الموضوع: بحث الأصول – مباحث الألفاظ – مبحث الخاص والعام – حكم تعقب الاستثناء لجمل متعدد، مبحث تخصيص وتقييد الكتاب الكريم بخبر الواحد .
إذا تعقب استثناء بجمل متعددة فهل يرجع الاستثناء إلى جميع تلك الجمل أو إلى الجملة الأخيرة أو إلى واحدة بلا تعيين أو يصير الكلام مجملاً؟، فإذا قال أكرم العلماء وأضف الزهّاد سلّم على الهاشميين إلى غير ذلك من الجمل ثم قال إلا الفسّاق فهل يرجع قول إلا الفساق إلى جميع تلك الجمل أو إلى الجملة الأخيرة أو يصير اللام مجملاً؟، وفي الآية الكريمة ﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً ﴾ إلى أن يقول جلَّ جلاله ﴿ إلا الذين تابوا ﴾ فذكر الله تبارك وتعالى جملاً عديدة وتعقبها باستثناءٍ واحد، وبحسب متعارف فهم أهل المحاورات ما نفعل بهذا الاستثناء وأيّ شيء يصير هذا الاستثناء؟
الاحتمالات الثبوتية في مثل هذا الاستثناء متعددة: –
الاحتمال الأول: – أن يرجع الاستثناء إلى الجميع، ففي المثال العرفي أكرم العلماء وأضف الزهّاد وسلّم على الهاشميين إلا الفساق فإلا الفساق هو استثناء من جميع الفرق الثلاثة.
الاحتمال الثاني: – إنَّ القدر المتيقن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة لأنه إن رجع إلى جميع الجمل فسوف يشمل الجملة الأخيرة قطعاً ونشك في أنه هل يتعين الرجوع إليها أو لا فهو القدر المتقين من لرجوع إليها، فعلى هذا أكرم العلماء وأضف الزهّاد وسلّم على الهاشميين إلا الفسّاق يتعين رجوعه إلى خصوص الهاشميين من باب الأخذ بالقدر المتيقن.
الاحتمال الثالث: – إنا ندور مدار وجود القرائن الخارجية، فإن كانت في البين قرينة معتبرة دالة على الرجوع إلى الجميع نأخذ بها، وإن كانت في البين قرينة معتبرة دالة على الرجوع على الأخير نأخذ بها، وإلا يصير الكلام مجملاً ولا اعتبار بهذا الاستثناء أصلاً، وقد قال به جمع من الأدباء وتبعهم بعض الأصوليين أيضاً.
الاحتمال الرابع: – ما عن بعضٍ منهم، أنه إن كرر الفعل يرجع الاستثناء إلى الجميع وإن لم يكرر الفعل يرجع إلى خصوص الجملة الأخيرة، فإن قال أكرم العلماء والزهّاد والهاشميين إلا الفساق يرجع إلى الجميع إذ كان الفعل واحداً واستثني منه، ولكن لو قال أكرم العقلاء وأضف الزهّاد سلّم على الهاشميين إلا الفساق فالاستثناء يرجع إلى خصوص الجملة الأخيرة.
والكل لا اعتبار بها بنحو الكلية: –
أما القول الأول: – إنما ندرو مدار القرائن المعتبرة، فالقرينة على التعيين قد تكون موجودة وقد تكون مفقودة فلا كلّية في هذا الأمر وهذا أمر صحيح، فنحن ندور مدار القرائن وظواهر الصياغات وظواهر الكلمات، فمع وجود قرينة معتبرة على التعميم أو على التخصيص نأخذ بالقرينة على إشكال ولكن مع عدم القرينة يصير الكلام في حكم المجمل، فالقرينة لا كلية فيها فقد تكون القرينة موجودة وقد لا تكون قرينة في البين.
وأما أنه إذا لم يكرر الفعل في الجمل يرجع الاستثناء الجميع ولو كرر يرجع إلى الجملة الأخيرة فهذا أيضاً مثل القول الأول، لأنه يقول إنه مع عدم تكرر الفعل كون المستثنى شيء واحد وإن تعددت جمله في الظاهر، فأكرم العلماء والزهّاد والهاشميين إلا الفساق كأن المستثنى منه شيء واحد فاستثنينا الاستثناء منه وأما مع تكرر الفعل أكرم العلماء وأضف الزهّاد سلّم على الهاشميين فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لفرض أنَّ كل واحد من المستثنيات انعقد ظهوره ولا دليل على رجوع الاستثناء إليه، هذا إن قبل العرف وأبناء المحاورة هذه القرينة يرجع هذا القول إلى القول الأول لفرض أنَّ القول الأول أنه مع وجود القرينة يرجع إلى الكل ومع عدمها يختص بالأخيرة، فهذا أيضاً داخل في القول الأول.
وأما أنَّ الكلام يصير مجملاً فهذا أيضاً على إطلاقه لا وجه له: – لأنه لو فرض وجود قرينة على التعيين يلزم الأخذ بذي القرينة بلا إشكال.
وخلاصة الكلام في هذا المبحث: – هو أنه إذا تعقّب استثناء لجملٍ كثيرة فنحن نتبع القرائن الموجودة، ومع عدم القرائن الموجودة الجملة الأخيرة متعينة في رجوع الاستثناء إليها والبقية لا دليل على جريان حكم الاستثناء عليها.
بحثٌ آخر: –
قد جرت السيرة من أوّل البعثة ومن زمان أئمة الدين عليهم السلام تخصيص عمومات الكتاب الكريم وإطلاقاته بخبر الواحد، فكم قد خصصت العمومات بخبر الواحد لا تعد ولا تحصى، وكم قد قيدت إطلاقات الكتاب بخبر الواحد من العبادات والمعاملات وغيرهما، إذ جاء في الكتاب الكريم ﴿ أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة ﴾ فقد خصص بمقدار ألف مخصص وألف مقيد، وهكذا بالنسبة إلى ﴿ أوفوا بالعقود ﴾، فاستقرت سيرة المسلمين بجميع فرقهم من أوّل البعثة وحين ظهور الأئمة عليهم السلام على تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد المعتبر وعلى تقييد مطلقات الكتاب بخبر الواحد المعتبر، وكان هذا بمرأى من نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ولولا هذا التقييد وهذا التخصيص لاختل نظام الاجتهاد ونظام الافادة والاستفادة، فلو عملنا بعموم الكتاب مثل ﴿ أقيموا الصلوة ﴾ أي شيء نفعل، أو ﴿ وآتوا الزكوة ﴾ أي شيء نفعل، أو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ أي شيء نفعل؟، فلابد من تقييد وتحديد هذه العمومات والاطلاقات بحدودٍ وقيودٍ خاصة.
ولم يستشكل في هذه السيرة المعتبرة المسلّمة بين طرفي المسلمين أحد من العلماء إلا ما نسب إلى بعض الاخباريين فقد أشكلوا بإشكالات ثلاثة: –
الاشكال الأول: – إنَّ هذا التخصيص والتقييد ومخالف للأخبار المستفيضة الصادرة عن أئمتنا عليهم السلام أن ما خالف قول ربنا لم نقله وما خالف قول ربنا فهو زخرف وما خالف قول ربنا فاضربوه على الجدار، فخبر الواحد المخالف للعمومات والاطلاقات هو مخالف للكتاب فلابد من طرحه وضربه عرض الجدار، فلا معنى للتقييد والتخصيص.
الاشكال الثاني: – إنه لو جاز تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد وتقييدها بخبر الواحد لجاز نسخ الكتاب بخبر الواحد أيضاً ولم يقل بذلك أحد، فنسخ الكتاب لابد وأن يكون من صاحب الكتاب، ولابد أن يكون عن نفس الوحي السماوي ولا يمكن أن ينسخ الكتاب بخبر الواحد، فكما أنه لا يمكن أن ينسخ الكتاب بخبر الواحد أيضاً لا يمكن أن يخصَّص ويقيَّد الكتاب بخبر الواحد.
الاشكال الثالث: – إنَّ الكتاب قطعي الصدور نزل به جبرئيل عن ربّ العالمين إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وخبر الواحد ظنّي الصدور، وظني الصدور لا يقدر على التقدم على ما هو قطعي الصدور.
هذه هي أدلة المانعين.
أما الأول: – وهو أنَّ النصوص المستفيضة دالة على أنَّ ما خالف قول ربنا لم نقله وهو زخرف وباطل المراد بهذه المخالفة بالتباين لا المخالفة بالاطلاق التقييد والعموم والخصوص، فالمخالفة التعميم والتخصيص والاطلاق التقييد ليست مخالفة أصلاً وأبداً، بل الخاص والمقيد قرينة صالحة للتصرف في العام وفي المطلق، ويكون من قبيل ذي القرينة والقرينة لا أن يكون بينهما تخالف، فلو قال أحد ( أوفوا بالعقود إلا العقود المشتملة على المحرّمات ) لا يرى العرف ولا العقل في هذا تنافيا ومخالفة، فلا ربط للتمسك بهذه الأخبار في مسألة تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد وتقييد اطلاقاته بخبر الواحد وإنما هي أجنبية عن هذا المطلب.
وأما قولهم إنه لو جاز التخصيص والتقييد لجاز النسخ أيضاً والنسخ لا يجوز فالتخصيص والتقييد لا يجوز: – فلا ريب ولا إشكال أنَّ هذا قياس مع الفارق فأين التخصيص والتقييد وأين النسخ؟!! فالتخصيص والتقييد من شؤون المحاورات ومن شؤون الكلمات ومن محسّنات الكلمات أما النسخ فهو شيء خارج ولابد أن بثت بالأدلة العقلية، فإذاً هذا قياسٌ مع الفارق.
وأما الدليل الآخر وهو أنَّ الخبر ظني الصدور والكتاب الكريم قطعي الصدور والظني لا يتقدم على القطعي فهذا الدليل ساقط من أصله: – لأنَّ التخصيص والتقييد إنما هو بالنسبة إلى ظواهر الكتاب لا بالنسبة إلى أصل صدور الكتاب، فأصل صدور الكتاب قطعي ولكن ظواهره ظنّية من أوله إلى آخره، فالتخصيص يقع بين الظنيين لا أن يقع بين الظني والقطعي.