الموضوع: بحث الأصول – مبحث الأوامر – إمكان أخذ قصد الأمر في متعلَّق الأمر .
…… جهة الأمر بأن يجعل قصد الأمر أيضاً أمراً شرعياً معتبراً في المركّب جزءاً أو شرطاً، قالوا إنَّ هذا مستلزم للدور الباطل، لأنَّ الأمر متوقف على المتعلَّق توقف العارض على المعروض، فما لم يكن متعلّق في البين وموضوع في البين لا يعقل الأمر أصلاً في الاعتبار الخارجي كما لا يعقل العرض بالوجود الخارجي إلا مع المعروض، فالأمر متوقف على المتعلق توقف العارض على المعروض، والمفروض أنَّ المتعلق أيضاً متوقف على الأمر لفرض أنَّ قصد الأمر أخذ جزءاً أو شرطاً في المتعلَّق، هذا هو الدور الباطل، فقصد الأمر دخيل في المتعلَّق عقلاً لا شرعاً، وقد صرح بذلك في الكفاية في عبارات مغلقة، لأنه لو كان معقولاً في المتعلَّق جزءاً أو شرطاً من نفس الأمر الذي تعلَّق به فهذا مستلزم للدور، لفرض أنَّ الأمر متوقف على تحقق المتعلَّق كما أنَّ العَرَض متوقف على تحقق الموضوع، والمفروض في المقام أنَّ المتعلَّق أيضاً متوقف على قصد الأمر، وهذا هو الدور الباطل.
هذا خلاصة دليلهم حيث قالوا إنَّ قصد الأمر لا يمكن أن يؤخذ في المتعلَّق بنفس الأمر الذي تعلَّق به.
ويرد عليه:- أنه يعتبر في الدور الباطل أن تكون جهة التوقف من حيثيةٍ واحدة، فإذا كانت جهة التوقف في الدور من جهةٍ واحدة وحيثيةٍ واحدة فهذا هو الدور الباطل المحال وأنه مستلزم علّية الشيء لنفسه ولا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه، ولكن إذا كانت جهة التوقف متعددة ولو بحيثية عرفية عقلية فلا محذور في البين ولا يلزم الدور المحال، وفيما نحن فيه نقول:- إنَّ قصد الأمر مأخوذ في المتعلَّق باعتبار اللحاظ الذهني من حيث كونه مرآةً إلى الخارج، هذا هو قصد الأمر المأخوذ في الموضوع، وأما الأمر فهو متوقف على الموضوع باعتبار نفس وجوده الخارجي لا باعتبار اللحاظ الذهني، فإذا تعددت جهة التوقف تتحقق الاثنينة في البين ويرتفع موضوع الدور لا محالة، فالأمر متوقف على متعلَّقه وموضوعه باعتبار نفس وجوده الخارجي من حيث أنه وجود خارجي، وهذا صحيح كما أنَّ العَرَض متوقف على الموضوع باعتبار الوجود الخارجي لا باعتبار الوجود الذهني ولا باعتبار اللحظ العلمي، وهذا بحسب الوجود الخارجي العرض متوقف على المعروض، وفي المقام أيضاً الأمر بحسب وجوده الخارجي متوقف على الموضوع بلا إشكال، ولكن ما أخذ في الموضوع إنما هو لحاظ قصد الأمر وتصور قصد الأمر من حيث كونه مرآةً إلى الخارج، فيتعدد المتوقف والمتوقف عليه، فلا يأتي الدور.
وهذا الاشكال الذي ذكره صاحب الكفاية بعبارات مختلفة هو خلط بين الوجود الخارجي والوجود اللحاظي العلمي:- فامتثال الأوامر بإتيان المأمور به متوقف على تصوّر قصد الأمر ونية قصد الأمر ذهناً وهذا مسلّم، ولكن الأمر الصادر من الشارع الأقدس متوقف على المتعلَّق بحسب ذات وجوده الخارجي لا بحسب وجوده اللحاظي العلمي، فلا محذور في البين لفرض أنَّ المتوقف والمتوقف عليه متعددان أحدهما بحسب الوجود الذهني الاعتباري والآخر بحسب الوجود الخارجي، هذا فيما إذا كان أخذ قصد الأمر في المتعلَّق بأمرٍ واحدٍ صادرٍ من الشارع، كما لو قال ( أقيموا الصلاة ) فمن نفس هذه الجملة ننتزع جزئية قصد الأمر في المتعلَّق ونقول إنَّ هذا تعلَّق بنفس المتعلَّق فهذا لا محذور فيه بناءً على ما ذكرنا.
وقالو أيضاً:- لا يمكن اعتبار قصد الأمر في المتعلَّق بأمرين أيضاً لا بأمر واحد لأنه مستلزم للدور ولا بأمرين، وقالوا في وجه بطلان ذلك أنه لو صدر أمران من الشارع الأمر الأول متعلِّق بذات المأمور به والأمر الثاني متعلِّق بإتيانه بقصد الأمر فهذا أيضاً مستلزم للمحذور، كما لو قال أولاً ( صلِّ ) ثم قال ( لو صليت يجب عليك أن تقصد الأمر في صلاتك )، فصدر منه أمران أحدهما تعلَّق بذات المتعلَّق والآخر تعلَّق بإتيانه بقصد الأمر، كما في جملة من الأجزاء والشرائط مثل ( تطهر وصلّ ) أو ( صل واقرأ الفاتحة ) إلى غير ذلك، فقال قدس سره إنَّ الأمر الأول هل يسقط بإتيان المتعلَّق أو لا يسقط؟! فإن سقط الأمر الأول بإتيان المتعلَّق فلا وجه للأمر الثاني، وإن لم يسقط إلا بامتثال أمر الثاني فلا وجه للأمر الأول، فقال لو كان دخل قصد الأمر في المتعلَّق بأمر آخر غير الأمر بذات المتعلَّق يلزم اللغوية، فإنه لو أتى المكلف بذات المتعلَّق هل يسقط الأمر الأول أو لا؟! فإنَّ سقط الأمر الأول بإتيان ذات المتعلق يكون الأمر الثاني لغواً، وإن لم يسقط الأمر الأول إلا بامتثال الأمر الثاني يكون الأمر الأول لغواً، فيلزم اللغوية لا محالة، وهذا قبيح على الشارع الأقدس. هذه خلاصة كلامه.
ونحن نقول: – إنَّ المجعولات شرعيةً كانت أو غير شرعيةً على قسمين: –
القسم الأول: – ما إذا كان نفس الجعل الأول كافياً في تتحقق المتعلَّق بجميع شؤونه وقيوده، كما لو قال ( يجب عليكم جواب سلام التحية )، لا غير ذلك ولا شرط، فنفس هذا الأمر يكفي في تحقق المتعلَّق بجميع شؤونه وقيوده.
القسم الثاني:- ما يحتاج إلى متمّم الجعل، فالجعل الأول متكفّل لبعض الجهات، والجعل الثاني أيضاً متكفّل لجهاتٍ أخرى غير التي تكفّلها الجعل الأول، وفي الصلاة يكون الأمر هكذا مثل ( اقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )، فالأمر الأول تعلَّق بإتيان ذات الصلاة، ولكن هناك أوامر أخرى متممة للجعل الأول كقولهم عليهم السلام ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب )، و( لا صلاة إلا للقبلة ) وغير ذلك، فجميع هذه الأوامر الثانية هي متمّمات للجعل الأول، وفيما نحن فيه أيضاً نقول إنَّ الأمر الأول تعلَّق بذات المتعلَّق من حيث أنه متعلَّق ولكن يحتاج إلى قيدٍ ومتمّم جعلٍ ثانوي، والأمر الثاني عبارة عن القيد ومتمّم للجعل السابق، فيصح أخذ قصد الأمر في المتعلَّق بأمرٍ واحد فضلاً عمّا إذا كان بأمرين، وما ذكروه في وجه البطلان ساقطٌ كما ذكرنا.
واستنتجوا لهذا البحث نتيجة:- وهي أنه إذا لم يمكن أخذ قصد الأمر في المتعلَّق شرعاً فليس لنا أن نتمسك بإطلاق الدليل لقصد الأمر، لأنَّ التمسك بالاطلاق إنما هو فيما إذا أمكن التقييد، فإذا لم يكن التقييد فالإطلاق أيضاً ساقط لما سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى من أنَّ النسبة بين الاطلاق والتقييد هي نسبة العدم والملكة، فكلما لا يمكن تقييده شرعاً بشيء لا يمكن الاطلاق بالنسبة إليه، فبناءً على عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلَّق هذا القيد غير ممكنٍ فالإطلاق مثله أيضاً هو غير ممكن، فلا يمكن التمسك بإطلاق الأدلة لاعتبار قصد الأمر ولابد حينئذٍ من الرجوع إلى شيء آخر.
وهذه النتيجة التي ذكروها للمقام مخدوشة ومردودة: –
أولاً: – بما بيناه من إمكان قصد الأمر في المتعلَّق شرعاً بأمر واحدٍ فضلاً عن أمرين.
ثانياً: – على فرض عدم إمكان الاطلاق والتقييد الظاهري الاصطلاحي نتمسك بالاطلاق الواقعي، فالإطلاق الظاهري شيء والاطلاق الواقعي شيءٌ آخر، فبعد أنه لا يمكن أن يصدر الخطاب المجمل من الشارع الأقدس فكلامه في حاقّ الواقع إما مطلقٌ أو مقيد، والمفروض أنكم تقولون إنَّ التقييد غير ممكن، فالإطلاق الواقعي محقَّق فنتمسك بالاطلاق الواقعي لعدم اعتبار قصد الأمر في المتعلَّق.
ونتيجة البحث: – إنه يجوز لنا في كل أمرٍ صدر من الشرع أن نتمسك بإطلاقه لدفع قيدية قصد الأمر وكونه توصّلياً لا تعبّدياً.