1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة فاتحة الکتاب
  10. /
  11. الآيات 5 الى 6

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)


قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: لفظ الخطاب [إياك‏] استعمل هنا في مقام الحصر، و قد أطلق عليه تعالى في القرآن بضمير الغيبة و ضمير المتكلم مع إفادتهما الحصر أيضا، قال تعالى: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة يوسف، الآية: ٤۰]، و قال تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [سورة العنكبوت، الآية: ٥٦].
و يستفاد الحصر في المقام من أمرين:
أحدهما: سياق الآية المباركة لأن من كان «رَبِّ الْعالَمِينَ» و «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» و «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» لا وجه لعبادة غيره فإنّ غيره مطلقا مملوك له تعالى و محتاج إليه و لا وجه أن يدع من له تلك الصّفات في عبادته و يعبد غيره، و منه يظهر سر قولهم (عليهم السّلام): «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» و كثرة إطلاق الجهل على المشركين في الكتاب و السنة.
الثاني: استفادة الحصر من انفصال الضمير و تقديمه و ينحل الحصر الى النفي و الإثبات كأنه قال: لا نعبد غيرك و نعبدك، كما في لا إله إلّا اللّه. و سائر موارد الحصر.
و في الآية المباركة التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه بعد إقرار العبد بالالوهية و الاعتراف بالربوبية و انه مالك يوم الجزاء صار لائقا بالمخاطبة الحضورية معه تعالى فارتقى العبد من الغيبة الى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجه و الحضور.
و للتوجه من الغيبة الى الحضور مراتب بحسب مراتب المعرفة و الطاعة في العبد، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
نَعْبُدُ العبادة: الطاعة و أصل المادة تنبئ عن الذل و الخضوع و الاستكانة و الانقهار في أي هيئة استعملت و منها العبد و المملوك. فالمادة تشمل العبودية التسخيرية، و العبودية الاختيارية و الواقعية و العبادات الباطلة الاعتقادية، كما في قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ [سورة يس، الآية: ٦۰]. و قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء، الآية: 98]، و قوله تعالى: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [سورة العنكبوت، الآية: 17]، و العبادة: خضوع خاص ناشئ عن الإعتقاد بأن للمعبود عظمة، و لا يحيط بها العقل في المعبود الحقيقي، لعدم وصول الإدراك الى عظمته فضلا عن ذاته، و ان كان مدركا بالآثار، كما عرفت فإنه أعلى و أجلّ من أن يرقى إليه إدراك أحد، و لذا لا تصدق العبادة على الخضوع بالنسبة إلى غيره تعالى.
و قد تطابق العقل و النقل على عدم جوازها لغيره تعالى لأن حقيقتها الخضوع لمن هو في أعلى درجات الكمال بحيث لا كمال فوقه و هو منحصر باللّه تعالى، و في قوله تعالى: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (*) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: ۹٥- ۹٦] إشارة إلى ذلك، و أنه لا تكون العبادة الا للخالق و مفيض الحياة و الإطلاق بالنسبة إلى غيره تعالى اعتقادي باطل لا واقعي حقيقي.
و العناوين الشايعة ثلاثة: العبادة، و الطاعة، و الانقياد.
و الأول- عبارة عن إتيان العمل بقصد التقرب إلى اللّه تعالى سواء كانت صحة العمل في حد نفسه متوقفة على قصد القربة- كالصّلاة و الصوم و الحج و غيرها من سائر العبادات، فإذا أتى بها من دون قصد القربة يبطل أصل العمل، أو لم تكن كذلك، كقضاء حوائج الإخوان و أداء حقوق النّاس، أو مثل النظافة فإذا كان للّه تعالى يثاب عليه مع حصول الطاعة و إذا لم يكن له تعالى تحصل الإطاعة دون الثواب، فالإطاعة أعم من العبادة، كما أنّ الانقياد أعم من كل منهما لإطلاقه عليهما و على إتيان ما يحتمل أنه محبوب للّه تعالى و ترك ما يحتمل انه مبغوض له عزّ و جل و إن لم يكن أمر و نهي منه تعالى، و قد فصلنا الكلام في كتابنا [مهذب الأحكام‏].
و قد وردت الإطاعة في كثير من مشتقاتها في القرآن الكريم؛ قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 71]، و قال تعالى: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة الأنفال، الآية: ٤٦]، و قال تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٤]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ [سورة النساء، الآية: ٦٤] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
ثم إنّ العبادة هي التوجه إلى المعبود في القيام بما جعله من الوظيفة و إتيان المطلوب الذي أراده من العبد و حيث إنّ اللّه تعالى يطّلع على النوايا كاطّلاعه على الأعمال فلا بد أن تكون النوايا القلبية متوجهة إليه تعالى و منحصرة في العبودية له تعالى.
و بعبارة أخرى كما أنّ العابد حاضر لدى اللّه تعالى و لا يخفى منه على اللّه شي‏ء و هو عالم السر و الخفيات، بل وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: ٤]، يعلم خطرات القلوب و حركات الجوارح و لحظات العيون فلا بد و أن يكون توجه العابد إلى مثل هذا المعبود كاملا و كذا في قلبه تاما بحيث لا يخطر في قلبه غيره فإن ذلك يوجب النقص في العبادة و العبودية بل قد يوجب الطرد و الهجران و الإثم و العصيان، و قد قال علي (عليه السّلام) في معنى العبادة: «أن تعبد اللّه كأنك تراه و ان لم تكن تراه فإنه يراك».
و يأتي التفصيل في قوله تعالى: وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة الأعراف، الآية: 29].
و الدواعي للعبادة كثيرة حتّى عند شخص واحد فربما يختلف دواعيه لها في حالة عن حالة أخرى و كلما كانت العبادة مجردة عن الدواعي الشخصية و المادية كانت العبادة أشد خلوصا للّه تبارك و تعالى و لذا ورد عن علي (عليه السّلام): «أن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و ان قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و ان قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار» و نسب إليه (عليه السّلام): «ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك‏ أهلا للعبادة فعبدتك»، و عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام): «العباد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ و جل خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء. و قوم عبدوا اللّه عزّ و جل حبا له، فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة».
و لا شك في أن عبادته لحبه تعالى، كما في هذه الرواية من أفضل أنحاء العبادات لخلوصها حتّى عن المسألة عنه تعالى و إضافة شي‏ء إليه عزّ و جل خارجا عن ذاته، و لكن في بعض الروايات‏ عن علي (عليه السّلام) كما تقدم «أن قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار» و هي من أفضلها أيضا و لكن لا تصل إلى مرتبة المحبة، لأن المحبة قد تصل إلى مرتبة الفناء في المحبوب فلا يرى شيئا آخر أبدا وراء أهلية المحبوب و الشكر هو لحاظ شي‏ء آخر وراء ذات المحبوب و سيأتي تفصيل هذه المباحث في محالها إن شاء اللّه تعالى.
و إذا تحققت العبادة الواقعية بحيث لا يشوبها شي‏ء كانت ثمرتها عظيمة لا يمكن حدها، و قد ورد في ذلك ما يوجب التحير منه، فعن أبي جعفر (عليه السّلام): «إن اللّه جل جلاله قال: ما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشي‏ء أحب إليّ مما افترضت عليه، و إنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبه- الحديث-» فإن محبته تعالى لعبده من أجلّ مراتب الكمال و توجب وصوله إلى مقامات عالية لاستلزام الانقياد و العبودية التامة من العابد الإفاضة المطلقة بالنسبة إليه و يستفاد ذلك من كثير من الروايات، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
و عن المحقق الطوسي أن العبادة أقسام ثلاثة: قلبي كالعقائد الحسنة و بدني كالأعمال الحسنة، و اجتماعي كالمعاملات الشرعية و الأخلاق الحسنة مع النّاس و سيأتي في الآيات المباركة المناسبة لها تفصيل الكلام.
قوله تعالى: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: الاستعانة طلب العون، و الحصر هنا كالحصر في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» لفظي و سياقي و حالي، لأن الغني المطلق من كل جهة، لا بد و أن تنحصر الاستعانة به، و الاستعانة بما سواه ان رجعت إليه تكون الاستعانة به، و الا تكون شركا من هذه الجهة، فيكون المعنى هنا مشتملا على النفي و الإثبات، أي: لا نستعين بغيرك و نستعين بك فقط.
ثم إنّ الاستعانة باللّه تعالى إما اختيارية أو تكوينية بلسان الحال و الاستعداد، و الثانية من لوازم الإمكان لا تنفك عنه في جميع العوالم فإن المخلوق محتاج في حدوثه و بقائه إلى الخالق و مستعين به بل كل معلول مستعين كذلك من علته، كما ثبت بالبراهين العقلية و النقلية أن مناط الحاجة الإمكان دون الحدوث فجميع ما سواه مستعين به ذاتا و قد تجتمع الاستعانتان، كما في المؤمنين باللّه تعالى فإن فيهم الاستعانة التكوينية و الاختيارية، و كل ما تجلت عظمة المستعان في قلوبهم اشتدت استعانتهم به فالاستعانة به تعالى تتفاوت شدة و ضعفا.
و تأخير العبادة و الاستعانة عن «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» نحو تأخير المعلول عن العلة يعني: من كان رب العالمين و مالك يوم الدين لا بد و ان يكون معبودا و مستعانا به. كما أن في تقديم العبادة على الاستعانة اعتراف بالمسكنة و الخضوع بألطف وجه في أن يعتني الغني المطلق باستعانته، و من ثم قيل: نعم الشي‏ء الهدية أمام الحاجة مع أنه من قبيل تقديم الغاية على ذيها لكثرة أهمية الغاية فإن غاية الاستعانة باللّه انما هي استعانته في عبادته و ان ما سواها أمور زائلة و حقيرة، و العاقل لا يستعين باللّه تعالى في أمور زائلة غير دائمة إلّا إذا رجعت إلى ما هو دائم يبقى.
بل إن عبادته تعالى و الاستعانة منه عزّ و جل متلازمتان فعبادته استعانة به كما أنّ نفس الاستعانة عبادة له فيكون مثل قول القائل: أديت ديني فقضيت حاجتي أو قوله قضيت حاجتي أديت ديني. و في ذلك إشارة إلى أن لا ينسب العبد الى نفسه شيئا فانه خلاف أدب العبودية.
و جملة «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» دليل واضح على إبطال الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين، كما ذكره الأئمة الهداة (عليهم السّلام) على ما يأتي بيان هذا المبحث الشريف مفصلا في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.
و إنما ذكر «نعبد» و «نستعين» بلفظ الجمع إما باعتبار القارئ و من معه من الملائكة الحفظة، أو باعتبار من معه في صلاة الجماعة، أو من‏ المصلين، أو باعتبار من معه في الاعتقاد رجاء أن يكون فيهم من يقبل عمله فيقبل منه أيضا، و لأجل تصغير ما يصدر عنه من العمل فإذا التفت إلى أن الكل يعبدونه و يستعينون به عزّ و جل فلا يغتر به و لا يحسب لنفسه وزنا.
و الأولى أن يقال: إن لفظ الجمع فيهما للتحريض إلى حفظ وحدة المجتمع الذين يعبدونه تعالى و يستعينون به فكما انهم مجتمعون في وحدة المعبود و العبادة و المستعان به لا بد أن يكونوا كذلك في جميع شؤونهم كما تدل عليه آيات كثيرة، و سيأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.
و إنما كرر لفظ «إياك» لتأكيد الحصر و تشديده في كل واحد من العبادة و الاستعانة، و إطلاقها و حصرها فيه تعالى يقتضي الاستعانة به في جميع الأمور مطلقا، و هي عبارة أخرى عن الاعتقاد ب «لا حول و لا قوة إلّا باللّه» و العمل بمقتضاه في جميع الأحوال.
قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. هذا هو ثمرة العبادة و الغرض الأقصى من الاستعانة و أعلى المقامات الإنسانية. و هي الأمانة التي عرضت عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ [سورة الأحزاب، الآية: 72].
و الهداية: الدلالة سواء كانت إلى الحق أو الباطل، و كثيرا ما تستعمل في القرآن في الأول، و من الثاني قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]، و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى‏ صِراطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات، الآية: 23].
و للهداية مراتب كثيرة متفاوتة يصح تعلق الطلب بجميع مراتبها كما يصح تعلقه بالمراتب الراقية و ان كان الشخص واجدا لها بالنسبة إلى المراتب السابقة، ففي كل مرتبة منها تطلب المرتبة الأرقى منها، فلا وجه للإشكال بأن الشخص إذا كان واجدا للهداية لا يصح أن يطلبها من اللّه تعالى ثانيا لأن إبقاء ما يكون واجدا له و تكميل مراتبه و طلب ما فوقه كلها من اللّه تعالى.
و الهداية من أفعاله تعالى و هي من صفات الفعل لا صفة الذات و قد اضطربت كلمات الفلاسفة المتألهين في الفرق بين ما هو صفة ذاته تعالى و ما هو صفة فعله فجعلوا بعض ما هو صفة الفعل صفة لذاته عزّ و جل و بذلك عسر الجواب عنه و لم ينهضوا بدليل يحسم الاشكال. لكن المستفاد من الآيات الشريفة- على ما سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى- و السنة المقدسة قاعدة كلية و هي: كل ما يصح توصيف اللّه تعالى به و بنقيضه أو ضده فهو من صفة الفعل و كل ما لا يصح ذلك فيه فهو من صفة الذات.
و الأول- كالإرادة، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، و قال تعالى: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة المدثر، الآية: 31].
و الثاني- كالحياة و البقاء و العلم مثل: السميع و البصير و القدير، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
ثم إن الهداية إما تكوينية أو تشريعية:
و الأولى: ما يعم جميع ما سواه تعالى من المجردات و الماديات و يدل على ذلك قوله تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ [سورة طه، الآية: ٥۰] فالبلوغ إلى مرتبة الكمال في كل موجود هداية بالنسبة إليه.
و الثانية: تخص المؤمن و يطلبها منه عزّ و جل و قد جمعت في الإنسان الهدايتان التكوينية و التشريعية و هو يطلبهما معا أما الأولى بالاستعداد كما في سائر الموجودات و الثانية بالطلب الذي يختص به و أما الكافر فله الهداية التكوينية فقط كالنباتات و الحيوانات و إنما ترك الهداية التشريعية باختياره بعد ما تمت الحجة عليه.
الصراط: و هو الطريق المؤدي إلى المطلوب. و الاستقامة هي الاستواء في مقابل الانحراف و الاعوجاج. و إنّها تعم الجميع من الاعتقادات و الملكات بل و الخواطر النفسانية و أعمال الجوارح من العبادات و المعاملات و المجاملات فإنها إن تطابقت مع رضاء اللّه تبارك و تعالى كانت مستقيمة و إلّا فهي منحرفة قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101] فبين تعالى معنى الهداية و الصراط المستقيم بل يتحقق‏ الصراط المستقيم في جميع الموجودات فإنّها إن طابقت مع ما جعله اللّه تعالى لها في النظام الأحسن كانت على الصراط المستقيم و إلّا خرجت عنه بعدم بلوغها الى غاياتها للحوادث الطارئة.
فالهداية الى الصراط المستقيم متقومة بطرفين: المفيض و هو اللّه تعالى، و المستفيض و هو ما سواه تعالى، لأنّ جميع الموجودات في طريق الاستكمال الذي أعده الحكيم جل شأنه.
ثم إنّ الصراط المستقيم كلي واقعي له أنواع كثيرة متفاوتة في التجرد و التعلق بالمادة و غير ذلك و يتحد مع الجميع اتحاد الجنس مع أنواعه فالمجرد منه كالعقل الكلي و المتعلق بالمادة منه كنفوس الأنبياء و الأوصياء، و الأولياء و العرضية منه كالكتب السماوية و التشريعات الإلهية.
و قد بين اللّه تعالى معنى الصراط المستقيم الذي يطلبه الإنسان في عدة آيات، منها قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [سورة الأنعام، الآية: ۱٦۱]، فجعل الدين هو الصراط المستقيم، و منها قوله تعالى: وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: ٦۱]، فجعل اتباع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هو الصراط المستقيم، و كذا في قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ [سورة المؤمنون، الآية: ۷٤]، و منها قوله تعالى: وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: ٦۱]، و جميع هذه الآيات المباركة بيان لأمر واحد و هو الدين الذي أراده اللّه تعالى لخلقه و عبّر عنه بالنور في الآيات الكثيرة كما سيأتي بيانها.
و الانحراف عن الصراط المستقيم وقوع في الظلمات التي لها أنواع كثيرة يجمعها قوله تعالى: «المغضوب عليهم و الضالين» على ما سيأتي، و ذكره تعالى المغضوب عليهم و الضالين بعنوان الجمع اشارة الى التعدد و الاختلاف و عدم الوحدة فيه بخلاف الصراط المستقيم فإنه واحد لا تعدد فيه بوجه و هو النور الذي لم يستعمل في القرآن إلّا مفردا بخلاف‏ الظلمات، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: ۲۷٥] و قوله تعالى: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [سورة النور، الآية: ۳٥] فالنور و الصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى كما أن بقاءه به و منتهاه إليه بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الإعتقادات و الأهواء الباطلة قال تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٦].
نعم المستفاد من مجموع الآيات و الروايات أن الظلم و الشرك من الشيطان فهما حقيقة واحدة لها مراتب كثيرة و مظاهر متفاوتة و الاختلاف في التعبير دون الحقيقة و سيأتي تفصيل ذلك في بيان حقيقة الشيطان إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"