1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة فاتحة الکتاب
  10. /
  11. آية ۱

قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ. ال (باء) للاستعانة، لأنّ الإنسان مفتقر بذاته، و المحتاج المطلق لا بد أن يستعين في جميع شؤونه بالغنيّ المطلق الذي هو اللّه تعالى، فالممكنات في ذاتها و عوارضها و حدوثها و بقائها محتاجة إليه فهي بلسان الحال تستعين به تعالى، فقدّرت الاستعانة في المقال تطبيقا بين لساني الحال و المقال.
و جعل المتعلّق كل ما يفعل بعد البسملة و إن كان صحيحا لا بأس به و لكن كون المتعلق هو الاستعانة يدل عليه أيضا بالملازمة، فإنّ الاستعانة المطلقة به تعالى تستلزم الاستعانة في كل فعل يؤتى به خصوصا ما يؤتى به بعد البسملة، كما أنّ كون المتعلّق هو الفعل الخاص مثل القراءة في المقام يستلزم تحقق الاستعانة المطلقة أيضا، إذ المراد القراءة مستعينا به لا القراءة المطلقة و لو بلا استعانة و رعاية منه تعالى، فيكون الفرق بينهما كالفرق بين الطبيعي و الفرد في أنّ تحقق كل منهما خارجا يستلزم تحقق الآخر بل هو عينه.
(اسم): أصله من السمو- مخففة- بمعنى الرفعة و منه السماء، و يصح أن يكون اشتقاقه من السمة بمعنى العلامة. و الهاء عوض الواو فيكون أصله الوسم، فالوسم و الوسام و الوسامة بمعنى العلامة. و الهمزة: همزة وصل على التقديرين، و يصح الاشتقاق من كل منهما، لأنّ التبديل و التغيير في حروف الكلمة جائز ما لم يضر بالمدلول إلّا أن يكون اللفظ بخصوص شخصه سماعيا؛ و من وقوع التغيير و التبديل في هذا اللفظ في الاشتقاقات الصحيحة و سهولة لغة العرب نستفيد صحة ما تقدم.
و يصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: و هو البروز و الظهور، لأنّ الرفعة نحو علامة، و العلامة نحو رفعة لذيها، و هما يستلزمان البروز و الظهور. و دأب اللغويون و الأدباء و تبعهم المفسرون على جعل المصاديق المتعددة مع وجود جامع قريب من مختلف المعنى، مكثرين بذلك من المعاني غافلين عن الأصل الذي يرجع الكل إليه، فكان الأجدر بهم بذل الجهد في بيان الجامع القريب و الأصل الذي يتفرع منه، حتّى يصير بذلك علم اللغة أنفع مما هو عليه، و لذهب موضوع المشترك اللفظي و غيره من التفاصيل إلّا في موارد نادرة. و لعل سبب إعراضهم عن ذلك هو أنّ ذكر اللفظ و بيان موارد استعمالاته سهل يسير بخلاف الفحص عن الجامع و تفريع ألفاظ منه.
ثم إنّ لفظ الاسم: اسم جنس لأسماء غير محصورة تحدث و تزول على مر العصور في ألفاظ و لهجات غير متناهية.، و هذا من اللايتناهى الذي اتفق الفلاسفة على صحته و اصطلح القدماء منهم عليه ب «اللايتناهى اللايقفي» و لشرحه موضع آخر يأتي عند قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [سورة الروم، الآية: 23] إن شاء اللّه تعالى.
و لفظ الاسم هنا واسطة محضة لاسم اللّه تبارك و تعالى لا أن يكون له موضوعية خاصة فيكون مما به ينظر لا مما إليه ينظر كما هو الشأن في جميع الأسماء إلّا أنّ فيها واسطة لتعرّف المعنى و هنا واسطة لتعرف اللفظ أي «اللّه».
و على أية حال سواء كان الاسم من الوسم واقعا بمعنى العلامة، أو من السمو بمعنى الرفعة، ففي ذكر البسملة يكون إظهار لإضافة العبد نفسه إليه تعالى إضافة تشريفية بذكر اسمه تعالى، و رفعة لمقام العبد به، و ذكر الاسم في غيره تعالى علامة للمعنى المراد و إخراجه عن الخفاء إلى البروز و الظهور.
و لا ريب في أنّ الاسم عرض قائم بالغير سواء أريد لفظ- أ س م- أو مدلوله اللفظي- كلفظ [كتاب‏]- مثلا، و ما أطيل فيه قديما من أنّ الاسم عين المسمى أو غيره قد ظهر في الفلسفة المتعالية بطلانه.
و في تخلل لفظ الاسم بين حرف [الباء] و لفظ الجلالة إشارة إلى أنّ ما هو حد الإدراك للإنسان إنّما هو ذكر اسمه تعالى و الإعتقاد به مشيرا من حيث الإضافة إلى الذات لا أن يحوم أحد حول كشف الحقيقة و الذات فإنّها لن تدرك لغيره تعالى. و أما قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [سورة العلق، الآية: 2] مخاطبا نبيّه (صلّى اللّه عليه و آله) حيث ذكر الاسم فيه أيضا فهو لأجل تعليم الغير لا بالنسبة إلى مقام النبي الجامع من الحقائق كنوزها و الحاوي لدقائق رموزها.
ثم إنّه قد ذكرت هذه الكلمة- اسم- في القرآن الكريم مفردة و مجموعة، مضافة إلى اللّه تعالى، و إلى الرب، و إلى الضمير الراجع إليه تعالى، و موصوفة. فقال تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [سورة الأعراف:، الآية: 180]. و في الكل مقرونة بالتعظيم و التجليل، و قد كثرت استعمالات هذه الكلمة في الآثار الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أئمة الهدى (عليهم السّلام) في دعواتهم مع اللّه تعالى: باسمك‏ العظيم‏ و اسمك الأعظم‏ و باسمك الأعظم الأعظم‏.
و المراد بالعظيم: ما أذن اللّه تعالى لخلقه أن يدعوه به، كجميع أسمائه تعالى. و المراد بالأعظم: ما هو مستور عن خلقه و لكنّه تعالى أذن لبعض أحبائه أن يدعوه به، و أما الأعظم الأعظم فهو: ما استأثره لنفسه و لم يظهره لأحد غيره.
اللّه: أجل لفظ في الممكنات كلها، لأعظم معنى في الموجودات جميعها. بهت في عذوبة لفظه كل سالك مجذوب، و تحيّر في عظمة معناه جميع أرباب القلوب، تتدفق المحبة و الرأفة عن الاسم فكيف بالمعنى، فكأنّ نفس المعنى يتجلّى فيه و يقول: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [سورة طه، الآية: ۱٤] جمعت فيه من الكمالات حقائقها و من الألطاف و العنايات دقائقها و رقائقها، تطلبه الملائكة الكروبيون كما يطلبه أهل الأرضين و الكل لا يصل إليه، ظهر لغيره بالآثار و خفي عن الجميع بالذات، فما أعظم شأنه فقد عجزت العقول- و إن قويت فطنتها- عن درك أفعاله فضلا عن صفاته فكيف بذاته، فكلّما زاد الإنسان تأملا فيه زيد تحيرا و جهلا. فسبحان الذي اكتفى بالتحيّر في الذات و الصفات و الأفعال عن التعمق فيها لعلمه الأزلي بعدم قدرة ما سواه على ذلك أو لعدم لياقة جملة من العقول به.
ثم إنه قد ذكر أهل اللغة أنّ [اللّه‏] اسم جنس للواجب بالذات و لكنه منحصر في الفرد كالشمس و القمر و نحوهما و تبعهم فيه جمع من المفسرين. و هو غير صحيح عقلا لأن المتفرد بذاته في جميع شؤونه و جهاته و البسيط فوق ما نتعقله من معنى البساطة كيف يقال في اللفظ المختص به إنه اسم جنس (عام)؟! و قد ثبت في الفلسفة الإلهية المتعالية أن الكلية و الجزئية و الجنسية و نحوها من شؤون المفاهيم الممكنة و ذاته الأقدس فوق ذلك مطلقا فلا يصح اطلاق اسم الجنس على اللفظ المختص به تعالى.
نعم لو أراد القائل بأنّه اسم جنس على نحو الجنسية الوجودية أي: السعة الوجودية بالعنوان المشير إلى الذات لا الجنسية الماهوية لكان له‏ وجه لطيف و لكنهم بمعزل عن ذلك. نعم ربما يطلق الإله على غيره تعالى إطلاقا اعتقاديا باطلا، كقول فرعون: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [سورة القصص، الآية: 38]، و قوله تعالى: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [سورة ص، آية: ٥].
كما أن القول بأن (اللّه) اسم جنس باطل من جهة العلوم الأدبية أيضا لعدم وقوعه صفة و وقوعه موصوفا دائما فلا يصح أن يكون اسم جنس بل هو علم مختص لواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية لظهور آثار العلمية فيه على ما هو المعروف بين الأدباء.
و نظير ذلك ما ذكروا أنه مشتق من وله بمعنى تحير، أو من أله بمعنى تعبد. لتعبد الكل له تكوينا أو اختيارا، و تحيرهم فيه.
و هذا أيضا مردود أولا بأن التحير و التعبد عنوان وصفي فلا يصح أن يؤخذ في ما هو اسم للذات المتصف بجميع صفات الجمال و الكمال و الجلال. و ثانيا بما رواه ابن راشد في الصحيح عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سئل عن معنى اللّه تعالى فقال (عليه السلام): استولى على ما دق و جل» فإن الحديث ظاهر في أن لفظ (اللّه) غير مشتق من أله و وله بل هو اسم جامد بمعنى القيّومية المطلقة على ما سواه.
فالحق ما نسب إلى الخليل اللغوي و غيره من أن لفظ الجلالة بسيط و ليس بمشتق، و اللام جزء اللفظ، و أنّ الواضع له هو اللّه تعالى بل جميع أسمائه عرفت بتعليمه عزّ و جل فهو المعرّف فيها و المعرّف بها و يشهد له‏ قول الصادق (عليه السّلام): «اعرفوا اللّه باللّه».
إن قلت: إنّ كلام اللغويين في مفهوم (اللّه) من حيث إنه مفهوم لا الذات الأقدس إذا لا إشكال في صحة قولهم في الاشتقاق و كونه من اسم الجنس.
(قلت): قولهم إنما يصح في المفاهيم الممكنة و أما إذا كان الموضوع واحدا و واجبا بالذات يكون الإطلاق عليه مع إطلاقه على الممكن كالاشتراك اللفظي، كما ذهب إليه جمع من الفلاسفة في أسمائه تعالى فيكون إطلاقه‏ عليه تعالى بنحو العلمية و في الممكن بنحو اسم الجنس، كما في لفظ المدينة مثلا فإنها علم لمدينة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و اسم جنس لسائر المدن و لكن في اسمه تعالى لا يجوز إطلاقه على غيره لاختصاصه به، كما في قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [سورة طه، الآية: ۱٤] و يستفاد ذلك من كلام العرب قبل الإسلام أيضا.
هذا ما يتعلق بلفظ الجلالة من حيث هو.
و أما معناه فلا ريب في أنه مما تحير فيه العقول مع اعتراف الجميع بوجوده و دأب القرآن و ما ورد في الشريعة التعبير عنه تعالى بالأسماء الحسنى (الصفات) التي ذكرت في القرآن من دون تحديد بالنسبة إلى الذات بل ورد في الأثر عن الأئمة (عليهم السّلام): «يا من لا يعلم ما هو و لا كيف هو و لا أين هو و لا حيث هو إلّا هو» فأثبتوا له تعالى أصل الهوية و لكن حصروا العلم بالهوية به تعالى. نعم ورد في الآثار عنهم (عليهم السّلام) التعبير عنه تعالى: «أنه ذات لا كالذوات و شي‏ء لا كالأشياء» و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «اذكروا من عظمة اللّه ما شئتم و لا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلّا و هو أعظم منه»
و عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ اللّه تعالى يقول و إنّ إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».
و أما ما ورد عن الفلاسفة المتألهين: إنه الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية و المسلوب عنه جميع النواقص كذلك، و عن العرفاء و بعض محققي الفلسفة الإلهية: أنه الذات المسلوب عنه الإمكان مطلقا، و عن بعض قدماء اليونان- الذي عبر عنه في كلماتهم بشيخ اليونانيين- أنه ذات فوق الوجود يمكن إرجاع جميع ذلك إلى ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) و إن قصرت عبارات بعضهم عن ذلك. و سنعود إلى بعض ما يتعلق بالمقام في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى، و لعل عدم تعرض القرآن و سائر الكتب السماوية لحقيقة ذاته الأقدس لوضوحه بالآثار و قصور الممكن مطلقا عن درك حقيقة ذات الواجب و إنما حده درك الآثار فقط و هو تعالى بيّن ذلك كاملا في كتابه و يتم بذلك الحجة و البيان.
و على أي تقدير ف (اللّه) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التسعة و التسعين أو الثلاثمائة و ستين التي من أحصاها دخل الجنّة على ما رواه الفريقان، و هذه الأسماء المباركة منطوية في لفظ الجلالة انطواء الشعاع في نور الشمس مع المسامحة في هذا التشبيه.
قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
هما من الرحمة و من مشتقاتها، و رحمته عزّ و جل أعم صفاته و أوسعها شملت جميع ما سواه قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥٦] فكلما يطلق عليه شي‏ء في جميع العوالم يكون من رحمته تعالى، و إشكال أن الشر يطلق عليه الشي‏ء أيضا فلا بد و أن يكون من رحمته تعالى مردود بأنه ليس في التكوينيات شر محض و إنما يتحقق الشر بالإضافة- على ما يأتي-. و أما في الاختياريات فإن وساطة الاختيار بين الفعل و الفاعل يجعل الشر باختيار الفاعل فلا يكون من رحمته تعالى كما في قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79]. و سيأتي تفصيل هذا البحث المفيد مستقلا إن شاء اللّه تعالى في الآيات المناسبة له.
و في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [سورة لقمان، الآية: 27] إشارة إلى مظاهر رحمته الواسعة، و قد اعترف الأنبياء (صلى اللّه عليهم) و الأئمة (عليهم السّلام) و جميع الفلاسفة المتألهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة و إن بعض عظمائهم أطال القول في أن وجود كل شي‏ء من رحمته تعالى و أثبت ذلك بالأدلة الكثيرة و مع ذلك اعترف بالقصور عن دركها، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها.
ثم إنّ هاتين الكلمتين من الصفات المشبهة إلّا أنّهم فرّقوا بينهما بوجوه:
الأول: أن الرحمن مبالغة و الرحيم صفة مشبهة يدل على مجرد الثبوت هذا و إن كان صحيحا بالنسبة إلى ذات اللفظين حين الإطلاق على المخلوق. و أما من حيث إضافتهما إلى اللّه عزّ و جل فلا وجه للمبالغة بالنسبة إليه تعالى. لأن صفاته بالنسبة إليه تعالى غير محدودة فلا تجري المبالغة فيها. نعم تصح المبالغة بالنسبة إلى مورد الرحمة على نحو قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: ۱٦۰] و قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة البقرة، الآية: ۲٦۱] إلى غير ذلك مما ترجع المبالغة فيه إلى المبالغة في الرحمة بالنسبة إلى المخلوق.
و أما ما في بعض التفاسير من أن فعلان لا يدل على الثبوت بخلاف فعيل و إنما ذكر تعالى (الرحيم) لأجل اظهار ثبوت الرحمة بالنسبة اليه تعالى. (مخدوش) لأن التفرقة بين اللفظين انما تصح في الممكنات دون الواجب تبارك و تعالى كما عرفت.
الثاني: الرحمن يختص بالدنيا و الرحيم بالآخرة لتقدم الدنيا على الآخرة في سلسلة العوالم و النشآت الزمانية فيكون المقدم للمتقدم و الأخير للمتأخر، أو لذكر الرحيم مقرونا بالغفران و التوبة في جملة من الآيات الكريمة، و الغفران و أثر التوبة في الآخرة فيكون الرحيم مختصا بها.
و الوجهان مخدوشان لا يصلحان حتّى للاستحسان، فان العوالم بالنسبة إليه تبارك و تعالى في عرض واحد و إنّه محيط بالزمان و الزمانيات و خارج عنهما إلّا أن يلحظ ذلك بالنسبة إلى المخلوق. و قد ورد الرحمن بالنسبة إلى الآخرة في قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [سورة الفرقان، الآية: ۲٦]، و قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [سورة مريم، الآية: ۸٥]، كما ورد الرحيم بالنسبة إلى الدنيا في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 29] و قد ورد عن الأئمة الهداة: «يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما».
الثالث: أن الأول عام للجميع لقوله تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥٦] و الثاني خاص بالمؤمنين لقوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128] و هو أيضا مردود فإن ذكر بعض الأفراد و أشرفها لا يدل على نفي ما عداه إلّا بالمفهوم و قد ثبت في محله أنه لا مفهوم للقيد فراجع.
الرابع: أنّ الرحمن ذات الرحمة الشاملة لكل محتاج إليها و بجميع مراتبها التفضلية بلا اختصاص لها بنوع دون نوع من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و سائر المخلوقات فلأجل إهمال المتعلق استفيد العموم و الشمول لجميع الأنواع الممكنة من حضيض الجمادات الى أوج المجردات. نعم من أهم مصاديق الرحمانية تنظيم عالم التكوين بأحسن نظام و من أجلى مصاديق الرحيمية تنظيم التشريع بأكمل نظام و أثر التشريع إنما يظهر بالنسبة إلى المؤمنين العاملين به اختص الرحيمية بالآخرة من هذه الجهة، فهو تعالى رحيم في الدنيا بالتشريع و في الآخرة بالجزاء عليه.
و الذي ينبغي أن يقال: إنه لا ريب أن جميع ما سواه تعالى مورد افاضة الوجود منه تبارك و تعالى و هذا هو الرحمة الرحمانية التي خرج بها ما سواه من العدم إلى الوجود؛ كما لا ريب في أن كل نوع من أنواع الموجودات مطلقا بل كل صنف من أصنافها له خصوصية لا توجد تلك الخصوصية في غيرها و هي غير محدودة بحد و تنكشف في طي العصور و مر القرون و تلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك و تعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما أن في الإنسان نوعا خاصا منه و هو المؤمن مورد رحمته الرحيمية كذلك يكون في الملك و الفلك و الجماد و النبات و الحيوان أيضا أصناف خاصة تكون تلك الأصناف مورد رحمته الرحيمية بعد عدم برهان صحيح على اختصاص رحمته الرحيمية بخصوص دار الآخرة كما عرفت.
و قد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بأن القرآن من أبرز مظاهر رحمتيه تعالى أما الرحمانية فلفرض وحيه و إنزاله، و أما الرحيمية فلأنه تبارك و تعالى تجلى لعباده فأظهر فيه المعارف الربوبية و خلاصة الكتب السماوية و زبدة حقائق التكوين و التشريع و ربط به قلوب أوليائه.
ثم إنه يظهر من ذكر الرحمن بعد اسم الجلالة في البسملة و في قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [سورة الاسراء، الآية: 110].
و سائر موارد استعمال هذا الاسم المبارك في القرآن العظيم أن لهذا الاسم الشريف اهمية عظمى و منزلة كبرى عند اللّه تعالى فهو من أمهات الأسماء كالحي و الرب و القيوم و الرحيم و إلى هذه الأربعة ترجع سائر أسمائه عزّ و جل فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم نرى أنه استعمل مقرونا بالتعظيم و التجليل بالنسبة إلى عالمي الدنيا و الآخرة قال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [سورة مريم، الآية: ٦۱]، و قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [سورة الفرقان، الآية: ۲٦]، و قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [سورة الرحمن، الآية: 1] و قال تعالى: ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [سورة الملك، الآية: 3].
و أما الرحيم فقد ذكر في القرآن الكريم غالبا مقرونا مع الرءوف و التواب و الغفور، فقد جمع اللّه تبارك و تعالى في كتابيه التدويني (القرآن) و التكويني بين رحمته الرحمانية و رحمته الرحيمية فتكون الرحمة الرحمانية عامة لجميع الممكنات قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ [سورة طه، الآية: ٥] أي استولى و العرش هنا عبارة عما سواه تعالى، و الرحمة الرحيمية تعم جميع ذوي الكمالات التي أفيضت عليهم من المجردات إلى الجمادات فتكون من مظاهر رحمتيه تعالى الرحمانية و الرحيمية كما عرفت.

البسملة هي إيجاد الإضافة بين العبد و خالقه إضافة تشريفية، و قد اختيرت هذه الجملة المباركة لأن فيها من أوسمة الخير ما عرفت، فإن قرن العبد اعتقاده بالعمل بما يدعو إليه تعالى كانت البسملة وساما قوليا و اعتقاديا و عمليا و إلّا كانت لفظية فقط لها بعض الآثار كالتبرك باللسان مثلا.
و مثل هذه الإضافة لم تكن أمرا غريبا عند الناس بل هو مألوف عندهم بذكر اسماء عظمائهم و رؤسائهم في مبادئ أمورهم تشرفا و تقربا إليهم و وساما لأنفسهم مع أن المنسوب إليه كنفس المنسوب و النسبة في معرض الهلاك و الزوال فأثبت القرآن للنّاس إضافة تشريفية إلى اللّه تبارك و تعالى الذي لم يزل و لا يزال و تبقى الإضافة إليه كذلك أيضا فقرر ما هو المألوف لديهم بلفظ آخر و هو البسملة، كما في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [سورة البقرة، الآية: 200] و منه يعلم أهمية البسملة فإن فيها إضافة إلى الرحمن الرحيم الأزلي الأبدي و لهذا وردت أخبار تؤكد على الابتداء بها في جميع الأمور كما سيجي‏ء في البحث الآتي، فإذا قال العبد المؤمن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يكون من مظاهر رحمته تعالى من جهتين جهة التلفظ بالقول وجهة الذات فإن ذاته من مظاهر رحمته. كما عرفت.
ثم إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى و هو تارة يكون ذات المسمّى و أخرى: جوهرا موجودا خارجيا و ثالثة: عرضا كذلك. و الكل يصح بالنسبة إليه تعالى فمن الأول ما ورد في الأثر عن علي (عليه السّلام) «يا من دل على ذاته بذاته» فاتحد فيه تعالى الدال و المدلول و اختلف بالاعتبار و مثله كثير. و من الثاني أنبياء اللّه و أولياؤه الذين جاهدوا في اللّه، و في الحديث: «نحن اسماء اللّه الحسنى»، بل عن بعض الفلاسفة المتألهين: «إن جميع الموجودات تحكي عن جماله و جلاله». و من الثالث الأسماء اللفظية التي تطلق عليه تعالى و يأتي في المواضع المناسبة تتمة الكلام.
و المعروف أنّ أسماءه تعالى توقيفية لا يجوز إطلاق اسم عليه تعالى لم يرد في الشريعة المقدسة إطلاق به عليه، و إن أمكن ذلك عقلا، فلا يجوز اطلاق المادة و الصورة عليه تعالى لامتناعه عقلا و عدم الورود شرعا، كما لا يجوز إطلاق العلة عليه تعالى لعدم وروده شرعا و إن أمكن عقلا.
و أما الخالق و الجاعل و سائر مشتقاتهما فقد أطلقا عليه شرعا و هو صحيح عقلا أيضا، كما أنّه لم يعهد اطلاق اللقب و الكنية عليه تعالى لأجل أمور يأتي التعرض لها، و إن قيل إنّ الرحمن بمنزلة اللقب له تعالى، و لكنه لم أظفر بما يعضده من خبر يدل على ذلك.

البسملة في أول كل سورة إما جزء منها أو من السورة التي تسبقها، أو آية متكررة في القرآن، أو من غيره، ذكرت تبركا.
و الكل واضح البطلان كما يأتي سوى الأول و قد وردت النصوص على ذلك فتكون البسملة جزء من كل سورة التي افتتحت بها إلّا في سورة التوبة فإنه لا بسملة لها كما ستعرف.
فعن علي (عليه السّلام): «البسملة في أول كل سورة آية منها و إنما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى و ما أنزل اللّه تعالى كتابا من السماء إلّا و هي فاتحته».
و عنه (عليه السّلام) أيضا: «أنها من الفاتحة و أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقرأها و يعدها آية منها و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني».
و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و عن الرضا (عليه السّلام): «ما بالهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها».
و في سنن أبي داود قال ابن عباس: «إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان لا يعرف فصل السورة- أي انقضاءها- حتّى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
و في صحيح ابن مسلم عن أنس قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
و روى الدارقطني عن أبي هريرة: «إذا قرأتم الحمد فاقرؤا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنّها أم القرآن أم الكتاب، و السبع المثاني و بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إحدى آياتها».
و الأخبار في كونها جزء من سور القرآن كثيرة من الفريقين.
و يستحب الجهر بالبسملة مطلقا كما ورد النص بذلك و قد جعل ذلك من علامات المؤمن كما في الحديث و لعل السر في ذلك هو أن الجهر بها إجهار بالحق و إعلان لحقيقة الواقع.
كما تستحب الاستعاذة باللّه من الشيطان عند قراءة القرآن لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (*) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (*) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل، الآية: 97- 100] بل يستفاد من بعض الآيات لا سيما سورة الناس استحباب الاستعاذة مطلقا. و هي إما قولية أو فعلية. و اجتماعهما في واحد هو من الكمال، و سيأتي التفصيل.

عن نبينا الأعظم فيما رواه الفريقان: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو أبتر». و عن الصادق عليه السلام: «لا تدعها (أي البسملة) و لو كان بعدها شعر».
أقول: يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعا بينهما.
و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «أول كل كتاب نزل من السماء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين الى سوادها».
أقول: يأتي ما يتعلق بالاسم الأعظم و مراتبه. و آثاره و من هو العالم به.
و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «إذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ و إذا قرأتها سترتك ما بين السماء و الأرض».
أقول: و يظهر منه إنه عند دوران الأمر بين البسملة و الاستعاذة تكون البسملة أولى.
و عن الصادق (عليه السّلام): «من تركها من شيعتنا امتحنه اللّه بمكروه‏ لينبهه على الشكر و الثناء و يمحو عنه و صمة تقصيره عند تركه».
أقول: يظهر منه و من جملة من الأخبار ان ترك المندوب و فعل المكروه فيه آثار خاصة فضلا عن ترك الواجب و فعل المحرم.
و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها الآية التي قال اللّه عزّ و جل: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً».
و عنه (عليه السّلام) أيضا في تفسير البسملة: «يعني أسم بسمة من سمات اللّه تعالى و هي العبادة. قيل له: ما السمة؟ قال (عليه السّلام): العلامة».
أقول: العلامات الدالة على اللّه عزّ و جل كثيرة فإما جوهر خارجي كالمشاعر العظام، أو عمل خارجي كالصّلاة، أو ذكر قلبي كالتفكر في عظمة اللّه تعالى و التوجه إليه، أو ذكر لفظي كالبسملة و نحوها.
و في رواية أنّ كل واحد من أجزاء البسملة إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى‏
فعن الصادق (عليه السّلام): «الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه (ملك اللّه) و اللّه إله كل شي‏ء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة».
أقول: المراد ببهاء اللّه جماله و جلاله و السناء بمعنى الرفعة، و أشار (عليه السّلام) في هذا التفسير إلى علم الحروف و هو علم شريف إلّا أنّه مكنون عند أهله و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى.
و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ للّه عزّ و جل مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون و يتراحمون ادّخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة».
أقول: رواه الفريقان.
و عن علي (عليه السّلام): «الرحمن العاطف على خلقه بالرزق لا ينقطع عنهم مواد رزقه و إن انقطعوا عن طاعته».
أقول: المراد من مواد الرزق أسبابه.
و عن الصادق (عليه السّلام): «الرحمن اسم خاص لصفة عامة، و الرحيم اسم عام لصفة خاصة».
أقول: اسم خاص أي لا يطلق على غيره تعالى، و الصفة العامة لأن رحمته تعالى وسعت كل شي‏ء، و الرحيم اسم عام لإطلاقه على غيره تعالى أيضا و الصفة الخاصة يعني مختص بالمؤمنين في الآخرة و تقدم أن هذا الإختصاص إضافي أي أن أفضل أقسام الرحيمية إنما تكون للمؤمنين فقط.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"