المواضيع المذكورة في هذا الفصل عبارة عن أبحاث قيّمة أدرجها السيّد السبزواري في موسوعته الفقهيّة والتفسيريّة ، وقد اخترناها لما لها من الدخل في السير والسلوك إلى الله تعالى ، وهي كالتالي :
العرفان علمٌ جليل ، ليس له مثيل في سائر العلوم مطلقاً ، في الشمولية والسعة والآثار ، والسالك والمسلوك فيه ، والمقصد والغاية ، وكلّها جلائل عظام ، والبحث في كلّ واحدةٍ منها يقصر عنه الإفهام ، إلا لمن كان ذا حظٍ من العلم والمعرفة ، وهم الأنبياء العظام ، والأوصياء الكرام ، فهم الأصل في هذا العلم الجليل ، والقدوة في هذا الطريق ، وغيرهم إن رجع ما قالوه فيه إليهم ، فلا بأس به ، وإلا فهو مجرّد كلام لا حقيقة له ، وإن ادّعى الكشف والشهود فيما ادّعوه ، ونحن لا نريد الدخول في التفاصيل ، فهو موكول إلى محلّه ، إلا أنّنا نذكر في المقام ، بعض ما يتعلّق بالسالك والمسلوك ، فنقول :
إنّ العرفان مأخوذٌ من المعرفة الحاصلة من العلم النفساني ، الحاصل من النظر في النفس، وطرق صلاحها ، وأحوالها وأطوارها ، ودائها ودوائها ، وسائر خصوصيّاتها والنظر في الآيات الآفاقية ، ومعرفة الله سبحانه وتعالى ممّا يوجب هداية الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ ، والشريعة الإلهية ، التي تمثّل المعرفة الكاملة ، وما لها من التعلّق بعلم التوحيد ، والمعاد والنبوّة ، فإنّ هذه المعرفة الحقّة الحقيقيّة ، بما لها من المراتب الكثيرة ، إذا تحقّقت في فرد ، وجد نفسه متعلّقاً بمعدن العظمة والكبرياء ، متّصلة في وجودها وحياتها وسائر خصوصيّاتها بمن لم يكن متناهياً في الحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من كلّ كمال ، وأشرقت عليها من بهائه وسنائه وجماله وكماله ، ما لم يقدر أيّ لسان أن يكشفه ، فهو شهودي خاصّ .
ولعلَّ هذه الكلمة ( العرفان ) ، مأخوذة من تلك الأحاديث المتواترة التي اشتملت على قولهم علیهم السلام : « مّن عرف نفسه فقد عرف ربَّه » .
ويستفاد من هذه الكلمة الطيّبة أمور :
الأول : إنّ السبيل في معرفة الربّ إنّما يكون بمعرفة النفس ، فإنّها مظهر عظمته وكبريائه وقدرته وسائر صفاته .
الثاني : إنّ معرفة النّفس كمعرفة الباري شهودياً أكثر من كونه نظرياً . فإنّ التصديق الفكري يحتاج إلى مقدّمات ، ونظم الأقيسة ، واستعمال البراهين ، والتوجّه إلى الخصوصيات ، وإلا يزول العلم بزوال التوجّه والإشراق ، فتكثر فيه الشُّبهات ، ويتوارد فيه الاختلاف ، بخلاف العلم بالنفس ، فإنّه علمٌ حضوريٌ ، وإنّه من العيان ، ويظهر ذلك لمن اشتغل بالنظر في النفس ، وعرف داءها ودواءها ، وطرق إصلاحها ، وشاهد فقرها إلى ربّها ، وحاجتها في جميع أطوارها إلى خالقها ، فإنّه حينئذٍ يجد نفسه ، متعلّقاً ببارئها ، متفانياً في حبّه والتعلّق به كما ستعرف .
الثالث : إنّ المعرفة بالنفس لها مراتب متفاوتة ، كما أنّ المعرفة بالربّ كذلك .
الرابع : إنّ النفس لما كانت مضطرّة في سيرها وسلوكها ، لا همَّ لها إلا السير في مسيرها الاضطراري ، والوصول إلى المرجع ، فإذا انتبهت إلى هذه الجهة تكون منقطعة عن كلّ شيء ، يحتمل الاختلاط معه ، إلا ربّها المحيط بباطنها وظاهرها ، والعالم بجميع خصوصيّاتها فتكون في فرط التوجّه إلى ربّها ، وانشغالها به وفي ذكر منه ، وإن كانت في ملأ من الناس ، واختلاطٍ معهم ، وهذا هو السرّ العظيم في هذا العلم الجليل ، الذي يجمع بين أمرين متنافيين ظاهراً ، فإنّ النفس في عين اختلاطها مع الناس ، لا يمكنها ترك طريقها الاضطراري ، فإذا انصرفت إلى بارئها ، وتوجّهت إلى ربّها ، نسيت كلّ شيء ، فتكون على ذكر منه تعالى ، فلا يحجبها حجابٌ ، ولا يسترها ساتر ، وهذا هو حقّ المعرفة ، وهي معرفة الله بالله .
وأمّا المعرفة بالبراهين الحاصلة ، فهي مقيّدة ، ولا يمكن أن تتعلّق به تعالى ، لأنّه لا يحيط به علماً .
الخامس : استحالة المعرفة الكاملة بالنفس ، لاستحالة الإحاطة العلمية الكاملة بالله ، دون ما نكَرَهُ بعضهم من استحالة المعرفة بالنفس ، فإنّه مردود بقوله صلی الله علیه و آله و سلم : «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه » ، فيكون معنى الحديث من لم يعرف نفسه لا يعرف ربّه ، ونحن نذكر بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال ، ثمّ نذكر ما يتعلّق ببعض الخصوصيّات .
في الغرر والدرر للآمدي ، عن الإمام عليّ علیه السلام: « المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين » .
أقول : المراد من المعرفتين ؛ المعرفة الآفاقية ، والمعرفة بالنفس ، كما قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}([1])، وقال تعالى : {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}([2])، وعرفت أنّ معرفة النفس أنفع من معرفة آيات الآفاق ؛ لأنّ معرفة النفس لا ينفكّ عن التخلية والتحلية للنفس ، وبالأخرة توصل معرفتها بمعرفة الله تعالى ، وأمّا معرفة الآفاق ، فإنّها توصل إلى معرفة الله من حيث أسماؤه وصفاته وأفعاله عزّ وجلّ ، وإنْ كانت معارفه حقّة حقيقيّة تهدي العارف بها إلى سواء السبيل ، وتوصله إلى السعادة والحياة المطمئنة، ولكن تلك معرفة عظيمة ، وموقف علمي تهدي إلى دين الحقّ ، كما تهدي معرفة النفس إليه ، ويتّحد الطريقان في الغاية ، لكنّ المعرفة الأخيرة تهدي إلى معرفة النفس ، والعثور على دائها ودوائها ومراتبها وما يوجب اعتدالها وصلاحها ، وما يسبّب طغيانها وخمودها . ومن المعلوم إذا صلحت النّفس ، كان أقرب إلى المعرفة بالآيات الآفاقية والانتفاع بها ، مضافاً إلى ما عرفت في أوّل البحث ، من أنّ معرفة الآيات نظرية ، ومعرفة النفس شهودية ، ولكن يمكن أن يصل العارف بالله إلى الشهود في آيات الآفاق ، كما قال عزّ وجلّ ، حكايةً عن النبيّ إبراهيم علیه السلام :
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}([3]).
ولكن لا يصل إلى هذه المرتبة ، إلا عن طريق معرفة النفس ، والخلوص في تهذيبها وإصلاحها وتكميلها بالكمالات حتّى تصل إلى مرتبة التجلّي بالحقّ وفي الحقّ ، كما هو مفصّل في محلّه .
وفي الدُرر والغُرر أيضاً ، وعنه علیه السلام قال : « العارف مَنْ عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يبعدها » .
أقول : عرفت الوجه في ذلك آنفاً ، فإنّ أوّل مراتب المعرفة هي عتق النفس عن اسارة الهوى ، ورقيّة الشهوات ، واسترقاق الملكات الرديئة، وسيّئات الأعمال .
أو بعبارة أُخرى تخليتها من كلّ ما يشينها ، ولا يتحقّق إلا بمعرفة النفس داءها، ثمّ علاجه بدوائه .
وفيه أيضاً : « أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه » .
أقول : حكم المقابلة بين الجهل والعلم ، يقتضي أنّه كلّ ما كان الأخير أعظم نفعاً ، كان الجهل بالنفس أعظم أنواع الجهل ، فإنّ بهذا الجهل يفوت كلّ الخير ، وتنسدّ جميع أبواب السعادة والفلاح ، وتنفتح أبواب الشقاء والعناء .
وفيه عنه علیه السلام: « الكيّس من عرف نفسه وأخلص أعماله » .
أقول : لأنّ الإنسان إذا عرف نفسه ، وأمكن تهذيبها وإصلاحها ، وعرف داءها ودواءها ، استطاع تذليلها وجعل زمامها بيد العقل الذي لا يريد إلا الخير في إرشاداته وتوجيهاته ، فكان العارف كذلك كيّساً استعمل عقله ونفسه في طريق الهداية والصلاح ، وأخلص في أعماله من شوائب الربا والنواقص ، وممّا ذكرناه يظهر السرّ فيما ورد عنه فيما يأتي من أقواله علیه السلام .
فقيه أيضاً عنه علیه السلام : « أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه » .
وفيه عنه علیه السلام: « أفضل العقل معرفة المرء نفسه ، فمن عرف نفسه عَقل ، ومَنْ جَهِلَها ضلّ » .
وفيه عنه علیه السلام : « عجبتُ لمن يَجهلُ نفسه ، كيف يعرفُ ربّه ؟! » .
وفيه عنه علیه السلام: « غاية المعرفة أن يعرف المرءُ نفسه » .
وفيه عنه علیه السلام : « كفى بالمرء معرفةً أن يعرف نفسه ، وكفى بالمرء جَهلاً أن يَجهل نفسه » .
وفيه عنه علیه السلام : « عجبتُ لمن ينشدُ ضالّته ، وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها » .
وفيه عنه علیه السلام قال : « مَنْ عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفةٍ وعلم».
وفيه عنه علیه السلام قال : « مَنْ عرف نفسه كان لغيره أعرف ، ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل » .
وفيه عنه علیه السلام قال : « لا تجهل بنفسك ، فإنّ الجاهلُ معرفة نفسه ، جاهلٌ بكل شيء».
أقول : هذا ما يفسّر ما قبله ، فلمّا كانت معرفة النفس أمراً عظيماً ، وتستلزم تجرّدها عن العلائق المادّية ، فتشبه المجرّدات ، ولا يعوق المجرّدات من العلم والمعرفة بكلّ شيء عائق.
وفيه عنه علیه السلام: « من عرف نفسه تجرَّد » .
أقول : تقدّم آنفاً المراد منه ، أي تجرّد عن علائق الدُّنيا ، وهذا من آثار معرفة النفس العظيمة .
وفيه عنه علیه السلام : « مَنْ عَرِف نفسه جاهدها ، ومن جَهِل نفسه أهملها » .
أقول : هذا أيضاً أثر من آثار معرفة النفس وفوائدها الكثيرة ، فإنّ بمعرفة النفس تُعرف خصوصيّاتها ، كما عُرفت سابقاً ، فيقوم بإصلاحها وتهذيبها ، وهذا هو الجهاد معها ، ولا يمكن الجهاد مع مجهول لا يعرف خصوصيّاته .
وفيه عنه علیه السلام: « من عَرِف نفسه جلَّ أمره » .
أقول : فائدة أُخرى من فوائد معرفة النفس ، وأثر من آثارها ، فإنّ معرفتها يوجب انشغاله بها ، ويوصل إلى معرفة الله عزّ وجلّ من جلائل الأمور ، أو يجلّ أمره ويعظم ثوابه .
وفيه عنه علیه السلام قال : « نال الفوز الأكبر مَنْ ظفر بمعرفة النفس».
أقول : أثرٌ من الآثار العظيمة المترتّبة على معرفة النفس ، وهو الفوز الأكبر ، سواء كان معرفة الله عزّ وجلّ أو ثوابه أو السعادة العظمى ، أو تلك الآثار المتقدّمة وغيرها التي هي بنفسها فوائد عظيمة .
إلى غير ذلك من الروايات التي وردت بهذه المضامين ، وكفى بما أوردنا دليلاً على أنّ معرفة النفس هي من أعظم المعارف وأتمها وأشملها وأثبتها وأوصلها إلى المقصود ، وقد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة في سورة البقرة ، إثبات النفس وتجرّدها الذي لا يمكن إنكاره ، إلا ممّن كان مكابراً للحقّ .
ولذلك ترى أنّ الجهاد مع النفس ، العرفانُ بها لم يكن مختصّاً بملّة الإسلام ، بل كان في الملل الأخرى ، حتّى الأديان الوضعية ، بل أنّ منهج بعضها وشريعتها لا تكون إلا بعرفان النفس ، ومعرفة سائر خصوصيّاتها و تشريع رياضات خاصّة في هذا السبيل ، وحرمانها من اللذائذ الجسمانية ، وانعطاف الفرد إلى النفس بإصلاحها، ولذا كانت محورها وأساسها الارتياضات النفسانية ، والزهد والتقشّف عن متاع الدّنيا ، فإنّ الانكباب عليها ، ومطاوعة هوى النفس ، يصرف الإنسان عن الاشتغال بنفسه .
وقد عرفت أنّ هذا النوع من العرفان ، تترتّب عليه آثار عجيبة ، تشبه الموضوع الذي يجاهد فيه ، وهي أعظم من ما يترتّب على الأمور المادّية من الآثار بمراتب كثيرة ، فإنَّ النفس من عالم الأمر ، ومن المجرّدات التي لها تعلّق بالبدن ، فكانت ذاتها منها ، ولكن أفعالها مادّية لتعلّقها بالبدن ، فكانت الآثار والفوائد المترتّبة على عرفان النفس تشبه هذا الموضوع المجرّد .
وعلى أيّ حال ، فإنّ هذا النوع من العلم قديمٌ جدّاً ، بدء الخليقة ، ومن السنن الدائرة بين الناس ما دام هذا المخلوق العجيب مركّباً من هذين الأمرين ، وهما النفس والجسد ، فإنّ أحدهما لابُدَّ أن يؤثّر في مستوى الإدراك والعلم والمعرفة التي عنده ، كما عرفت آنفاً . بيدَ أنَّ الاشتغال بالنفس ، وتوجيه المعرفة إليها على طرقها المختلفة بين الأقوام وأفراد الناس ، للحصول على الآثار العجيبة قديم جدّاً ، بل كان بعض الأفراد يعتبرها مهمّة عظيمة ، يجب أن يبذل دونها الأنفس والأوقات ، وأغلى الأثمان والأهل والدّيار .
راجع تاريخ الشعوب والأديان ، ترى صحّة ما ذكرناه . وقد حكى القرآن الكريم رهبانية النصارى ، فقال تعالى : {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}([4])، كما حكى تعبُّد بعض اليهود وتنسّكهم ، قال تعالى : {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}([5]).
ومن هذه الآيات يتبيّن أنّ هذا النوع من العلم ، وهذا القسم من العرفان ، له شروط وآداب وأحكام ، فإذا رُوعيت وصل الفرد إلى المقصود ، وهو رضوان الله تعالى ، وأمّا إذا فُقدت ترتّب على هذه المجاهدة آثار خاصّة ، إلا أنّهم قد يحرمون من المقصود الأهمّ كما عرفت .
ومن ذلك يظهر الجواب عن جملة من الإشكالات التي أوردوها، ونحن نذكر الأهمّ منها :
الأوّل : إنَّ ما كانت تفعله الأقوام أو الأديان والمذاهب التي تدعو إلى العبودية ، إنّما هو الزهد والانقطاع من الدُّنيا ، وترك الهوى ، والابتعاد عن الذُّنوب والآثام ، واكتساب الفضائل ، لأجل أنّه الدستور الديني المترتّب عليه .
وبعبارة أُخرى : أنَّ فعلهم إنّما كان امتثالاً لأحكام الشريعة ، من دون أن يخطر بباله أنّ هناك نفساً مجرّدة ، ولها نوعاً خاصّاً من المعرفة ، وفيها آثار معيّنة ممّا توجب سعادتها ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون صاحب شريعة ودين ، أو لم يكن، كما إذا كان صاحب رياضة خاصّة ، إمّا أملته عليه العادات والتقاليد ، أو لحيازة مقامٍ معيّن مترتّب على هذا النوع من المجاهدة والرياضة ، كنفوذ الإرادة ، والاتّصال ببعض الأرواح ، أو جريان بعض الأمور الخارقة للعادة على يديه ، وغير ذلك من المقاصد التي تترتّب على رياضة النفس والزُّهد في الدُّنيا ، وهو يفعل ذلك لا عرفان للنفس ، وما يترتّب عليها من الأمور التي ذكرناها سابقاً .
والجواب عن ذلك يظهر من سالف ما ذكرناه ، من أنّ هذه الحالات والمواقف إنّما يجمعها شيء واحد ، وهو صرف النفس عن الشهوات والملذّات ، والأمور الخارجيّة ، وأنواع التمتّعات المادّية ، ولا ريب إنّ هذا النوع من المجاهدة ، توجب صرف النفس إلى نفسها ، ويترتّب على ذلك آثار خاصّة لا يمكن الوصول إليها بالأسباب الطبيعيّة والأمور المادّية ، فإنّها لا يمكن الوصول إليها إلا بالانقطاع عن هذه الأسباب العادية ، والانقلاع عمّا يوجب بُعد النفس عن عالمها الروحاني المجرّد ، والاستقلال بنفسه للحصول على تلك النتائج والآثار ، وهذا الأمر لا يختلف فيه المتديّن بشريعة ودين ، أو المتزهّد والمتعبّد الراهب ، أو المنكر لجميع ذلك ، ولكنّهم يرون أنّ السعادة فيما انتحلوه من هذه الطريقة في المجاهدة ، لا يمكن أن تنال بالاسترسال في التمتّعات الحيوانية ، واتّباع الهوى ، والخضوع إلى الهواجس المادّية ، لكن المنتحلين للحياة الأخروية ، يزيدون على سعادتهم هذه في الحياة الدُّنيا الحياة الطيّبة في الآخرة ، والدخول في رضوان الله ، فالجميع يرجع إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس ، وهو ارتباط خاصّ معنوي يكون بين المرتاض وإرادته ، والنتيجة المتوخّاة الموعودة ، بأن يحصل للنفس اطمئنان ، بأنَّ المطلوب مقدورٌ يمكن الحصول عليه بهذه الرياضة الخاصّة ، ولو وصل العلم هذا إلى اليقين بالله ، لكان الأثر عظيماً ، وهذا لا يحصل إلا لمن كان على شريعة حقّة ، ومشى على الصراط المستقيم الذي بيّنه الله تعالى في شريعة خاتم الأنبياء .
ولعلّه إلى هذا يشير ما رواه المجلسي رحمة الله علیه عن إرشاد الديلمي ، عن أمير المؤمنين علیه السلام قوله :
« فمن عمل برضائي ، ألزمه ثلاث خصال : أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّةً لا يؤثر على محبّتي محبة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته ، وأفتح عينيّ قلبه إلى جلالي ، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي ، وأناجيه في ظُلم اللّيل ونور النّهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأعرفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتّى يستحي منه الخلق كلّهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً بصيراً ، ولا أخفي عليه شيئاً من جنّةٍ ولا نار ، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة ، ما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء ، أنوّمه في قبره ، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه ، ولا يرى غمّ الموت ، وظلمة القبر واللّحد ، وهول المطلع ، ثمّ أنصب له الميزان ، وأنشر ديوانه ، ثمّ أضع كتابه في يمينه ، فيقرؤه منشوراً ، ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً ، فهذه صفات المحبّين .
يا أحمد! اجعل همّك همّاً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حيّاً لا يغفل أبداً ، مَنْ يغفل عنّي لا أبالي بأيّ وادٍ هلك » .
وهذا مقامٌ خطير ، لا يمكن الوصول إليه ، إلا بإفناء النفس في الله تعالى والبقاء ببقائه لا مجرّد ترويضها وصرفها عن الشهوات والملذّات ، فإنّ ذلك قنطرة واحدة من القناطر العديدة في هذا السير والسلوك .
الثاني : إن بعض الباحثين توهّم وجعل الدّين والشريعة ليس إلا التصوّف والعرفان ، حتّى جعل بعضهم كلّ متديّن من الصوفية ، والدّين عرفانياً فقط ؛ فقال إنّ المسلك الحيوي الدائر بين الناس هو على قسمين : مادي ، وعرفان الذي هو الدّين .
وفيه : ما ذكرناه آنفاً ، إنَّ المجاهدة ورياضة النفس والتصوف في الدّنيا ، ليس من العرفان المعروف الذي يسوق الإنسان إلى معرفة الله ، ويهدي إلى الصراط المستقيم ، وما يترتّب عليه من الجزاء العظيم ، والأجر الجزيل ، أمّا هذه المعرفة فهي تختصُّ بالنفس ، من حيث الوصول إلى غاية محدودة ، يقصدها المجاهد والمرتاض في هذا المجال ، وتسميته هذا بالعرفان أيضاً مسامحة ، فهو شيء والدّين شيءٌ آخر ، وإن استلزم العرفان بالملازمة ، لما فيه من الإعراض عن الدُّنيا ، والإقبال على النفس ومراقبتها ، وتهذيبها من الرذائل ، وتكميلها بالفضائل ، وهذا هو الذي يدعو إليه الدّين .
وإذا أمعنا النظر في الشرائع الإلهية ، والأديان السماوية ، وسائر النّحل نرى أنّ العرفان بأيّة صورةٍ كان ، إنّما مصدره الدّين ، ولكن الخلاف كان من جهة تطبيقه ، كما حكى عزّ وجلّ في كتابه الكريم ، عن عُبّاد الأصنام والأوثان {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}([6]). فإنّ عبادة الله الواحد الأحد مركوزة في الفطرة ، وقد ذكرنا في أحد بحوثنا السابقة ، أنّ التوحيد دين الفطرة ، والناس وإن تشعّبوا في أهوائهم وعقائدهم ، ولكنّها تميل إلى التوحيد ، وأنّ الخطأ حصل من تطبيقه ، والعرفان منبعه ومصدره هو هذا الأمر المركوز اللّذان يشتركان في الدعوة إلى السعادة الإنسانية ، فإنّ الدّين يدعو إلى عرفان النفس على أنّه طريق إلى الاشتغال بوظائف العبودية ، لا على نحو الاستقلال ، فالدّين يدعو إلى العرفان الفطري ، ويدعو إلى التوحيد كما عرفت ؛ فأحدهما يدعو إلى الآخر ويشتركان في الغاية والمقصود ، وهما العبودية المحضة .
وأما غير ذلك من العرفان الذي يمارسه أصحاب الرياضات والأرواح والسحر، فهو ليس بالعرفان ؛ فإنّ الفطرة لا تدعو إلى مثل هذا ، بل إنّما يمارسه لأجل الوصول إلى بعض الأعمال العجيبة ، بعدما يرى أنّها لا يمكن أن تنال إلا عن هذا الطريق ، ولكن هذه الأعمال والآثار وإن ترتبت على هذا النوع من المجاهدة مع النفس ، التي هي من عالم الأرواح ، فإذا قطعت من عالم المادّة اتّجهت إلى الأرواح بقدر انقطاعها عنه ، ولا ريب أنّ الآثار حينئذٍ تكون ملائمة مع ذلك العالم ، وتناسب تلك المقامات ، ولذا نرى صدور بعض الخوارق على يد هؤلاء ، إلا أنّها غير تلك التي تترتّب من عرفان النفس الذي تدعو إليه الفطرة ، والفرق بينهما كالفرق بين الاثار المترتّبة على السحر وما يترتّب على المعجزة ، وخوارق العادات التي تصدر على أيدي الأولياء والأصفياء ؛ فهم في الواقع قد فاتهم معرفة حقيقة النفس التي هي عالم خاصّ وسيع وفسيح جدّاً . وما يصدر منهم من هذه الأمور ، ليست إلا أموراً مادّية في الحقيقة والواقع ، لكن اشتبه الأمر عليهم فاعتبروها من الأمور المعنوية ، فهي لا تخرج عن حيطة نفوسهم وإرادتهم وشعورهم الخاصّ الذي له دخل في هذه الحوادث المرتبطة به ، ولم يتعد إلى ذلك العالم الفسيح الذي هو جزء من الغيب .
وهناك إشكالات أخرى أعرضنا عنها ، وهي إنما نشأت من الخلط بين هذين المسلكين المختلفين والاتّجاهين المتنافيين ، فإنَّ أحدهما يكون بالاشتغال بعرفان النفس ، للحصول على بعض الآثار الغريبة الخارجة عن الطريق المألوف ، المبني على قانون الأسباب والمسبّبات المادّية ، كأصحاب السحر والطلسمات وأرباب تسخير الأرواح ، سواء كانت أرواح الكواكب أو الموكّلين على الجنّ ، وأرواح الآدميّين ، وأصحاب التمائم والدعوات والعزائم ، وأرباب الذّكر وأصحاب الشعوذة وغير ذلك ، وقد قلنا إنّها لا تخرج عن حيطة المادّة ، وإنّ حقيقة النفس مغايرة لما عليه هؤلاء ، فهم نالوا شيئاً من آثار النفس ، ولكنّهم غفلوا عن واقع النفس وفاتتهم معرفة حقيقتها .
أمّا الاتّجاه الآخر ، وهم المشتغلون بمعرفة النفس ، والغوص في حقيقتها ومعرفة خصوصيّاتها ممّا يشينها ويزينها وأمراضها وأدوائها ، وغير ذلك ممّا لابدّ من معرفته ، ولابدّ في هذا الطريق من الانصراف عن الأمور الخارجة عنها .
فهذه الطائفة أيضاً لا تخلو من تشتت وافتراق .
ففريق منهم : يسلك الطريقة لنفسها فلا يكون له همّ إلا معرفتها ، ولكن لا تتم المعرفة لهم ، لأنّها إنّما تتمّ بمعرفة صانعها ، وبدئها ومنتهاها ، فكيف تتمّ لهم المعرفة وقد أغفلوا عن سبب وجودها والقائم بأمرها ، ويسلك في هذا كثير ممّن يشتغل في هذا الطريق كالصوفية والكهّان وغيرهم ، وهم قد يحصلون على شيء من آثار النفس وعلومها .
والقسم الآخر : هم الذين تمّت لهم المعرفة ، وكانت معرفة النفس طريقاً لهم إلى معرفة بارئها ، والوصول إلى حريم كبريائه ، والدخول في رضوانه ، وهم الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ؛ وطريقتهم هي التي توافق الشرع المبين ، ويرتضيها الدّين ، فتكون النفس عندهم آية من آيات الله ، وقد انجذبوا إليها بما أنّها توصل السالك إلى الله ، فهو المقصد والغاية التي لابدّ من أن ينتهي إليها ، فكان قوله تعالى {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}([7])، محطّ أنظارهم ، فلم يسلكوا طريقاً إلا بعد معرفة الغرض والفائدة والغاية والمنتهى ، فهم قد عرفوا الله قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء، ولم يكن شغلهم هو الحصول على بعض الآثار المادّية المرتبطة بالنفس ، ولا على علومها ، أو الآثار التي ترتبط بها التي تخرج عن حيطة المادّة وإرادة السالك وشعوره ، بل كان غرضهم وشغلهم الشاغل هو الحصول على رضاء الله تعالى والانتهاء إليه ، فإنّه أعظم المقاصد وأهمّها عندهم ، وتضمحلّ عنده جميع الغايات والمقاصد ، فهم إن حصلوا على شيء ممّا يحصله غيرهم كتموه بمقتضى قولهم علیهم السلام « المؤمن مُلْجَم» ولم يتحدثوا بكلّ شيء وقع في سمعهم ، أو عند بصرهم أو جرت على أيديهم، فإنّ الأمر صعب مستصعب، لا يتحمّله إلا نبيٌّ مرسل، أو وليٌّ أو مؤمنٌ امتحنه الله امتحاناً، فهم كما وصفهم أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته المباركة التي وردت في وصف المتّقين ، وهم عرفوا أنفسهم بالله ولم يعرفوها بنفسهم من نفسهم ، كما قال الإمام الصادق علیه السلام : « تعرف نفسك به ( أي بالله ) ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك وما تعلم إنّ ما فيه له وبه » .
فإنّ حقيقة النفس هي الفقر والحاجة إلى الله تعالى ، المملوكة له ملكاً لا تشتغل بشيء دونه ، فكيف يمكنهم التخطّي عمّا يريده المالك ويتعدّى عليه ، فلا إرادة لها دون إرادته عزّ وجلّ ، ولا حاجة لها دون رضا سيّدها ومالك زمامها ، وهو العرفان الحقيقي ، فهو علم وعمل .
وأمّا غيره ، فإنّ وصف به فإنّما هو على نحو المجاز ، فاحفظ ذلك فإنّه نافع لك في تمييز العرفان الحقيقي ، من الذي يدّعيه كلّ واحد ممّن سلك سبيلاً . وقد ذكرنا في مباحثنا السابقة الشروط والآداب والأحكام فراجع ، نفعنا الله عزّ وجلّ به ، ورزقنا من فيوضاته ، ليدخلنا في زمرة السالكين نحو جنابه ، والعارفين بأنفسنا والقاصدين لرضوانه ، إنّه سميعٌ مجيب .
ثم إنّ هذه الآية المباركة ، من أهمّ الآيات التي تدلّ على ثبوت المعاد الجسماني ، بل تبيّن حقيقةً من الحقائق ، وهي أنّ العلم بالنفس وحقيقتها يوجب العلم بالمعاد ، والجاهل بها جاهل بحقيقة المعاد مطلقاً ؛ الجسماني والروحاني ، لأنّه
([1]) سورة السجدة : الآية 53 .
([2]) سورة الذاريات : الآية ۲۰ ـ ۲۱.
([4]) سورة الحديد : الآية 227 .
القرب معروف وهو الدنو من الشيء مقابل البُعد ، فهما يستعملان في الزمان والمكان ، وفي النسبة والقدرة والرعاية وغيرها ، قال تعالى : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}([1])، وقال تعالى : {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}([2])، وقال تعالى : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} ([3]). وقال تعالى : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}([4])، وقال تعالى : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}([5]). وقرب العبد من الله تعالى قرب روحاني لا قرب جسماني ولا مكاني ، لأنّ ذلك من صفات الأجسام ، والله جلَّ شأنه يتعالى عن ذلك ويتقدّس ، كما أنّ قرب الله إلى العبد هو بالإفضال ، والفيض عليه من مواهبه وألطافه، والإحسان إليه وترادف مننه عليه ، وفي الحديث :
« إنَّ موسى علیه السلام قال : إلهي أقريبٌ أنت فأناجيك ؟ أم بعيد أنت فأناديك ؟
فقال : لو قدرت لك البُعد لما انتهيت إليه ولو قدرت لك القرب لما اقتدرت عليه » .
وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ، فيما ذكر عن الله تعالى في القدسيات : «مَنْ تقرّب إليَّ شيراً تقرّبت إليه ذراعاً » .
وجاء في حديث قدسيّ آخر : « ما تقرّب إليَّ عبدٌ بمثل أداء ما افترضت عليه ، وأنّه ليتقرّب إليَّ بعد ذلك بالنوافل حتّى أحبّه » .
ومعنى حبّه إزالة الأوساخ عنه ، وتحلّيه بأكمل الصفات وأجلّها ، وفي الحديث: « صفة هذه الأمّة في التوراة قربانهم دمائهم » ، أي يتقرّبون إلى الله تعالى بإراقة دمائهم في الجهاد ، وفي مرضاته جلّت عظمته([6]).
وقال في موضع آخر :
لا شكَّ في أنّ تقرّب الإنسان إلى خالقه ومبدئه ، هو من أسمى الكمالات وأجلّها ، بل هو نتيجة جهد الأنبياء والأولياء ، به تطمئنّ النفوس وتستقرّ ، ويحصل السعادة في عالم الشهادة وسائر العوالم ، وبه يذوق الإنسان لذّة الحضور في ساحة المعشوق ، وإنّما خلقت الدّنيا لأجل ذلك ؛ قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}([7])، ويدلّ على ذلك الأدلة العقلية والنقلية .
ولكن للتقرّب إليه جلَّت عظمته درجات متفاوتة ، وعرض عريض، وأنواع كثيرة تختلف حسب المقامات والاستعدادات ، بل الاعتقادات ؛ لأنَّ الذات غير متناهية وكذلك الصفات ، فالتقرّب إليه يكون كذلك فلا يمكن تحديده.
وإنّ التقرّب إليه سبحانه وتعالى لا يختصّ بالإنسان ، فكلّ موجود ما سواه يسعى للتقرّب إليه جلّت عظمته ، قال تعالى : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}([8]).
وقد أثبت الفلاسفة الإلهيّون أنَّ قوام العالم ـ بكليّاته وجزئياته والعلوي منه أو السفلي. ـ وسيره الإستكمالي ، يدور مدار العشق لمظهر الأحدية ، وهذا العشق قد يكون تكوينيّاً ، وقد يحصل بالاختيار من الإشراق منه في الإنسان ؛ لأنّ النفس الناطقة في الإنسان ، ليست من المادّيات المحضة ، بل لها نحو تجرّد قابل للارتباط بعالم الغيب باختياره ، ولهذا الارتباط مراتب كثيرة شدّةً وضعفاً ، ولذا قد يحصل للإنسان بعض مراتب التقرّب إليه تعالى باختياره ، ثمّ تزول عنه كذلك ، فيكشف ذلك عن أنّ التقرّب إليه جلّ شأنه لم يكن عن إيمان عميق ، قال تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}([9]).
وسُبل التقرّب إليه تعالى والارتباط بعالم الغيب ، لابدّ وأن تفاض منه جلَّت عظمته إلينا بالإلهام على العقول البريئة عن المستلذّات والشهوات وتقرير الأنبياء والأولياء ، وإلا لم تحصل تلك الغاية المنشودة والهدف الأسمى من خلق الإنسان ، ويكون الإنسان في حيرة من التقرّب إليه دائماً ، وقد ثبت في محلّه أنّ بعث الأنبياء واجب عقلي ، له دخل في نظاميّ التكوين والتشريع ، وليس ذلك إلا لأجل بيان سُبل التقرّب إليه تعالى ، إمّا بالتقرير أو الكشف .
وتلك السُّبل هي الأحكام الشرعية بأقسامها ، التابعة للمصالح العائدة إلينا والمفاسد التي تضرّنا ـ المجعولة ممّا وجب حقّه علينا ـ ولذا تكون الأحكام أمانات منه تعالى عندنا ، لابدّ من مراعاتها وردّها إلى أهلها ، وإنّما جُعلت لأجل ارتباط الإنسان معه جلَّ شأنه ، ولا يحصل هذا الارتباط لو تخلّف أحدٌ عن تلك الأحكام ولم يؤدَّ حقّها ، ويدور التقرّب مدار الانقياد الذي يحصل من العمل بها وحفظها عن الضياع وردّها إلى أهلها من غير شكوك ولا عتاب ، والآية الشريفة {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}([10]) تؤكد سُبل التقرّب إليه جلَّ شأنه ، وتبيّن للعبد مصاديقها ، وذيل الآية المباركة {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}([11])، يدلُّ على أنّ غير ذلك من السُّبل الباطل له التي لا يحصل بها التقرب إليه تعالى([12]).
([1]) سورة الأنبياء : الآية 1 .
([2]) سورة التوبة : الآية 28 .
([5]) سورة الأعراف : الآية 56 .
([6]) مواهب الرحمان : ج ۸ / 248.
([7]) سورة الذاريات الآية 56 .
([8]) سورة الإسراء : الآية 44 .
([9]) سورة الفرقان : الآية 23 .
([10]) سورة النساء : الآية 59 .
قال أعلى الله مقامه تحت عنوان : « فصل في جهاد النَّفس »([1]) من موسوعته الكبرى « مهذّب الأحكام » ما هذا لفظه : جميع ما يذكره الفقهاء في أحكام العبادات والمعاملات ، من مقدّماته أيضاً والعمل بها ، يكون من بعض مراتبه ، قال أبو عبدالله علیه السلام في خبر السكوني :
« إن النبي صلی الله علیه و آله و سلم بعث سريّةً ، فلما رجعوا قال صلی الله علیه و آله و سلم : مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر .
فقيل : يا رسول الله ما الجهاد الأكبر ؟
قال صلی الله علیه و آله و سلم : جهاد النفس » .
وقد ورد في الجهاد الأكبر في جميع الكتب السماوية ، خصوصاً القرآن الكريم ، ومن الأنبياء والأوصياء خصوصاً من خاتم النبيّين صلی الله علیه و آله و سلم وأوصيائه المعصومين علیهم السلام ما لا يحصى ولا يُستسقى .
ثمّ قال السيّد ( رضوان الله عليه ) تعليقاً على قول السيّد صاحب « العروة » ، من أنّ جهاد النفس هو أهمّ أقسام الجهاد ، ما نصّه :
بل هو أهمّ شيءٍ اعتنى به جميع الكتب السماويّة ، خصوصاً القرآن المهيمن عليها ، وهو نتيجة دعوة كلّ الأنبياء والمرسلين ، ولاسيّما خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم وخلفائه المعصومين ، وهو غاية رياضات العرفاء الشامخين ، والحكماء المتألّهين من هبوط آدم علیه السلام إلى انقضاء العالم . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}([2]). فإنّ المراد إمّا معرفة الواقعيّات على ما هي عليها ، أو العبادة الحقّة المطابقة للواقع ، وكلّ منهما متقوّمة بمجاهدة النفس ، وكيف لا يكون كذلك وفيها منطوية جميع الكمالات الإنسانية المعدّة له ، وبه يصير الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الحسّي ، بل أرفع منه من كلّ جهة ، بل يصير الإنسان أجلى مظهر للقدرة الإلهية غير المتناهية ، فيوجد ما يشاء ، ويخلق ما يريد ، وبه يصير مسلّطاً على ملكوت الغيب ، فضلاً عن عالم الشهادة . وبه تنقاد له الموجودات فيغيّرها من صورةٍ إلى أخرى ، ويتصرّف فيها بما يشاء ويصير عالم الشهادة بين يديه كفلقة الجوزة بين يديّ أحدنا ، وبه يقدر على إخماد نار الجحيم، ففي آثار المعصومين علیهم السلام : إذا عبر المؤمن على الصراط تناديه نار جهنّم : « جُز يا مؤمن ، فإنّ نورك قد أطفأ لهبي » . إلى غير ذلك ممّا ورد في شأن هذا المقام العظيم ، الذي لا تُدرك العقول منه إلا شيئاً يسيراً ـ فالعلم به حالي لا أن يكون مقالياً ـ لنهاية جلاله وعظمته ، وقد أشار إلى بعضها نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بقوله :
« لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملكٌ مقرّب ولا نبيٌّ مرسل » .
أو قوله صلی الله علیه و آله و سلم: « أبيتُ عند ربّي فيطعمني ويسقيني » .
ومن أهمّ مقدّمات هذا الجهاد ، معرفة النفس الإنسانية أوّلاً ، ولو في الجملة ، لأنّ معرفتها بالكنه غير ميسّرة لأحدٍ إلا لمن خلقها ، وقد كتبوا في ذلك كتباً كثيرة من المسلمين وغيرهم ، وجاهدوا في معرفتها حقّ الجهاد ولكن لم يصلوا إلى حقّ المعرفة ، وكلّ من أتى بشيء في بيانه إنّما أتى به بمقدار فهمه لا بقدر الواقع . ولعلَّ أقربها إلى الثواب ما عن بعض العارفين من أنّه : « لو فرض تجلّى الذات الأقدس الربوبي في صورة الممكنات لا ينجلي إلا في حقيقة النفس الإنسانية ، ولو فرض وصول ممكن إلى حضرة المرتبة الأحدية ، لا يصل إليها إلا النفس الإنسانية » .
ولعلّه إلى هذا أشار الحكيم السبزواري حيث يقول :
وإنّها بحت وجود ظلّ حقّ | عندي وذا فوق التجرّد انطلق |
ولكن كلّ ذلك إشارة إلى بيان الآثار ومن شرح الاسم ، لا أن يكون بياناً للحقيقة ، فسبحان مَنْ تحيَّر ذوو العقول في فهم خلقٍ من خلائقه فكيف بذاته ؟!
وعلى أيّ حال ، هذه المرتبة التي تحيّرت عقول الحكماء والعرفاء في دركها ، لا تحصل إلا بالمجاهدات النفسانية ، وبالجهاد الأكبر الذي هو أشرف مقامات النفس ، وبه يفضّل على الملائكة الكروبيّين . ولا ريب في أنَّ هذا ليس نصيب كلّ عامّي وبدوي ، وكلّ من يدّعي الإنسانية ، بل هو مقام يتفضّل به الله تعالى على من يشاء من عباده بعد طول المجاهدة ، والسعي بقدر الطاقة البشرية .
ولهذه المجاهدات مراتب كثيرة ، منها ما قاله أبو عبدالله علیه السلام:
« من ملك نفسه إذا رغب ، وإذا رهب ، وإذا اشتهى ، وإذا غضب ، وإذا رضي ، فقد حرَّم الله جسده على النار » .
قد ذكر العلماء في السيطرة على الرذائل النفسية ، وإصلاح النفس طرق كثيرة، وليس الكتاب موضوعاً لبيانها ، ولكن نشير إلى بعض ما ورد عن أئمّتنا الأطهار علیهم السلام في ذلك .
وليُعلم أوّلاً : أنّه وقع الخلاف بين علماء الأخلاق والفلاسفة ، أنّه هل يمكن تغيير ذمائم الأخلاق وتبديلها إلى أضدادها أو لا يمكن ؟
ذهب إلى كلّ فريق .
والحقّ أنّ هذا النزاع على نحو الكلّية لا وجه له أصلاً ، إذ نرى بالوجدان تبديل الجبن إلى الشجاعة بالممارسة ، أو البخل بالجود كذلك ـ وكذا العكس ـ فإنّ الاهتمام على حفظ النفس ، وعدم المعرضية لها لموجبات الشجاعة ، وكثرة المخالطة مع الجبناء يوجب الجُبن ، وكذا في انقلاب الجود إلى البخل ، وكلّ صفة إلى ما يقابلها ، وليس عمل الشياطين الإنسيّة أو الجنّية إلا تبديل المحاسن بالمساوئ والمكارم بالرذائل ، وليس شأن الله عزَّ وجلَّ والأنبياء والمرسلين وأطبّاء النفوس إلا العكس ، ولو لم يكن ذلك ممكناً لما اهتمّ الله تعالى وأنبيائه ورسله والأولياء والأصفياء هذا الاهتمام البليغ .
نعم ، لو فرض ـ والعياذ بالله ـ وصول الأخلاق السيئة والصفات الرذيلة إلى مرتبة انقلاب جوهر روحانية الإنسان إلى المرتبة الخسيسة التي لا يمكن تغيّرها ، حتّى صار كقوله تعالى : {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([1])، بحيث صارت الطبيعة طبيعة ثانية غالبة على الطبيعة الأولى ، فلا يمكن التغيير حينئذٍ ، وقد أثبتوا ذلك في المعاد .
وعن صدر المتألّهين جعل ذلك من إحدى مقدّمات المعاد الجسماني ، وأشار إليه الحكيم السبزواري بقوله :
قد خمرت طينتنا بالملكة | وتلك فينا حصلت بالحركة |
ويمكن الجمع بين كلماتهم بذلك ، فمَنْ يقول بعدم الإمكان ، أي فيما إذا صارت طبيعة ثانية ، ومَن قال بالإمكان أي في غيره.
وعن الصادق علیه السلام: « إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب انمحت ، وإن زاد زادت ، حتّى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً » .
وفي صحيح زرارة ، عن أبي جعفر علیه السلام قال:
« ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتةً سوداء ، فإن تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادى في الذنوب ، زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً ، وهو قول الله عزّ وجلّ {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}».
ومن ذلك بفتح باب المسخ الواقع في الأمم السابقة ، فإنّهم باختيارهم أوقعوا أنفسهم في مظاهر الحيوانات التي مسخوا إليها ، على ما فصّل في الأحاديث المعصومية ، ومن شاء فليرجع إليها .
ثمّ إنّ أكثر الرذائل النفسائية بل جميعها ، وكذا الشهوات الفاسدة والأمراض الروحانية، إنّما هي في الدنيا ومن الدّنيا ولأجلها، وأجمع كلمة قالها نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : « حبُّ الدُّنيا رأس كلّ خطيئة » .
وقد ورد في فضل التفكّر ما يبهر منه العقول ، وأنّه أفضل من عبادة سبعين سنة، ولا ريب أنّ به تسيطر النفس على رذائلها وتعالج أمراضها ، فمَنْ تفكّر في حقيقة الدُّنيا ، وأنّها ليست إلا حقيقة البلاء والابتلاء في جميع شؤونها وأطوارها ، في جميع لحظاتها ، ينحط النفس عن لذّاتها وشهواتها ، وتنتقل عن المادّيات إلى ما يمكنه من درجات المعنويات ، فهذا مسلك عامٌ في هدم الرذائل النفسانية والسيطرة عليها .
وممّا يوجب ذلك التفكّر في عظمة الله تعالى ، ثمّ التفكّر في ضعف النفس من كلّ حيثيّة وجهة ، والتفكّر في قبح التجرّي ومخالفة هذا الموجود حضوره تعالى ، وإحاطته بكلّ شخص من كُلّ جهة وفي كُلّ أنٍ ولحظة ، ولو لم يكن في اتّباع الأهَوية المُردية إلا نزول أشرف الممكنات ، وهو النفس الإنساني عن مقامه العلوي ، الذي أعدّ الله تعالى إلى حضيض النفس البهيمة الحيوانية ، لكفى بذلك عيباً وعاراً ، وهناك مسالك أخرى ذكرها علماء الأخلاق .
وقد ذكروا مسالك وسُبل خاصّة لاكتساب الفضائل وإزالة أخلاق الرذيلة نذكر بعضها :
منها : أن يلاحظ الإنسان الغايات الشريفة ، والصفات المحمودة ، ويهذّب النفس بها ، فبالطبيعة تزول الأخلاق الرذيلة ؛ فإنّ الشجاعة مثلاً ثبات يمنع النفس عن التلوّن ، وأنّ القناعة توجب العزّة والعظمة في أعين الناس وتزيل الشرّ والخصاصة ، أو أنّ العدالة توجب راحة النفس عن الهموم المؤذية إلى غير ذلك ، فمن تكرار الأعمال الصالحة والمداومة عليها يوجب زوال الأخلاق الرذيلة أيضاً .
ومنها : الغايات الأخروية ، وسيأتي بيان ذلك في التفسير مفصّلاً .
ومنها : التأمّل في آثار الأخلاق الرذيلة ، وبأنّها توجب المنقصة لدى الخالق والمخلوق ، فقد يحصل له الارتداع عنها ، أعاذنا الله منها ووفّقنا للسيطرة عليها .
ومنها : ما يوجب السيطرة على بعضها ـ أو أهمّها ـ ترويض النفس بما هو مطلوب الشارع ، كما ورد في الصوم والصلاة وسائر العبادات .
ومنها : المواظبة على ترك المشتهيات ، وقطع المخالطة مع المترفين وأهل الشهوات ، وعدم الاهتمام باللذات ، فإنَّ في الاعتناء بها أثرٌ كبير في طغيان النفس ، وقد ورد في الدُّعاء : « اللُّهمَّ إنّي أعوذ بك من رفيع المطعم والمشرب » ، وفي دعوات الأئمّة ودعاء الرّسول صلی الله علیه و آله و سلم : « اللهمَّ اجعل رزق آل محمّد العفاف والكفاف » .
وبالجملة : الطرق إلى تصفية النفس لمن كان من أهلها ومتوجّهاً إليها ، أحسنها وأكملها ما وصل إلينا عن الأئمة المعصومين علیهم السلام في معارفهم وخطبهم وكلماتهم([2]).
وقال رحمة الله علیه في التفسير: « يختلف العلماء والباحثون في علم الأخلاق النظري في تقسيم المذاهب الأخلاقية المتعدّدة ، بين مفصّل لها بتعداد سائر الاتّجاهات ، وبين مجمل لها بذكر أصولها ؛ والسبب في ذلك أنّ طائفة منهم ربطت المذاهب الأخلاقية بالمذاهب الفلسفية في المعرفة الإنسانية، من الواقعية ، والمثالية ، والعقلية، والحدسية ، والتجريبية ، والمادّية ، والتشكيكيّة وغير ذلك . وهذا المسلك وإن أمكن تطبيقه على بعض المذاهب الأخلاقية ، فإنّه يكون امتداداً لتلك المسألة، إلا أنّه لا يمكن تطبيقه على البعض الآخر مثل الأخلاق المسيحيّة ، فإنَّ لها خصائص ما يخالف تلك الاتجاهات .
وطائفة أُخرى : أرجعت الاختلاف بعينه إلى الاختلاف في الغاية ، وإنّها هي المنفعة ، سواء كانت فردية أو اجتماعية ، وابتغاء اللذة والسرور ودفع الآلام والشرور . وهذا المنهج كسابقه فإنّ كثيراً من المذاهب يخرج عن هذا التقسيم .
وطائفة ثالثة : ذهبت إلى أنّ المناط هو الوجدان والزهد والتقشّف ؛ كما يراه الاتّجاه الصوفي .
والحقّ أنّ شيئاً ممّا ذكره لا يصلح لأن يكون المناط في تقسيم المذاهب الأخلاقية ، بل « إنّ جميعها تتّفق على أنّ الكمال والسعادة هما الغاية القصوى ، والمقصد الأسنى للإنسان ، وإنّما الاختلاف في ما يصدق عليه الكمال والسعادة ، فالاختلاف في المصداق فقط » ، وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة :
الاتجاه العقلي:
الاتّجاه الذي يعتبر العقل هو الذي يحدّد الغاية في حياتنا، وأنّه الباعث الذي يحفّزنا إلى ابتغاء الحياة السعيدة والعزوف عن اللّذات ، وأنّه الداعي إلى الطاعة لأوامر الشرع أو العقل ، وأصحاب هذا الاتّجاه يعترفون بأصول مسلَّمة لا يمكن العدول عنها كحُسن العدل ، وقبح الظلم وأمثال ذلك ، فلابدَّ للإنسان ـ الذي يتميّز عن سائر الكائنات بطبيعته العاقلة ـ أن يتصرّف وفق القوانين المجعولة من قبل العقل أو الشرع ، وفي ذلك ابتغاء السعادة . ويشمل هذا الاتجاه من المذاهب الأخلاقية المذهب الحدسي ، والواقعي ، والمثالي ، وبعض المذاهب اليونانية القديمة أمثال الرواقيين والأفلاطونيّين وغيرهم.
الاتجاه المادّي:
وهذا الاتجاه يرفض كلّ القيم الإنسانية المسبقة التي تحدّد للإنسان سلوكه ، والتي لها التأثير في تشكيل حياته ، بل يعتبر عامل المادّة له الأثر الكبير في سلوك الإنسان ، وزاد بعضهم أنّ الأفكار والمشاعر والرغبات والقيم الخُلُقية والجمالية هي وليدة النظام الاقتصادي ، وما يستلزمه من العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض ، وأنّ المنفعة سواء في شكلها الحسّي أو العقلي ، هي وحدها الخير الأقصى والمرغوب لذاته ، وأنّها السعادة ، والضرر والألم وحده هو الشرّ الأقصى ، فالأفعال الإنسانية لا تكون خيراً إلا إذا حقّقت النفع مطلقاً ، وإذا جلبت ضرراً أو عاقت عن وصول النفع كانت شرّاً .
وبالجملة : إنّ في هذا الاتجاه على اختلاف مذاهبه يتوجّه النظر على نتائج الأفعال وآثارها ، بلا فرق بين أن تكون المنفعة فردية حسّية عاجلة ، كما في مذهب القورنائيين ، أو حسّية وعقلية وروحية كما في مذهب الأوبيقوريين ، وجميعهم أصحاب اللذة الفردية الأنانية .
نعم ، تحوّل بعض المذاهب إلى منفعة المجموع ، والقول بالصالح العامّ ، ولكنّه لا تخرجها عن ابتغاء اللذة والمنفعة ، ولذا دعوا جميعاً بـ( الأنانيّين ) حتى في تصوّرهم للصالح العامّ ، وتشترك جميع هذه المذاهب في تقييد حرمة الفرد ، والقول بالجبر الأخلاقي والفوضى في الأخلاق، ومن ذلك يعرف أنّه لا علاقة بين الفكر الفلسفي والمذهب الخُلُقي في هذا الاتجاه .
الاتجاه الصوفي:
وفي هذا الاتجاه يتنكّر الإنسان للمادّة في جميع مظاهرها ، وأنَّ العزوف عن ملاذّ الدُّنيا هو المناط في الأخلاق الفاضلة ، ويرى أصحابه أنّ السعادة هي الابتعاد عمّا يشغل بال الإنسان عن التفكّر ، والكمال هو الوصول إلى مرحلةٍ يصل بها إلى درك الحقائق ، وفي هذا الاتجاه تعتبر المحبّة أصلاً لكلّ خير .
« هذه هي الاتّجاهات الأساسية للمذاهب الأخلاقية المختلفة المتعددة وهي جميعها قد أخفقت في حلّ المشكلات الخلقية للإنسان ، سواء الفردية أو الاجتماعية ، ولم يصل الفرد بها إلى ما يصبو من السعادة والكمال ، بل لم تجلب للإنسان إلا الشقاوة ، والوقوع في صراعات فكرية لا يجتنى منها فائدة تذكر » .
المفهوم الأخلاقي في القرآن:
إنّ الطابع العام الأخلاقي الذي يُستمد من القرآن الكريم ، يختلف كثيراً عمّا ذكرناه في المذاهب الأخلاقية المختلفة ، سواء من الناحيتين النظرية والعملية ، فهو يحلّ جميع المشكلات الخُلقية ، ويضع كلّ شيء في موضعه المعيّن ، ويربط بين الفضل والفضيلة ، فطالما يكون المرء فاضلاً ولا يعرف الفضيلة ، ولذا ترى أنّ المفهوم الأخلاقي في القرآن لا يقتصر على الحاجة العقلية فقط ؛ بل إنّ الجانب النظري والعملي كلّ واحدٍ منهما مكمّل للآخر ، وتكون لهما وحدة خاصّة تشبع الحاسّة الأخلاقية التي أودعها الله تعالى في الإنسان .
كما أنّ المفهوم الأخلاقي فيه يمتاز عن غيره في أنّه يشتمل على روح التوفيق بين سائر النزعات الأخلاقية ، ويُلبّي جميع المطالب للإنسان ، فهو ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع ، ويعطي لكلّ واحدٍ منهما حقّه ، ولهذه النزعة الأخلاقية خصائص يمكن تلخيصها فيما يلي :
خصائص الأخلاق في القرآن:
الأولى : إنَّ في الإنسان انبعاثاً داخلياً فطرياً إلى الأخلاق يساير جميع مراحله ، يمكن التعبير عنه به ( الحاسّة الأخلاقية ) التي يميّز بها بين الخير والشرّ ، كما يميّز (الحاسّة الجمالية ) المودعة فيه بين الجميل والقبيح ، قال تعالى : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}([3]). ومن هذه الحاسّة الخلقية نستطيع أن نؤسّس القواعد الخُلقية والقانون الأخلاقي العام .
ولكن قد يلقى هذا النور الباطني الفطري موانع توجب طمسه، وهي كثيرة مثل العادات ، والوراثة ، والبيئة ، وشواغل الحياة المادّية ، بل إنّ نفس القواعد الخُلقية الفطرية لم تكن كافية في إرضاء الجميع ، بحيث تكون قاعدة عامّة تجلب رضاء الكلّ ، ولهذا كان لابدّ من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي ، ليثيروا للناس دفائن العقول ، ويزيلوا الغشاوة عن النور الفطري ، ويكملوا ما كانوا يحتاجون إليه في إكمالهم ، فكان نور الوحي مكملاً لنور الفطرة التي أودعها الله في الإنسان ، فكان « نورٌ على نور » .
الثانية : إنّ القواعد الخُلُقية هي تلك القواعد التي تخاطب الضمير الإنساني ، ويرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها وأهميّتها الخُلُقية فهي لم تكن غريبة عليه ، فكانت لها صفة الإلزام ، قال تعالى : {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}([4])، ويظهر ذلك بوضوح في تلك الآيات القرآنية التي ترجع الإنسان إلى عواطفه ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([5])، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}([6]).
الثالثة : إنّ القرآن الكريم يقرّر أنّ الإنسان مسؤول عن عمله، فقد أظهر فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية والاجتماعية بالمعنى الكامل ، قال تعالى : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى}([7])، وقال تعالى : {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}([8])، فكلّ شخص مسؤول بالشروط المقرّرة عن أفعاله الخاصّة الشعورية والإرادية ، كما أنّه فرد من مجتمع يحمل جانباً من المسؤولية الاجتماعية .
الرابعة : إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله الإرادية ، ولا شيء ـ سواء كان داخلياً أو خارجياً ـ يستطيع إرغامه وسلب حريّته ، قال تعالى : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([9])، وقال تعالى : {إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}([10])، بل يعتبر القرآن أنّ أساس المسؤولية هي الحرّية ، وقد مضى في ضمن الآيات القرآنية البحث عن ذلك مفصّلاً ، وقد تنبّه إلى ذلك الفيلسوف الغربي كانت بقوله : « يستحيل علينا أن نتصوّر عقلاً في أكمل حالات شعوره ، يتلقّى بشأن أحكامه توجيهاً من الخارج … فإرادة الكائن العاقل لا تكون إرادته التي تخصَّه بالمعنى الحقيقي إلا تحت فكرة الحرية » .
الخامسة : الجزاء الأخلاقي وفقاً لقانون أنَّ كلّ مسؤولية لابدّ لها من جزاء . وقد بيّن القرآن الكريم أنَّ كلّ عمل له جزاء خاصّ يلائمه ، وقد تقدّم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام .
السادسة : النيّة وأنّ كلّ عمل لابدّ له من نيّة ، وإعطاء الأهميّة للنيّة والبواعث الكامنة في النفس وراء العمل ، ويعتبر أنَّ قيمة كلّ عمل تدور مدار شدّة التنزّه ، وأنّ الهدف من كلّ عمل هو ابتغاء وجه الله تعالى .
السابعة : أنّ كلّ عمل لابدَّ أن يُقرن بالاعتقاد ، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التي يقرن فيها بين الإيمان والعمل الصالح ، قال تعالى : {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}([11])، وقال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}([12]).
الإنسان كائن أخلاقي:
يتميّز الإنسان عن سائر الكائنات الحيّة في أنّه مزيج قوى متخالفة متصارعة ، فهو مركّب من عقل وقلب وإرادة ، أي : له حياة عقلية ، وانفعالية ، وفاعلة ، ولكلّ واحدة من هذه الثلاث آثارها ووظائفها التي من امتزاجها في هذا الكائن الخاصّ يكون إنساناً ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، وقد دلَّت عليه التجارب وأثبتته البراهين العلمية .
وبتعبير آخر : وهو المتّبع في علم الأخلاق ـ إنّ الإنسان مركّب من قوى ثلاث، هي :
القوة الشهوية: التي هي مصدر الرغائب من محبّة المال والنساء وغيرهما من الشهوات الحيوانية ، والأفعال المنسوبة إلى هذه القوّة ، هي الأفعال التي تجلب المنفعة ؛ كالأكل والشرب ونحو ذلك .
والقوة الغضبية : وهي مصدر العواطف كالشجاعة ، والغضب ، والأفعال المنسوبة إليها، هي الأفعال التي تدرأ المضارّ ، كالدفاع عن النفس والمال والعرض وغير ذلك .
والقوة العاقلة : وهي التي تدبّر البدن وتسوسه ، والأعمال الفكرية كلّها منسوبة إلى هذه القوّة .
ولكل واحدة من هذه القوى الثلاث آثارها وخصائصها ، وهي متباينة في صفاتها وذواتها ، ولكن من اجتماعها ينشأ الإنسان المفكّر الدرّاك ، وباتّحادها تنشأ وحدة تركيبيّة تصدر منها أفعال خاصّة ، وبها يبلغ الإنسان إلى سعادته التي خُلق لأجلها ، ووظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبيّة ، وأن لا تخرج قوّة من هذه القوى الثلاث عن حدّ الاعتدال إلى حدّي الإفراط أو التفريط ، وإنَّ بذلك يصل إلى الغاية المرجوّة من خلقه ، وهي السعادة الفردية والنوعية في الدُّنيا والآخرة ، ولأجل ذلك كان الإنسان أخلاقيّاً دون سائر الكائنات الحيّة .
وعلم الأخلاق يبحث عن كيفيّة المحافظة على الحدّ الوسط ، التي هي الفضيليّة ، والاجتناب عن طرفي الإفراط والتفريط اللّذين هما الرذائل ، لتصدر منه أفعال يصل بها إلى السعادة المرجوّة .
الاعتدال في الأخلاق:
ذكرنا أنّ وظيفة الإنسان ـ ككائن أخلاقي ـ هي المحافظة على حدّ الاعتدال لكلّ واحدة من القوى الثلاث المتقدّمة . والمراد بحد الاعتدال ـ هو الوسط الأخلاقي ـ أي استعمال كلّ قوّة على ما ينبغي ليجلب بها السعادة .
وقد جعل العلماء حدّ الاعتدال في القوّة الشهوية هي العفة ، والجانبين ـ الإفراط والتفريط ـ الشَرَه ، والخمول . وفي القوّة الغضبية الشجاعة والجانبين التهوّر، والجُبن . وفي القوة الفكرية الحكمة ، والجانبين الجُريزة ، والبلادة .
ثمّ قالوا إنَّ في اجتماع تلك الملكات في النفس ، تحصل ملكة رابعة وهي العدالة ، والمراد بها هي وضع كلّ شيء موضعه الذي ينبغي له ، وبها يمكن للإنسان أن يحافظ على حدّ الاعتدال في القوى الثلاث ، فيخرج عن الظلم والانظلام .
وهذه الأربعة هي أصول الأخلاق الفاضلة تكون نسبتها إليها .
وهذا هو التقسيم الشائع بين علماء الأخلاق منذ عصر أرسطو، وهو لا يخلو عن المناقشة ، ولكن الأمر سهل بعد أن كان ذلك لأجل تصنيف الفضائل والرذائل والتمييز بينها .
إلا أنّ للقرآن نظرية خاصّة في الوسط ، تغاير النظريات الأخرى ، فقد اعتمد القرآن على التقوى التي ورد ذكرها في أكثر من مائتين وخمسين مرّة ، قال تعالى : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}([13]) واعتبرها محور الكمالات الإنسانية ومعيار الفضائل، قال تعالى : {…وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([14])، وقال تعالى : {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}([15])، وقال تعالى : {…إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}([16]). وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([17])، وقال تعالى : {…وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}([18]). وقال تعالى : {…إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}([19])، وقال تعالى : {…وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}([20]).
والمراد من التقوى في نظر القرآن : هي الجهد المحمود ـ الحاصل من الفرد ـ المتواصل في خدمة التكليف في جميع نشاطاته وعلاقاته مع نفسه، ومع ربّه ، والناس أجمعين ، وهذا هو المراد ممّا ورد في النصوص الكثيرة بأنّها « إتيان الواجبات وترك المحرمات » .
وتظهر أهميّة هذا الملاك عن نظرية « الوسط العادل » ، أي : تجنّب الإفراط والتفريط في أنّه يربط بين العمل والنيّة ، فلا يمكن التفكيك بينهما ، فيعتبر العمل بلا نيّة لا قيمة له ، كما أنّ النيّة الخالية عن أي عمل لا ثمرة لها ، كما يظهر ذلك بوضوح من الآيات التي تقارن بين التقوى والعمل الصالح ، كما تقدّم . قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}([21]).
كما أنّ بالتقوى يصير الإنسان بارّاً ويصبح من الصدّيقين ، وإنّ بها يتهيّأ لقبول الملكات الفاضلة ، ويحدّد سلوكه الأخلاقي ، وبها يصير الإنسان عادلاً موفّقاً بين بين رغباته وأحاسيسه وعواطفه ، فهي المقياس الحسّي للفضائل ، يسهل معرفته لكلّ أحد ، ويسلم عن الخطأ والالتباس من دون أنّ يقع في متاهات النظرية الوسطية القديمة؛ وهي العلة الغائية في السلوك الأخلاقي ، والعلّة الفاعلية لاكتساب الفضائل وإزالة الرذائل . وأخيراً هي القاعدة العامّة التي يمكن التوفيق بها بين سائر التكاليف ويجلب بها الكمال ، والدّين الذي أمرنا باتباعه . وبها صارت هذه الأمّة وسطاً في جميع الشؤون . نعم ، لها مراتب ، كما تقدّم سابقاً ، ويأتي بيانها مفصّلاً .
طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة:
ذكرنا أنّ الأساس الذي يبتني عليه الأخلاق في القرآن هو التقوى ، فإنّها الطريق إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة ، واكتساب الفضائل وإزالة الرذائل ، وتقدّم أنّ التقوى هي الجهد المتواصل من الفرد ، فلا تتحقّق إلا بالتواصل والعمل الدؤوب ، وتكرار الأعمال الصالحة لتتمكّن الأخلاق الفاضلة في النفس ويتعذّر إزالتها . وفي التقوى يرتبط العمل بالنيّة ، فكلّ ما كانت النيّة خالصة الله تعالى خالية عن الأغراض الدنيوية ، ازدادت قيمة العمل وقَرُب إلى القبول ، وصلح للجزاء الأوفى .
بل يعتبر القرآن أنَّ الغايات المرجوة من الأعمال ، سواء كانت لجلب النفع ، أو لدفع الضرر ، هي نقص في مقابل الكمال المطلق ، قال تعالى : {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}([22])، وقال تعالى : {…وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}([23])، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحصر الكمال فيه عزّ وجلّ . ولهذا الأمر أثرٌ كبير في النفس ، حيث يجعل العمل خالصاً لوجه الله ، منزّهاً عن كلّ غاية من غير الله تعالى ، وأنّ الغاية الله تعالى والتخلُّق بأخلاقه ، وهذا مسلكٌ جديد لم يكن معروفاً من قبل نزول القرآن ، ويختلف عن سائر المسالك المتّبعة في تهذيب النفس بوجهين :
الأول : إنّ في هذا المسلك يعدّ الإنسان إعداداً علميّاً وعمليّاً لقبول الأخلاق الفاضلة والمعارف الإلهيّة ، بحيث لا يبقى مجال للرذائل ، وفيه تختلف الفضائل عن غيره من المسالك .
الثاني : إنَّ في هذا المسلك يكون الفعل صادراً عن العبودية المحضة والحبّ العبودي ، فيكون الغرض هو وجه الله تعالى فقط ، فهو مبني التوحيد الخالص بخلاف غيره .
وهناك مسالك أخرى في تهذيب الأخلاق :
أحدها : هو تهذيب النفس بالآراء المحمودة ، والعقائد العامّة الاجتماعية في الحُسن والقبح ، والغايات الصالحة الدنيوية ، وهذا هو المعروف في علم الأخلاق ، فهذا المسلك يدعو إلى الخُلُق الاجتماعي ، والغاية هي حياة سعيدة دنيوية يحمدها كلّ الناس ؛ ولم يرد في القرآن الكريم ما يدلّ على حسن هذا المسلك . نعم في بعض الموارد إشارة إلى بعض الأمور الاجتماعية ، قال تعالى : {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}([24])، حيث علّل الحكم بأن لا يكون للناس عليكم حُجّة . وقال تعالى : {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}([25])، حيث علّل ترك الصبر أو الاتّحاد بالفشل وذهاب الريح . ولكن ذلك كلّه . الثواب والعقاب الأخرويّين .
ثانيها : تهذيب النفس بما جاء به الأنبياء علیهم السلام والكتب السماوية ، من العقائد والتكاليف الدينية والآراء المحمودة بالغايات الأخروية ، وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك ، قال تعالى : {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ…}([26])، وقال تعالى : {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}([27])، وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}([28])، وقال تعالى : {…وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ}([29])، وغير ذلك من الآيات الشريفة التي ذكر فيها الأجر الأخروي بألسنةٍ مختلفة .
ومن مبادئ هذا المسلك ، هو إعداد الإنسان علمياً ، بأنّ كلّ ما يصدر منه من الأفعال ، وما يقع من الأمور كلّها صادرة عن قانون القضاء والقدر الإلهي ؛ قال تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}([30]).
وإنّه لابدّ من التخلُّق بأخلاق الله تعالى ، والتذكُّر بأسمائه الحُسنى حتّى يمكن تهذيب النفس بالغايات الأخروية المتكفّلة لسعادة الدارين ، فإنَّ الكمال الحقيقي والسعادة الواقعية، هي الحياة السعيدة في الآخرة وتلازمها سعادة هذه الدنيا أيضاً .
وهذا المسلك هو الغالب في الدّيانات الإلهية ، وقد دعا إليه الأنبياء والمرسلون، وهو متين يغاير المسلك الأوّل في الغاية والسبب .
ثالثها : التغيّر في الأخلاق والتبدّل في الفضائل ، والقول بالتطوّر والتكامل في الأخلاق ، فلا يمكن أن يكون للحُسن والقبح أصول مسلمة مطلقاً ، والمناط كلّه هو ابتغاء المنفعة ودفع المضرّة ، سواء أكانتا فرديتين أو اجتماعيتين ، وهذا مذهبٌ قديم في الأخلاق ، دعا إليه بعض المادّيين كما أشرنا إليه سابقاً ، وهو مذهب
([1]) سورة المطففين : الآية 14 .
([2]) مهذب الأحكام : ج 15 / 244 .
([4]) سورة القيامة : الآية 15 .
([5]) سورة الحجرات : الآية 13 .
([9]) سورة البقرة : الآية 284.
([10]) سورة الأحزاب: الآية 54 .
([12]) سورة العنكبوت : الآية 9 .
([14]) سورة البقرة الآية 189 .
([15]) سورة النمل : الآية 53 .
([16]) سورة المائدة : الآية 27 .
([17]) سورة آل عمران : الآية ۱۰۲.
([18]) سورة البقرة الآية 197 .
([20]) سورة التوبة : الآية 123 .
([21]) سورة الشعراء : الآية 110.
([23]) سورة البقرة : الآية 197 .
([24]) سورة البقرة الآية 150 .
([25]) سورة الأنفال : الآية 46 .
([26]) سورة الأعراف : الآية 156 ـ 157 .
([27]) سورة لقمان : الآية 21 .
([28]) سورة الكهف : الآيه 30 .
المراد من الطاعة التي هي الوسيلة للوصول إلى الدرجات الرفيعة السامية ، والأفق القريب منه جلّ شأنه ، وهي التي أكّدت عليها الآيات الشريفة ، ودعى إليها الأنبياء والأولياء بألسنة مختلفة ، واهتمّوا بها ، لأنّها المبعث لتكريم الإنسان ونيله أشرف المراتب وأجلّ المقامات ، وهي « الانقياد الكامل والامتثال مع الإخلاص لجلب رضا الحقّ وترك ما سواه » .
ولها مراتب كثيرة ـ بل متفاوتة ـ حسب إخلاص العبد ومقام العبودية ، بل حسب درجات الحبّ والمحبّة له جلّت عظمته ، ففي الأثر « إنَّ الله تعالى أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات ».
فأعلى مراتبها قتل النفس في الحقيقة ، وقمع هواها التي هي حياتها ، قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}([1])، وبالخروج عن عالم المادة ، ومن مراتبها تسليم النفس إليه تعالى ، ودوام المراقبة لها ، كما ورد ذلك في روايات مستفيضة عن المعصومين علیهم السلام وفي الدعوات المأثورة عنهم .
وفي الأثر : « كُنّا في طريق مكّة فإذا بشاب قائم في ليله يناجي ربّه ويقول : يا مَنْ شوقي إليه ، وقلبي محبٌّ له ، ونفسي له خادم ، وكلّي فناء في إرادتك ومشيّتك ، فأنت لا غيرك متى تنجيني ـ إلى آخره ـ .
قلت له : رحمك الله ما علامة حبّه ؟
قال : اشتهاء لقائه .
قلت : فما علامة المشتاق ؟
قال : ليس له قرار ولا سكون في ليلٍ ولا نهار من شوقه إلى ربّه.
قلت : فما علامة الفاني ؟
قال : لا يعرف الصدّيق من العدوّ ، ولا الحُلو من المرّ من فنائه عن رسمه وجسمه .
قلت : فما علامة الخادم ؟
قال : إنّه يرفع قلبه وجوارحه وطعمه من ثواب الله ـ إلى آخره ـ » .
وعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : « لا يكون أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل ، ولا كالأجير السوء إن لم يُعطَ لم يعمل » .
وعن سيّد العرفاء علي علیه السلام : « إلهي عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ، بل وجدتك أهلاً لذلك فعبدتك » .
وبالطاعة الحقيقية ينال الإنسان الدرجات الرفيعة ، والمراتب الشريفة ، ويتجاوز عن حدّ الكمال ، ويصل إلى درجة التكميل ، فتكون له « المعية في الدرجة لا في الاتّحاد » ، كما في بعض الروايات ، لأنّ التساوي في كلّ جهة معه محال ، كما ثبت في الفلسفة الإلهية .
كما أنّ العصيان والتجرّي بالإعراض عن طاعة الرّحمان ، والإقبال على طاعة الشيطان ، يصل الإنسان إلى أسفل الهاوية ومنتهى الهلاك ، وإنَّ له أيضاً مراتب ، وعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: « كلّ أمتي يدخلون الجنّة إلا مَنْ أبى.
قيل : يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومَنْ أبى ؟
قال : مَنْ أطاعني دخل الجنّة ، ومّنْ عصاني فقد أبى ».
فإنَّ إطاعته إطاعة الله تعالى كما أنّ عصيانه كذلك كما تقدّم .
وقد جعل سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة جزاء الطائع لله والرّسول مرافقة الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين ، ولم يجعل ـ كما في غير الطاعة ـ الجنّات التي تهفوا إليها القلوب ، وتخلد فيها النفوس ، لأنّ الطاعة ليست تكليفاً محضاً حتّى يجعل في مقابلها جزاءاً ، وإنّما هي وسيلة لرقيّ النفس ، وسبيلٌ للوصول إلى المرتبة الكاملة والنيل إلى المرتقى .
ومعنى رُقيّ النفس ورفعها بالوصول إلى الشاهق الأعلى ، هو معاشرتها ومصاحبتها مع سنخها من النفوس القدسية ، كالأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين ، لما ثبت في الفلسفة الإلهية وغيرها من أنّ السنخية في جميع الأشياء ، وفي جميع العوالم ، لازمة وموجودة ، فمقتضى قانون السنخية في عالم المصاحبة والمعاشرة ـ الذي يكون في عالم الشهادة وعالم البرزخ وعالم الآخرة ـ هو أن تكون النفوس الخيّرة مع أمثالها ، والنفوس الشريرة كذلك لما بينهما من التباعد والتباين ، فلا تلائم بين الصنفين أيضاً فإنّ أرواح المطيعين ونفوس المؤمنين لا تميل ولا تستقرّ إلا مع النفوس التي تماثلها ، وتكون قريبة بينهم وفي أُفقهم ، أي من سنخهم وهي النفوس الرفيعة القادسية .
على أنّ ذلك يلازم دخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ولعلّ التعبير بقوله تعالى : {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}([2])، وقوله تعالى في ذيل الآية المباركة : {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ}([3]) يدلان على ما ذكرناه ، والله العالم بالحقائق.
وفي الآية الشريفة إشارة إلى أنّه ينبغي للمؤمن أن يسعى في تكميل نفسه بالصلاح ، ويترقّى إلى مرتبة الشهادة ، ثمّ إلى مرتبة الصدّيقيّة التي ليست بينها وبين مرتبة النبيين أيّة واسطة إلا الوحي .
والحُسن الوارد في قوله تعالى : {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}([4])، من الصفات التي لها مراتب متفاوتة شدّةً وضعفاً وكمالاً . وأنّ المراد من الحسن ، الحسن في الرفاقة في عالم الدُّنيا ، ويستلزم الحُسن في عالم الآخرة ، بل لا يتمّ حسنٌ إلا به([5]).
([2]) سورة النساء : الآية 69 .
([3]) سورة المائدة : الآية 54 .
وردت كلمة التقوى في القرآن والسنّة ـ بل في الكتب السماويّة ـ كثيراً ، وحثّت عليها الشرائع الإلهية ، ورغّبت إليها ، وهي صفة ـ أو حالة نفسانية ـ تعرض على الإنسان الملتزم بالدّين ، وقد تزول عنه حسب العوامل النفسية والمكايد الشيطانية ، فهي من الأمور الإضافية تختلف حسب درجات الإيمان والثقة بالمبدأ عزّ وجلّ .
وهي في اللغة : جعل النفس في وقاية ممّا يخاف . بل جعل نفس الخوف تقوى ، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه .
وقد عُرّفت في الشرع بتعاريف متعددة ، ولعلّ أسلمها : « حفظ النفس عمّا يؤثم» ، وذلك بترك المحظور ، ويتحقّق باجتناب بعض المباحات ، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام ، لما روي : « الحلالُ بَينٌ والحرامُ بَينٌ ومَن رتع حول الحمى فحقيقٌ أن يقع فيه » وغيره من الروايات ، قال الله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}([1]).
وقيل : « إنّها صفة راسخةٌ في النفس ، توجب الاجتناب عن المآثم والمشتبهات» وهذا التعريف يرجع إلى الأوّل وإنّما الاختلاف في التعبير .
وقيل : « هي الامتناع عن الردي ، باجتناب ما يدعو إليه الهوى » .
وهذا أعمّ ممّا تقدّم .
وكيف كان ، فإنّه لا يمكن تحقّق التقوى إلا بترك المشتبهات ، فضلاً عن المحرّمات ، ففي رواية يونس عن الصادق علیه السلام في قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}([2]) : « أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك ، والمبلغ إلى جنّتك ، من أن تتّبع أهواءنا فنعطب ، ونأخذ بآرائنا فنهلك ، فإنَّ من اتّبع هواه وأعجب برأيه ، كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظّمه وتصفه فأحببتَ لقائه تعظمه من حيث لا يعرفني لأنظر مقداره ومحلّه ، فرأيته في موضعٍ قد أحدقوا به جماعة من غثناء العامّة ، فوقفت منتبذاً عنهم متغشّياً بلثام أنظر إليه وإليهم ، فما زال يراوغهم حتّى خالف طريقهم وفارقهم ، ولم يقرّ ، فتفرّقت جماعة العامّة عنه لحوائجهم ، وتبعته اقتفي أثره ، فلم يلبث أن مرّ بخبّاز فتغفله فأخذ دكّانه رغيفاً مسارقةً فتعجّبتُ منه ، ثمّ قلت في نفسي : لعلّه معاملة ، ثمّ مرَّ بعده بصاحب رمّان فما زال به حتّى تغفله ، فأخذ من عنده رمانتين مسارقةً فتعجبت منه ، ثم قلت في نفسي لعلّه معاملة ، ثمّ أقول وما حاجته إذاً إلى المسارقة . ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرّ بمريض ، فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه ومضى ، وتبعته حتّى استقرّ في بقعة من صحراء ، فقلت له : يا أبا عبد الله لقد لحقت بك ، وأحببت لقاءك ، فلقيتك لكنّي رأيتُ منك ما شغل قلبي ، وإنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي ، قال : ما هو ؟ قلت : رأيتك مررت بخبّاز وسرقت منه رغيفين ثمّ بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين .
فقال لي : قبل كلّ شيء حدّثني مَن أنت ؟
قلت : رجل من ولد آدم من أمة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم.
قال : حدّثني ممّن أنت ؟
قلت : رجل من أهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.
قال: أين بلدك ؟
قلت : المدينة .
قال : لعلّك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ؟
قلت : بلي .
قال لي : فما ينفعك شرفُ أصلك ، مع جهلك ممّا شرّفت به ، وتركك علم جدّك وأبيك ، لأنّه لا ينكر ما يجبُ أن يُحمد ويمدح فاعله!!
قلت : وما هو ؟
قال : القرآن كتاب الله .
قلت : وما الذي جهلت ؟
قال : قول الله عزّ وجلّ : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وقال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا}([3]) وإنّي لمّا سرقت الرغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت الرمّانتين كانت سيّئتين ، فهذه أربع سيئات . فلمّا تصدقت بكلّ واحدٍ منها كانت أربعين حسنة أنقص من أربعين حسنة ، أربع سيّئات بقي ستّ وثلاثون .
قلت : ثكلتك أمّك! أنت الجاهل بكتاب الله ، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}([4])؟ إنّك لمّا سرقت رغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقت الرمّانتين كانت سيّئتين ، ولمّا دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنّما أضفت أربع سيئات ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات ، فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته » .
ويستفاد من هذه الرواية أنّ القبول مطلقاً يدور مدار التقوى ، ولولاها فالأعمال مجرد صور لم يكن لها لُبّ. نعم ، لكلّ منهما مراتب ودرجات ، والتقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه ولاستقرار حبّه تعالى في القلب .
وقد ذكر علماء السّير والسلوك أنّ مقامات الرقيّ هي مراتب التقوى ، وقسّموها إلى تقوى العوام ، وتقوى الخواصّ ، وتقوى أخصّ الخواص .
ثمّ إنّ المراد من التقوى في الآية المباركة : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} هو مجرّد التقرّب إليه عزَّ وجلَّ مع تقريره به ، لا التقوى المصطلح لتناسب ذلك لبدء التشريع وتلائمه مع بثّ النسل ، ولم تكمل الحجّة بتمام جهاتها . ولكن تقدّم أنّ للتقرّب إليه تعالى مراتب ودرجات ، وأنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلا في هذه الآية فقط([5]).
([1]) سورة الأعراف : الآية 35 .
([2]) سورة الفاتحة : الآية 6 .
من أقرب المعاني إلى النفس وأعذبها عليها الحبّ . ذلك هو الترابط الوثيق الذي يربط الموجودات بعضها مع بعض ، وبه يجتذب كلّ صانع مصنوعه ، فهو الطريق إلى الكمال كلٌّ بحسب ما يريده كمالاً ، وبه تتحقق الحياة السعيدة ، ولأجله يعيش الفرد ويعمل .
يعرفه جميع الروحانيّين وأملاك السبع الشداد ، ودوابّ الأرض المهاد ، وجميع الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار الغامرات . بل إنّ جميع الموجودات تحبّه تعالى وتعشقه ، كما أثبته جمع من الفلاسفة .
وبهذه الصفة يدرك المخلوق خالقه ، ومن هذه الجهة يعطف الخالق على خلقه ، فلا حياة إلا بالحبّ ، ولا سعادة إلا بالعشق .
وهو من المعاني الوجدانية التي يدركها كلّ أحد وإن قصرت العقول عن الوصول إلى كنه حقيقته ، فهل هو برق من نور الجمال الكامل المطلق يبرق ثمّ يختفي ؟!!
أم هو تجلٍ من من وجه الله الأعظم ظهر وتجلّى ؟!!
أم هو تلك الجاذبية التي أثبتها العلم الحديث في جميع الموجودات ؟!!
أم هو ما بيّنه الإمام علي علیه السلام في مقام العارفين وخطبة همّام ؟!!
أم هو ما نسب إلى ابنه الإمام الحسين الله علیهما السلام في دعائه لربّه :
« تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيتك في كلّ شيء وأنت الظاهر لكُلّ شيء » ؟!!
أم هو ما شرحه الإمام السجاد علیه السلام في مناجاة المحبّين ؟!!
أم هو ما ذكره ابن الفارض في قصيدته التائية الكبرى المسمّاة بنظم السلوك ، التي شُرحت بشروح كثيرة ، مطلعها :
سقتني حُميّا الحبّ راحةُ مقلتي | وكأس حُميّا مَن عن الحُسن جلَّت ؟!! |
أم غير ذلك ممّا يقول العلم الحديث كما مرّ . كُلّ ذلك قطرات البحر لا يدرك ساحله ، بل يغرق وارده ، ومع ذلك فهو أوضح من كلّ شيء ، ويوجد في كلّ شيء .
وهو لا يختصّ بالإنسان ، بل يشمل جميع الموجودات ، الواجب منها والممكن ، وقد أثبت العلم الحديث عموم الجاذبية والمجذوبية في الموجودات ، وفي حبّ الله تعالى وحبّ الإنسان ، قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([1]).
وحبّه تعالى لمخلوقاته من فروع رحمته الواسعة .
وأمّا محبّة سائر الموجودات له تعالى ، فقد أثبتها جمعٌ من الفلاسفة منهم صدر المتألّهين في كتابه القيّم ( الأسفار الأربعة ) : أنَّ الوجودات بأسرها عاشقة لجماله ، ويكفي في ذلك أنّها سائرة إلى الكمال المطلق ، ولا كمال كذلك إلا فيه تعالى ومنه عزّ وجلّ ، فهو محبوبٌ من كلّ جهة .
فالقول باختصاص الحبّ في غيره عزّ وجلّ نظراً لتنزّهه عن معناه باطلٌ ولا يخفى فساده ، لا سيّما بعدما ورد في القرآن الكريم من إثبات حبّه عزّ وجلّ لبعض الأفراد ، قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}([2])، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}([3])، وقال جل شأنه : {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}([4]).
والحبّ من المعاني القلبية المنبثّة على جميع جوارح الإنسان وحواسّه ، كما هو واضح، ويتعلّق بالأشخاص أو الأشياء العزيزة ، أو الجذّابة ، أو النافعة ، ويكون باعثاً إلى التقرّب إلى المحبوب بكلّ وسيلة يحبّها المحبوب ؛ كما في حبّ الله تعالى الداعي إلى إتيان ما يريده عزّ وجلّ ، وترك ما لا يرتضيه ، أو محرّكاً إلى الإتيان بالعمل المحبوب ، كما في الأعمال الصالحة والحِرَف والصنائع ونحو ذلك، أو يكون داعياً إلى قضاء الحاجة من المحبوب كما في حبّ الأكل ، وحبّ المال ، وحبّ النساء وغير ذلك ؛ أو يكون مصاحباً إلى البذل والعطاء من دون انتظار مقابل ، كما في حبّ الأم للأطفال .
والحبّ المجرّد الذي لا يكون مقروناً بأيّ شيء لا أثر له ، بل هو من مجرّد اللفظ فقط ، وهو :
تارةً : يتركّز حول النفس ؛ ويسمّى بحبّ الذات الذي لا يخلو عن أيّ حيوان ، وهو المعبَّر عنه في الإنسان بالأثرة .
وأخرى : يتعلّق بالغير ، فهو إمّا أن يكون مصحوباً بالغيرة ، وهو المسمّى بالحبّ العُذري ، أو لا يكون كذلك .
وثالثة : يتعلّق بالله تعالى ، ويسمّى بالحبّ الإلهي الذي هو وليد كمال معرفة الله تعالى ، والناشئ عن الجمال المطلق ، ولا يحصل إلا بالتخلية عن الرذائل والتطهير عن كلّ ما يشغل القلب عن الله تعالى ، والتحلية بالفضائل . وهذا القسم هو أفضل أقسام الحبّ ، ولا يشعر به ه إلا العارفون بالله ؛ وهو ذو مراتب متفاوتة ، والجامع بينها أن يكون الحبّ لله وفي الله ، وكلّ ما كان الحبّ أشدّ كانت السعادة أتمّ وأعظم .
وهو يختلف باختلاف المحبوب ، وينقسم بحسب القوى الظاهرية في الإنسان كحبّ البصر للرؤية ، والسمع لسماع الأصوات الحسنة ، وكذلك الشمّ للأرياح الطيّبة ، وكذلك اللّمس والذوق .
كما أنّه ينقسم بحسب القوى المعنوية ـ كالعقل والفكر والإيمان ـ وفي جملة من الأخبار عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: « ليس الإيمان إلا الحبّ في الله، والبغض في الله» أي حبّ الله وحبّ أحكامه وتشريعاته ، وحبّ محبّيه والبغض لأعداء الله والمحرَّمات الإلهية .
وقد ذكرنا أنّ هذا القسم من أفضل أفراد الحبّ الموجب لسعادة الإنسان في الدارين([5]).
([1]) سورة آل عمران : الآية 31 .
([2]) سورة آل عمران : الآية 76 .
([3]) سورة آل عمران : الآية 159 .
التوبة باب من أبواب رحمة الله تعالى ، وهي من أعظم أنحاء لطفه بعباده ؛ ومن أقرب الطرق إليه عزّ وجلّ ، وهي أوّل منازل السائرين إلى الله سبحانه ، وأساس درجات السير والسلوك الإنساني ، وهي مفتاح التقرّب إليه عزّ وجلّ ، والوصول إلى المقامات العالية ، بل لا تتحقق التخلية الصفات الرذيلة ، والتحلية بالصفات الحسنة إلا بها ، ويكفي في فضلها أنّها من الباري عزّ وجلّ ، فإنّه « التواب الرحيم » ، وقد منَّ على عبيده أن تقرّب إليهم بالتوبة عليهم ، بعد البُعد عنه تعالى بالمعاصي والذنوب ، فقال تبارك وتعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([1]) . وقد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة ، ففي الكافي عن أبي عبيدة عن أبي جعفر علیه السلام :
« إنّ الله تبارك وتعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلةٍ ظلماء فوجدها ، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها » .
وروي عنهم علیهم السلام: « إنَّ الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها ، قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}([2])، فمن أحبّه الله لم يعذّبه.
وقوله عزّ وجلّ : {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}([3]) ـ الآية ـ .
وقوله عزّ وجلّ : {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}([4]).
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها . وأنّ للجنّة باباً من أوسع أبوابها يسمّى باب التائبين ، وهي من مظاهر رحمانيّته ورحيميّته اللتين هما من أوسع صفات الله تعالى العليا ، بل لا حدَّ لهما أبداً([5]).
([1]) سورة الأنعام : الآية 54 .
([2]) سورة البقرة ـ الآية 222.
العبودية الحقيقيّة لله تعالى ، كنهها الربوبية ، والتفاني في مرضاة الخير المطلق خير مطلق ، ويصير العبد بذلك محبوباً لدى الجميع ، من دون أن يكون في البين واسطة وشفيع ، بل يصير العبد بها محبوب الممكنات ، وتشرق عليه الشوارق من ربّ البريات.
ألم تر أنّ البدر يشرق ضوؤه بصفو غدير وهو في أفق السما
فإنّ استغراق العبد في العبودية المحضة ، تلذّذ من الجمال المطلق الأتمّ ، واستشعار بالكمال الأرفع الأهمّ ، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([1])، وفي مثل هذه المرتبة تتحد الحقيقة والفعل والفاعل ، وحينئذٍ يقصر القلم عن البيان ، ويكلّ اللّسان عن الكلام .
وحيث لا يجد المدّعون لعبودية الله تعالى هذا المقام في أنفسهم ، ويعترفون بعدم وجدانهم له ، فلابدَّ أن يعترفوا بعدم وجدانهم لمقام العبودية المحضة ، فإنّ عدم المعلول يكشف عن عدم العلّة ، وكيف يصل أحد إلى هذا المقام وهو منغمر في الشهوات وأليف الغفلات .
وإنّما يعبد العابدون أهواءَهم النفسانية التي أفنوا جميع حيثياتهم وشؤونهم فيها {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}([2]).
والعبودية الحقيقيّة هي التي تظهر آثارها على العبد ، فلا يصدر منه معصية ، ولا يخطر في باله غير رضاء الربّ ، وفيها قال الإمام علي علیه السلام: « أعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك واحذره أن يراك حيث نهاك » .
وإنّها إذا استولت على القلب ، فلا يشغله شاغل من الشواغل المادّية الدنيوية ، ولا يمنعه مانع من الإنفاق في سبيل الله تعالى ، فإنّ الخلق كلّهم عيال الله عزّ وجلّ .
والعبودية الحقيقيّة إضافة بين المعبود والعابد ، وهي دواء لجملة من الأمراض النفسانية الروحانية ، وفيها سرّ الخلوص والإخلاص .
والعبد يبذل المال اليسير والإنفاق في سبيل الله ، يرتبط بذلك مع عالَم لا نهاية لعظمته ، ولا حدّ لجهة من جهاته ، فيتضاعف بنفس الإضافة التشريعيّة أضعافاً مضاعفة ، لا في الدُّنيا فحسب ، بل في كلّ عالَم يظهر فقر الإنسان الذاتي من كلّ جهة ، ولو أردنا بيان الأدلّة السمعية والشواهد العقلية لطال المقام .
فالإنفاق إمّا لأجل حبّه من حيث هو كمال للإنسان ، كان الإنسان جواداً بنفسه، أو لأجل رضاء الله تعالى ، أو لأجل حبّ المنفق عليه حبّاً يرجع إليه عزَّ وجلَّ ، فجميع ذلك يرجع إلى نفس العبد المنفق ، ويكون كمالاً له ، ويستكمل به استكمالاً حقيقيّاً تتبعه السعادة الأبدية ، وهي غاية خلق الخليقة وتلزم ذلك السعادة الدنيوية والكمال الدنيوي الزائل ، فلا استكمال إلا بالإضافة إلى الحيّ القيُّوم ، وكلّ من أهمل ذلك ، أهملغاية خلقه، وسعى في تعطيلها وتضييعها .
والإضافة إلى الله تعالى لابدّ أن تكون عن طريق الوحي المبين المنزل على سيّد المرسلين ، كما أنّ أصل العمل المضاف إليه يجب أن يكون كذلك ، وإليه تدعو جميع الآيات والسنّة المقدَّسة والأدلّة العقلية .
وبذل المحبوب في مرضاة المحبوب ، من طرق إثبات خلوص المحبّة وصفاء المودّة ، ويتضاعف ذلك حسب تضاعف عظمة المبذول له ، وأهميّة الوصول إلى قربه ورضوانه ، ونفس هذه الإضافة توجب للباذل درجة رفيعة مع قطع النظر عن سائر الجهات ، ولذلك أجمل سبحانه وتعالى قوله : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([3])، فالعين موجودة عنده سبحانه وتعالى ، ولا يعقل فناؤها لكن مع إضافات لا تتناهى ، وكلّ ما ورد فيه من التحديد ، فإنّما هو بحسب موجودات هذا العالَم ، لا بحسب ، الواقع الذي يُطلق عليه ( عند الله ) ، أو ( عند الربّ ) ، ولا معنى للربوبية العظمى إلا تربية ما يصل إليه بما يليق به .
وأمّا الملكية ، والمالكية ، والاختصاص ، فإنّها إذا لوحظت بحسب هذا العالَم ، فهي قابلة للتغيُّر والتبدّل ، ولكن الإضافة الواقعية وهي سبيل الله والحقّ المطلوب له باقية لا تزول ، بل تنمو وتزداد بالعناوين الخارجية ، ولا يحدّها الزمان والمكان ولا غير ذلك من ملابسات الفعل .
ولذلك فكلّ إنفاق يصدر عن غير ذلك ، ولا يقصد به الحق المتعال ، يكون من ترجيح المرجوح على الراجح الذي هو قبيح عقلاً ، ولا نصيب للفاعل منه في الآخرة فقد ذهب المال وبقي الحسرات([4]).
([1]) سورة السجدة : الآية 17 .
([2]) سورة الفرقان : الآية 43.
([3]) سورة البقرة الآية 110 .
([4]) مواهب الرحمان : ج 4 / 261.
والفكر : قوة مودعة في الإنسان توجب العلم بما يُراد ، وبها امتاز عن سائر المخلوقات ، والتفكُّر إعمال تلك القوّة ، وقد ورد في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة الاهتمام الكبير بإعمال هذه القوّة ، التي هي من أعظم ودائع الله جلّ جلاله في هذا العالَم ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: « تفکّر ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة» . وسيأتي في الآيات المناسبة ما يتعلّق بذلك .
وفي الآية حثّ للإنسان على البحث عن حقائق الموجودات وأسرار الطبيعة ، والتفكُّر في أمور المبدأ والمعاد ، وجميع ما هو مرتبط بمصالح الإنسان من حيث سعادته أو شقاوته ، وكشف المعارف والعلوم ، وترغيب له في أن لا يأخذ شيئاً إلا بعد التروّي والتفكُّر فيه .
ثمّ إنّه لم يرد في القرآن الكريم بالنسبة إلى الفكر المطلوب له تعالى إلا لفظ التفكُّر ، والغالب اقترانه بالآيات ، ومثل هذا التأكيد لا ينبغي أن يكون مورده الزائل الفاني ، والحادث المتغيّر ، بل يقصد القرآن من ذلك أن يستعمل الفكر فيما هو الأصلح والأنفع للإنسان في الدّنيا والآخرة ، وهو جميع العلوم والأمور المرتبطة بالمبدأ والمعاد ، فإنّ التفكّر فيهما يدعو الإنسان إلى اختيار الطريق المستقيم ، وما هو سبب لنجاته من أهوال المعاد ، كما يدعوه إلى اتّباع رشده والإيمان بالله تعالى ، وما أنزله على الأنبياء والمرسلين ، والعمل بما هو الصلاح له في الدّارين ، وهذا هو التفكير الصحيح الذي تدعو الكتب السماوية والسنّة الشريفة([1]).
وقال رحمة الله علیه في موضع آخر :
والفكر من أهمّ خصائص الإنسان وبه ينتظم شؤونه ، ويقوم نظام الدّنيا والآخرة ، وقد حثّت الكتب الإلهية الناس إلى التفكّر والتدبّر ، ووردت مادّة ( فكر ) في القرآن الكريم في أكثر من ستّة عشر موضعاً ، جميعها تدلُّ على عظمة هذه النّعمة الربّانيّة والموهبة الإلهية ، وهي من الحقائق المعدودة التي يجهلها الإنسان لحد الآن ، وإن عرف مفهومها فهو من الأمور التي :
مفهومها من أعرف الأشياء | وكُنهها في غاية الخفاء |
والمعروف بين الفلاسفة أنّه توجّه النفس بمبادئ معلومة ، ليستنتج منها نتائج مطلوبة ، تترتّب عليها قهراً ، وهل هذا الترتّب من قبيل الأسباب التوليدية ، أو أنّه من مجرّد الاقتضاء كما في جميع المقتضيات ، أو أنّه عملية كيمياوية كما يدّعيها المادّيون ، أو أنّه من مجرد الاتّفاق من دون دخل للأسباب في البين ، أو أنّه من الإفاضات الغيبيّة حفظاً للنظام وتسهيلاً على الأنام ؟
قال بكلّ جمع من الفلاسفة ، وإن كان الحقّ هو الأخير ، فتكون النتائج الفكرية كالمصابيح الكهربائية التي لا تضيء إلا مع الاتصال بأسلاك تربط بالمحل المولّد لتلك القوّة ، وفي الفكر لابدّ من الاتصال بالمبدأ الفيّاض . ولكن لا يمكن لأحد إنكار أنّ بعض الأقسام منها تكويني بديهي الإنتاج، وهذا لا ينافي ما ذكرناه ، ففي مثل المقام التفكُّر في خلق السماوات والأرض ، يورث التذكّر والإذعان بأنّها حادثة ، وكلّ حادث يحتاج إلى مؤثّر ، والمؤثّر هو الله تعالى ؛ ولأنّ فيها بدائع من النظم العجيب والإبداع الفريد والأسرار والدقائق والرموز والحكمة ، التي لا يمكن أن تصدر إلا عن عليم حكيم ، فلابدّ أن يكون الخالق عليماً حكيماً متّصفاً بصفات الجمال والجلال ، وهذا النحو من الاستدلال يُسمّى عندهم بالبرهان الإتّي ، أي العلم من المعلول بالعلّة ، ويقابله البرهان اللّمي أي العلم من العلّة بالمعلول ، والقرآن الكريم مشحون بالقسمين ، ويأتي في قوله تعالى : {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}([2])، بعض الكلام إن شاء الله تعالى .
وفي كلمات المعصومين الشيء الكثير من ذلك ؛ قال عليّ بن الحسين علیهما السلام : «بك عرفتك وأنت دللتني عليك ، ودعوتني إليك ، ولولا أنتَ لم أدْرِ ما أنتَ» .
وقال علیه السلام أيضاً : « وإنَّ الراحل إليك قريب المسافة ، وإنّك لا تحتجبُ عن خَلْقِك إلا أن تحجِبُهم الأعمال دونك » .
وسئل عن بعض الأولياء فقيل له : ما قدر المسافة بين العبد ومعرفة الله تعالى ؟ قال علیه السلام : « قدمان ؛ قدم يضعها على الممكنات ، وقدم يضعها في مقام العرفان » .
وسئل آخر عنها ؟ فقال علیه السلام : « قدم واحدةٌ يضعها على نيّة نفسه ، يتجلّى له ربّه ، فإنَّ مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربّه » .
والبحث في ذلك طويل عقلاً ونقلاً ، وعرفاناً وشهوداً .
ويستفاد من الآية المباركة ، الترغيب إلى التفكّر والتدبّر ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : « تفکُّر ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة » .
كما أن المستفاد من الأدلّة الدالّة على حسن التفكُّر ، والحثّ على أنّ التفكّر الحَسَن المرغوب إليه لابدَّ أن لا يكون منهيّاً عنه شرعاً ، ففي الحديث : « تفكّروا في آلاء الله تعالى ، ولا تتفكروا في الله تعالى » .
وفي حديث آخر : « تفكّروا في الخلق ولا تتفكّروا في الخالق » ؛ فإنّ التفكّر في المبدأ تعالى ، لابدّ أن يكون من جهة خلقه وصفاته الفعلية ، وأمّا التفكّر في ذاته المقدّسة، وصفاته التي هي عين ذاته ، فلا يفيد إلا تحيّراً ، بل ربّما ضلالاً ، وقد ورد في تفسير قوله تعالى : {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}([3])، أنّه إذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فامسكوا .
وأمّا النظر والتفكُّر في ما هو منهيٌّ عنه شرعاً ، فلا يكون منتجاً ، بل إنّ تسميته بالفكر مجاز ، لأنّه في الحقيقة وهمٌ باطل ، أو النكراء أو الشيطنة أو من إيحاء الشيطان ؛ قال تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}([4])، فلابدّ للمتفكّر أن يتأمّل في مقدمات فكره ، بأن لا تبتني على الأوهام والخيالات ، وإلا فيحرم من الفيض الأقدس الإلهي ، ويكون من الذين كان للشيطان عليه سبيلاً، وكلّ ما كان الفكر بريئاً من الخيال والأوهام ، وخالياً من الوسوسة ، كان إلى الواقع أقرب ، وإلا فإنّه يؤدّي إلى اختلال القوّة الفكرية ، وانطفاء هذا النور الإلهي الذي أودعه الله تعالى في الإنسان ، فلابدّ من أن يلتمس سبباً صحيحاً إليه ، وهذا من شؤون الأنبياء والمرسلين ، ومَن يقوم مقامهم ، فإنّهم يستنيرون بنور الله تعالى ، كما في الحديث : « اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله »([5]).
([1]) مواهب الرحمان : ج ۳ / ۳۳۰ .
([2]) سورة إبراهيم : الآية 10 .
من أجلّ مقامات العارفين مقام الذكر ، بل هو من أعظم مظاهر حبّ الحبيب لمحبوبه ، فإنّ « من أحبَّ شيئاً أكثر مِنْ ذكره » ، ومن علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه ، وقد قالوا : « إنّ المحبّ إذا صَمَت هلك ، والعارف إذا نطق هلك » ، لأنّ الأول مجبولٌ على ذكر الحبيب ، والثاني مأمور بستر الأسرار ، ونسب إلى سيّد الساجدين علیه السلام:
يا ربّ جوهر علم لو أبوح به | لقيل لي أنت مِمَّن تعبد الوثنا |
والذكر ـ عندهم ـ على أقسام ثلاثة :
الأول : ذكر اللّسان المستمدّ من القلب .
الثاني : ذكر القلب مع عدم حركة اللسان ، ويسمّى مناجاة الرُّوح والاستجماع للمذكور بالكلّية ، وهذا ذكر الخواصّ .
الثالث : ذكر السرّ ، ومعناه غيبة الذاكر في المذكور ـ في الجملة ـ فكأنَّ المذكور يكون هو الذاكر ، وهذا ذكر أخصّ الخواص . ومثَّلوا لكُلّ ذلك بأمثلة مذكورة في محالها . كما بيّنوا لكلّ واحدٍ منها ثمرات ونتائج .
ولو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام ، ذكر عامّة الناس الذي يقوم بالجارحة اللّسانية فقط من دون استمداد من القلب ، تصير الأقسام أربعة . ولعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنزّههم عن مثل هذا الذكر .
ثمّ إنَّ ذكر الذاكر إنّما يتقوّم بحبّه للمذكور ، ولولاه لم يذكره ، والمذكور قد يحبّ الذاكر ، قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([1])، بل حبّه لجميع خلقه ممّا أثبتته الأدلة العقلية ـ كما برهن في الفلسفة الإلهية ـ والنقلية ، فيقع التجاذب في البين لكلّ الحبيبين .
وبعد تحقّق مراتب الحضور بينهما ، كيف يتحقّق التخالف ؟! لأنَّ ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيحٌ ، قال الشاعر :
أما ترى الحق قد لاحت شواهده | وواصل الكلّ من معناه معناكا |
والبحث نفيس جدّاً لو وجدتُ لهذا العلم الشريف حَملة([2]).
([1]) سورة آل عمران : الآية 31 .
([2]) مواهب الرحمان : ج 2 / 159 . وللتوسعة لاحظ المبحث التالي .
أثبت الفلاسفة المتألّهون أنّ السُّبل وما يوجب التقرّب إلى الله تعالى، ويوصل إلى الحقيقة والكمال، ويستلزم البُعد عن الأوهام والجهالات كثيرة جدّاً، بل وهي غالبة على طرق الضلال والإغواء، لما أثبتوه في محلّه من أنّ الحقيقة فائقة على غيرها ، وأنَّ الواقع غالبٌ على الأوهام والخيالات مهما بلغ أو طال الزمان.
وقد ذكر القرآن تلك السُّبل الموصلة إلى الحقّ والحقيقة، وأكّد عليها بأمثلة كثيرة، وبعبارات مختلفة.
وأهمّها مخالفة النفس عن الهوى، والصبر في جنب الله تعالى، والتفكّر في عظمته جلّ شأنه، بل إنّ العبادات كلّها ليست إلا طرقاً شرعية لتزكية النفس وترقيتها، حتّى يتأهّل العبد للإفاضة عليه منه تعالى، وتحصل اللياقة له للتقرّب بساحته جلَّ شأنه بنبذ الجهات الإمكانية، فإنّ الفطرة قابلة للترقّي في عالم الشهادة أو في غيره إن لم تمنعه الموانع ، فلابدَّ في الإفاضة من الأهلية وإن اختلفت شدّةً وضعفاً، لقاعدة التناسب التي أثبتها المتألّهون من الفلاسفة، وتدلّ عليها آيات شريفة، يأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى الروايات كثيرة.
وللإفاضة مراتب غير متناهية لا يمكن تحديدها؛ لأنّ الذات المفاض منها غير متناهية ، وكذا صفاتها التي منها الإفاضة ، قال تعالى : {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}([1])، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}([2])، وكذا تختلف لياقة المفاض عليه حسب إيمانه أو دركه ، أو أنّ الذوات تختلف ـ لا على سبيل سلب الاختيار عنه ـ وغير ذلك .
ولا تختصّ الإفاضة بعالم دون آخر ، فهي تكون في جميع العوالم ، عالم الشهادة ، وعالم البرزخ ، وعالم القيامة ، وإن ناقش بعضهم في الإفاضة في عالم البرزخ ، ولكنّها غير صحيحة ، لما يأتي في محلّه .
بل يمكن ابتناء مسألة الخلود على الإفاضة ، لأنّ التنعّم في الجنّة عناية ولطف وإفاضة منه تعالى ، فلا يمكن تحديده لا كمّاً ولا كيفاً ولا زماناً لما تقدَّم ، فيتحقّق الخلود لا محالة ، كما أنَّ بُعد النفوس الشريرة عن النفوس المقدّسة بالتقابل والفاصل بينهم وبين المتّقين ، والتباعد بين المؤمنين والكافرين ، نعمةٌ ولطفٌ وعناية للمؤمنين ، فلابُدَّ وأن تكون غير محدودة أيضاً ، فيتحقّق الخلود في النار ، وإنّ كان دخول أصل النار من باب الجزاء قال تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}([3])، وقال تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}([4]).
والإفاضة تارةً : عامّة كالرّزق والخلق وغيرهما .
وأخرى : خاصّة ، وهي ما يُفاض على الإنسان لأجل إيمانه وأعماله الصالحة ، حسب الشرع .
ولكلّ منهما مراتب ، كما مرّ .
وثالثة : أخصّ ، وهي تخصّ الأولياء والأنبياء حسب درجاتهم ، فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال : « أبيتُ عند ربّي فيطعمني ربّي ويُسقيني » .
ومن أهمّ أسباب الإفاضة والتقرّب إلى الله تعالى، الأذكار الواردة عن الأئمة الهُداة علیهم السلام ، المنتهية إلى الوحي من السماء ، وهي كثيرة مذكورة في محلّها .
وأهمّها الاستغفار الموجب محو الذنوب ، ورفع الدرجات ، بل قال نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أنّه من خير العبادة ، ففي الكافي بإسناده عن الإمام الصادق علیه السلام قال : «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: الاستغفار وقول لا إله إلا الله خير العبادة » ، وقال الله العزيز الجّبار {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}([5])، ولذا كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يواظب عليه .
فعن الإمام الصادق علیه السلام: « أنّ رسول الله علیه السلام كان لا يقوم من مجلس وإن خفت حتّى يستغفر الله خمساً وعشرين مرّة » .
وله آثار معنوية منها صفاء النفس ؛ فعن مولانا الإمام الصادق علیه السلام: « إنّ للقلوب صدأ كصدأ النحاس فاجلوها بالاستغفار » .
وعنه علیه السلام أيضاً : « إذا أكثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ».
وآثار خارجية كما عن بعض مشايخنا العرفان، وتدلُّ عليه فيروايات كثيرة ؛ فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : « من كثرت همومه فعليه بالاستغفار » .
وعن الإمام الصادق علیه السلام: « من أكثر من الاستغفار ، جعل الله له من كلّ همٍ فرجاً ، ومن كلّ ضيقٍ مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب » .
والاستغفار كسائر الأذكار الشريفة على أقسام ؛ فتارةً باللسان فقط ، وأخرى بالقلب ، وثالثة بهما ، والأخير من أجلّ المقامات ، وبه يحصل بعض المكاشفات حسب مراتب التوجه والتأهّل .
ولعلَّ تأكيد الآية المباركة باستغفار الرّسول لهم ، لأجل حصول الاستعداد والأهلية بسبب الاستغفار والرجوع إليه تعالى بنبذ النفاق ، حتّى يفيض عليهم ما يوجب كمالهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة([6]).
([1]) سورة الكهف : الآية 109 .
([3]) سورة الأعراف : الآية 44 .
من أسباب تزكية النفس ورقيّها « الصلاة » ، بل هي من أهمّها وأسماها ، لمّا علم الله تعالى من وجود الشره المؤدّي إلى الهلاك والخسران في الإنسان ، جعل الطاعات والعبادات ـ خصوصاً الصلاة ـ صوناً للنفس وحفظاً لها عن الهلاك والخسران ، بل لرقيّها إلى مراتب الكمال ، ففي الحديث :
« ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد شيئاً أحبّ إليه من الصلاة ، ولوكان شيء أحبّ إليه من الصلاة تعبّد به ملائكته ؛ فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد » .
فيها يزول الدنس ـ كما في بعض الروايات ـ وأنّها مطهّرة للقلوب من المساوئ والعيوب ، وبها تفتح أبواب الغيوب ، وبها تطمئن القلوب ، وبها ترفع الدرجات ، وفيها المناجاة برفع الأستار ، وتتسع فيها ميادين الأسرار ، وبها تشرق شوارق الأنوار ، وبها تُزال الحُجُب والأستار بالقرب إليه ، وبها تصفو المحبّة من كدر الجفاء ، ويتّصل المحبّ مع حبيبه في محلّ الصفا .
ولقد علم الله تعالى ضعف الإنسان ووساوس الشيطان ، فقلَّل أعدادها ، وفرض في ليلة المعراج خمس صلوات في خمس أوقات بشفاعة نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم، وهذا لعوام الخلق ، وإلا فالعارفون من الخواصّ : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}([1]) منحهم ديمومة الصلاة من الأزل إلى الأبد ، وهذا لا يدرك بالعقول القاصرة المشوبة بالمادّة الزائلة ، فلا يعقلها إلا العالمون بالله تعالى .
وإنّ المقصود والأثر المطلوب من إقامة الصلاة ، معنويتها لا مجرّد وجودها وشبحها ، فإنّ الإقامة هي الإكمال والإتقان ، يُقال : « فلان أقام داره » أي أكملها ، وجعل فيها كلّ ما يحتاج إليه . وإنَّ إقامة الصلاة تعديلها من جميع الجهات ـ بالتوجّه فيها إليه تعالى ، والتقرّب بها لديه جلَّ شأنه، وحفظ أركانها وشرائطها حتّى تترتّب آثارها ـ فليس كلّ مصلٍ مقيم ، وكم من مصلٍ ليس له من صلاته إلا التعب ، وفي بعض الأحاديث : « مَن لم تنه صلاته من الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بُعداً » .
وعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: « إذا صلّى العبد فلم يتمّ ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها لُفّت كما يُلفُّ الثوب الخَلِق ثمّ يضرب بها وجهه ».
فالمصلّون كثيرون ، والمقيمون قليلون ، وأهل الأشباح كثير ، وأهل القلوب وأرباب المعرفة قليل .
والتعبيرات الواردة في القرآن الكريم ، في مدح المصلّين أكثرها وأغلبها جاء بلفظ الإقامة ، أو بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}([2])، وقال تعالى حكاية عن إبراهيم علیه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ}([3])، وقال تعالى : {وَأَقَامَ الصَّلاةَ}([4])، ولمّا ذكر المصلّين بالغفلة ، قال تعالى : {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}([5])، ولم يقل سبحانه وتعالى فويلٌ للمقيمين الصلاة ، وفي الحديث : « إنّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه ، وواجهه بوجهه ، وقامت الملائكة من لدن منكبه إلى الهويّ يُصلّون بصلاته » ، إلى غير ذلك من الروايات .
والتوجّه أو الخشوع فيها على مراتب :
الأولى : خشوع خوفٍ وإذلالٍ وانكسارٍ لعظمته وقهّاريته ، وهي للعبّاد الزهّاد .
الثانية : خشوع تعظيم وهيبة وإجلال ، وهي للمتّقين الأبرار .
الثالثة : خشوع فرح وسرور وإقبال ، وهي للمقرّبين العارفين ويسمّى هذا المقام بقُرّة العين ، قال تعالى : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([6]).
الرابعة : الجمع في مقام الجمع ، وهذه تختصّ بالأولياء والمقرّبين ، فيها تتمّ التصفية ، وتظهر المحبّة ، وتفتح الأبواب ، ويرتفع الحجاب ، فتخرج الروح من ضيق الأشباح إلى فضاء الكمال في عالم الأرواح ، أو من ضيق المُلْك إلى سعة عالم الملكوت .
ولا شكّ أنّ إمداداته وإفاضاته جلَّت عظمته غير محدودة بحدّ ، ولا بزمان معيّن لصدورهما عن ذات غير المتناهي . نعم ، ترد على العبد حالات خاصّة ، وظروفاً معيّنة ، يكون التوجّه فيهما إليه أشدّ وأكثر ، فلها آثار مخصوصة لنجح المقاصد وإنجاز المطالب .
منها حالة الصلاة ، خصوصاً عند الانقطاع إليه تعالى كالسفر والخوف والمرض وغيرها ، ولأجل ذلك ورد الاستعانة بها وقالوا : « إن الصلاة لا تسقط في أي حال » لأنّه لابدّ للعبد من حفظ الصلة بينه وبين ربّه ، وبها تتمّ المحبّة وتحصل المودّة([7]).
وسيأتي المزيد عن الصلاة في البحث التالي .
([1]) سورة المعارج : الآية 23.
([4]) سورة التوبة : الآية 18 .
لا بأس بالإشارة إلى أمور :
الأول : لا ريب في أنّ الإنسان مركّب من أمرين : روح وقوى روحانية يكون من عالم الغيب والروحانيّين ، وجسم وقوى جسمانية تكون من عالم الأجسام ، فالتئما برهة من الزمن لمصالح كثيرة ، فكما أنّ للجسم والقوى الجسمانية حوادث وآفات وأمراض ، كذلك للروح والقوى الروحانية أيضاً ، بل أمراضه أكثر بمراتب من أمراض الجسم ، لوقوعه بين جندين عظيمين من جنود الرحمان وجنود الشيطان ، يدعوهما الأولى إلى التقرّب إلى الله تعالى، والتخلّق بأخلاقه ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والسعادة الأبدية ، وتحرصها الثانية إلى الفساد والإفساد والشقاوة الدائمية ، فيكون الروح الإنساني لكمال أهمية معركة الحرب العجيبة بين الجنودين العظيمين دائماً ، فكما أنّ للأمراض الجسمانية أطبّاء وأدوية خاصّة، للأمراض الروحانية أيضاً أطبّاء ، أعني الأنبياء والمعصومين ، والعلماء العاملين المبلّغين عنهم علیهم السلام ، وأدوية خاصّة أهمّها العبادات بأنحائها المختلفة.
ومن أهم تلك العبادات وأفضلها الصلاة بشروطها ، فهي أحسن درجات سعادة الإنسان وأكملها ، حتّى لقد اشتهر ( إنّ الصلاة معراج المؤمن ) ، فكما أنّ معراج الأنبياء والمرسلين الانقطاع عن العلائق بالكلّية ، والتوجّه إلى ربّ الخلائق من كلّ جهة ، فيفيض عليهم ربّهم ما يُغنيهم عمّا سواه من الكمالات والمعارف ، فلابدّ وأن يكون صلاة المؤمن أيضاً فرعاً من فروع ذلك الأصل الأصيل ، وغُصناً من أغصان تلك الشجرة التي ليس لها نظير ومثيل ، فلابد حين التوجّه إلى حضرته تعالى بالصلاة ، من الالتزام بالجهات الدينيّة ، والخلوّ عن العلائق الدنيوية ، ودفع الأنجاس عن نفسه الظاهرية منها والباطنية ، ويتطهّر من دنس الذنوب والأخلاق الذميمة ، حتّى تترتّب على صلاته الفوائد التي جعلها الله تعالى في الدّنيا والآخرة ، التي منها الارتداع عن الفحشاء والمنكر . ويقبح كلّ القبح على من يحضر في اليوم والليلة خمس مرّات لدى مالك الملوك الرّحيم الودود ، ومصدر الجود والكرم والإفاضة ، ولا يستفيد منه شيء ويرجع صفر الكفّ .
الثاني : حيث أنّ الصلاة أفضل القرب وأحسن العبادات ، يتعلّق بها من الأحكام التكليفيّة والوضعية وسائر الجهات كثيرة جدّاً ، حتّى قال مولانا الإمام الرضا علیه السلام : « الصلاة لها أربعة آلاف باب » ، وعن الإمام الصادق علیه السلام : « للصلاة أربعة آلاف حدّ » .
وقد فسّر العلماء هذين الحديثين ، فعن الشهيد : « إنّ المراد بهما الواجبات والمندوبات ، فجعل الواجبات ألفاً تقريباً ، ووضع لها كتابه الذي سمّاه بـ( الألفية )، والمندوبات ثلاثة آلاف ووضع لها كتابه الذي سمّاه بـ(النفلية)».
ولكن عن شيخنا الحرّ العاملي في كتابه ( بداية الهداية ) : إنّ الواجبات في الفقه بأجمعه ألف وخمس وثلاثين ، والمحرّمات ألف وأربع مائة وثمانية وأربعين. فراجع وتأمّل في الجمع بينهما .
كما أنّ الدسائس الشيطانية ووساوسه بالنسبة إلى الصلاة أكثر من كلّ عبادة ، فلابدّ وأن يهتمّ بدفعها اهتماماً بليغاً .
الثالث : الخلوص والإخلاص ، وحضور القلب ، وإقباله في الصلاة وسائر العبادات روح العبادة وحقيقتها التي قوامها ، وبانتفائها تكون كجسد لا حياة فيه ، وقد أمر الله تعالى بالإخلاص ومدح المخلصين في جملة كثيرة من الآيات . والإخلاص تارةً يكون بالنسبة إلى أصل التوحيد . وأُخرى بالنسبة إلى العمل العبادي .
وقد ورد عن أبي عبدالله علیه السلام تفسير كلّ منهما ، فقال علیه السلام في خبر ابن حمران : « من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنّة ، وإخلاصه أن يحجزه لا إله إلا الله عمّا حرّم الله » .
وقال علیه السلام: « والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ » .
ثمّ إنّ ثمرة الإخلاص والخلوص ، تظهر في الدنيا والآخرة ، وقد روى الفريقان عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم: « من أخلص الله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه » .
وقال الإمام علي علیه السلام: « بالإخلاص يكون الخلاص » .
وقال علیه السلام أيضاً : « وتخليص النيّة من الفساد أشدّ على العاملين من طول الجهاد» . وإطلاقه يشمل الخلاص عن جميع المتاعب والمهالك الدنيوية والأخروية .
وقد ورد الترغيب إلى الخلوص والإخلاص في الكتاب والسنّة بما لا يحصى ، ويمكن إقامة الدليل العقلي على لزومه ، لأنّه من أهمّ مصاديق شكر المُنعم ، وأهمّ العلاجات في الأمراض الروحية ، وأسرع طريق لكشف الواقعيات عليه .
وقال أبو عبدالله علیه السلام : « أفضل العبادة الإخلاص ، وأدنى مقام المخلص في الدُّنيا السلامة من جميع الآثام ، وفي الآخرة النجاة من النار ، والفوز بالجنّة » .
وفي الخطبة المتواترة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم بين الفريقين ، التي خطب بها في مسجد الخيف بمنى ، في حجّة الوداع :
« نَضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، ثمّ بلّغها إلى مَنْ لم يسمع ، فرُبَّ حامل فقهٍ إلى غير فقيه ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلّ عليهنَّ قلب امرءٍ مسلم : إخلاص العمل الله ، والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنَّ دعوتهم محيطة من ورائهم ، المسلمون إخوة تتكافأ دمائهم يسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يدٌ على مَنْ سواهم » .
وعن مولانا الإمام العسكري علیه السلام : « لو جعلت الدُّنيا كلّها لقمة واحدة ولقمتها مَنْ يعبد الله خالصاً لرأيت أنّي مقصّرٌ في حقّه » .
ولو أردنا أن نتعرّض لما ورد في الإخلاص في الكتاب والسنّة وبيان فوائده الدنيوية والأخروية لاحتاج إلى وضع كتاب مستقلّ .
ولابدّ للإنسان أن يهتمّ بدفع الأمراض الروحانية المحيطة به من كلّ جهة، والتي أفسدت عليه دينه ودُنياه ، وأظلمت الفضاء عليه ، وانقطعت الأخوّة بيننا ، كاهتمامه بدفع الأمراض الجسمانية بأيّ وجهٍ أمكنه ، مع أنّ العلاج موجود بين أيدينا ، وسهل يسير علينا تناوله ، وأبوابه مفتوحة على الجميع ؛ ألا وهو الخلوص والإخلاص في أعمالنا خصوصاً التي هي وديعة الله تعالى لدينا .
الرابع : أهمّ الموانع عن حصول الخلوص والإخلاص ، حبّ العلائق الفانية الدائرة التي تحيط ببني آدم إحاطة الدُّنيا بأبنائه ، وقد جمع ذلك كلّه النبيّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم في قوله : « حبُّ الدُّنيا رأس كلّ خطيئة » ، فالإخلاص والخلوص مع حبّ الدُّنيا متنافيان ، ولكن حبُّ الدُّنيا على قسمين :
أولها : ما يكون بنحو الموضوعية .
والثاني : ما يكون بنحو الطريقيّة ، يعني يحبّها ؛ لأن يعمل بها في طريق مرضاة الله تعالى ، وهذا القسم لا بأس به ، بل قد يؤيّد حصول الخلوص . عصمنا الله عزَّ وجلَّ من القسم الأوّل .
الخامس : العوالم التي نردُّ عليها ، إمّا عالم الشهادة ، أو عالم الغيب ، والأخير بالنسبة إلينا غير متناهية ، وأمّا بالنسبة إلى الله عزَّ وجلَّ فلا تعدّد في البين لحضور ما سواه لديه تعالى فوق ما نتعلّقه من معنى الحضور، وشهوده للكلّ فوق ما ندركه من معنى الحضور .
والخلوص والإخلاص في عبادة الله جلَّت عظمته ، ارتباطٌ مع عالم الغيب في الجملة ، إذ الارتباط مع الملك والسلطان ارتباط ، مع من يتعلّق وما يتعلّق به في الجملة ، لاسيّما في الارتباط مع مالك الملوك ، فيصير الإخلاص له تعالى إلى مرتبةٍ يوجب صدور الكرامات وخوارق العادات على يد المخلصين له تعالى ، ويوجب عدم اقتدار الشيطان على الدنوّ منه ، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}([1]) {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}([2])، لأنّ نسبة الشيطان إلى حرم الكبرياء ، نسبة الكلب الواقف عند باب الدار ، فيمنع الأغيار عن الدخول فيها ، وأمّا أهل الدار فلا يقدر على منعهم ، بل هم المسيطرون عليه ، وتوجيهه لكلّ ما شاءوا وأرادوا .
وبعبارة أوضح : الخلوص والإخلاص لله تعالى في الأعمال والحالات ، كجواز سفر إلهي للسياحة في عوالم الغيب ، وإتيان التحف منها إلى عالم الشهادة ، بحسب مراتب الإخلاص وظرفية المخلص ، وهذا مقام عالٍ جداً ، ولذا تواترت نصوص الفريقين بما مضمونه « إنّ السعي في زيادة كيفيّة الأعمال ، أحسن من السعي في زيادة كمّيتها » و« أنّ السعي في تصحيح العقائد والأخلاق ، أهمّ من السعي في الأعمال » ، قال تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}([3]).
وقال الإمام عليّ علیه السلام: « كم مِنْ صائم ليس له مِنْ صيامه إلا الظماء والجوع ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا العناء ، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم » .
وفي صحيح أبي بصير ، عن أبي عبدالله علیه السلام: « مرَّ بي أبي ـ وأنا بالطواف وأنا حَدَثٌ ، وقد اجتهدتُ في العبادة ـ وأنا أتصابُّ عرقاً ، فقال علیه السلام: يا جعفر يا بُني! إنّ الله إذا أحبَّ عبداً أدخله الجنّة ، ورضي عنه باليسير » .
ولو أردنا أن نأتي بالأدلّة العقلية والنقلية على ذلك ، لاحتاج إلى وضع کتاب مستقلٌ .
وقال علیه السلام في إقبال القلب في الصلاة :
للإقبال على الله تعالى وحضور القلب لديه ، وكذا إخلاص العمل له درجات ومراتب متفاوتة ، تدور تلك الدرجات مدار مراتب اليقين بالله تعالى ، والإيمان به عزّ وجلّ ، فهي من فروع ذلك الأصل .
فمرتبة منه ، ما قاله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: « من أسبغ وضوئه ، واستغفر ذنبه ، وأدّى النصيحة لأهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقد استكمل حقائق الإيمان ، وأبواب الجنّة مفتّحة له » . هذا بالنسبة إلى بعض المراتب .
ومرتبة منه ، ما قاله صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً : « سكنوا فكان سكوتهم ذِكراً ، ونظروا فكان نظرهم عبرةً ، ونطقوا فكان نُطقهم حكمةً ، ومَشَوا فكان مِشْيَهم بين الناس بركةً ، لولا الآجال التي كَتَب الله عليهم ، لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم ، خوفاً من العذاب ، وشوقاً إلى الثواب » .
وبينهما مراتب دون الأولى وفوق الأخيرة ، حسب مراتب الإيمان بالله تعالى الغير المتناهية ، وما ذكر في الأخبار ، إنّما هو بحسب الغالب الواقع بين الناس لا بحسب الواقع ، إذ لا تناسب للمتناهي مع غير المتناهي من جميع الجهات . وهنا أبحاثٌ شريفة لا يقتضي الحال والمقام التعرّض لها » .
وقال رحمة الله علیه في بحث الرياء :
في الرياء جهات من الكلام :
الأولى : تقدّم في نيّة الوضوء أنّ الرياء في العبادة حرام تكليفاً ، بل من الكبائر؛ لإطلاق الشرك عليه ، ولتوعيد النار به ، وأنّ له جهة وضعية ـ مضافاً إلى الحرمة التكليفيّة ـ وهي كونه موجباً لبطلان العبادة .
الثانية : الشرك بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى.
إمّا وجودي : بأن يُجعل شريك له جلَّ جلاله في مرتبة ذاته .
وإمّا فعليّ : بأن يُجعل شريك له تعالى في أفعاله .
وإمّا عبادي : بأن يُجعل شريك له في معبوديّته ؛ وهو على قسمين :
فتارةً : يأتي بالعبادة لأجل عبادة غير الله تعالى ، كما يعبد الله .
وأُخرى : يأتي لإرائة الغير فقط من دون عبادته .
ولا ريب في أنّ كلاً منهما شرك ، بل الأوّل يوجب النجاسة، ولكن الرياء المبحوث عنه الفقه من قسم الأخير لمن يعتقد بوحدانية الله ذاتاً وفعلاً وعبادةً .
الثالثة : ظاهر الأدلّة حرمة الرياء نفسيّاً في الصلاة ـ وكل عبادة ـ كحرمة الغصب فيها ، وكحرمة لبس الذهب والحرير على الرّجال ، ولو حال الصلاة ، فينتزع الفساد من الحرمة النفسية في العبادة ، وعليه فإذا رآئا في العبادة الباطلة ، أو أتى بالعبادة أولاً صحيحة ، ثمّ أتى بعبادة أخرى ورأى فيها ، لا يكون حراماً من جهة انتفاء موضوع الحرمة .
إلا أن يُقال : إنَّ موضوع حرمته مطلق العبادة ، ولو كانت باطلة ، فلو صلّى بلا طهارة ، أو توضّأ بماء نجسٍ مع العلم والالتفات ورأى فيها ، فعل حراماً ، ولكنّه مشكلٌ ؛ لأنّ ذات مثل هذا العمل لا يصلح للعبادية ، حتّى يتحقّق فيه موضوع الرياء .
إن قيل : فعلى هذا لا وجه للحرمة والإثم ، لأنّه بمجرّد حصول الرياء تبطل العبادة فلا يبقى موضوع للحرمة .
يُقال : موضوع الحرمة الصحّة التعليقية لا الفعلية من كلّ جهة .
الرابعة : المشهور ، بل المتّفق عليه بطلان العبادة المرائي فيها . ونسب إلى المرتضى رحمة الله علیه عدم ترتّب الثواب لا البطلان ، فإن كان مراده عدم البطلان حتّى مع فقد قصد القربة ، فهو ضروري البطلان ، لتقوّم العبادة بقصد القربة عند كلّ أحد ، وهو رحمة الله علیه معترف به ، وإن كان نظره إلى أنّ الرياء من الضمائم التي لا تضرّ بقصد القربة ، فإطلاق صحيح ابن جعفر ، وخبر السكوني يرده ، ففي الأول « قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : يُؤمر برجال إلى النار ـ إلى أن قال ـ فيقول لهم خازن النار : يا أشقياء ما كان حالكم ؟
قالوا : كُنّا نعمل لغير الله ، فقيل لنا : خذوا ثوابكم ممّن عملتم له » .
إذ كيف يمكن أن يكون العمل صحيحاً ، ومع ذلك يوجب استحقاق النار لعامله ؟!
وفي الثاني ، قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم : « إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به ، فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجلّ : اجعلوها في سجّين ، إنّه ليس إيّاي أراد به » ، وكيف يمكن أن يكون العمل صحيحاً ، ومع ذلك أمر الله تعالى أن يُجعل في سجّين .
الخامسة : إنّ الرياء من الأمور القصدية المتقوّمة بالقصد والاختيار، وهو تارةً : يكون بإتيان العبادة بمجرّد إرائة الناس من دون قصد القربة .
وأخرى : يأتي بالعمل بقصد القربة ، لكن بداعي أن يجعل نفسه عند الناس في عِداد الصالحين ، أو لرفع الذمّ عن نفسه ، أو لجلب خير الناس إلى نفسه ، أو لمجرّد كونه في مجمع الناس ، أو لمجرّد الشهرة بالعبادة ، أو لغير ذلك من الأغراض .
والذي يكون حراماً ويوجب بطلان العبادة ، هو الأوّل دون البقيّة ، مع تحقّق قصد القرية فيها ، إذا كانت تلك الدواعي في طولها لا في عرضها بحيث ينافيها ، ولكن لا ريب في أنّها تنافي الإخلاص والخلوص ، وإن صحّت العبادة بحسب القواعد الفقهية .
السادسة : مقتضى إطلاق بعض الأخبار ـ كصحيح ابن جعفر ، وخبر السكوني ـ وإن كان تعميم الرياء بالنسبة إلى تمام الأعمال والحسنات مطلقاً ، سواء كانت من العباديات أو غيرها ، لكن مقتضى جملة من الاخبار الاختصاص بالعباديات ؛ ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال :
« لو أنّ عبدأ عمل عملاً يطلب به وجه الله والدار الآخرة ، وأدخل فيه رضا أحدٍ من الناس ، كان مشركاً » .
وعن أبي عبدالله علیه السلام : « مَنْ عَمِل للناس ، كان ثوابه على الناس ، ومن عمل لله كان ثوابه على الله » .
فيستفاد منها اختصاص حرمة الرياء بخصوص العباديات .
السابعة : إذا كان الرياء في العبادات المندوبة ـ بناءً على الحرمة الغيرية ـ تبطل ولا إثم على المرائي ، وأمّا بناءً على الحرمة النفسية ، مضافاً إلى الفساد تبطل مع الإثم ، كما هو واضح ، وقد استظهرنا الأخير من الأدلّة فراجع .
الثامنة : يمكن أن يكون بطلان العبادة المرائي فيها موافقاً للقاعدة إن كان الرياء في أ ي أصل إتيان العمل ، لفقد قصد القربة حينئذٍ ، وكذا إنْ كان في الجزء، وقلنا إنَّ فساد الجزء يسري إلى الكلّ ؛ لأنّ المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه إن اكتفى بالمأتى به ، وإن أعاده بعنوان الجزئية من الزيادة العمدية المبطلة .
التاسعة : إذا شكَّ في حصول الرياء له أو لا ، أو شكَّ في أنَّ الحالة الحاصلة له رياءٌ أو لا ، فمقتضى الأصل عدم تحقّق المانع وصحّة عمله ، وإذا حصل حالة سرور بعمله ، وحالة فرح بعباداته ، أو فرح بأن يراه الناس مصلّياً مثلاً ـ فكلّ ذلك ليس من الرياء ، لقول أبي عبد الله علیه السلام :
« من سرّته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن » .
وعن أبي جعفر علیه السلام: « سُئل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم عن خيار العباد ، فقال : الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساؤا استغفروا ، وإذا أعطوا شكروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا غضبوا غفروا » .
وتكون مقيّدة لتلك المطلقات ، مضافاً إلى أصالة الصحّة في غير المتيقن من الدليل .
العاشرة : لا بأس بتحسين العبادة لترغيب الغير إليها ، أو لغرض صحيح آخر ، للأصل ، وخبر عبيد ، قال :
« قلت لأبي عبدالله علیه السلام: الرجل يدخل في الصلاة فيجوّد صلاته ويحسّنها ، رجاء أن يستجر بعض من يراه إلى هواه ؟
قال علیه السلام : ليس هذا من الرّياء » .
وعلى هذا لو كانت الصلاة في البيت ـ مثلاً ـ على نحو ، وفي الملأ بنحوٍ آخر بداعي تعليم الناس ، وترغيبهم إلى الاهتمام بالصلاة ، أو لغرض شرعي آخر ، لا بأس به ، ولكن لابدّ من الحذر عن خدائع الشيطان ، إذ المقام من مزالّ الأقدام([4]) .
([1]) سورة ص : الآيتان ۸۲ ـ ۸۳ .
في معنى فصول الآذان والإقامة ، وفيه أمور :
الأمر الأول : يتصوّر في افعل التفصيل ـ في جملة الله أكبر ـ وجوه، لأنّ حذف المتعلق يفيد العموم :
الأول : الله أكبر من أن تصل العقول إلى كنه ذاته ، لأنّ اكتناه المتناهي من كلّ جهة للغير المتناهي المطلق محال .
الثاني : الله أكبر من أن يوصف ، لأنّ توصيفه تعالى كما هو حقّه غير ممكن للمخلوق .
الثالث : الله أكبر من أن يوصف بصفات الأجسام والجسمانيات ، لأنّ ذاته المقدَّس فوق جميع مخلوقاته .
الرابع : الله أكبر من أن يتقرّب إليه بالعبادات المقرونة بموانع القبول ، التي هي كثيرة ، ولابدّ من رفعها مهما أمكن ، ولكن الجواد الكريم ينظر في الهدية إلى قدر المُهدي ، لا إلى عظمة نفسه ، والمرجوّ منه تعالى ذلك ، بل هو أولى بذلك الخُلق الكريم .
الخامس : الله أكبر من أن يطلق أسمائه وصفاته المقدَّسة على غيره تعالى بالمعنى الذي يُطلق عليه .
السادس : الله أكبر من أن يعبد غيره على ما يعبد به ، ويمكن أن يتصوّر وجوه أخرى والكلّ صحيح وبعضها منصوص » .
الأمر الثاني : معنى الشهادات ، أمّا الشهادة بالتوحيد : فهو أنّي أعلم أنّه لا معبود إلا الله عزّ وجلّ ، وكلّ معبود دونه باطل ، وأقرّ بلساني كما في قلبي ، وهكذا معنى الشهادة بالرسالة ، فتكون اعترافاً برسالته صلی الله علیه و آله و سلم في كلّ ما أتى به منه تعالى .
الأمر الثالث : معنى حيَّ على الفلاح ، وحيَّ على خير العمل : توصيفٌ للصلاة، وعبارة أُخرى منها ، وفي صحيح ابن أبي عمير :
« أنّه سأل أبا الحسن علیه السلام عن حيَّ على خير العمل ، لِمَ تركت من الأذان ؟
قال : تريد العلّة الظاهرة أو الباطنة ؟
قلت : أريدهما جميعاً .
فقال : أمّا العلّة الظاهرة ، فلئلا يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة ، وأمّا الباطنة فإنَّ خير العمل الولاية ، فأراد من أمَرَ بترك حيَّ على خير العمل من الآذان ، أن لا يقع حثَّ عليها ، ودعاء إليها »([1]).
الأفعال الصادرة من الإنسان في حقيقتها ـ تكون كالأشياء النامية ـ لها صورة خارجية ، وروحٌ يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات ، فالإنسان الذي هو أشرف المخلوقات في عالم الإمكان ، مركّبٌ في واقعه من جسمٍ وروح ، وكذا أفعاله لها صورة ـ وهي عبارة عن ما يتشخّص في الذهن من الكيفيّات ، وهذا يعمُّ جميع أفعال الحيوانات ـ وروح يتفرّد بها عن بقيّة الحيوانات ، وهي أمرٌ معنويٌ يحصل من التوجّه إلى الباري جلَّ شأنه، والسوق إلى الخالق جلَّت عظمته ـ ولا ربط له بالإرادة ـ وأثره إفراد القلب له تعالى بارتباطه إلى ساحة كبريائه ، والتبرّي عن كلّ ما دونه تعالى ، وهو الباعث لتحقّق الإضافة إليه تعالى ، التي هي السبب لتحقّق الفعل خارجاً ، وإذا وجد الفعل بدونها ، كان مجرّد صورة كالأفعال التعليميّة .
ويعبّر عنه في الكتاب والسنّة بالإخلاص في الأفعال العبادية ، أو المضافة إليه تعالى المتفرّد بها الإنسان عن غيره ، قال تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}([1])، وقال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}([2]).
فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح ، وإلا كانت ميّتة ساقطة ، كذلك الأعمال العبادية ، فلولا الإخلاص والرّوح المعنوي فيها ، كانت مجرّد شبح وهيكل ، ومراتب الإخلاص كدرجاتها تختلف حسب درجات الإيمان ، كما يأتي .
حقيقة الإخلاص:
وهي من الحقائق المحجوبة ، ولا تعرف إلا بالأثر ، ولا يمكن وصفها وإن أدركها العرفاء الشامخون ، فإنّها تشرق على القلب ، وتنوّر النفس ، ويتشرّف المؤمن بالإخلاص إلى أعلى مراتب الكمال ، بلذّة ذلّ العبودية له تعالى ، وبه يخرق الحُجب ، ويصل إلى معدن العظمة .
فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: « أنّه سُئل عن الإخلاص ، فقال صلی الله علیه و آله و سلم : حتّى أسأل جبرائيل ، فلمّا سألته قال : أسأل ربّ العزّة ، فلمّا سأله ، قال له :
هو سرٌّ من أسراري أودعه قلب مَنْ أحببت من عبادي ، لا يطّلع عليه مَلكٌ فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده » .
وعن سيّد العرفاء أمير المؤمنين علیه السلام : « هو أن تعبد الله كأنّك تراه » .
فحقيقة الإخلاص يدركها الخُلّص من عباده ، ولكنّها لا توصف ، والإخلاص من أعلى مراتب التفويض.
درجات الإخلاص :
كما أنّ للعبودية درجات ، ولكلّ منها مراتب ، ولكلّ مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان ، ومراتب المعرفة ومنازلهما ، وأنّ التقرّب لديه جلَّ شأنه يحصل بجميعها ، وأنَّ أسمى المراتب وأعلى الدرجات قبوله عزّ اسمه بالعبودية ـ وإن كان للقبول مراتب أيضاً ـ فإنّه هو الفوز العظيم ، فعن بعض العرفاء : « قيل له بعد وفاته ـ في الرؤيا ـ : كيف حالك مع المَلَكين ( النكير والمنكر ) ؟ فقال لمّا قالا لي : مَنْ ربّك ؟ قلت لهما : إسألا ربّي ، فإن قال هو عبدي وأنا ربّه يكفي ، وإلا فلو قلت هو ربّي وأنا عبده مراراً لا يفيد بلا قبوله » . كذلك للإخلاص له درجات ، وفي كلّ منها مراتب ، وفي كلّ مرتبة أنواع ، أهمّها وجامعها أقسام ثلاثة :
إخلاص العوام ، وإخلاص الخواصّ ، وإخلاص أخصّ الخواصّ .
وإن شئت قلت : مطلق الإخلاص ، وإخلاص المحبّين ، وإخلاص الموحّدين .
الأوّل : هو الإخلاص في العبادة ، لأجل الحظوظ ـ سواء كانت دنيوية أم أخروية ـ كحفظ البدن وسعة المال والقصور والحور .
والثاني : لأجل السعادة الأخروية ، والدخول في الجنّة ، دون الحظوظ الدنيوية.
والثالث : هو إخراج الحظوظ بالكلّية ، بل الإخلاص ، لأجل جنّة الشوق بالقرب له جلَّت عظمته : « وفؤادي ليس فيه غيره » .
ولكلّ من هذه الأقسام مراتب كما مرّ ، وأنَّ جميعها حسن ، إلا أنّ أسماها وأعلاها القسم الأخير.
وفي دعاء كميل : « هب لي صَبَرتُ على حَرّ نارك ، فكيف أصبرُ على فراقك » .
وعن سيّد العرفاء المتألّهين الشامخين ، أمير المؤمنين علیه السلام « إلهي عبدتُك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً لجنّتك بل رأيتُك أهلاً لذلك فعبدتك » .
وعن بعض العرفاء المتألّهين :
ليس سؤلي من الجنان نعيماً | غير إنّي أحبّها لأراكا |
ولهذا القسم درجات ومراتب ، نسأل الله العظيم الفوز بمرتبة منها ، ولا تنال هذه النعمة الكبرى ، إلا لمَن عصمه الله تعالى ، وأمدّه بحقّ اليقين بالتجلّي له ، وكشف الأسرار له بإفاضة العلوم عليه ، وقرَّبه إلى ساحته بخلع الأنداد عنه ، وكرَّمه بتطهير النفس بمخالفة الهوى ونبذ الأغيار ، وشرّفه بالرقيّ إلى مقام عرفانه بالتوجّه إليه والقرب لديه .
منافيات الإخلاص:
الصفات الحميدة تقابلها الحالات السيّئة ، وتفسدها الصفات المنافية لها ، فالشجاعة مثلاً يفسدها الخوف ، لأنّه ينافيها ، ولا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس ، وكذا القناعة ينافيها الحرص والجشع ، كما أنَّ الزهد ينافيه طول الأمل ، وكذا غيرها في الصفات .
والإخلاص : ينافيه أُمور كثيرة لأنَّ سبب الإخلاص لله تعالى المعرفة والخوف، فإذا زال أحدهما لم يتحقّق الإخلاص . وأهمّ ما ينافي الإخلاص أمور :
منها : الرياء ـ نستجير بالله العظيم منه ـ فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم عن الله تعالى في القدسيات : « أنا أغنى الشركاء ، مَنْ أشرك معي غيري تركته لغيري » .
وعنه صلی الله علیه و آله و سلم : « أخوف ما أخاف على أمّتي الشرك الخفيّ وهو الرّياء » .
وغيرهما من الروايات ، وأنّه دقيق جدّاً « أدق من دبيب النمل في صخرة ملساءٍ» وسببه حبُّ الدُّنيا بأقسامه ، وللتخلّص منه طرق كثيرة لا يسع المجال للتعرض لها .
ومنها : العُجْب بالعمل ، فإنّه منافٍ للإخلاص ، وقادح في كمال العمل ، وقد ورد في ذمّه روايات كثيرة .
ومنها : الاستهانة بالعمل وتحقيره ، كما دلّت عليه روايات كثيرة .
ومنها : الإيكال في الأمور على غيره تعالى ، سواء كان على النفس أو غيرها.
ومنها : التعمّق في حكمة الأشياء ، والبحث عن حِكَم الأحكام الشرعية ، فإنّه منافٍ للإخلاص ، كما دلَّ عليه بعض الروايات ؛ فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : « إيّاكم والغلوّ في الدين » أي البحث عن عللها وغوامض متعبّداتها ، وعن بعض مشايخنا من أهل العرفان ادّعاء التجربة ذلك.
ومنها: عدم الثقة بالله العظيم ، فإنّ ذلك منافٍ للإيمان ، فكيف بالإخلاص ، وأنّه من المعاصي الكبيرة على ما فصّل في محلّه .
وهناك أُمور أخرى منافية للإخلاص ، ذكرها علماء الأخلاق ، ومشائخ العرفان في كتبهم ورسائلهم ومَن شاء فليرجع إليها .
الفرق بين الرضا والإخلاص :
تقدم أنّ للإخلاص مراتب أدناها مرتبة الرضا ، بل هو كتمهيد له ، ولذا إنَّ الإخلاص يتضمّن الرضا ولا عكس ، هذا كلّه في العبيد ، وأمّا رضائه تعالى فهو عين محبّته ، وأنَّ محبته عين إخلاصه ، فلا يمكن التفكيك بينهما .
وممّا ذكرنا : يظهر أنّ للرّضاء مراتب ودرجات ، وأنَّ أسماها هو التفويض ، وأنّ أعلى مراتب التفويض الإخلاص الذي هو مختصّ بالأولياء والصالحين .
وأنَّ الصفات الحسنة المذكورة في الآية المباركة ، من الصدقة والمعروف ، والإصلاح بين الناس ، إذا كانت صادرة لابتغاء مرضاته تعالى وخالصاً لوجهه الكريم ، كان ذلك مظهراً من مظاهر أسمائه ، ويكون أدوم وأنفع للمجتمع كما تقدّم وإلا فالأمر إضافي([3]).
ثمّ إنّ الصوم من أشرف الطاعات ، وأفضل القربات ، ويكفيه فضلاً ومنقبةً إنّه تشبّه بالكروبيّين ، والملائكة الروحانيّين ، في الخروج عن حضيض النفس البهيميّة ، إلى ذروة المقام الروحانية ، وبه وصل أبونا آدم إلى مقام الاصطفاء بعد أن أُبتلي بما قصّه الله تعالى عنه من الابتلاء ، فهبط من الجنّة فصام حتّى تاب الله عليه وهدى.
والصوم من أهمّ عبادات الأنبياء والأولياء ، وكيف لا يكون كذلك وهو أحد الخمسة التي بُني عليها الإسلام ، وبه تضعف القوى الشهوية التي تضلُّ بها الأنام ، وبه يصفو العقل والفّكر الذي يصل به الإنسان إلى أعلى الدرجة والمقام .
وما أقول في عبادةٍ قال الله تعالى فيها : « لخلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المِسْك » .
وقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: « إنها تباعِدُ الشيطان عن الناس ، كما يتباعد المشرق من المغرب » .
وقال الإمام الصادق علیه السلام: « نومُ الصائم عبادة ، وصَمْته تسبيح ، وعمله متقبَّل ، ودعائه مستجاب » .
وقال الإمام الرضا علیه السلام : « إنّ لله ملائكة موكلين بالصائمين والصائمات يمسحونهم بأجنحتهم ، ويسقطون عنهم ذنوبهم ، وإنَّ لله ملائكة قد وكلهم بالدُّعاء للصائمين والصائمات ، لا يُحصى عددهم إلا الله تعالى » ، إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ولا يُستقصى([1]).
ثمّ إنّه لشهر رمضان فضائل كثيرة :
الأول : إنَّ فيه نزلت الكتب السماوية من التوراة ، والإنجيل ، والقرآن . قال أبو عبدالله علیه السلام : « نزلت التوراة في ستّ مضين من شهر رمضان ، ونزل الإنجيل في إثنتي عشرة مضت من شهر رمضان ، ونزل الزبور في ثماني عشر مضت من شهر رمضان ، ونزل الفرقان في ليلة القدر » .
وقال علیه السلام أيضاً : « غُرّة الشهور شهر الله عزَّ ذكره ، وهو شهر رمضان ، وقلب شهر رمضان ليلة القدر ، ونزل القرآن في أوّل ليلة من شهر رمضان ، فاستقبل الشهر بالقرآن » .
ويمكن الجمع بينهما بتعدّد النزول ، أو بالإجمال والتفصيل ، أو بالنزول إلى سماء الدُّنيا ، ثمّ منها إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ، أو بالتبعيض في النزول ، بأن نزل بعضه في وقتٍ وبعضه الآخر في وقتٍ آخر ، أو بغير ذلك .
الثاني : إنَّ فيه تفتح أبواب الجنان ، وتُغلُّ فيه الشياطين ، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «شهر رمضان ، شهرٌ مبارك ، شهرٌ فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلُّ فيه الشياطين » .
الثالث : إنَّ الله عزَّ وجلَّ في كلّ ليلةٍ من شهر رمضان عتقاء وطُلقاء من النار ، قال أبو عبدالله علیه السلام: « إنَّ لله عزَّ وجلَّ في كلّ ليلةٍ من شهر رمضان عتقاء وطلقاء ، إلا مَن أفطر على مُسْكرٍ ، فإذا كان في آخر ليلةٍ منه ، أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه » .
الرابع : وهو أهمّها أنَّ فيه ليلة القدر ، التي هي {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. ولا بأس بالتعرض لبعض ما يتعلّق بها :
الأول : لا ريب في أصل ثبوته كتاباً ، وسنّة متواترة بين الفريقين ، وإجماعاً بين المسلمين ، وإنّها باقية إلى يوم القيامة بإجماع الإماميّة . ونصوصهم المستفيضة ؛ قال أبو عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم: « لو رُفِعت ليلة القدر لَرُفِع القرآن » .
الثاني : تنزّل فيها الملائكة كتاباً وسنّة متواترة ، وتنزل بكلّ ما لله تعالى تقديرٌ بالنسبة إلى عباده من العزّة والذلّة ، والغنى ، والفقر ، والصحّة ، والسقم ، والموت ، والحياة ، والسفر … إلى غير ذلك من قضائه وتقديره بالنسبة إلى عباده ، وتنزّل التقديرات على الإمام المعصوم في كلّ زمان . فليلة القدر ، والإمام المعصوم ، والقرآن ، متلازم ، ومع رفع أحدها يرفع الآخران ، وذلك لا يكون إلا قبل قيام الساعة بزمان يسير ، قال علیه السلام : « وحينئذٍ ترفع الحجّة » ، وقال الإمام الصادق علیه السلام : «إنّ آخر من يموتُ الإمامَ » .
أقول : بدأت البشرية بالحجّة وهو آدم علیه السلام ، وتُختم بموت الحجّة ، ولا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك كلّه لئلا يكون الله على الناس حجّة ويكون الحجّة لله تعالى على الخلق .
الثالث : إنّها واحدة أو متعدّدة ؟ ليلة القضاء الحتمي الذي لا يردّ ولا يُبدّل ، والإبرام الذي لا بداء فيه واحدة لا محالة . ويمكن التعدّد بحسب مراتب التقدير ومراتب القضاء ، ولا مانع فيه ثبوتاً وإثباتاً، وبذلك يجمع بين الروايات فراجع، فإنَّ هذه المباحث لا تناسب المقام.
الخامس: ممّا أوجب زيادة الفـضل لشهر رمضان، وقـوع أعـظم الفتوحات الإسلاميّة النبويّة فيه، وهو فتح بدر يوم السابع عشر منه، الذي ضبط تفصيله في جميع التواريخ الإسلامية، إلى غير ذلك من فضائل هذا الشهر التي تعرّض لها الفريقان فيما كتبوا في هذا الشهر بالخصوص، ولنشر إلى بعض ما قلناه:
الصوم جُنّة من العذاب تقرّب من حضرة الرحيم يقرّب النفس إلى المعارف يربطها بالملكوت الأعلى ينوّر القلوب بالعرفان يُعلّمهم مراتب التنزيل ليس لأجرهم ثوابٌ محدود بل أجرهم يعطى بلا نهاية لقد تجلّى مبدء المبادئ أنفاسهم تسبيح ذات الباري لهم نشاط عند وقت الإفطار والنّور نور الله في جبينهم يخصّهم زمرة أملاك السماء فأمسكوا عن شهوات نفسكم فاستدركوا ما فات من أعماركم واغتنموا الصوم فإنّه وقاء هذا صيام هو كفّ الشهوة عن غير ذات الأحد القيّوم ولازموا أحكام ما للصائم والصومُ سلَّم إلى السلامة |
وهو نجاة نشأة الحساب تشبّهٌ بالملك الكريم يعرفه وجدان كلّ عارف بل جبروت صار منه أولى يهديهُم إلى حقائق القرآن يكشف عنهم شُبهة التأويل ولا لصبرهم جزاءٌ معدود لظاهر الحديث والرواية في مظهر الصوّام من عبادي ونومهم عبادة الجبّار وآخرٌ عند تلاقي القهّار والسّرُّ سرُّ الله في حنينهم تبرّكاً لما لديهم من دعاء حتّى توافوا نعماً من ربّكم وامتثلوا من يعرف أسراركم عن كلّ مكروهٍ يُرى يوم الجزاء فكيف صوم هو كفّ الخطرة مهيمن العظيم والديموم لتخرجوا عن رتبة البهائم في نشأة الدنيا والقيامة([1]) |
لا ريب في أنّ أقوى مراتب سلوك السالكين إلى الله جلَّت عظمته ، وأهمّ مقامات سيرهم وسفرهم ، إنّما هو السفر من الخلق إلى الحقّ ، أي : التوجّه التامّ بحيث ينقطع عمّا سواه تعالى ، وهو السير في الحقّ بالحقّ . وهذا السفر الروحاني يصحّ أن يعبّر عنه : « بأنّه سفر من المحدود من كلّ جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات ، وعطفٌ وحَنان ممّن لا حدَّ لرحمته وحنانه وعنايته إلى ما هو المحتاج على الإطلاق » .
وهذا السفر وهذه الرحمة والعطف يتحقّقان في حقيقة الدُّعاء ، مع الإيمان بالله جلَّت عظمته ، وبما جاء به نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ، لأنّ هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلّي النفس عن جميع الرذائل ، وطهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة ، والأهواء الشرّيرة ، وارتباط روحي مع عالَم الغيب .
وإن قلت : إنّها تجلّي الرحمة الرحيميّة والرحمانية بالنسبة إلى الداعين .
أو قلت : إنّها عروج النفوس المستعدّة عند الانقطاع عمّا سوى ربُّ العالمين إلى أعلى الدرجات التي أُعدّت لها ، ولذا قال تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} ([1])، وقال الإمام الصادق علیه السلام كما تقدّم : « الدُّعاء مخّ العبادة » ، ولذا كان الأنبياء والأوصياء والعلماء العارفون بالله تعالى يواظبون عليه أشدّ المواظبة في جميع أحوالهم حالاً ومقالاً([2]).
وقال رحمة الله علیه في مهذّب الأحكام :
يدلُّ على رجحان الدُّعاء الأدلة الأربعة :
فمن الكتاب : آيات منها : قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}([3]).
وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}([4]).
ومن الأخبار ، نصوص متواترة من الفريقين :
منها : صحيح ابن سنان ، عن أبي عبدالله علیه السلام:
« الدُّعاء يردّ القضاء بعدما أبرم إبراماً ، فأكثر من الدُّعاء ، فإنّه مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله عزَّ وجلَّ إلا بالدُّعاء ، وإنّه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يُفتح لصاحبه » .
وعن الإمام أبي جعفر علیه السلام: « أفضل العبادة الدُّعاء » .
وعنه علیه السلام أيضاً : « ما من شيء أفضل عند الله عزَّ وجلَّ من أن يُسئل ويطلب ممّا عنده» .
إلى غير ذلك من الأخبار التي سيأتي بعضها.
ومن الإجماع : إجماع المسلمين ، بل جميع المليّين .
وقد ورد عن أئمّتنا المعصومين علیهم السلام في الدُّعاء دعوات كثيرة ، ولهم المنّة في فتح باب المعارف الإلهية ، والارتباط مع العوالم الغيبيّة ، بالدعوات الصادرة عنهم ، صلّى الله عليهم ما دعا الله داع .
ومن العقل : حكمه الفطري برجحان الاستعانة بالعظيم ، والقدير من كلّ جهة ، في تمشية الأُمور وقضائها ، مع مكالمة الشخص مع مالك الملوك توجب نحو كمالٍ وصفاء لنفسه ، وأنّه من أعظم الارتباطات إلى عالم الغيب التي هي أجلّ مقامات الإنسانية وأعلاها ، وقد أثبت ذلك أعاظم حكماء المسلمين وغيرهم في كتبهم ، وقد كتب صدر المتألّهين قدس سره رسالة مستقلّة في ذلك ، من شاء فليراجعها ، وكذا غيره من كبار العرفاء والحكماء .
ولابدَّ من بيان أمور :
الأوّل : لا ريب في احتياج الممكن إلى الله تعالى حدوثاً وبقاءً ، وقد ثبت ذلك بالأدلّة العقلية في محلّه ، ولا تختصّ الحاجة إليه تعالى بجهة دون أخرى ، بل تعمُّ الجهات الممكنة ، لفرض الإمكان فيها ، وهو مناط الحاجة مطلقاً ، وكلّما كان الممكن أشرف ، كان احتياجه إليه عزَّ وجلَّ أكثر ، وكانت عنايته تعالى له أكثر وأشدّ ، فالإنسان محتاج إليه تعالى بجميع ما يتعلّق به من الجهات والخصوصيّات ، وعناية الله به أكثر من عنايته لسائر مخلوقاته ، وقد فتح عزَّ شأنه باب الدّعاء عليه ، ورغّب إليه لإظهار حاجاته ، وإرائة عناياته وألطافه بالنسبة إليه .
الثاني : الحاجة إليه سبحانه إمّا تكوينية غير التفاتية ، وهي عبارة عن حيثيّة الإمكان ، التي عمّت الموجودات بالسويّة ، وإمّا التفاتية ـ شخصية كانت أو نوعية ـ والدُّعاء ينفع لجميع ذلك ، كما تأتي الإشارة إلى دليله وتفصيله ، مع أنَّ في الوجدان غنى عن إقامة البرهان .
ويمكن أن يُقال : إنّ الدُّعاء في الجملة فطري ، لكلّ محتاج إلى شيء مع اعتقاده الإجمالي بقدرة الله على كلّ شيء .
الثالث : أجلّ المقامات الممكنة للإنسانية ، مقام العبودية الحقّة الواقعية الذي أتى به الأنبياء علیهم السلام لأممهم ، لاسيّما خاتمهم صلی الله علیه و آله و سلم، الذي شرحه وبسطه بما أمكنه من الشرح والتفصيل ، فقد ربط الإنسان بربّه وخالقه ومعبوده ربطاً منظماً متقناً ، والدُّعاء من إحدى طرق ذلك الربط ؛ لأنّ له أهميّة في توجيه النفس إلى المُبدأ الغنيّ المطلق ، ونحو انقطاع إليه تعالى ، وهذا التوجّه والانقطاع من طرق استكمال النفس في المعنويات ، بل من أهمّها ، ولكن له مراتب متفاوتة حسب مراتب انقطاعات الداعين وتوجّهاتهم .
الرابع : لا ريب في أنّ لكُلّ حادث من الحوادث أسباب خاصّة ، ولا يتصوّر حدوث حادث بلا سبب ، والدُّعاء من جملة أسباب حدوث المطلوب ، جعله الله تعالى سبباً عامّاً تسهيلاً على عباده ، وامتناناً عليهم ، ونسبته إلى المطلوب نسبة الدواء إلى الشفاء بأنواعه الشتّىى ، فكما أنّ لكلّ داءٍ دواء خاصّ ، وهناك دواء عام ينفع لجملة كثيرة من الأدواء ، كذلك الدُّعاء أيضاً ، كما أنّ الدواء مقتضى ، ويحتاج إلى صيرورته علّة تامّة منحصرة إلى انضمام جهات أُخرى ، يكون الدُّعاء هكذا أيضاً . وصيرورته علّة تامّة يحتاج إلى جملة أمور ، ذُكِر بعضها في الأخبار ، ولم نذكر جملة أخرى منها ، لإمكان كونها من الأسرار التي لا يمكن أن يطّلع عليها غير علام الغيوب ، والحكيم العليم لابدّ وأن يستجيب الدعاء على وفق الحكمة الواقعية ، لا على وفق ما يقتضيه الداعي ، وإن كان على خلاف الحكمة ، فإنّه نقصٌ بالنسبة إليه تعالى .
الخامس : الدعوات الصادرة عن المعصومين علیهم السلام مشتملة على أعظم المعارف الربوبية ، التي حرص الأئمّة علیهم السلام على بيانها بأسهل بيان ، وهذا أحسن تدبير في إشاعة المعارف الحقّة ، وبيانها للناس مقتبس من تدبير القرآن ، فتشتمل على التوحيد ، ونفي الشرك مطلقاً ، وبيان الصفات الثبوتية والسلبية والأسماء الحسنى ، وما يتفرّع منها ، والقضاء والقدر إلى غير ذلك من الربوبيّات ، ولعلّ هذا من إحدى جهات فضل الدُّعاء على سائر المندوبات ، كفضل علم الربوبيّات على سائر العلوم .
ومن نظر إلى دعوات الأنبياء السابقين ، كمزامير داود ، وصحف إدريس ، يجد الفرق بينهما أوسع ممّا بين السماء والأرض .
قال صدر المتألّهين في ما كتبه في الدعاء :
« الأدعية المأثورة عن أئمّتنا وسادتنا الهاشميّين الأكابر ، والمعصومين من الذُّنوب الصغائر، فضلاً عن الكبائر ، كثيرة شائعة بين جميع الأمم ، ذائعة بين طوائف العالم ، المؤالف والمخالف ، ولم يوجد مثلها في شيء من الملل والأديان ، ولم يرَ عين الأعيان نظيرها من أحد من أئمّة القرون والأزمان ، يعرف صحّة هذا الكلام المستغنى عن البيان ، ويشهد لصدق هذا الدعوى الغنية عن البرهان ، مَن تتبّع آثارهم واقتفى منازلهم » .
وقال قدس سره أيضاً : « الدُّعاء من أعظم مقامات العارفين ، وإنّه شعار الصالحين ، وأدب الأنبياء والمرسلين ، والفرقان ناطقٌ بصحّته عن الصدّيقين ، والأحاديث مشحونة بالأدعية المأثورة عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته علیهم السلام، بحيث لا مساغ للإنكار ، ولا مجال للعناد ، وإن شئت فانظر إلى الصحيفة الملكوتية المنسوبة إلى سيّد العابدين عليّ بن الحسين علیهما السلام… إلى أن قال قدس سره :
ومن فوائد الدُّعاء إظهار شعار الذلّ والإنكسار ، والإقرار بسمة العجز والافتقار، وتصحيح نسبة العبودية والانغماس في غمرات النقصان الإمكاني ، والإفلاس عن ذروة الترفّع ، والاستغناء إلى حضيض الاستكانة والفقر والفاقة .
السادس : نسبة الدُّعاء إلى الداعي كنسبة التوبة إلى التائب ، فكما أنّ توبة التائب مسبوقة بتوبة الله تعالى ، كما قال عزّ وجلّ : {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}([5]) وملحوقة بقبوله تعالى لها ، كذلك دعاء الداعي مسبوقة بعناية الله تعالى ، وتوفيقه للدُّعاء وإذنه له في قرع بابه ، والورود في ساحة جنابه ، ثمَّ بعد الدُّعاء يستجيب ، فالدُّعاء منه تعالى ، والاستجابة منه أيضاً ، وكما في سائر الخيرات، فهو الذي يُعطي ثمّ يستقرض ، بقوله : {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}([6])، ثمّ هو الذي يُثيب على ذلك ، فمنشأ كلّ خير يصدر من العبد منه عزَّ وجلَّ ، مع أنّ الإثابة على كلّ خير منه تعالى أيضاً . فلا وجه لما يتوهّم من أنّ العلّة لا يتأثّر عن المعلول ، لأنّ العلّة هو الذي شاء ذلك وأراد وحقّق مقتضاه.
السابع : لا ريب في أنّ تغيّر القضاء والقدر بإرادة الله تعالى واختياره ، كما في مقتضاتنا ومقدّراتنا ، فما لم يتحقّق مورد مشيئته وإرادته عزَّ وجلَّ في الخارج ، يكون قابلاً للتغيّر ، بل وبعد الوقوع في الخارج أيضاً في الجملة كما يأتي .
ويدلُّ عليه مضافاً إلى الوجدان ، والمستفيضة الواردة في البداء ، وإنّه يدخل في جميع أسباب الفعل ، قول الإمام الصادق علیه السلام: « إنّ الدُّعاء يردّ القضاء وقد نزل من السماء وقد أُبرم إبراماً » .
وعنه علیه السلام أيضاً : « إنّ الدُّعاء يردّ القضاء ، ينقضه كما ينقض السلك وقد أبرم إبراماً » .
وعن أبي الحسن علیه السلام : « إنّ الدُّعاء يردّ ما قد قَدُّر وما لم يقدُر .
قلت : وما قد قدّر قد عرفته ، فما لم يقدّر ؟
قال علیه السلام: حتّى لا يكون » .
أقول : يعني إنَّ الدُّعاء يزاحم جميع مراتب اسباب الفعل ، من القضاء والقدر والمشيّة وغير ذلك من الأسباب ، التي هي مذكورة في « الكافي : باب أسباب الفعل» فراجع .
وعنه علیه السلام : « إنَّ الدُّعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل » .
وبالجملة : إنَّ الدُّعاء ينفع لدفع البلاء ولرفعه أيضاً من حيث الكمّية والكيفيّة وسائر الجهات .
الثامن : المدافعة مع المكاره والمؤذيات بأيّ نحوٍ أمكن من الأُمور الفطرية ، ومكاره الإنسان وخطراته أكثر وأعظم من كلّ موجود ، لأنّه من أعجب خلق الله تعالى وأعظمه ، وقد ركّب فيه قوى كثيرة جسمانية وروحانيّة ، دنيوية وأُخروية ، فهو الهدف الوحيد لجميع مهام البلايا والرزايا ، مع أنّه معركة الجيشين العظيمين جيوش العقل وجيوش الجهل ، وقد أعيا الأنبياء علیهم السلام والأطبّاء الروحانيّين عن إطفاء هذه المعركة وإخماد نارها ولن تخمد .
ولا يجدي لدفع تلك المكاره التي حقّت بالإنسان شيء إلا الدُّعاء ، وذلك لأنّ جميع ما في عالم الشهادة منبعث من عالم الغيب ، والدُّعاء تصرّف غيبي في سلسلة علل الأشياء بأنواعها ، ولذا ترى الأنبياء والقائمين مقامهم لا يسلكون سبيلاً في قضاء حوائجهم جزئية وكلّية إلا بالدُّعاء ، فسبحان من أظهر في عالم الشهادة أموراً من عالم الغيب ، ليستكمل إيمان عباده ليسوقهم إلى الجنّة زمراً وأفواجاً .
وقال نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم:
«ألا أدلّكم على سلاح يُنجيكم من أعدائكم ، ويدرّ أرزاقكم!!
قالوا : بلى .
قال صلی الله علیه و آله و سلم : تدعون ربّكم بالليل والنّهار ، فإنَّ سلاح المؤمن الدُّعاء » .
وقال الإمام عليّ علیه السلام: « إذا اشتدّ الفزع فإلى الله المفزع » .
وقال الإمام الصادق علیه السلام: « الدُّعاء أنفذ من السّنان الحديد » .
وقال الإمام الرّضا علیه السلام: « عليکم بسلاح الأنبياء .
فقيل : ما سلاح الأنبياء ؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم: الدُّعاء» .
والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّاً من الفريقين .
التاسع : الدُّعاء ، مع أنّه مطلوب مقدمي لإنجاح الحوائج ونيل المقاصد ، مطلوب نفسي أيضاً في كلّ حينٍ وزمان ، وحال ومكان ، ولا تختصّ مطلوبيّته بحالٍ دون حال ، وأيّ مطلوب نفسي أعظم منه مع كونه من الانقطاع إلى الله ، ومظهر العبودية المحضة لله تعالى ، ويدلُّ على ما قلناه الأدلّة الأربعة :
فمن الكتاب : الإطلاقات المرغّبة إلى الدُّعاء بعباراتٍ شتّى ، كقوله تعالى : {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}([7])، وقوله تعالى في مدح أوليائه : {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}([8])، بل ذمَّ قوماً اقتصروا في دعائهم على وقت الحاجة فقط ؛ كقوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([9])، وقوله تعالى : {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}([10]).
ومن الإجماع : إجماع المسلمين .
ومن العقل : وما مرَّ من حكمه الفطري بحسن الانقطاع إلى الله تعالى مطلقاً وقبح تركه كذلك .
ومن السُنّة : أخبار مستفيضة ؛ منها قول الإمام الصادق صلی الله علیه و آله و سلم في موثّق سماعة : «من سرّه أن يُستجاب له في الشدّة ، فليكثر الدُّعاء في الرّخاء » .
وقوله علیه السلام : « من تقدّم في الدُّعاء أستجيب له إذا نزل به البلاء ، وقيل : صوتٌ معروف ولم يحجب عن السّماء ، ومن لم يتقدّم في الدُّعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء ، وقالت الملائكة : إنَّ ذا الصوت لا نعرفه » .
وعن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال :
« كان جدّي يقول : تقدّموا في الدُعاء ، فإنَّ العبد إذا كان دعّاء فنزل به البلاء فدعا ، قيل : صوتٌ معروف ، وإذا لم يكن دعّاء فنزل به البلاء فدعا ، قيل : أين كنت قبل اليوم ؟! » .
وفي خبر إسحاق بن همّار ، عن الإمام الصادق علیه السلام ، عن آبائه عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه كان يقول : « ما من أحد أُبتلي وإن عظمت بلواه أحقّ من المعافى الذي لا يأمن البلاء ».
وعن عبدالله بن ميمون ، عن الإمام الصادق ، عن أبيه علیهما السلام ، قال الفضل بن العبّاس : قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم :
« احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة » .
إلى غير ذلك من الأخبار .
العاشر : الدُّعاء في الأمور المتقوّمة بإضافتين ، إضافة إلى الدّاعي ، وإضافة إلى المدعو ، وهو بالنسبة إلى الأولى من كمالاته المعنوية أستجيب له أو لا ، لأنَّ التوجّه إلى الله تعالى ، وبثّ الحاجة إليه ، بذاته شرفٌ للنفس الإنسانية ، وقال أبو جعفر علیه السلام : « أفضل العبادة الدُّعاء » .
وبالنسبة إلى الثانية ، فهو جلال الله تعالى وقدرته لعباده ، لأنه إذا عرف الداعي أنَّ تقدير الأمور على طبق مشيئة الله تعالى ، يعترف بكمال قدرته وجلاله .
الحادي عشر : ما يُرجى فيه استجابة الدُّعاء ، إمّا من جهة الزمان ، أو المكان ، أو الفعل ، أو حالة الداعي ، أو الآداب التي لابدّ وأن يؤتى بها قبل الدُّعاء أو حينه أو بعده ، وسنشير إلى بعض ما ذكرناه في المسائل الآتية .
ثمّ إنّه قد ورد في الأخبار جمعٌ ممّن يُستجاب دعائهم وجمع ممّن لا يُستجاب لهم .
فمن الأوّل : دعاء الوالد لولده إذا برَّه ، وعليه إذا عقّه ، وكذا الوالدة ، والمظلوم على ظالمه ولمن انتصر له ، والمؤمن المحتاج لأخيه إذا وصله ، وعليه إذا قطعه مع التمكن من صلته واحتياجه إليه ، ومن لا يعتمد في حوائجه إلا إلى الله عزَّ وجلَّ ، والإمام المقسط ، والتقديم في الدُّعاء لأربعين، ومن طيب مأكله ومكسبه ، ومن اتّقى الله تعالى حقَّ تقاته .
وفي الثاني : كلّ من ترك الأسباب الظاهرية التي جعلها الله عزّ وجلّ لأمور خاصّة ، كمن ترك التكسّب وهو يقدر عليه ، وجلس في بيته ودعا لطلب الرّزق ، ومن دعى على جارٍ يؤذيه وهو يقدر على التحوّل عن جواره ، والمصرّ على المعصية ، والمحتمل لتبعات المخلوقين ، وآكل الحرام ، ومن دعى بقلبٍ قاس أو ساهٍ ، ومن دَعى وظنّه عدم الإجابة ، إلى غير ذلك ممّا هو كثير مذكور فيه وتأتي الإشارة إلى بعض أدلّتها .
ولكن مع ذلك كلّه لابدّ وأن لا يتحقّق اليأس عن رحمة الله تعالى، ولا يخفى إنَّ هذه الآداب المستفادة من الأخبار ، كلّها من باب تعدّد المطلوب لا القيديّة الحقيقيّة ، لأنَّ قدرة الله تعالى وألطافه وعناياته الخفية والجلية ، ورأفته بخلقه خصوصاً عباده غير متناهية ، وأسرار استجابة الدعوات غير معلومة لغيره تعالى ، والبداء جارٍ في الجميع ، والله تعالى هو العليم الحكيم([11]).
([1]) سورة الفرقان : الآية 77.
([2]) مواهب الرحمان : ج ۳ / ۸۱ .
([4]) سورة الفرقان : الآية 77 .
([5]) سورة التوبة : الآية 118.
([8]) سورة الأنبياء : الآية 90 .
([10]) سورة الزمر : الآية 49 .
([11]) مهذب الأحكام : ج ۷ / 13۸ ، وللتوسعة راجع : « مواهب الرحمان » : ج 3 / 63 .
الحجّ : هو القصد والسعي إلى شيء ، غلب في اصطلاح الكتاب والسُنّة على القصد إلى بيت الله تعالى لإتيان أعمال خاصّة في أوقات مخصوصة ، وينبغي تقديم أمور :
الأوّل : حسن السعي إلى معالم المعبود ومشاعره ، وإتيان مراسم العبودية فيها ، من فطريات كلّ عابد بالنسبة إلى معبوده ، ولا تختصّ بملّة دون أُخرى . والشوق إلى معالم المحبوب فطري لكلّ حبيب ، وإلا لكان في أصل الحبّ خللاً ، وتكون دعوى المحبّة باطلاً ، ولذاك كان البيت المعمور في السّماء الرابعة مزدحم بالملائكة ، بحيث كلّ من طاف حوله مرّة لا تصل إليه النوبة مرّةً أخرى إلى الأبد ، والكعبة المقدّسة مُزْدَحم طواف الملائكة والمسلمين من البشر ، يسعون إليها بولعٍ وعشق وانقطاع ، ويرون تحمّل جميع المتاعب خفيفاً ، في جنب الوصول إلى أهمّ معالم ربّهم ومشاعره ، ولا تزال في ازدياد عاماً بعد عام ، وبيت المقدس مقصد أهل الكتاب ، وهناك معالم أُخرى موجودة في ظهر الأرض يقصدها عبادها .
ولقد كان الطواف حول البيت العتيق وهذا المحلّ الرفيع قبل هبوط آدم وخلقه ، ففي الصحيح عن الإمام الصادق علیه السلام:
« لمّا أفاض آدم من منى ، تلقّته الملائكة ، فقالت : يا آدم برّ حجّك ، فإنّا قد حججنا هذا البيت قبل أن تحجّه بألفي عام » .
ولا يدري أنّ هذه الأعوام من أعوامنا التي كلّ يوم وليلة منها أربعة وعشرون ساعة ، أو من الأعوام التي كلّ يوم فيها خمسون سنة ، « وإنَّ يوماً عند ربّك خمسون سنة » ، أو من الأيّام التي هي خمسون ألف سنة ، و « إنَّ يوماً عند ربّك خمسين ألف سنة » ، وكُلُّ محتمل ، وإنْ كان المنساق هو الأوّل .
الثاني : كلّما ضبطته الكتب في فضل البيت العتيق والطواف حوله ، والوقوف في تلك المشاعر العظام ، ليس إلا كقطرة من البحر ، ولمعة من الشّمس ، وماذا يُقال في بيتٍ جعله الله مباركاً وهدىً للعالمين ، و « استعبد الله خلقه ليختبر طاعتهم في إثباته ، فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محلّ أنبيائه ، وقبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ، ومجمع العظمة والجلال ، خَلَقه الله قبل دحو الأرض بألف عام ، فأحقّ من أطيع في ما أمر وانتهى عمّا نهى عنهم » .
وماذا يُقال في بيتٍ مَنْ نظر إليه لم يزل تُكتب له حسنة ، وتُمحى عنه سيّئة ، حتّى ينصرف بصره عنه.
وماذا يُقال في بيتٍ أحد أركانه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه، وأنّه باب من أبواب الجنّة لم يغلقه الله تعالى منذ فتحه ، وأنَّ عليه ملكٌ موكّل منذ خلق الله السماوات والأرض ، ليس له عمل إلا التأمين على دعائكم ، وعنده نهر من أنهار الجنّة تلقى فيه أعمال العباد عند كلّ خمسين ، وقال نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم:
« وما أتيت الركن اليماني ، إلا وجدتُ جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه » .
وفي ركن آخر حجرٌ استودع الله تعالى فيه ميثاق عباده ، إذ أخذ ميثاقهم ، كما في قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ…} ([1]).
الثالث : تشريع الحجّ كان بعد هبوط آدم بمباشرة جبرئيل ، ففي خبر أبي إبراهيم عن أبي عبد الله علیه السلام:
« لمّا بلغ الوقت الذي يريد الله عزّ وجلّ أرسل إليه جبرئيل ، فقال : السلام عليك يا آدم ، الصابر ليلته ، التائب عن خطيئته ، إنّ الله عزّ وجلّ بعثني إليك لأعلّمك المناسك التي يريد الله أن يتوب بها عليك ، فأخذ جبرئيل علیه السلام بيد آدم علیه السلام حتّى أتى به مكان البيت ، . . .».
والأخبار في ذلك كثيرة .
وقد واظب النبيّون على الحجّ بعد أبيهم آدم ، قال أبو الحسن علیه السلام :
« إنّ سفينة نوح كانت مأمورة طافت بالبيت حتّى غرقت الأرض ثمّ أتت منى في أيّامها » .
وأمّا إبراهيم وإسماعيل ، فلقد تحمّلا المشاقّ في الحجّ وتشعير المشاعر بما ذكر في القرآن ، وفُصّل ذلك في الروايات المستفيضة بين الفريقين ، قال الإمام الصادق علیه السلام :
« أمر الله عزَّ وجلَّ إبراهيم علیه السلام أن يحجّ ويحجّ بإسماعيل معه ، فحجّا على جملٍ أحمر وما معهما إلا جبرئيل ـ والخبر طويل ـ ».
فالتشريع وقع ثانياً اهتماماً للقضية بالوحي السماوي ، وأمين الوحي ، والنبي الجليل الخليل ، وقد تقدم في طواف سفينة نوح التي كانت مأمورة.
وقال أبو جعفر علیه السلام : « حجَّ موسى بن عمران ومعه سبعون نبيّاً من بني إسرائيل، خطّم أبلهم من ليف ، يلبّون وتجيبهم الجبال ، وعلى موسى عبائتان قطوانيان يقول : لبّيك عبدك وابن عبدك » .
و« مرّ يونس بن متى بصفائح الروحاء وهو يقول : « لبّيك كشّاف الكرب العظام لبّيك » .
ومرّ عيسى بن مريم بصفائح الروحاء ، وهو يقول : « لبّيك عبدك وابن أمّتك لبّيك » .
ومرّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم بصفائح الروحاء ، وهو يقول : « لبّيك ذا المعارج لبّيك » .
وعن أبي جعفر علیه السلام : « إنّ سليمان بن داود قد حجَّ البيت في الجنّ والإنس ، والطير والرّياح وكسى البيت القباطي » .
وعنه علیه السلام أيضاً : « صلّى في مسجد الخيف سبعمائة نبي ، وأنّ ما بين الركن والمقام لمشحون بقبور الأنبياء » .
فيُرجى من المسلمين الاهتمام بهذا الأمر العظيم ، الذي اهتمّ به جميع الأنبياء والمرسلين . وقد أفرد المحدّثون والمؤرّخون من المسلمين ما يتعلّق بحجّ خاتم النبيّين مؤلّفات وأبواب مستقلّة .
والمستفاد من مجموع الأخبار المستفيضة في الحجّ أنّ تشريعه وقع ثلاث مرّات :
الأول : بعد هبوط آدم .
والثاني : في زمان النبيّ الجليل إبراهيم الخليل .
والثالث : بعد بعثة نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ، ولا اختلاف بينها . نعم ، تشريع حجّ التمتّع وقع في حجّة الوداع .
ولم يفصل أحكام الحجّ والعمرة من نبيّ ولا وصي نبيّ ، كما فصّله خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبو عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام ، حتّى قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الحنفية : « لولا جعفر بن محمّد علیه السلام ما علم الناس مناسك حجّهم».
وقد بذل الفقهاء ـ رفع الله شأنهم ـ كمال جهدهم في تفريعات الأحكام بحسب الأدلّة الواصلة إليهم ، والقواعد المعتبرة لديهم ، ومع ذلك كلّ سنة ترد فروع محدثة ، ليس لها في كتب فقه الفريقين ذكر ولا أثر ، وكيف لا يكون كذلك ، فقد ورد في صحيح زرارة :
« قلت لأبي عبدالله علیه السلام : جعلني الله فداك! أسألك في الحجّ منذ أربعين عاماً فتفتيني.
فقال علیه السلام : يا زرارة بيتٌ حجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً » .
وقال في الجواهر : « كما إنّه ينبغي التفقّه في الحجّ ، فإنّه كثير الأجزاء ، جمّ المطالب ، وافر المقاصد ، وهو مع ذلك غير مأنوس وغير متكرّر ، وأكثر الناس يأتونه على ضجر وملالة سفر ، وضيق وقت وانشغال قلب ، مع أنّ الناس لا يحسنون العبادات المتكرّرة اليومية مثل الطهارة والصلاة مع الفهم لها ومداومتهم عليها ، وكثرة العارفين بها ، حتّى أنّ الرجل منهم يمضي عليه الخمسون سنة والأكثر ، ولا يحسن الوضوء ، فضلاً عن الصلاة ، فكيف بالحجّ الذي هو عبادة غير مألوفة ، لا عهد للمكلّف بها مع كثرة مسائلها وتشعّب أحكامها وأطولها ذيلاً » .
الرابع : إنّ سفر الحجّ ـ كما هو من الأسفار الجسمانية ـ سفر روحاني أيضاً ، لأنّه الوفود إلى الله عزّ وجلّ ، والتشرّف ببيته تعالى ، ومشاعره العظام ، والاستفادة من الإفاضات المعنوية المفاضة من ربّ العالمين ، على الواقفين في تلك المواقف المباركة ، والطائفين حول الكعبة المقدّسة ، وقد وردت في الشريعة المقدّسة آداب كثيرة لمطلق السفر من جميع الجهات المتعلّقة به ، لعلّنا نشير إلى بعضها في آخر الكتاب .
ولابدّ في سفر الحجّ من ملاحظة الآداب الروحانية أيضاً ، إذ السفر سفر روحاني ، وأهمّ الأمور في هذا السفر التوبة عن المعاصي قبله وحين التلبّس به ، وملازمة الهدوء والوقار والسكينة ، والاهتمام بالواجبات وترك المحرّمات ، والانقلاع عن المعاصي والعلائق ، والانقطاع إلى ربّ الخلائق ، والتخلّق بأخلاق الله تعالى ، وهذه هي الهدية التي يهدي بها إلى الله تعالى ، ليست الهدية أنعام تُراق دمائها في منى وفي حريم حرّم الله عزَّ وجلَّ، لتصريحه تعالى بأنّها لا اعتبار بها ، فقال عزَّ وجلَّ : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}([2]). والتلبّس بمخالفة المحبوب عند زيارته ، والورود إلى بيته ، ممّا ينكره كلّ ذي شعور ، فإذا كانت القلوب محجوبة عن الله تعالى ، لأجل النفاق والشقاق والمعاصي ، فكيف يُطاف بها حول البيت ، وتوقف بها في المواقف ، فعن أئمّة الدّين : « من حَجّ بمالٍ حرام نُودي عند التلبية لا لبّيك عبدي ولا سعديك » .
الخامس : من أعظم مظاهر عزّ الربوبية وذلّ العبودية ، الذي لا يتصوّر أعظم منه أبداًا ، إنّما هو الحشر الأكبر الذي يعمُّ جميع الأنبياء وأممهم ، وقد تحيّر عقول الحكماء العارفين في خصوصيّات هذا العالم العظيم ، وأُشير إلى بعض جهاتها في القرآن الكريم ، وجعل الحجّ نموذجاً لذلك ، وقد سمّي الحجّ بالحشر الأصغر ، وكتب العلماء مسائل في وجوه المطابقة بين الحشرين ـ من الفقهاء والعرفاء ـ فأحسنوا وأجادوا رضوان الله عليهم أجمعين ، وقد استفادوا ذلك ما شرحه أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة في خطبته التي هي من جلائل خطبه الشريفة وقد ذكر فيها أسرار الحجّ ومن أهمّها تذكر الحشر الأكبر الذي يرد على جميع أفراد البشر ، فيتذكّر مِنْ خلع الثياب ، ولبس ثياب الإحرام ، والوقوف في موقف واحد ، والتوشّح بالأكفان ، والحشر في صعيد واحد ، ومن السعي والطواف اضطراب الناس في المحشر ، فيطلبون ملجأ وملاذاً ، إلى غير ذلك ممّا يتوجّه إليه العاقل الملتفت ، إلى الأهوال التي ترد عليه في المحشر .
ثمّ إنَّ من أهم الأمور النوعية التي لابدّ للحجّاج من مراعاتها ، إظهار محاسن الآداب ، ومكارم الأخلاق ، وليس المراد بذلك كفّ الأذى عن الناس فقط ، بل المراد هو تحمّل الأذى حتّى يصير جميع أهل الجمع كنفسٍ واحدة ، ومن أهمّها أيضاً سعي الناس لقضاء الحوائج بعضهم عن بعض ، فإنَّ لذلك فضلٌ عظيم في هذا الجمع ، فعن الخثعمي :
« قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إمّا إذا قدمنا مكّة ذهب أصحابي يطوفون ويتركوني أحفظ متاعهم .
قال علیه السلام: أنت أعظم أجراً » .
وقال علیه السلام أيضاً : من أماط أذىً عن طريق مكّة كتب الله له حسنة ، ومن كتب له حسنة لم يعذّبه » .
إلى غير ذلك ممّا يحتاج شرحه إلى وضع كتابٍ مستقلّ([3]).
وقال رحمة الله علیه في التفسير :
« تقدم في أحد المباحث السابقة ، أنّ الطاعات والعبادات في الإسلام إنّما هي ألطاف إلهية ، لتكميل النفوس المستعدّة ، والوصول إلى الغاية المتوخّاة من خلق الإنسان ، فبالعبادة ينال الإنسان مقام العبودية ، التي هي مجمع الكمالات الإنسانية ، وبها يصل إلى درجة الخلّة الحقيقيّة ، وبها يتقرّب العبد إلى خالقه ، ويصل إلى ساحة قدسه ، وبها تتخلّى النفس من الرذائل ، وتتحلّى بالفضائل ، وتتخلّق بالأخلاق الإلهيّة ، لتتجلّى أنوار الغيب على القلوب ، وتفوز بالسعادة التي هي فوق كلّ مطلوب ، وبها ينال العبد مرتبتي الفناء في الله تعالى ، والبقاء به عزَّ وجلَّ . كُلّ ذلك إذا أتى العبد بها على وجهها المطلوب .
ومن العبادات في الإسلام ، الحجّ الذي هو السفر إلى الله تعالى ، للوقوف بين يديّ عظمته ، والدخول في ضيافته ، في بيته وحرمه الذي جعله من أبواب رحمته فمن دخله كان من الآمنين .
وهو سَفَر يتضمن كثيراً من الأسرار ، التي لا يطّلع عليها إلا من خلع عن نفسه الأغيار ، ودخل في حريم كبرياء الجبّار .
وهو السَّفر الذي تتحقق فيه الأسفار الأربعة ، التي تكون للسُّلّاك من العرفاء ، ولا ينال العبد ما في هذا السفر ، ولا يصل إلى الوجه المطلوب ، إلا إذا كان ملتفتاً إلى سَفَره : مبدئه وغايته ، ومتوجّهاً إلى كُلّ جليل ودقيق في الحركات والأفعال ، بل حتّى الخطرات ، فإنّ المقام جليل ، والمطلب خطير ، ولا يناله إلا من كان بانياً على التكميل ، لأنّ أصل تشريع هذا السفَر إنّما هو لتحريك النفس الإنسانية إلى المشاعر الربوبيّة ، والانتقال منها إلى المنازل المعنوية ، والتوجّه فيها إلى المعارف الإلهية ، وتحلّي النفس بأخلاق الله تعالى ، فتصير الدُّنيا والآخرة عنده كمرآتين متقابلتين ، تحكي إحداهما عن الأخرى ، على نحو النقص والتمام ، اللذين هما من خصوصيّات الذات والزمان ، لا من جهات أخرى .
وفي هذا السفر منازل ومقامات ، لا يمكن الوصول إليها إلا بعد طيّها ، والخروج منها على الوجه المطلوب ، ونبذ ما هو المعتاد والمألوف ، فإنّ الشيطان حريص على الغواية والتضليل .
وأوّل تلك المنازل ، حمل الزاد وتهيئة المركب ، كما في سائر الأسفار الدنيوية ؛ فإنّ أوّل ما يفعله المسافر حمل الزّاد ، ومعرفة أمن الطريق ، وتوثيق الصلة مع أرباب النواحي ، وتثبيت الارتباط مع مدبّر كلّ بلد ومدبّره ليأمن كيدهم ، وكُلّ ما عظم السَّفَر اشتدّت الحاجة إلى الزّاد .
والسفَر إلى الحجّ سفر إلى الله تعالى ، فلابدّ من الاهتمام بما يأخذه من الزّاد ، وقد أخبرنا الله عزّ وجلّ أنّ التقوى هي خير الزّاد ، فإنّها من أعظم السُّبل في توثيق الصلة والارتباط مع مالك المُلك ، ومُدبّر الأمور ، وهي مالكية أزمّة الآخرة ، ويتبعها مالكية أزمّة الدنيا ، فإنّها تبعُ الآخرة ، فإنّ للدُّنيا جهتين :
الأصالة : لكونها محلٌ العمل ، فلولا الدُّنيا لما كان عملُ ولا عامل ، ولا تكليف ولا جزاء .
وجهة التبعية : لكونها مزرعة الآخرة . فلولا الآخرة لما خُلقت الدنيا ، فبالتقوى ينال محبّة الله تعالى ، وبها يمتطي صهوة النفس الأمّارة ويأخذ بزمامها . وهي مفتاح كلّ خير وصلاح .
ومن منازل هذا السفر الخطير ، الإعراض عمّا سواه عزّ وجلّ، والابتعاد عن الأغيار ، لأنّه السَّفَر إلى الله ، والسير إلى حريم كبريائه عزَّ وجلَّ ، فلابُدَّ أن يكون حجّه وعمرته الله ربّ العالمين .
ومن منازله أيضاً البناء والعزم على إتيان العمل جامعاً للشرائط ، وأن لا يقدم عليه إلا وهو مطمئنّ النفس على إتمامها ، فإنَّ قطع العمل والرجوع عن السَّير بعد التلبُّس به ممّا لا يليق بمقام العبودية ، بل قد يوجب الحرمان كما هو معروف لدى أهل العرفان .
ثمّ يحرم عند الوصول إلى الميقات ، وهو أوّل المقامات ، فيحرم النفس المشتهيات ، ويوقفها عن كافّة الشهوات ، ويطرح عنها كلّ مشتبه وحرام عند خلعه الثياب عن الأبدان .
ويتهيأ للدخول في الحرم الإلهي ، والورود في ضيافة الرّحمن ، ولابدَّ أن يلاحظ أنّه في المأمن الإلهي ، وهو من أهمّ ما يبتغيه أهل السَّير والسلوك في الله تعالى ، فيجب أن يكون السعي والعمل متّفقين مع الإرادة القلبية ، وكلاهما لله تعالى فترتفع الأغيار ، وتزول الحُجب والأستار .
ثمّ الطواف بالبيت رمز العشق بالله عزَّ وجلَّ ، وهو جذبٌ روحي، وإظهار للعبودية ، فلابدّ وأن يكثر من ذلك ، كالمحبّ الذي تيَّمه الحبّ وذلّله وهو يطوف حول بيت الحبيب ، وقد علا صوته بالبكاء والنحيب ، لعلّه يلقاه أو يُجيب ، وفي الطواف حِكَمٌ وإشاراتٌ منها التردّد في محالّ القدس، والإعلام بأنّ الطالب للحبيب لابدّ من الفناء فيه ليفوز بلقياه ونيل إفاضاته .
والصلاة في المقام ، إشارة إلى التشبّه بخليل الرّحمن ، في تركه طاعة الشيطان .
وفي السّعي بين الصّفا والمروة ، انقطاعٌ إلى ربّ الخلائق ، وإبراز التحيُّر في ذاته المقدّسة ، وإظهار العشق له ، ونبذ كلّ صنم ووئن ومعبود سواه .
والوقوف بالمشاعر العظام ، إنّما هو تذكير بالوقوف بين يدي الله تعالى في عرصات يوم القيامة ، وإبراز الخضوع والخشوع لعظمته تعالى ، وإظهار التذلُّل والعبودية لساحة قدسه ، فلابدّ وأن يكون على سكينة ووقار ، طالباً مغفرته ورضوانه ، فإنَّ تلك المشاعر العظام ، ليست إلا من مظاهر التوحيد وإلقاء الشرك والكفر . والوقوف فيها مع ما فيها من الزحام ، إراءة نموذج ما يكون في طريق المصير إليه تعالى ، وظهور الحقّ وفناء التكثّرات فيه .
والإفاضة منها مع ضجيج الحجيج ، والنداء والعجيج ، وهم يفيضون من كلّ حَدَبٍ وصوب ، قد تخلّوا عن الأهل والأوطان ، وهم ضيوف جنابه يريدون ساحة قدسه ، قد تلقّاهم الربُّ الرحيم بكلّ حنان ورأفة ، وعناية ورحمة ، وهو الربُّ الرحيم ، قد وعدهم أن يزيل عنهم كُلَّ أهوال المحشر، فكان هو المبدأ والمنتهى ، وتجلّت الإفاضة منه وإليه .
وفي رمي الجمرات ، استعداد الإنسان للابتعاد عن الشيطان، والإعراض عن الخطيئات والسيئات .
وفي إفناء حياة الهَدْي بالذبح ، إشارةٌ إلى إفناء النفس الأمّارة بعد الإهلال ، وإظهار التقصير والعجز ، وكناية عن طرح كلّ رذيلة عن النفس، والمجاهدة معها في كلّ حقيرٍ وكبير .
والرجوع من الحرم إلى الأهل ، يعتبر رجوعاً لتكميل معارف الدّين، وأحكام شريعة سيّد المرسلين ، فيتجلّى في هذا السفر كُلّ ما يبتغيه أهل العرفان .
ولابد أن يكون في جميع الأحوال مولعاً بذكر الحبيب ، طالباً منه مغفرته ورضوانه ، فإنَّ الحبيب لا ينفكّ عن البكاء والنحيب ، إذا صدَّ عن حبيبه وطرد عن بابه .
ملأت به سمعي وقلبي وناظري | وكُلّي وأجزائي ، فأين يغيبُ |
هذه نبذة يسيرة ممّا لابدّ أن يعمله السائر في هذا الطريق ، فإنَّ في الحجّ قد اجتمعت قواعد السير والسلوك المتّبعة في تهذيب النفس .
وفي الحجّ تتجلّى المشارقات الربوبية على الروح الإنساني ، فكم من عناية إلهية تُفاض على أهل عرفات ؟!!
وكم من شروق غيبيّ يشرق على النفوس المستعدّة في المشعر الحرام ؟!!
وكم من تجلّيات ربوبية تظهر للذوات القابلة في الرّكن والمقام!!
وكم من نفس تلوّثت بالذّنوب والآثام تُطهّر عند إراقة الدّماء في مني!!
وكم من ذنوب يحطّمها الربُّ العظيم عند الحطيم!!
وكم من خطايا يغفرها الرَّبُّ الغفور الرّحيم عند التعوّذ بالملتزم والمستجار!!
وكم من نفس تصل إلى مُناها عند الوصول إلى مِنى!!
وكم من عناية ولطف تظهران لعبده عن استلام الرُّكن ، الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده!! ([4]).
([1]) سورة الأعراف : الآية 172 .
ويمكن إثبات رجحان زيارة قبور الصلحاء والأبرار ، والمتّقين الأخيار ، بالأدلّة الأربعة ، فضلاً عن زيارة الأنبياء ، والأوصياء المعصومين ، والعلماء العاملين .
أمّا من الكتاب : فبالآيات المرغّبة إلى التفكّر في الآخرة ، والدالّة على فناء الدُّنيا ، وأنّها لهوٌ ولعب ، وهي كثيرة ، ولا ريب في أنّ زيارة القبور من أهمّ موجبات ذلك ، فتكون راجحة لذلك .
وأمّا من العقل : فلا شبهة عند كلّ عاقل أنّ أهل السعادة والأبرار ، ممّن يتبرّك الناس بهم في حياتهم ، وتلك البركات لا تنقطع بموتهم ، بل تزداد لورودهم إلى معدن الخيرات والبركات ، وانقطاع نفوسهم الشريفة عن عالم المادّيات والشهوات ، والعقل يحكم بحسن التماس تلك البركات ، والسعي في عدم الحرمان عنها ، بل زيارة قبور مطلق المؤمنين نحو تودّدٍ وتحبّب بالنسبة إليهم ، وهو ممّا يوجب الثواب العظيم ، كما في زمان حياتهم ، فتكون حسنة ، ولابُدَّ من دركها والاهتمام بعدم فوتها ، بل هو نحوٌ من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض حيّاً وميّتاً ، لابدّ من إعمالها ، والقيام بدرك مصالحها .
وأمّا من الإجماع : فإجماع جميع المسلمين بل العقلاء ، من جميع المسلمين على رجحان زيارة قبور أهل الإيمان والصلاح في كلّ ملّة ، فضلاً عن الأنبياء والمعصومين ، والشهداء والعلماء العاملين والمتّقين ، ولم يخالف في ذلك إلا بعض من انتحل الإسلام ، وقد تصدّى لردّه علماء الفريقين ، ومن شاء فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك ، كالغدير للعلامة الأميني رحمة الله علیه ، وقد روى الفريقان عن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال : « نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها » . أو قوله صلی الله علیه و آله و سلم: « من أراد أن يزور فليزر » وهذا الخبر مذكور في أبواب الذبائح من الحجّ ، وفي أبواب الجنائز من كتب الفريقين .
وأمّا من السنة: فهي مستفيضة ، بل متواترة بالنسبة إلى زيارة خاتم النبيّين صلی الله علیه و آله و سلم، قال صلی الله علیه و آله و سلم :
« من زارني أو زار أحداً من ذرّيتي زرته يوم القيامة فأنقذته من أهوالها » .
وقال صلی الله علیه و آله و سلم لعلي علیه السلام: « يا عليّ مَن زارني في حياتي أو بعد موتي ، أو زارك في حياتك أو بعد موتك ، أو زار ابنيك في حياتهما أو بعد مماتهما ، ضَمِنْتُ له يوم القيامة أن أُخلّصه من أهوالها وشدائدها ، حتّى أصيّره معي في درجتي » .
وقال صلی الله علیه و آله و سلم للحسن علیه السلام: « مَنْ زارني حيّاً أو ميّتاً ، أو زار أباك حيّاً أو ميّتاً ، أو زار أخاك حيّاً وميّتاً ، كان حقّاً عليَّ أن أستنقذه يوم القيامة » .
وقال صلی الله علیه و آله و سلم للحسين علیه السلام: « يا بُني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة ، ومَن أتى أباك زائراً بعد مو ابعد موته فله الجنّة ، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومَن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة » .
إلى غير ذلك من النصوص .
وعن العامّة بطرقٍ شتّى عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم : « مَن حجَّ فلم يزرني فقد جفاني » .
فائدة : لا يخفى أنّ شرف الزيارة وكمالها وثوابها ، يدور مدار شرف المزور وكماله وقربه عند الله تعالى ، فكلّ ما كان قربه إلى الله تعالى واتّصاله بالعوالم الغيبيّة أقوى وأكمل ، تكون كذلك مرتبة زيارته ، حتّى تكون زيارته كزيارة الله تعالى ، تنزيلاً تشريفيّاً لا حقيقيّاً ، حتّى يُقال إنّه محال بالنسبة إليه عزَّ وجلَّ([1]).
دعاءٌ ومسألةٌ من الله تعالى ، وإيكالُ الأمر إلى علمه ومشيئته ، وإظهار ذلّ العبودية لدى حضرة المعبود ، وتسليم الأمور إلى القهّار على طبق أحسن الحكمة وأتمّ النظام ، فالاستخارة بهذا المعنى نحو توحيدٍ فعليّ وإظهار عملي لمعنى « إنّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين الأمرين » .
فإنَّ الروح عند الحيرة تتوجّه إلى عالمها الذي نزل منه ، لعلّه يستفيد منه شيئاً ، فإن كان موحّداً يلزمها التوجّه إلى الله تعالى ، وإلا فتقف في الغيب الممكن ، ولا يمكنه التوجّه إلى الغيب الواجب بالذات لقصور ذاته عن ذلك .
ومنه يُعرف أنّ الاستخارة لا اختصاص لها بمذهب الإسلام ، بل كلّ من يعترف بالله تعالى ، له طريقٌ في رفع حيرته وجلب الخير ودفع الشر ، ومثلها في ذلك مثل الصدقة والمشورة الجارية بين البشر ، فكلّ مَنْ يعتقد بعالم غيب في الجملة ، يكون له توجّهات إلى ما يعتقد به عند التحيّر والضرورة ، سواء كان موحّداً أو لا ، والكلّ جائز للأصل ، ما لم يرد نهي في الشرع ، لفرض أنّهم يستندون وصول الخير ودفع الشرّ إلى الله تعالى ، فلا موضوعية لهذا السبب الذي جعلوه سبباً .
ولم أظفر على نهي إلا ما في خبر الحميري ، عن الحجة علیه السلام :
« عن الرجل تعرض له الحاجّة ممّا لا يدري أن يفعلها أم لا ، فيأخذ خاتمين فيكتب في أحدهما : نعم أفعل ، وفي الآخر : لا تفعل ، فيستخير الله مراراً ثمّ يرى فيهما فيخرج أحدهما فيعمل بما يخرج ، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ والعامل به والتارك له ، أهو يجوز مثل الاستخارة أم هو سوى ذلك ؟
فأجاب علیه السلام : الذي سنّه العالم علیه السلام ، وهذه الاستخارة بالرّقاع والصلاة » .
وهو مضافاً إلى قصور سنده مجملٌ دلالته أيضاً ، وغايته الدلالة على أفضلية الاستخارة بالرّقاع والصّلاة ، ولا يدلُّ على مرجوحيّة غيرهما ، ولعلَّ السرّ في الحديث أنَّ الخاتم كان يُلعب به أحياناً ، فلا ينبغي أن يقع به الاستخارة .
ويدلُّ على استحباب الاستخارة ـ مضافاً إلى ما ذكرناه ـ الأخبار الكثيرة الدالّة على الترغيب إلى الاستخارة ، وهي على أقسام :
القسم الأول : المطلقات ، وهي كثيرة ، كقول الإمام الصادق علیه السلام في خبر هارون بن خارجة : « من استخار الله راضياً بما صنع خار الله له حتماً » .
وفي خبر عمرو بن حُريث ، عن أبي عبدالله علیه السلام :
« فوالله ما استخار الله مسلمٌ إلا خار له البتة » .
وفي وصيّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعلي علیه السلام :
« يا عليّ ما حار من استخار ، ولا ندم من استشار » .
وفي خبر ابن مضارب ، عن أبي عبدالله علیه السلام :
« من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتلى لم يُؤجر » .
وعنه علیه السلام أيضاً قال الله عزَّ وجلَّ : « من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني » .
وعنه علیه السلام: « كُنّا نتعلم الاستخارة كما نتعلَّم السورة من القرآن ».
ثم قال علیه السلام : « ما أُبالي إذا استخرت على أيّ جنبي وقعت » .
القسم الثاني : الاستخارة بالصلاة ، وهي أيضا كثيرة، منها : خبر عمرو بن حُريث ، عن أبي عبد الله علیه السلام:
«صلّ ركعتين واستخر الله ، فوالله ما استخار الله مسلم إلا خار له البتّة » .
وخبر جابر ، عن أبي جعفر علیه السلام : « كان عليّ بن الحسين علیهما السلام إذا همَّ بأمرٍ حجّ وعمرة أو بيع أو شراء أو عتق تطهّر ثمّ صلى ركعتي الاستخارة » .
وعن عليّ بن أسباط :
« قلت لأبي الحسن الرّضا علیه السلام : جُعلت فداك ما ترى آخذ براً أو بحراً فإنَّ طريقنا مخوف شديد الخطر ؟
فقال علیه السلام: اخرج برّاً ، ولا عليك أن تأتي مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتُصلّي ركعتي في غير وقت فريضة ، ثمّ تستخير الله » .
القسم الثالث : الاستخارة بالرّقاع ، ففي خبر هارون بن خارجة ، عن أبي عبدالله علیه السلام :
« إذا أردت أمراً فخذ ستّ رقاع فاكتب في ثلاث منها « بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلانة إفعل » ، وفي ثلاث منها : « بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان ابن فلانة لا تفعل » ، ثمّ ضعهما تحت مُصلّاك ، ثمّ صلِّ ركعتين فإذا فرغت فاسجد سجدة وقل فيها مائة مرّة : « أستخير الله برحمته خِيرَةً في عافية » ، ثمَّ استو جالساً ، وقل : « اللهمَّ خر لي واختر لي في جميع أُموري في يُسرٍ منك وعافية » ، ثمّ اضرب بيدك إلى الرّقاع فشوشها ، وأخرج واحدة واحدة ، فإن خرج ثلاث متواليات إفعل ، فافعل الأمر الذي تريده ، وإن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله ، وإن خرجت واحدة إفعل والأخرى لا تفعل ، فأخرج من الرّقاع إلى خمس فانظر أكثرها فاعمل به ، ودع السادسة لا تحتاج إليها » .
وإليها يرجع الأخبار الواردة في الاستخارة بالبنادق التي جمعها المجلسي قدس سره في البحار ، فراجع .
القسم الرابع : الاستخارة بالحَصى والسّبحة ، ففي مرسل ابن طاووس عن الإمام الصادق علیه السلام :
« من أراد أن يستخير الله تعالى ، فليقرأ الحمد عشر مرّات ….
إلى أن قال علیه السلام: ثمّ تأخذ كفّاً من الحصى أو سبحة ، ويكون قد قصد بقلبه إن خرج عدد الحصى والسبحة فرداً كان افعل ، وإن خرج زوجاً كان لا تفعل » .
القسم الخامس : بالدُّعاء ، والأخبار الواردة في هذا القسم كثيرة جدّاً ، فراجع مجامع الأخبار ، كالبحار وغيره . ويمكن أن يرجع إليها ما ورد من « أنَّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم کان يعلّم أصحابه الاستخارة ، كما يعلّمهم السورة من القرآن » .
القسم السادس : الاستخارة بالقرآن ، ففي خبر القمّي :
« قلت لأبي عبد الله علیه السلام: أريد الشيء فأستخير الله فيه فلا يوفّق فيه الرأي أفعله أو أدعه ؟
فقال علیه السلام: أنظر إذا قمت إلى الصلاة ، فإنَّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة أيّ شيء يقع في قلبك فخُذ به ، وافتتح المصحف فانظر إلى أوّل ما ترى فيه فخُذ به إن شاء الله ».
القسم السابع : الاستخارة بمشورة النّاس ، لقول الإمام الصادق علیه السلام ـ في خبر هارون بن خارجة ـ :
« إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتّى يبدأ فيشاور الله تبارك وتعالى .
قال: قلت : جُعلت فداك وما مشاورة الله ؟
قال علیه السلام: تبتدأ فتستخير الله فيه أوّلاً ، ثمّ تشاور فيه ، فإنّه إذا بدأ بالله أجرى له الخيرة على لسان من يشاء من الخلق » .
القسم الثامن : الاستخارة لحدوث العزم له على ما كان متحيّراً فيه ، فعن ابن فضّال :
« سأل الحسن بن الجهم أبا الحسن علیه السلام لابن أسباط ، فقال : ما ترى له ـ وابن أسباط حاضر ـ ونحن جميعاً نركب البحر أو البر إلى مصر ، وأخبره بخبر طريق البر .
فقال علیه السلام: البر ، وائت المسجد في غير وقت صلاة الفريضة ، فصلِّ ركعتين فاستخر الله مائة مرّة ، ثمّ انظر أيّ شيء يقع في قلبك فاعمل به » .
ويمكن تقليل هذه الأقسام بالأخذ بالجامع القريب بينها ، كما لا يخفى.
والظاهر أنّ ما ذُكر في هذه الأخبار من السبحة والحصى والمشورة ، وحدوث العزم وغيرهما ممّا مرَّ من باب الغالب والمثال لا الخصوصيّة ، ومقتضى الأصل جواز استكشاف خيرة الله تعالى بكُلِّ حبِّه أمكن ذلك ، ما لم يكن فيه نهيٌ شرعيّ ، أو عنوانٌ محرمٌ أو مكروه ، إذ لا دليل على حرمة استكشاف الغيب بلا جزم ويقين، بل بطريق الرجاء ، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحبّ الفأل ويكره الطيرة .
وقال صاحب الجواهر في کتاب البيع :
« ولعلَّ ذلك كلّه من فضل الله على عباده ، وهدايته لهم بنحو ما جاء عنهم في الرقي ، لأنّها تدفع القدر ، فقال : إنّها من القدر ، وإنَّ هذا الباب بابٌ عظيم ليس المقام مقام ذكره ، خصوصاً ما يتعلّق بالحروف والطلسمات وخواصّ الحروف ، وبعض الأشياء وغيرها » .
وعليه فيجوز أن يجعل كلّ شيء مباح طريق للاستكشاف بعد الدُّعاء والتوجّه، فإنّ ظهور الأخبار في أنّ جميع ذلك من طرق الاستكشاف ممّا لا يُنكر . وبناء الفقهاء على أنّ القيود الواردة في المندوبات إنّما هو من باب تعدّد المطلوب، ولكن الأولى على ما ورد في الأخبار ، وما عليه سيرة العلماء الأبرار .
ثمّ إنَّ الظاهر أنّ الدعوات الواردة في الأخبار من باب الأفضلية ، فيجزى بكلّ دعاء يشتمل على الثناء على الله تعالى وطلب الخير منه عزَّ وجلَّ وإيكال الأمر إليه، والصلاة على محمّد وآل محمّد بأيّ وجهٍ كان ذلك ، كما أنّ الظاهر أنّ عدد مائة مرّة في ذكر أستخير الله ، أو سبع مرّات ، أو ثلاث مرّات وغيرها من الأعداد من باب الأفضلية ، فيجزي غيرها .
ثمّ إنّه من الاستخارات ما تسمّى بالجلالة على التفصيل المذكور في البحار ، وقيل إنّها مجرّبة .
وما يُنسب إلى الحجّة عجّل الله فرجه : « تقرأ الفاتحة عشر مرّات وأقلّه ثلاثة ودونه مرّة ، ثمّ تقرأ القدر عشراً ثمّ تقول هذا الدّعاء ثلاثاً : « اللّهمَّ إنّي أستخيرك لعلمك بعاقبة الأمور ، وأستشيرك لحسن ظنّي بك في المأمول والمحذور ، اللهمَّ إن كان الأمر الفلاني ممّا قد نيطت بالبركة إعجازه وبواديه ، وحقّت بالكرامة أيّامه ولياليه ، فخر لي اللهمَّ لي فيه خيرةً ترد شموسه ذلولاً ، وتقعض أيّامه سروراً ، اللهمَّ إمّا أمر فأيتمر وإمّا نهيٌ فانتهي ، اللهمَّ إنّي أستخيرك برحمتك خيرةً في عافية ، ثمّ تقبض على قطعة من السبحة تضمر ، فإنْ كان عدد القطعة زوجاً فهو إفعل ، وإن كان فرداً لا تفعل أو بالعكس » .
ولنا استخارة أخذناها عن بعض مشايخنا قدس سره وقال : إنّها مجرّبة ، وهي أن يقرأ التوحيد مرّة واحدة ، وتقول : « يا أبصر الناظرين ، ويا أسمع السامعين ، ويا أسرع الحاسبين ، ويا أرحم الراحمين ، صل على محمّدٍ وآله » ثمّ يؤخذ قبضة من السبحة، وتعدّ زوج ويقول : إفعل ، ثمّ يعدّ زوج آخر ويقول : لا تفعل ، فإن بقي في الآخر زوج إفعل فحسنٌ جدّاً ، وإن بقي زوج لا تفعل فهو ترك ، وإن بقي واحد إفعل فيكون فعله أرجح من تركه ، وإن بقي واحد لا تفعل يكون تركه أرجح من فعله .
وهذه كلّها من طرق الجعل والمواضعة ، ويجوز أن يجعل طريقة أخرى غير ما ذكرناه([1]).
:الاسم الأعظم
وفي تعليقة له رحمة الله علیه على ما روي أنّ علياً علیه السلام قال : « يا مَن هو يا من ليس هو إلا هو » ، وعرض ذلك على سيّد الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم فقال لعلي: « علمت الاسم الأعظم».
قال قدس سره : « نعم هو اسم أعظم لمن انقطع إليه تعالى كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذٍ حقيقة أنّه ليس هو إلا هو »([2]).
وفي تعليقة له على رواية ابن عبّاس ، عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال : « اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب في هذه الآية ـ آية الملك » .
قال قدس سره : « المراد من كون الاسم الأعظم في هذه الآية الشريفة ، إمّا الاسم الأعظم الحالي لمن حصل له حالة خاصّة ، أو المقالي لكن مع شروط خاصّة لابدّ منها » .
ثمّ قال : عن بعض الأعاظم أنّ من قرأ هذه الآية وبعد تمامها ، قال : يا رحمان الدُّنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما ما تشاء وتمنع منهما ما تشاء ، أقض عنّي ديني » يقضي عنه دينه ، وقد جرّب ذلك بعض ، والله العالم »([3]).
([1]) مهذب الأحكام : ج 9 / 105 .
ثمّ إنَّ خلق الدُّنيا بما فيها من الأرض ، والجبال ، والبحار ، والمعادن إلى غير ذلك ممّا لا يمكن تحديد منابع منافعها بحدّ معيّن:
إمّا أن يكون من مجرّد العبث .
أو لأجل أن ترعى فيها الأنعام ، والبهائم ، والوحوش فقط .
أو لأجل أن يسيطر عليها أناس ، ويحكموا فيها بأوهامهم التي لا واقعية لها ، ويظهر خلافها عندهم بعد مضيّ زمنٍ يسير .
أو يكون خلق الدُّنيا لأجل الحقّ والحقيقة ، وعباد الله الذين اختصّهم الله لنفسه. وينظِّمون الدُّنيا نظماً إلهيّاً واقعياً ، ويصلحون الدُّنيا شخصياً ونوعياً ، إصلاحاً حقيقيّاً بنحو النظام الأتمّ الأكمل على أحسن ما يمكن أن يتصوّر عليه .
والعقل المستقلّ يحكم ببطلان الأوّل ؛ لأنّه تعطيل للفيض المطلق ، مع استعداد المحل وكمال قدرة الفاعل ، كما قد ثبت كلّ ذلك في محله .
وكذا الثاني ظلمٌ وتعطيل للحقّ عن أهله ومحلّه، مضافاً إلى مفاسد نوعية وشخصية تترتّب عليه .
فتعيّن القسم الأخير ، وتدلّ عليه الأخبار المستفيضة ، منها خبر المعلى:
« قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام: ما لكم من هذه الأرض ؟
فتبسّم ثمّ قال : إنَّ الله بعث جبرئيل وأمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض ؛ منها سيحان ، وجيهان ، وهو نهر بلخ ، والخشوع ، وهو نهر الشاش ، ومهران وهو نهر الهند ، ونيل مصر ، ودجلة ، والفرات ، فما سقت أو أسقت فهو لنا ، وما كان لنا فهو لشيعتنا ، وليس لعدوّنا منه شيء إلا ما غصب عليه ، وإنَّ وليّنا لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه ، يعني : ما بين السماء والأرض .
ثمّ تلا هذه الآية : {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([1]) المغصوبين عليها « خالصةً لهم يوم القيامة » بلا غصب » .
وعنه علیه السلام أيضاً : « إنَّ جبرئيل علیه السلام کرى برجله خمسة أنهار ، لسان الماء يتبعه الفرات ، ودجلة ، ونيل مصر ، ومهران ، ونهر بلخ ، فما سقت أو سقى منها فللإمام ، والبحر المطيف » .
وعن أبي جعفر علیه السلام، قال : « قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: خلق الله آدم ، وأقطعه الدُّنيا قطيعة ، فما كان لآدم لهو لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وما كان لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فهو للأئمّة من آل محمّد » .
وعنه علیه السلام أيضاً : « وجدنا في كتاب علي علیه السلام : إنّ الأرض الله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين . أنا وأهل بيتي اللذين أورثنا الأرض ، ونحن المتّقون ، والأرض كُلّها لنا . فمن أحيا أرضاً ميّتاً من المسلمين فليعمرها ، وليؤدّي خراجها إلى الإمام علیه السلام ـ الحديث ـ » .
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المتفرِّقة في الأبواب المختلفة ـ كالجهاد ، وإحياء الموت ، وأحكام الأراضي ـ وقد جعلناها مطابقة لحكم الفطرة ، فلا تعبد ولا استعجاب فيها بشيءٍ أبداً.
ثمّ إنَّ مالكية الإمام للأرض بما فيها وعليها تتصوّر على وجوه :
الأوّل : الملكية الشخصية كسائر أملاكه الشخصية التي اكتسبها في حياته وتصل بعد موته إلى وارثه مطلقاً ، إماماً كان أو غيره ، ولا ريب في بطلان هذا الوجه .
الثاني : أن يكون ملكاً للإمام ملكاً شخصيّاً ، وبعد ارتحاله ينتقل إلى الإمام بعده لا إلى الورثة . نظير ملكية الحياة الوالد الأكبر بعد الانتقال إليه بالإرث بأنّه يملكها ملكاً شخصياً مطلقاً وهذا أيضاً باطل .
الثالث : أن يكون للإمام حق فيها من جهة صرفها وصرف منافعها في المصالح البشرية ، من حيث أنّه علیه السلام رئيسهم ، وأنّه الباب المبتلى به الناس ، ويجب عليه تنظيم أُمور دُنياهم وآخرتهم نظماً واقعياً إلهياً ، ولا ريب في تقوّم ذلك كلّه بالمال ، فبسط الله يد خليفته لإصلاح عباده ، وتنظيم بلاده ، والظاهر تعيّن هذا الوجه .
ويمكن أن يجمع بين الكلمات ، فمن يقول بعدم الملكية ، أي بالنحو الأوّل ، ومن يقول بها أي بالنحو الأخير .
كما أنّ الظاهر عدم كون هذا المنصب لنائب الغيبة ، لأنّ لمرتبة العصمة موضوعيّة خاصّة في هذا المنصب العظيم ، بل ما قلنا سابقاً من صحّة تصرّفه في صفايا الملوك مشكلٌ أيضاً ؛ لاحتمال اختصاصها بمرتبة العصمة .
نعم ، الظاهر ثبوت الولاية في الجملة بالنسبة إلى بعض الأراضي، والمعادن ، ونحوه لنائب الغيبة أيضاً([2]).
وقال رحمة الله علیه في موضع آخر :
ثم إنّ الولاية بجميع فروعها ومشتقّاتها ، تتضمّن معنى السلطة والاستيلاء والأولوية ونحو ذلك ، ومقتضى الأصل عدم تعدّد الوضع مع إمكان إرجاع جميع ما ذكره أهل اللغة في معاني هذه المادّة إلى جامع قريب عرفي ، ولو فرض اختلافٌ بعد ذلك في البين ، فيصحّ أن يكون ذلك من اختلاف دواعي الاستعمال في الجامع القريب العرفي ، هذا في جملة كثيرة ممّا ذكر في معاني هذه المادّة .
وأمّا في جملةٍ منها ، فلابدّ من القول بالاشتراك اللفظي ، ولا مجال للبحث عن أكثر من هذا . ولابُدَّ من بيان أُمور :
الأول : مقتضى الأصل العملي والأدلّة الاجتهادية مثل قوله علیه السلام : « لا يحلُّ مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه » ، وقوله علیه السلام : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » ، وأدلّة سائر المسبّبات المتوقّفة على أسباب خاصّة ، عدم الولاية لأحدٍ على أحدٍ في نفسه أو ماله أو عرضه ، إلا بدليل قطعي صريح ، وهذا الأصل نظير أصالة عدم الحجّية والاعتبار التي أثبتوها بالأدلّة الأربعة ، بل الشكّ في ثبوت الولاية يكفي في عدم ثبوتها .
الثاني : الولاية إمّا ذاتية عامّة تكوينيّة وتشريعيّة معاً ، فوق ما تتعقّله من معنى الولاية ، وهي مختصّة بالقيُّوم المطلق على كلِّ شيء ، وهو الله جلّ جلاله بإجماع جميع الأنبياء والمرسلين والفقهاء ، والحكماء المتألّهين والعرفاء الشامخين ، بل جميع المليّين من الناس أجمعين ، وقد أثبت ذلك علماء المِلل والأديان السماوية بأدلّة عقلية ونقلية ، ولا معنى للقيُّوم الذي هو أمّ الأسماء الإلهية إلا هذا ، والتفصيل يطلب من غير المقام .
وأمّا غيرية إفاضية ، وهي مختصّة بإفاضة الله تعالى على من يشاء من عباده بما يشاء كيفيّة وكمّية ، تكوينيّة كانت أو تشريعيّة ، وهي مختصّة بالأنبياء والمرسلين ، وفي رأسهم سيّدنا خاتم الأنبياء وخلفائه المعصومين صلی الله علیه و آله و سلم وخلفائه المعصومين علیهم السلام، فقد أفاض لهم الله تعالى من الولايتين بما شاء وأراد عزَّ وجلَّ ، وطريق إثبات ذلك ما تواتر عنهم من المعاجز التكوينيّات ، وبيان الأحكام في التشريعيّات ، مع أنّ هذا البحث ساقطٌ أصله ، لأنّ وجوب إطاعتهم في التشريعيّات من الضروريات ، وكذا وجوب الاعتقاد بقدرتهم على الإعجاز في الجملة ، ولا دليل من عقلٍ أو نقلٍ على وجوب الاعتقاد بأكثر من ذلك ، حتّى تترتّب على البحث ثمرة عملية ويصرف الوقت فيما عن ليست فيه ثمرة عملية بل ولا علمية .
الثالث : دلّت الأدلّة الأربعة على أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أولى بأُمّته من أنفسهم:
فمن الكتاب : قوله تعالى : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}([3]).
ومن السنّة : ما استفاض عنه صلی الله علیه و آله و سلم من طريق الفريقين : « أنا أولى بكُلِّ مؤمن من نفسه » وما يقرب من هذا التعبير .
ومن الإجماع : إجماع جميع المسلمين .
ومن العقل : أنّه صلی الله علیه و آله و سلم أعلمهم بمصالحهم ومفاسدهم ، شخصياً ونوعياً، ولا يرضى لهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم ، بخلاف نفس الإنسان حيث أنّه قد يرد نفسه في مهالك عظيمة في الدُّنيا والآخرة ، ولا اختصاص لهذه الأولوية بنبيّنا الأعظم ، بل كلّ نبيّ أولى بأمّته من نفوسهم ، بل يجري ذلك في العالم الربّاني الداعي إلى الله والحاكي قولاً وعملاً عنه تعالى ، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فضلاً عن النبيّ المعصوم المؤيّد بالتأييدات السماوية .
فما معنى هذه الأولوية التي تطابقت عليها الأدلة ؟!
فهل المراد بها التسلّط المطلق على نفوس الناس وأعراضهم وأموالهم ، بكُلِّ ما شاء وأراد ، فيجوز له أن يستخدم الناس جبراً عليهم بلا أجرة المثل ، وأن ينكح المرأة الزوجة قهراً على زوجها وأن ينكح الفتاة البكر بدون إذن منها ومن وليّها ، وأن يأخذ أموال الناس بلا إذنهم ورضائهم ؟!!
حاشا أنبياء الله وسيّدهم عن هذه الأولوية التي تستنكرها الطِّباع ، وتنفر عنها النفوس ، بل لا يليق بالله تعالى أن يرضى بهذه الأولوية لخاتم أنبيائه ولسفرائه ، وقد روى عنه صلی الله علیه و آله و سلم الفريقان :
« مَنْ ترك مالاً فلورثته ، ومَنْ ترك دينا أو ضياعاً فعلى واليَّ » .
وقال أبو الحسن علیه السلام: « فصار صلی الله علیه و آله و سلم بذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم » .
فالمراد بهذه الأولوية : ولاية العناية والتدبير والإصلاح ، مع حفظ جميع القوانين العقلية والشرعية بواجبائها ومحرَّماتها ومندوباتها ومكروهاتها ومباحاتها ، فأصل جعل الأولوية إنّما يكون لحفظ القوانين وتنظيمها ، كما يُقال الطبيب أولى بالمريض من نفسه ، والمعلّم أولى بالمتعلِّم من نفسه، والمعمار المهندس الخبير أولى بهندسة الدار من صاحبها ، إلى غير ذلك ممّا هو شائع كثير ، وهذه الأولوية فطرية عقلية . لا أن يكون من الشرعيّة ، فالحكم بها مطابق للعقول السليمة والفطرة المستقيمة .
نعم ، لو تصرف المعصوم علیه السلام في مال أحدٍ أو في نفسه أو في عرضه ، يكشف ذلك عن وجود مجوّز شرعي في البين ، وإن كنّا لا نعلمه .
إنّما الكلام أنّه مع إحراز عدم المجوّز الشرعي في البين بوجهٍ من الوجوه ، هل لهم الولاية على التصرّف أيضاً أو لا ؟
وحيث أنَّ المسألة غير ابتلائية لا وجه للتفصيل ، بل لعلَّ بعض التفصيلات من سوء الأدب .
وتظهر الثمرة فيما إذا قلنا بثبوت هذه الولاية للفقيه أيضاً ، ولكنّه لا ثمرة له أيضاً ، لأنّه على فرض ثبوت هذه الولاية له ، ما لم يقطع بمجوّز شرعي لا يتصرّف، فلا ثمرة في البين أصلاً .
إن قيل : فما معنى ما ورد من الأرض كلّها لهم ، والناس عبيدٌ لهم ، وهذا ينافي ما قلت في معنى الأولوية ؟
يُقال : معنى مملوكية الأرض ، وكذا الناس ، لابدّ إمّا أن يُراد المملوكية من سنخ مملوكية الموجودات الله تعالى ، ومالكيّته لما سواه التي لا تنافي الملكية الإضافية للناس بالنسبة إلى ما يملكون .
أو يُراد بها الأنفال ، والمراد بمملوكيّة الناس ملك الطاعة ، لا ملك الذات ، كما فُسّرت به في بعض الروايات ، وقد أشرنا إلى بعض ذلك في كتاب الخمس ، فراجع .
فتلخّص : أنَّ الأولوية التدبيرية للناس ثابتة للنبيذ صلی الله علیه و آله و سلم وخلفائه المعصومين بالأدلّة الأربعة ، في جميع ما له دخل في الإسلام حدوثاً وبقاءً ، نوعياً وشخصياً ، للمسلمين دعوة إلى الإسلام ، وبياناً للأحكام وإنفاذاً لها ، وعقوبة على تركها ، وتنظيماً للبلاد ، وبثّ ما هو صلاح العباد في شؤونهم الاجتماعية والشخصية ، ولا معنى للحكومة الإلهية التي بعث بها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إلا ذلك ، وفي كلّ ذلك يكون النبي صلی الله علیه و آله و سلم وخلفائه المعصومون أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لفرض أنّه يختار ذلك ما هو الأصلح لهم في دينهم وفي دُنياهم.
ثمّ إنه لا ريب في وجوب إطاعة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم والإمام فيما يبلّغ عن الله تعالى ، لاستقلال العقل بوجوب إطاعته تعالى من باب وجوب شكر المنعم .
وأمّا لو كان أمر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام شخصياً ، بحيث لا يرجع إلى الله تعالى ، فهل تجب الإطاعة أيضاً ؟
الظاهر ذلك لكونهم وسائط الفيوضات المعنوية والظاهرية ، فتشملهم ما دلَّ على وجوب شُكر المنعم ، ولكن يظهر من الآية الكريمة : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}([4]) إنّهم أسقطوا حقوقهم ، فلا تبقى ثمرة مهمّة لهذا البحث أصلاً .
الرابع : لا ريب في أنّ للفقيه الجامع للشرائط منصب الفتوى ، فيما يحتاج إليه العامّي ، ومنصب فصل الخصومة بما يراه حقّاً في المرافعات ، والدليل عليه ـ مضافاً إلى ما تعرّضنا له من الأخبار في الاجتهاد والتقليد والقضاء ـ ما ارتكز في الأذهان من الرجوع إلى أهل الخبرة ، ولا ريب في أنّه من أهل الخبرة ، ولذا لا اختصاص لثبوت المنصبين بعلماء دين الإسلام ، بل هما ثابتان لعلماء الأديان عند المتديّنين بها ، لما مرّ! من الارتكاز في نفوسهم وحكم فطرتهم بذلك .
وهل يثبت للفقيه الجامع للشرائط ، ما ثبت للمعصوم علیه السلام من الولاية على المسلمين ، في جميع ما له دخل في شؤونهم الإسلامية ، ممّا تقدّم التعرّض لبعضه ، أو ليس له إلا منصبيّ الإفتاء والقضاء ؟
قولان ، والظاهر أنّ هذا النزاع على طوله وتفصيله صغروي ، لا أن يكون كبروياً ، كما يظهر من أدلّة الطرفين ، والنقض والإبرام الوارد منهم في البين ؛ لأنّ المراد بالفقيه الذي يكون مورد البحث في المقام ، من استجمع ما ذكرناه من الصفات في كتاب الجهاد ، وما سنشير إلى بعضها في كتاب القضاء ، فإذا وُجِد من اتّصف بتلك الصفات ، تنطبق عليه الولاية المطلقة قهراً شاء أو لم يشأ .
وبعبارة أخرى : لو تحقّق ما تقدم من الصفات في شخص ، يصير كأنّه الإمام علیه السلام بعد استقرار إمامته الظاهرية ، ولا يكفي تحقّق بعض ما سبق من الصفات لثبوت مثل هذه الولاية ، فلمجموعها من حيث المجموع دخل في تحقّقها . نعم ، مع وجود بعضها وتيسّر الأسباب ، يجوز له التصدّي فيما تيسّر ، بل قد يجب ذلك ، ولكن لا ربط له بالولاية المطلقة التي هي مورد البحث ، فجواز التصدّي أو وجوه أعمّ ممّا يبحث عنه في المقام ، ومقتضى الأصل عدم هذه الولاية المبحوثة عنها إلا في المتيقّن من مورد ثبوتها ، وهو الذي قلناه ، ويتمّ مقام الإثبات قهراً بعد ثبوت المقتضى ، وفقد المانع ، وليس لمثل صاحب الحدائق قصر ولاية مثل هذا الشخص على خصوص الإفتاء والقضاء ، فإنّه خلاف ما يرتضيه الناس بالنسبة إليه .
ثمّ إنّه قد استدلَّ على ثبوت الولاية له بوجوه :
الأوّل : أنّ تنظيم تلك الأُمور التي تكون مورد الولاية العامّة والخلافة العظمى، مطلوب لله تعالى إلى يوم القيامة أو لا ؟
والثاني باطل لما ورد الأمر بها والترغيب والتحريض إليها ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون المتقمّص لها كلّ مَنْ استولى عليها ولو من الظَلمة ، وهو باطلٌ بالضرورة ، أو يكون هو شخص خاصٌ ذات منصبي الإفتاء والقضاء، وهذا هو المتعيّن وهو المطلوب .
الثاني : أنّ ما ثبت للنبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علیه السلام من حيث الزعامة الكبرى ، والزعيم الديني من الأمور الفطرية التي يرجع فيها كلّ ذي ملّة ونحلة إلى رئيسهم الديني ، فهذه سيرة عقلائية في جميع الأعصار والدُّهور ، وهي متّبعة في الشريعة الإسلامية ، إلا مع وجود دليل خاصٍّ على الردع ، ولا رادع عنها في البين ، فتشملها إطلاقات الأدلّة وعموماتها .
وأشكل عليه تارةً : بأصالة عدم الولاية ، وعدم ترتّب الأثر .
وأخرى : بأنَّ بعض تلك الأمور مرتبط بولاية غيره ، كمورد ولاية الأب والجدّ؛ أو بنظر غيره لكونه أبصر بها منه ، كما هو معلوم في جملة كثيرة من العرفيات .
والكلّ باطل : أمّا الأولى ، فلأنّه لا وجه للأصل مع السيرة القطعية ، وإن غصب جملة من مواردها الظَلمة ، والكلّ يعترفون بأنّهم غصبوا المنصب .
وأمّا الثانية ، فلأنّ تلك الموارد خرجت بالدليل ، ولا منافاة بينه وبين أصل السيرة العامّة ، لأنّها كالعامّ يصلح للتخصيص .
وأمّا الأخير ، فلأنّ لهذا الزعيم الروحي بُصراء وخُبراء يصدرون عن رأيه وأمره ، ولا منافاة بين الزعامة الكبرى ومثل هذه الأمور ، كما هو واضح .
الثالث : ما ثبت للإمام علیه السلام من الولاية ، إنّما هو لأجل كونه ملجأ الخلق وملاذهم ، ومرجع شؤونهم الدينيّة ، ولا موضوعيّة للعصمة من حيث هي في ذلك كلّه ، وإنّما هي بالنسبة إلى هذه الأمور طريقية للاستيمان ، ووضع الأشياء في مواضعها ، وإن كانت معتبرة من حيث الموضوعية في الإمامة ، فللعصمة حيثيّتان : حيثيّة كونها من أعلى كمالات النفس الإنسانية ، وحيثيّة كونها موجباً لتنظيم الأمور على طبق الوظيفة الشرعية ، وموجباً لسكون النفس إليها ، والجهة الأخيرة هي مناط الولاية ، وهذه الحيثيّة موجودة في الفقيه العدل الجامع للشرائط ، المخالف لهواه ، فيثبت له ما كان لهم علیهم السلام من الولاية أيضاً .
الرابع : بعد سدّ باب ولاية الجور والظلم بالكلّية ، فإن انسدّ باب ولاية الفقيه الجامع للشرائط ، يكون تضييقاً على الشيعة ، وأيّ تضييق أشدّ منه .
الخامس : أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أعطى مثل هذه الولاية لمحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر ، ولا ريب في أنّ الفقيه الجامع للشرائط أرفع منهما قدراً ، وأجلّ شأناً ، فلابدّ من ثبوتها له بالفحوى .
قال صاحب الجواهر في كتاب الزكاة ، ونِعمَ ما قال :
« إطلاق أدلّة حكومته ، خصوصاً رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر روحي له الفداء ، يصيّره من أولي الأمر الذي أوجب الله علينا طاعتهم . نعم ، من المعلوم اختصاصه بكلّ ما له في الشرع مدخلية حكماً أو موضوعاً .
ودعوى : اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية .
يدفعها معلومية كثير من الأمور التي لا ترجع إلى الأحكام ، كحفظه لمال الأطفال والمجانين والغائبين ، وغير ذلك ممّا هو محرّر في محلّه، ويمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء ، فإنّهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة ، لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه ، المؤيّد بمسيس الحاجة إلى ذلك أشدّ من مسيسها في الأحكام الشرعيّة » .
وقال في كتاب الخمس أيضاً ما يقرب منه .
السادس : إنّ عقيدة الإمامية أنّ الفقيه الجامع للشرائط ، يقوم مقام الإمام في كلّ ما له من المناصب والجهات ، إلا مختصّات الإمامة كالعصمة ونحوها .
السابع : إطلاقات الأدلّة الواردة لتقرير مرتكزات الناس ، مثل قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهمَّ ارحم خلفائي ثلاثاً ، قيل : ومَن خلفاؤك يا رسول الله ؟
قال صلی الله علیه و آله و سلم : الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسُنّتي ».
وقول أبي عبد الله علیه السلام : « إنّ العلماء أُمناء » .
وقوله علیه السلام : « مجاري الأُمور بيد العلماء الأُمناء بالله على حلاله وحرامه » .
وقوله علیه السلام : « فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً » .
وقوله علیه السلام : « فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً » .
وقول الحجّة علیه السلام : « فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » .
وقوله علیه السلام : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » .
إلى غير ذلك ممّا ورد عنهم ، فإنّ المنساق من إطلاق الخلفاء ، والأُمناء ، والحجّة ، والرجوع في الحوادث الواقعة ، إنّما هو التنزيل منزلة النفس من كل جهةٍ ، إلا ما خرج بالدليل .
واحتمال أنّ المراد خصوص بيان الأحكام وفصل الخصومة ، مخالفٌ لهذا الاهتمام البليغ الذي اهتمّ به الأئمة علیهم السلام .
وبالجملة ، الفطرة تحكم بأنّه إذا انقطع يد الرئيس عن رعيّته ظاهراً، وجعل شخصاً نائباً منابه تعمُّ النيابة جميع ما للرئيس من الجهات والمناصب ، إلا ما دلَّ الدليل على التخصيص والخروج .
إن قيل : إنّ الدليل على التخصيص أصالة عدم الولاية والحجّية ، إلا في المتيقّن وهو الإفتاء والحكومة .
يُقال : لا وجه للأخذ بالمتيقّن مع ظهور الإطلاق ، وما تقدّم من الأدلّة . نعم ، لو بني على التشكيك ، لنا أن نشكّك حتّى في الضروريات ، ولم أرَ تشكيك في الإطلاقات في كلمات القدماء فيما تفحّصت عاجلاً ، وإنّما حدث ذلك عن بعض متأخّري المتأخّري .
ولكن مع ذلك كلّه موارد تشخيص الولاية في غير المتيقّن منها في هذه الأزمان مشكل جدّاً ، فلابدّ من التأمّل التامّ .
وحيث لا ثمرة في البحث ، فلا وجه للتفصيل بأكثر من ذلك ؛ لأنّ هذه الولاية الكلّية منوطة ببسط اليد من كلِّ جهة ، وهو كان مفقوداً في إمام الأصل علیه السلام فضلاً عن نائبه . نعم ، فيما يتمكّن وتبسط يده فيه فله الولاية وإن كان نظرة ثبوتها له .
الأمر الخامس : التصرّف في الأمور :
تارةً: تكليف مباشري للرئيس .
وأخرى : منوط بإذنه من أي شخص صدر .
وثالثة : تكليف شخصي بالنسبة إلى كلّ أحد .
ورابعة : يشكّ في أنّه من أيّ الأقسام .
ولا إشكال في حكم غير الأخير منها ، إمّا هو فإن كان من المصالح ولم تكن فيه مفسدة ، يجوز لكلّ أحد تصدّيه ؛ لإطلاق قوله تعالى : {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([5])، وقوله علیه السلام: «كلّ معروف صدقة»، وقوله علیه السلام: « الله في عون المؤمن ما دام المؤمن في عون أخيه » ، إلى غير ذلك من الأدلّة المرغّبة إلى مثل هذه الأمور .
وإن كانت فيه مفسدة فلابدّ فيه من مراجعة الحاكم الشرعي .
الأمر السادس : ما كان منوطاً بإذن الفقيه ونظره ، ولم يكن فقيهٌ في البين يجوز للمؤمنين القيام به ، لفرض أنّ أصله مطلوب ومرغوب إليه من الشارع ، والقطع ببقاء التكليف وعدم سقوطه الإذن فيه من الفقيه شرطٌ اختياري ويسقط مع عدم التمكّن منه ، وتفصيل المقام سيأتي في ضمن المسائل الآتية([6]).
([1]) سورة الأعراف : الآية 32 .
([2]) مهذب الأحكام : ج 11 / 425 .
([3]) سورة الأحزاب : الآية 6 .
([4]) سورة الشورى : الآية 23 .
([5]) سورة البقرة : الآية 148 .
([6]) مهذب الأحكام : ج 16 / 396. وللتوسعة براجع كتاب « الزكاة » من « مهذب الأحكام » ج11/ 276 .
تقدَّم بعض ما يرتبط بطلاق الزوج لزوجته ، وهو أمر مبغوض عند الخالق والمخلوق، وهناك طلاق آخر هو مجمع الكمالات الإنسانية ، وأهمّ طرق السير والسلوك إلى الله تعالى ، وتتجلّى أهميّته في اجتماع التخلية عن الرذائل ، والتحلية بالفضائل ، والتجلية بصفات الباري عزَّ وجلَّ فيه ، وهو طلاق الدُّنيا وما سوى الله جلّت عظمته ، وهو أيضاً مرتان {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}([1]) ، وإنَّ له درجات :
الأولى : ما إذا كانت الدُّنيا سبباً للانغمار في عالَم الغرور ، وحجاباً عن عالَم النُّور ، فترتع النفس في الجهالات والظلمات ، فلا يفيدها منع مانع ، ولا ترتدع بأيّ رادع . وطلاق مثل هذه الحالة واجبٌ على كلِّ نفس تريد الاستكمال والترفّع عن دار الوهم والخيال ، والارتقاء إلى عالَم الحقائق التي لم تزل ولا تزال.
الثانية : ما إذا أمسك نفسه عن الانغمار في عالَم الغرور طلباً للاستكمال ، فتشرق على النفس من عالَم الأنوار ، فترفض الدُّنيا وما يبعدها عن ساحة قدسه تعالى ، ولا ريب في حُسن هذا الطلاق الشرائط المقرّرة في الشريعة المقدَّسة ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى الإمساك بالمعروف ، فيعمل بما يرتضيه الرحمان ، ويرتقي بذلك إلى درجات الجنان .
الثالثة : وهي آخر المراتب وأعلاها ، وهي قطع العلاقة والإضافة القلبية مطلقاً ، عملاً بما يُقال : « إنّ التوحيد إسقاط الإضافات » ، وهذا هو التسريح بالإحسان .
وطلاق الدُّنيا في أيّ مرتبة حصل ، لا ينافي بقاء الدُّنيا تحت سلطته وإرادته ، كما في طلاق أولياء الله تعالى للدُّنيا ، فقد تمثّلت الدُّنيا في صورة خارجية ـ وهي صورة أجمل النساء ـ لسيّد الأنبياء في ليلة المعراج ، وفي صورة بُثينة ـ التي كانت أجمل نساء عصرها ـ لعليٍّ علیه السلام ، فقال لها :
« غُرّي غيري لا حاجة لي فيكِ قد طلّقتكِ ثلاثاً لا رجعة فيها » .
فطلاق الدُّنيا بالشرائط المقرّرة في الشرع ، من أفضل الدرجات وأعلى المقامات ، واجب عند المخلصين والصدِّيقين المتفانين في حبّ الله تعالى .
وهو أوّل منزل السَّير إلى ربّ العالمين ، ومن جهة الاستقامة والبقاء عليه، تجتمع فيه سائر المقامات من التخلية والتحلية والتجلية بل الفناء ، والثبات عليه ثباتٌ في الرحمة الواسعة التي لم تزل ولا تزال ، ويشتدّ مقام التوحيد فيعبد الله جلّت عظمته حبّاً له لا لشوق الوعد ولا خوف الوعيد([2]).
وقال في مورد آخر :
هذا في سكر الخمر وثمالتها والميسر الذي يلهي عن ذكر الله ، فما بالك بسكر الدُّنيا الناشئ من حبّها ، الذي هو من أمراض النفس الخطيرة فيسلب لبّ الإنسان ويفقده صوابه .
ولحبّ الدُّنيا وسكرها مظاهر كثيرة ، فقد يحصل من المال أو الجاه والرياسة ، وقد يدخل في أمور دقيقة عند السالكين والعارفين ، وقد يغفل عنها فتظهر على نواياه أو أقواله وأفعاله ، فإن لم يعالجها يرجعه إلى أسفل السافلين ، ولذا كان الأنبياء والمرسلون يتعوّذون بالله منهما ، ويتوبون ويستغفرون الله ممّا قد يصدر منهم في أطوار حياتهم المعنوية ، فإنّ الأمر دقيق جدّاً ، والإنسان في اختبار وامتحان مستمرّين ، وكانت سيرة الأئمّة الأطهار علیهم السلام في تعاملهم مع الدُّنيا على حذر شديد .
وفي الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام:
« والله لقد نَزَلَت الدُّنيا عندي منزلة الميتة ، متى اضطررت إليها أكلت » .
فإنَّ جمالها الفاتن يخلب القلوب ، ويصدّ السالك المجذوب .
وقد نقل عن بعض العرفاء في حقّ منه كان مشغولاً بنفسه ، وزاهداً عن الدُّنيا ومفاتنها مدّة طويلة ، لما عرضت عليه القضاء فقبلها ، قال : إنّه كان يضمر حبّ الدُّنيا مدّة أربعين سنة ، وهو صحيح فإنّه يبقى في مكنون النفس مدّة طويلة ، ويكون صاحبها مشغولاً في جهة أُخرى([3]).
([1]) سورة البقرة : الآية 229.
المقطوعة الأولى : في السجود
سر العبودية للمعبود وهو مقام شامخٌ للساجد قد مَدَح السجود في القرآن وضع الوجوه الغُرّ في ترب الفلا غاية قرب العبد لله العلي ولو رأى قلبك حال الأوليا رأيت فيهم شرفاً عظيما تجلّت الأنوار في قلوبهم وأخلصوا نيّاتهم من ريب جاريةً دموعهم في الخدِّ في حال عبرة وخوف وبكا قنوتهم في ظلمات الليل أنينهم يرفع للسماء اضطربوا بكلّ معنى القول قد أنحلوا أبدانهم بالطاعة حالاتهم داعية إلى الله فلو نظرت نحو أطراف الفلك لا يرفعون رأسهم إلى الأبد أنفاسهم تسبيح أو تقديس أشواقهم خارجة عن حدّ لقد تفانوا في حريم الكبريا نشاطهم من عالم السرور تغشاهم الجذبة من نور الأحد إن السجود مع ما فيه اعتبر حبواً إلى أوسع باب الرحمة أفضل حال لاستجابة الدُّعا وحقّقوا حاجاتكم في السجدة فكم دعاء استجيب فيه فاغتنموا حال السجود مطلقا |
يظهر في الإتيان بالسجود أفضل فعلٍ للمصلّي العابد مدحاً بليغاً ظاهر البيان تخضّعاً لربّ الأرض والسما إفاضة الخفيّ منه والجلي من راكعٍ أو ساجدٍ أو في الدُّعا ومنبتاً ـ طاب لهم ـ كريما والنور والسيماء في وجوههم ورابطوا بجهدهم بالغيب يطالبون ربّهم بالجدِّ تخفيف أهوالٍ تُرى يوم الجزا له هديرٌ كهدير السير دموعهم تجري من البكاء لما يلاقي الخلق يوم الهول أدهشهم خوف قيام الساعة أحوالهم حاكية عن الله ترى سجوداً فرقاً من الملك تخضّعاً للواحد الفرد الصمد شعارهم يا نور يا قدّوس حالاتهم مثوبة بالوجد فاكتشفوا بذاك سرّ الأوليا لا كنشاط عالم الغرور وهي عناية بهم من غير حدّ أعظم باب لحوائج البشر وكان ذاك من علوّ الهمّة حال السجود فاستمع لمن وعى فإنّها لذاك نِعْمَ العُدّة ونال جمع فيه ما يرضيه إلى مقام القرب منه يرتقى([1]) |
***
المقطوعة الثانية : في القيام
وقُم قِيامَ البائس الذّليل فالسِّرُّ في حُضورهِ علانيَه ولازِم الوقَار في حضورِ مِن يُحبُّ كُلَّ مَن دَنَا إليهِ |
بين يدي مُهيمنٍ جليلِ وليسَ مسوراً عليه خافيه أسرارنا لدى جَنَابِهِ عَلَن يُفِيضُ من ألطافهِ عليهِ([2]) |
***
المقطوعة الثالثة : في الركوع
واركع ركوعَ خائِفٍ مسكينِ وطوِّلِ الرُّكوعَ في الصلاةِ واخلِص لمن قد فَرَضَ العبادَه واخلِص لمن قد فَرَضَ العبادَه استِكانَةُ العُبّادِ في رُكُوعِهم إنّ الركوعَ والسجودَ والثّنا واخضع بها للقاهِرِ العظيم إنَّ الرّكوعَ والسجودَ حقُّهُ |
لدى مليكٍ راحِمٍ مُعينِ فإنّها من سُبُل النجاةِ قد رفع الله به عِبادَه قد رفعَ اللهُ بها عِبادَه تُنَزِّلُ الرّحمةَ في رُبُوعِهِم أعظمُ طاعةٍ لخالقِ السَّما مُكَوِّن الأكوانِ بالتّنظيمِ بذاتِهِ لذاكَ يستَحِقُّهُ([3]) |
***
المقطوعة الرابعة : في الصوم
الصومُ جُنَّة من العذاب تقرّبٌ من حضرة الرّحيمِ يُقرِّبُ النفسَ إلى المعارفِ يَربطُها الملكوتِ الأعلى ينوِّرُ القلوبَ بالعرفانِ يُريهِمُ مراتبَ التنزيلِ ليسَ لأجرِهِم بهِ حُدودُ بل أجرُهُم يُعطى بلا نهايه لقد تجلّى مبدّأُ المبادي أنفاسهم تسبيح ذات الباري لهم نشاطٌ ساعةَ الإفطارِ والنُّورُ نورُ اللهِ في جبينهِم يخُصُّهم زُمرَةُ أملاك السّما فأمسكُوا عن شهوات النفسِ واستدركوا ما فات من أعمارِ واغتنمُوا الصوم ففيه احتُرِزا هذا الصيامُ هو كَفُّ الشهوةِ عن غير ذاتِ الأحدِ القيُّومِ عن غير ذاتِ الأحدِ القيُّومِ ولازِمُوا حكام ما للصّائم والصومُ سُلَّمٌ إلى السّلامه |
هو نجاةُ نشأةِ الحِسابِ تشبّهٌ بالمَلَكِ الكريمِ يعرفُهُ وُجدانُ كلِّ عارفِ بل جبروتٍ صارَ منهُ أولى يَهدي إلى حقائق القرآنِ يكشِفُ عنهمُ شُبَةَ التأويل ولا جَزاءُ صبرِهِمْ معدودُ لظاهر الحديث والروايه في مظهر الصوّام من عبادِ ونومهُم عبادةُ الجبّارِ وآخَرٌ عند لقى القهّارِ والسرُّ سِرُّ الله في حنينهم تبرُّكاً بما لديهم من دُعا توافِكُم نعماءُ ذات القُدس وامتثِلوا لعالِم الأسرارِ عن كلِّ مكروهٍ يُرى يوم الجزا فكيفَ صومُكُم بكفِّ الخطوةِ المُهيمنِ العظيم والدَّيمومِ المُهيمنِ العظيم والدَّيمومِ لتخرُجوا عن رُتبةِ البهائِمِ في النّشأةِ الدُّنيا وفي القيامه([4]) |
***
المقطوعة الخامسة : في العدالة
أعلى صفات نفسِكَ العداله خِصِّيصةُ الله العليّ الأعلى فكُلُّ مخلوقٍ رأيتَ فِعلَه فليكتسب هذا المقام العالي جهَادُكَ النّفسَ جِهادٌ أكبرُ فهو الكمالُ المُحضُ للإنسان فوازِنُوا أعمالكُم بالعدلِ وراقِبوا حالاتِكُم في الدُّنيا ونبذُ ما عُدَّ من الكبائر تزيِّنُ الإنسانَ بالفضائل فليجتهِد فيها جميعُ النّاسِ عن حادِثاتِ نشأةِ الغُرورِ والجِدُّ في مخالفاتِ النّفسِ |
لقُربِها من ساحةِ الجَلالَه ونورُهُ الذي بهِ تجلّى فيه علاماتُ تُحاكي عدلَه تقرُّباً من مصدرِ الجَلالِ والقتلُ بالسّيف جِهادٌ أصغرُ دلَّ عليه واضِحُ البُرهان من قبل أن يأتي يومُ الفصلِ لكي تنالوا الدّرجات العُليا وهَجرُ الإصرارِ على الصغائرِ تحفظُهُ عن دَنَسِ الرّذائِلِ فإنِها المَنجى بلا التباسِ ومُهلكاتِ عالِمَ النُّشورِ يرفعُها إلى محلَّ القُدسِ([5]) |
***
المقطوعة السادسة : في الحجّ
لبّيكَ يا مقصدَ كُلِّ عارفِ لبّيك يا كاشفَ كُلِّ كُربَه لبّيكَ يا سِرّ القلوبِ الوالِهَة ننفي شريكاً من كُلِّ جهَه لبّيك يا ذا العِزِّ والمعارجِ حئتُكَ مُحتاجاً إلى نوالِكَ ما قَدرُ ذَنبٍ بل ذُنُوبٍ تنتَهي |
ومَلجَأ النّاس من المخاوفِ ومَبدَأ الخيرِ وكلِّ نِعمَه ومالِكَ المُلك وننفِي الآلهَه في الذّات والفِعلِ وفي كُلِّ صفَه ومُنزِلَ القُرآنِ ذي المناهجِ ومُستجيراً بك في المهالِك في جنبِ فضلٍ هو ليس ينتهي |
***
وله أيضاً :
وفَدنا إليكَ بشوقٍ شديد أتيناكَ يا شاهداً لا يُرى سوى فَيضِ إحسانكَ المُنتظَر أليسَ دَعانا إليك الخليل أليسَ المُضيفُ يُسِرُّ الضُّيوف ألستَ ترَغُّبنا بالكَرَم وتطلبُ أن تعفوَ عمّن ظَلَم ومن كُلِّ فجٍّ بعيدٍ عميق أتينا لتُرفدَنا مِن نَداك وحقّك لا ينبغي منكَ ذاكَ |
وأفئدةٍ والهةٍ من بعيد بآمالَ ليسَ لها ناظرا لِتعَفُ بهِ ذنبَ كُلِّ البَشَر ونادى هلُمّوا لبيتِ الجَليل ألستَ المَليكَ العَطُوفَ الرؤوفْ وتطلبُ منذا معالي الشِّيم فأنتَ الأحقُ ووالي النِّعَم وفدنا إليك وأنتَ الشفِيق أنجُبَهُ ردّاً إلى من سِواك ولا أرتضي ما يُنافي عُلاك([6]) |
([2]) مهذب الأحكام : ج 6 / 249 .
([3]) مهذب الأحكام : ج 6 / 414.
([4]) مهذب الأحكام : ج ۱۰ / ۳۳۹ .
1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ ألطاف الباري من نفحات الإمام السيّد السبزواري ـ تأليف السيّد عبد الستّار الحسني .
3 ـ الأنوار الساطعة ـ تأليف السيّد حسين أبو سعيدة .
4 ـ صفحات مشرقة من حياة الإمام السبزواري ـ تأليف : السيّد عدنان الخبّاز القطيفي .
5 ـ صفحة من حياة الإمام السبزواري ـ تأليف السيّد محمّد حسن الطالقاني .
6 ـ مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام ـ تأليف السيّد عبد الأعلى السبزواري قدس سره .
۷ ـ مواهب الرحمان في تفسير القرآن ـ تأليف السيّد عبد الأعلى السبزواري قدس سره .
۸ ـ ميزان الحكمة ـ تأليف الشيخ محمّدي الري شهري .