الموضوع: بحث الأصول – الأصول العملية – عدم جواز العمل بالعام أو المطلق إلا بعد الفحص عن المخصص والمقيد وكذلك لا يجوز العمل بالأصل إلا بعد الفحص عن الأمارة .
قلنا إنه لا يصح العمل بكل عام ولا بكل مطلق ورد في الكتاب والسنَّة إلا بعد الفحص عن المخصّص والمقيد، فاجتهاد المجتهدين بين عامتهم وخاصتهم يدور مدار كمية التفحّص وكيفية التفحص، هذا بالنسبة إلى الأصول البحتة كأصالة العموم وأصالة الاطلاق، فلا اعتبار لأصالة العموم مطلقاً إلا بعد الفحص، كما انه لا اعتبار لأصالة الاطلاق إلا بعد الفحص، وأما الأصول العملية الأربعة المشهورة كأصالة البراءة – عقليةً أو نقلية – وأصالة التخيير والاستصحاب والاحتياط فهذه الأصول الثلاثة – أي البراءة والتخيير والاستصحاب – لا اعتبار بها أصلاً إلا بعد الفحص والتفحّص في الأدلة، فمن تمسك بأصالة البراءة أو التخيير أو الاستصحاب موضوعياً كان أو حكمياً بدون فحصٍ عن الأدلة يكون تمسكه باطلاً.
وبيان ذلك:- إنَّ فقهنا معاشر الامامية رفع الله شأنهم بل فقه جميع المسلمين بل يمكن أن يقال أن فقه جميع الملل متوقفة على أمور ثلاثة، فلا تصل إلى كل واحدٍ إلا بعد البحث عن أمور، الأول الأدلة الواصلة إلينا من الكتاب والسنَّة، أي الأمارات المعتبرة من الكتاب والسنَّة والاجماعات المعتبرة، فلا يجوز العمل بغيرها مع وجودها، فمع وجود الأمارات المعتبرة والظواهر المعتبر من الكتاب والسنَّة والاجماع لا تصل النوبة إلى الأصل العملي مطلقاً موضوعياً كان أو حكمياً لفرض تأخر رتبة اعتبار الأصول العملية عن الأمارات مطلقاً، وقد أثبت العلماء بأجمعهم من فقهائهم وأصولييهم على أنَّ الأمارات مقدمة على الأصول العملية مطلقاً، وإنما الخلاف فيما بينهم أنَّ جهة التقدم هل هو ورود الأمارات على الأصول أو حكومة الأمارات على الأصول، فالخلاف إنما هو في جهة التقدّم لا أصل التقدّم لأنَّ الأمارات كاشفة عن الواقع ومع وجود الكشف عن الواقع لا تصل النوبة إلى الجهل المحض الذي هو موضوع الأصول، فالحكومة في الواقع عبارة عن التخصيص والورود في الواقع عبارة عن التخصص، والفرق بينهما أنَّ التخصيص أو التخصَّص أن التخصَّص أمر تفهيمي والورود والحكومة إنما هو بلحاظ التعبّد الشرعي، وسيأتي تفصيل ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى، فلا يصح عند العلماء بل عند العقلاء بأجمعهم العمل بالأصول مع وجود الأمارة والظاهر المعتبر، هذا هو الدرجة الأولى في الاجتهاد الاستنباط.
الدرجة الثانية الأصول الموضوعية، فإذا لم تكن عندنا أمارات معتبرة وظواهر معتبر تصل النوبة إلى الأصول الموضوعية، ومع وجود الأصول الموضوعية لا تصل النوبة إلى الأصول الحكمية أصلاً وأبداً لما سنثبت في محلّه إن شاء الله تعالى أنَّ الأصول الموضوعية مقدمة رتبةً على الأصول الحكمية، ومع وجود الدليل المقدَّم رتبةً على الدليل الآخر لا تصل النوبة إلى الدليل الآخر أصلاً وأبداً، ثم مع فقد الأصول الموضوعية تصل النوبة حينئذٍ إلى الأصول الحكمية، فأساس الاستفادة والاستنباط في فقه كل ملّة متوقفة على هذه الأمور الثلاثة، أولاً الظواهر والأمارات، وثانياً الأصل الموضوعي، وثالثاً الأصل الحكمي.
ومن هذا البيان ظهر أنه لابد من الفحص في العمل بالأصول العملية مطلقاً لفرض أنَّ رتبة اعتبار الأصول العملية موضوعية كانت أو حكمية إنما هو بعد فقد الدليل وفقد الأمارات.
وهناك مثال آخر:- وهو أنه إذا أردنا في فقهنا أن نعيّن حكماً لقضية من القضايا ونعلم أنَّ الشربة الكذائية التي جيء بها إلينا من محلٍّ هل يكون حكمها الحرمة أو أنَّ حكمها الاباحة فلابد أوّلاً من أن نراجع الروايات الواصلة إلينا في حكم الأطعمة والأشربة عن المعصومين فنبيّن حكم الشربة من هذه الروايات ومع عدم وجود رواية في البين لابد وأن نرجع إلى الأصل الموضوعي ونرى أنه إن كانت سابقاً نجساً وحراماً فهو حرام وإلا فليس بحرام، ومع عدم الأصل الموضوعي وعدم الحالة السابقة فقهراً تصل النوبة إلى أصالة الحلية الثابتة بالأدلة العقلية والنقلية.
والفرق بين البحث في الأصول اللفظية والبحث في الأصول العملية واضح لأنَّ الفرق في الأصول اللفظية الوجود المانع، فأصالة العموم حجة معتبرة والمانع هو وجود المخصّص، وأصالة الاطلاق حجة معتبرة في المحاورات والمانع عن هذه الحجة وجود المقيد، ففي الأصول اللفظية يفحص المجتهد عن المانع للحجة وعدمه وفي الأصول العملية يبحث عن اثبات المقتضي للحجية إذ يؤخذ بحجية الأصول العملية مطلقاً إلا بعد الفحص واليأس عن الدليل، فالفحص واليأس عن الدليل يوجب حصول المقتضي لحجية الأصول العملية، فلا اقتضاء للحجية لها قبل ذلك ولكن في الأصول اللفظية البحث اليأس يوجب الايمان بعدم المانع والمقتضي كان ثابتاً قبل البحث فيجري.
ثم إنَّ المتقدمين من الأصوليين قدس الله أسرارهم جعلوا بحثاً في أصولهم في المقام وأثاروا القول في ذلك في تفاسيرهم خصوصاً بعض العامة كالرازي وغيره حيث جعلوا ذلك من مباحث الكريم ثم جاءوا به وذكروه في الأصول أيضاً فقالوا هل الخطابات الكتابية في القرآن الأقدس مختصّة بالمخاطبين أو يعم الغائبين أو يعم غير المخاطبين، وهو بحث تفسيري قد أدخلوه في علم الأصول فقد ذكر في قرآننا الأقدس ما يقرب من ثمانين مورداً تعبير ( يا ايها الذين آمنوا ) فهل هذه الكلمة المباركة مختصة بخصوص الحاضرين في مجلس النبي أو يعم الغائبين أو يعم المعلومين؟، فنزاعهم وقع في مواطن ثلاثة، الأول أنَّ هذه الخطابات المشتملة على أدوات النداء يختص بخصوص من حضر عند تكلّم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ولا يشمل باقي أهل المدينة وكل من كان غائباً عن محضره المقدس، والثاني قالوا إنها تشمل الغائبين عن مجلس التخاطب أيضاً، فهم تعدّوا عن المرتبة الأولى وقالوا إنه يشمل الغائبين في محضره الأقدس ولا يشمل المعرضين، والثالث أنه يشمل المعدودين إلى يوم القيامة، وهذا بحث تفسيري كلامي أصولي، والحق بطلان المذهبين الأوّلين من أصلهما وأساسهما.