لايحكم إلّا بالحقّ، قال تعالى: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [28]، بخلاف الحاكم، فإنّه قد يحكم بغير الحقّ؛ ويأتي للواحد والجمع.
أمّا الحكمة: فقد اختلف العلماء في معناهاعلى النحو الآتي:
أوّلا: أنّها العلم بحقائق الموجودات، بقدر الطاقة الإنسانيّة، وهي بهذا المعنى، ترادف الفلسفة.
ثانيًا: أنّها صيرورة الإنسان عالمًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العينيّ.
ثالثًا: أنّها الأسفار الأربعة النفسانيّة، التي جعلها بعض الأكابر مفتتح كتابه القيم.
رابعا: أنّها العالم الأكبر، ونسب إلى عليّ (عليه السلام):
أتزعم أنّـــك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر[29]
ويمكن إرجاع جميع هذه المعاني إلى معنى واحد.
والمفاد من الآيات الشريفة التي ذُكر فيها هذا اللفظ، أنّها: معرفة ظاهر الشريعة، وباطنها، والمعارف العالية من: التوحيد، والنبوة، والأخلاق الفاضلة، ومعرفة المصالح، والحكم المبتنى عليها دين اللّه عزّ وجل، فإنّ بها تصفو النفوس، وتصل إلى الكمال المطلوب، وتتّصف بالأخلاق الفاضلة؛ وبعبارة أخرى: هي معرفة الصراط المستقيم من جهة التكوين، والتشريع، نحو ما جعله اللّه تعالى، والعمل بما عرف؛ ولها أهميّة عظمى في كمال النفس، بل هي الكمال بعينها، وقد عُني بها ــــ عزّ وجل ــــ عناية بالغة في القرآن الكريم، وجعلها من الخير الكثير، فقال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[30]، وذكرها في مقابل الكتاب في جملة كثيرة من الآيات، منها قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[31].
والحكمة هي التي تمنع صاحبها عن القبائح، والرذائل: اعتقادًا، وقولًا، وعملًا، على نحو تكون محكمة في النفس، لا يصيبها ضعف، ولا فتور، غالبة على قوى النفس، والإرادة، توجّهها نحو الخير والسعادة، وفي الحديث: “ما من آدميّ إلّا وفي رأسه حكمة، إذا همّ بسيّئة فإنْ شاء اللّه أن يقدعه بها قدعه”[32] أي: تمنع من هي في رأسه من السيّئة بنحو الاقتضاء، كما تمنع الحكمة الدابّة.
ويوصف بها اللّه تعالى، فإنّ من أسمائه الحسنى (الحَكَم)، و(الحكيم)؛ وقد ورد في أكثر من تسعين موردًا في القرآن الكريم مقرونًا بالعزيز، أو العليم، أو الخبير، أو العليّ، ولعلّ ذلك لملازمة حقيقتها فيه تعالى، لتلك الصّفات، فجيء بها تبيينًا، وإيضاحًا.
والعلم، والقدرة، والحكمة، وإن كانت مفاهيم مختلفة، لكنّها بالنسبة إليه تعالى، ترجع إلى شيء واحد، لأنّ علمه جلّ شأنه عين ذاته الأقدس، وقدرته العليا ترجع إلى علمه، وكذا الحكمة، وأمّا إرادته فإنّها عين فعله، والفعل منبعث عن العلم، والحكمة، فيرجع الجميع إلى شيء واحد، والفرق بينها في القرآن العظيم يفاد من القرائن.
ويوصف بها الإنسان أيضًا، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [33]، وإذا تتبعنا الموارد التي ذكر فيها الحكمة في القرآن الكريم، نرى أنّها تذكر تارة مقرونة بالكتاب قال تعالى: ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ[34]. وتارة أخرى تذكر بعد ورود جملة من الأحكام الشرعيّة، التي نزلت لتهذيب الإنسان، وسوقه إلى الكمال، والسعادة، قال تعالى بعد سرد جملة كثيرة من التكاليف الإلهيّة، والأحكام الفطريّة: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [35]، ويفاد من ذلك: أنّ الحكمة هي: تلك المطالب الحقّة التي ترتسم في النفس، وتوجب التوفيق بين الاعتقاد، والعمل، والسوق إلى الكمال المنشود للإنسان، فتشمل جميع الحقائق الفطريّة، والأحكام الشرعيّة، والمعارف الحقّة التي تتعلّق بالمبدأ، والمعاد، وتشرح الحقائق المتعلّقة بالنظام الأحسن، من حيث ارتباطه بسعادة الإنسان، والتي لا تقبل الكذب، والبطلان، فتكون للحكمة مظاهر كثيرة، متفاوتة، فتتجلّى في القرآن الكريم، الذي هو مصدر كلّ ما يكون في العالم، من أنواع الحكمة المتعالية، وهي من أشعّة هذا النور العظيم، وشوارق ذلك النيّر المعظم، تأخّر زمان وجودها، أو تقدّم، لأنّ القرآن من اللوح المحفوظ، وهو محيط بهذا العالم، كذلك الكتب الإلهيّة من مظاهر هذا التجلّي الأعظم.
ومن مظاهرها أيضًا الدّين، ومعرفته، والتفقّه فيه، فإنّ الدّين هو القانون المتكفّل لجميع مطالب الإنسان، من حين نشأته، إلى ما بعد مماته، وعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله): “إنّ اللّه آتاني من الحكمة مثل القرآن، وما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة إلّا كان خرابًا، ألا فتعلّموا، وتفقّهوا، ولا تموتوا جهّالا”.[36]
ومن أجلّ أفراد الحكمة، وأعظمها شأنًا، معرفة اللّه الواحد، الأحد، المتفرّد، الصمد. فهي بحسب المبدأ الجهد الأكيد في التصدّي لمرضاة اللّه الحكيم، وبحسب الغاية لذّة روحانيّة مفاضة من الغيب العليم، وتلزم الإحاطة بحقائق الأشياء على قدر طاقة الإنسان، ولأجل هذا تطلق الحكمة على تلك المعلومات الحقّة، الصادقة، ويسمّى العارف بها حكيمًا إلهيّا، أو متألّها.
وبالجملة: هي الخير الكثير، الذي وصفها به عزّ وجل، وفي الحديث: “إنّ في الجنة دارًا ـــــ ووصفها ــــ ثم قال: لا ينزلها الا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيد، أو محكّم في نفسه”[37].
وللحكمة مصاديق مختلفة، وكلّ ما قيل فيها، إنّما هو دون شأنها، وقد جعلها سبحانه وتعالى مدار كمال عباده، وترقياتهم المعنويّة.
وفي قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ[38]، المراد بها: أسرار الشريعة، وأحكام الدين.
ومن الحكمة ما تكون فطريّة إفاضيّة من عالم الغيب، ومنها: ما تكون اكتسابيّة تكتسب بالمجاهدات، والرياضات الشرعيّة، ومنها ما هو مركب منهما.
ومن الحكماء من اجتمع جميع أنواع الحكمة فيه، وهم رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه بكلّ معنى الصدق، والوفاء، فشرح اللّه صدورهم بكلّ معنى الانشراح، تشتاق إليهم الجنان العاليات، وهذه هي إحدى مراتب الحكمة، وقس عليها سواها.
ولكنّ للحكمة مرتبة خاصّة محجوبة عن البصائر، والأفكار، لا تليق إلّا لمن يقدر على تحمل الأسرار، ويشهد لما قلناه شواهد من العقل، والآثار، والأخبار، وهي ليست منحصرة بالبحث، والنظر، والفكر، فقد تحصل للنفوس المستعدة من إفاضات الباري، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله): “إذا رأيتم المؤمن صموتًا فادنوا منه، فإنّه يُلقي الحكمة”[39].
وعنه (صلّى اللّه عليه وآله): “اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه عزّ وجلّ”[40].
والأصل في إفاضة جميع أفراد الحكمة، والعرفان، ومراتبها، هو الإخلاص للّه جلّ جلاله، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله): “ما أخلص عبد لله عزّ وجلّ، أربعين صباحًا إلّا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه”[41].
وعن جمع من أكابر علماء النفس دعوى التجربة في ذلك، فحقيقة الحكمة ارتباط خاص بعالم الغيب، وأمّا غيرها ففنّ، وصناعة، وهما شيء، والحكمة الواقعيّة شيء آخر.
وللحكمة مراتب لا نهاية لها، وهي قسمان:
حكمة علميّة: غايتها الاستلهام من الغيب، وهو غير محدود، والتحديد في الممكن المستفيض، لا في المبدأ المفيض.
وقال بعض الأعاظم من الحكماء المتألّهين: “إنّ غاية ما للإنسان من الكمال، هو الاتّصال بالعقل الفعّال، المسيطر على الملك، والملكوت، تسيطر الروح على الجسد”. وهذا صحيح إذا كان المراد بذلك روح القرآن، والشريعة الأحمديّة، المنبعثة عن الحقيقة المطلقة الأحديّة، لأنّ الإحاطة بالواقعيّات صعبة جدّا، إن لم تكن ممتنعة، مهما بلغت فطنة العقول في الحدة، والذكاء، والدقّة، ولا سيّما بالنسبة إلى المعارف، وأسرار القضاء، والقدر، التي لا يمكن أن يحيط بها غير علّام الغيوب، وقد ورد النّهي عن الخوض في جملة منها، وأنّه لا يزيد الخوض فيها إلّا تحيّرا، فلا مناص للحكيم إلّا الوقوف على ظواهر الكتاب، والسنّة المقدّسة، وهي تحتوي على معادن العلم، والحكمة، والمعارف، وما يكفي لتكميل النفوس الناقصة، وإيصالها إلى أوج الكمال، والمعرفة، وهي الحكمة الحقّة التي تفيد لجميع النشآت، قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ[42]، أي: الكتاب المشروح بالسنّة، أو السنّة الشارحة للكتاب، وقال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [43]، وهو مصدر كلّ علم، ومعرفة.
وحكمة عمليّة: غايتها رضوان اللّه تعالى ولقائه، ولا بدّ من أن تطابق الشريعة المقدّسة الختميّة، وإلّا كانت لغوًا محضًا.
وغلب استعمال الحكمة على الفلسفة المتوارثة عن اليونان، وقد اصطلح على قدماء الفلاسفة بالحكماء، وقسّموهم على الإشراقيين، والمشّائيين، والرّواقيين، وقسّموا الحكمة الاصطلاحيّة (الفلسفة) على قسمين:
حكمة علميّة: وقسّمت على قسمين: الإلهيّات، والطبيعيّات، ولكلّ واحد منهما فصول وأبواب، وقد جعل كلّ فصل من فصول الطبيعيّات في العصر الحديث علمًا مستقلًا برأسه.
ومن فصول الفلسفة الإلهيّة البحث عن كلام اللّه تعالى، من حيث قدمه، وحدوثه، وكثر النقض، والإبرام فيه، حتّى جعل ذلك علمًا مستقلًا له أبواب كثيرة، وفصول طويلة.
وحكمة عمليّة: هي علم الفقه، والأخلاق، وقسّموا الفقه على العبادات، والمعاملات، أي: العقود، والإيقاعات، والأحكام، والسياسات، التي بمعرفتها، والعمل بها، يصل الإنسان إلى مقام الإنسانيّة، والخروج عن حدود الحيوانيّة، البهيميّة، وبذلك تتمّ المدينة الفاضلة التي خُلق الإنسان لورودها، والاستكمال فيها.
ولكن كلّ من نظر في الحكمة الاصطلاحيّة، يرى أنّها كغبار على اللجين، ولو فرض فيها شيء صحيح، فهو مستلهَم من الوحي المبين، أو السنّة المقدّسة، وغيره ليس إلّا من الأوهام، والتخيّلات، والمغالطات، وكلّ واحد منها حجاب عن الوصول إلى الواقع، ولذلك كثر الخلاف، وقلّ الوصول إلى المراد، وقد ذكرنا أنّ الحكمة بمعزل عن البطلان، والتكذيب، ومنزّهة عن جميع ذلك، وإذا كانت الحكمة ما ذكروه، فليست هي إلّا العلم بالمصطلحات فقط، فهي كعلم اللغة، وهي صنعة، وفنّ، لا تزيد على سائر الصنايع، والفنون، بل ربّما يكون بعضها أفضل منها، وهو المحسوس.
والحَكَم في قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِنْ أَهْلِها[44]، هو من ينصّب للتحكيم.
والإحكام: صفة للكتاب، تستعمل في موردين:
الأول: بالنسبة إلى جميع هذا الكتاب العظيم، المشتمل على الأسلوب المحكم، المتقن، الصادر من المصدر الأزليّ، الحكيم، وهذا وصف لجميع آيات القرآن، حتّى المتشابهات منه، لأنها منه عزّ وجلّ، وهي محكمة من تمام الجهات، من حيث الصدور، ومن حيث الأسلوب، ومن حيث الإعجاز، ومن حيث الهداية، فهي محكمة بجميع ما مرّ من معاني الإحكام، قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[45].
الثاني: في مقابل المتشابه، فتصير الآيات الشريفة حينئذ على قسمين: محكمة، ومتشابهة، وفي قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [46]، المراد من المحكمات: معلومة الدلالة، ومفهومة المراد، أي: مصونة عن طرو التردّد، والاحتمال عند الأذهان المستقيمة.
[1] الأنعام : 89
[2] المائدة : 44
[3] البقرة :اية 213.
[4] الإسراء: 39
[5] الرعد: 41
[6] البقرة: 117
[7] المؤمنون: 48
[8] الأنعام : 89
[9] الشعراء: 83
[10] المائدة: 47
[11] الأنعام: 36
[12] هود: 45
[13] الأنعام : 57
[14] الأنعام : 62
[15] القصص : 70
[16] الرعد : 41
[17] غافر : 12
[18] يوسف : 40
[19] الكهف : 26
[20] ص : 26
[21] المائدة : 49
[22] المائدة : 44
[23] المائدة : 95
[24] التين : 8
[25] الأعراف : 87
[26] الكهف : 26
[27] الأنعام : 57
[28] الأنعام : 114
[29] في روضة المتقين 2/81: ورد عن مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):
دواؤك منك وما تبصر وداءك منك وما تشعر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر
[30] البقرة: 269
[31] البقرة : 231
[32] بحار الأنوار 70/224
[33] لقمان: 12
[34] البقرة: 129
[35] الإسراء: 39
[36] مجمع البيان – ج 2 – ص 194
[37] النهاية في غريب الحديث: ج1 ، ص 42
[38] البقرة: 129
[39] بحار الأنوار: ج 1 ، ص 154, كتاب: العقل, والعلم, والجهل, باب: علامات العقل.
[40] الكافي: ج 1، ص 218 , كتاب: الحجة , باب: أن المتوسمين الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه هم الائمة عليهم السلام , الحديث 3
[41] عيون أخبار الرضا (ع) – ج 1 – ص 74 , الحديث:321
[42] الأنعام: 28
[43] الأنعام: 59
[44] النساء: 35
[45] هود: 1.
[46] آل عمران : 7