الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين ، سيّما نبيّنا محمّد وعلى آله الطاهرين .
وبعد:
1
فقد خلق الله تعالى الإنسان ، وجعله في الأرض ليكون خليفته الذي يتخلّق بأخلاق الله تعالى ، ويجسّد صفاته ؛ قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}([1]).
وقد كان هذا الاستخلاف بعدما زوّده بنور العقل وقوة الإرادة ، ومنحه قدرة اختيار سبيلي الخير والشرّ ؛ قال تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}([2]).
وإكمالاً لهذه المهمّة ، أنزل إليه الكتب السماويّة التي تحوي تعاليم الهدى والنور .
كما بعث إليه الأنبياء والرّسل ، ليكونوا قدوةً عملية للوصول به إلى الكمالات الإنسانية ؛ قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}([3]).
ومن بعدهم الأوصياء والأئمة علیهم السلام ، فقد جاء في كتاب الإمام علي علیه السلام إلى واليه على البصرة ، عثمان حُنيف : « ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدى به ويستضئ بنور علمه » .
وأمّا في عصر الغيبة الكبرى ، فإنّ العلماء هم قدوة البشرية ، وذلك لأنّهم «أقرب الناس من درجة النبوّة » ، و « ورثة الأنبياء » ، و « خلفاء الأنبياء » ، كما الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم([4]).
2
والمراد بالعالم ، هو ذاك الإنسان العالم بالمعارف الإلهيّة ، التي تمنح الإنسان الكمال والسعادة الأبدية ، وترتقي به من مستوى الحيوانية إلى ذروة الإنسانية والروحانيّة .
فعن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : « إنّما العلم ثلاثة : آيةٌ محكمة ، أو فريضةٌ عادلة ، أو سُنّةٌ قائمة ، وما خلاهنّ فهو فضل »([5]).
وعن الإمام علي علیه السلام : « إنّ معرفة النفس أفضل العلوم »([6]).
وعنه علیه السلام : « رحم الله مَنْ عرف من أين وفي أين وإلى أين » .
وعن الإمام الصادق علیه السلام : « وجدت علم الناس في أربع : أولها أن تعرف ربّك ، والثانية : أن تعرف ما صنع بك ، والثالثة : أن تعرف ما أراد منك ، والرابعة : أن تعرف ما يخرجك من دينك »([7]).
وهذا العلم هو الذي يورث العبودية والخشية من الله تعالى .
قال تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}([8]).
وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}([9]).
وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « مَنْ حُرم الخشية من الله تعالى ، فليس بعالم ، وإن شقّ الشعر في المتشابهات ، ومَن لم يكن عمله مطابقاً لقوله تعالى فليس بعالم»([10]).
« ومن ثمراته التقوى ، واجتناب الهوى ، واتباع الهدى ، ومُجَانبة الذّنوب ، ومودّة الإخوان ، والإستماع من العلماء ، والقبول منهم ، ومن ثمراته ترك الإنتقام عند القدرة ، واستقباح مقارفة الباطل ، واستحسان متابعة الحقّ ، وقول الصدق ، والتجافي عن سرور في غفلة ، ومِنْ فِعْل ما يَعقِبُ ندامةً »([11]).
3
ومن أبرز أُولئك العلماء الأعلام ، العالم الربّاني([12])، العارف بالله تعالى ، والفقيه النحرير ، والمُفسّر الكبير ، « السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري قدس سره » ، فقد كان مصداقاً جليّاً للعالم ، العامل ، العابد ، الزاهد ، التقيّ ، الورع .
يقول عنه آية الله السيّد علي البهشتي حفظه الله ، بأنّه :
« البدر العظيم القدر لطالبي الهداية ، صاحب الطبائع الملائكيّة ، الآية الكبرى ، والحجّة العُظمى الحاج السيّد عبد الأعلى السبزواري ( خُلِّد ذكره السوي ) وهو مصدر تعليم الفقاهة ، والجوهرة الساطعة للنباهة ، صاحب مبادئ التحقيق ، وناخب دورة الفقه الكاملة على نحو دقيق » .
ويقول عنه العلامة الشيخ باقر شريف القرشي ، إنّه :
« كان عطاءً متواصلاً للفكر الإسلامي ، ومنبعاً أصيلاً للحياة العلمية في دُنيا الإسلام … كما كان قاعدة مُشرقة لهدى الإسلام وروحانيته ، فقد تجسّدت في سلوكه جميع القيم الأصيلة ، والمُثل العليا التي يسمو بها هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان » .
ويقول السيّد عبد الستّار الحسني ، إنّه :
« صفوة الفقهاء والمجتهدين ، وإمام أهل العرفان الواصلين ، وقرم الجهابذة وعَلمُ للأصوليّين … فهو في العلم والفقاهة ، والأصول ، والتفسير ، والعرفان ، وعلوم الحديث ، ومعرفة الرجال ، والفلسفة ، والأخلاق ، والورع ، وسائر الخصوصيّات التي انفرد بها عن أعلام زمانه ، آية الآيات ، وحجّة الحجج ، والقدر المتيقّن من مصاديق قول جدّہ صلی الله علیه و آله و سلم « العلماء ورثة الأنبياء » .
وبناءً على ما تقدّم ، فقد رأيت من الضروري الكتابة عن حياة العالم الربّاني السيّد السبزواري قدس سره ، فإنّ فيها الكثير من العِبر والدروس التي تفيد الإنسان ، وخصوصاً فيما يتعلّق في سيره وسلوكه نحو الله تعالى .
قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}([13]).
وقد جاء في مقدّمة كتاب « الأذكياء » لابن الجوزي :
« أحببتُ أن أجمع كتاباً في أخبار الأذكياء ، الذين قويت فطنتهم ، وتوقّد ذكاؤهم ، لقوة جوهرية عقولهم ، وفي ذلك ثلاثة أغراض :
أحدها : معرفة أقدارهم بذكر أحوالهم .
والثاني : تلقيح ألباب السامعين ، إذا كان فيهم نوع استعداد لئيل تلك المرتبة ، وقد ثبت أنّ رؤية العاقل ومخالطته تفيد ذا اللُّب ، فسماع أخباره تقوم مقام رؤيته .
والثالث : تأديب المعجب برأيه ، إذا سمع أخباره مَنْ تعسّر عليه » .
وسنتناول في هذا الكتاب ـ بشكل موجز ـ الجانب الشخصي لحياة السيّد، وكذا الجانب العلمي الأصولي والفقهي ، وسنركّز على الجانب الأخلاقي والعرفاني من حياته ، لما له من الإرتباط الوثيق في حياتنا اليومية ، في سيرنا وسلوكنا إلى الله تعالى .
وقد قسّمت الكتاب إلى ثلاثة فصول :
الفصل الأول : في حياته الشخصية والعلمية .
والفصل الثاني : في حياته الأخلاقية والعرفانية .
والفصل الثالث : في قبسات ممّا كتبه في « المُهذّب » و « المواهب » .
وبهذا الكتاب نستحضر حياة السيّد السبزواري رحمة الله علیه بيننا ، فهو وإن غاب بجسده عنّا ، إلا أنّه حاضرٌ معنا بفكره ، وماثلٌ أمامنا بعلمه وآثاره ، « والعُلَماءُ
([1]) سورة البقرة : الآية 30 .
([3]) سورة الأحزاب : الآية 21 .
([4]) ميزان الحكمة : مادّة « علم » .
([5]) ميزان الحكمة : مادّة « علم » .
([6]) تفسير الميزان : ج 6 / ۱۸2 .
([7]) ميزان الحكمة مادّة « علم » .
([9]) سورة الاسراء : الآية 107 ـ ۱۰۹ .
([10]) مواهب الرحمان : ج 5 / 76 .
([11]) ميزان الحكمة مادّة « علم ».
([12]) قال السيّد السبزواري & في « تفسير قوله تعالى : {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}، قال : أي المنسوبون إلى الربّ، وهم العلماء المنقطعون إلى الله تعالى ، العرفاء به علماً وعملاً ، الذين لهم شأن في تربية الناس بالتربية الربّانية، وفي الحديث عن الإمام على + : « أنا ربّانيّ هذه الأمّة » ، أي مربّيهم تربية الهيّةة » . « مواهب الرحمان : ج11 / ۲۹۰».