1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 102 الى 103

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)


بيّن سبحانه و تعالى بعض أعمالهم الفاسدة، كالافتراء على أنبياء اللّه تعالى، و السحر، ثم أبطل ذلك و حكم بكذبهم و أمر باتباع طريق الحق، و أن التقوى خير لهم مما هم عليه.

قوله تعالى: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ. اختلفت أقوال المفسرين في هذه الآيات المباركة فصارت معترك الآراء و الاحتمالات و قلّما يوجد مثلها في سائر الآيات الشريفة، و مع ذلك فهي على فصاحتها و بلاغتها لم يعترها من تلك الاحتمالات إجمال و لا في حسن نظمها و فصاحتها كلال، و ليس ذلك إلّا من تقدير العليم الحكيم. و نحن نشير إلى ما يستفاد مما هو الظاهر منها.
فنقول: مادة (ت ب ع) تأتي بمعنى التقفية في الأثر، و الاقتداء و المتابعة سواء كان ذلك في الحق أو الباطل كقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى‏ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة الجاثية، الآية: 18]. و الضمير يرجع إلى اليهود [الذين عمدوا الى هذه المتابعة سواء كانوا من يهود عهد سليمان أو من غيرهم، بل يشمل غير اليهود أيضا ممن ينطبق عليه عنوان المتابعة]. و تتلوا إن كان بمعنى مطلق القراءة و البيان فالأمر واضح، و إن كان بمعنى قراءة ما نزل من عالم الغيب على حسب دعوى الشياطين و زعمهم بأن ما يقرءون إنما هو من‏ الغيب، لكن بعد إثبات كفرهم في ذيل الآية الشريفة تكون هذه الدعوى منهم كاذبة لا محالة.
و المراد بالشياطين الأعم من شياطين الإنس و الجن على حد قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 72] و يحتمل أن يكون المراد خصوص شياطين الجن، فإن شياطين الانس بمنزلة القوى العاملة لها.
و المراد بملك سليمان عهده و أهل مملكته، و لعل ما في التعبير به إشارة إلى غلبة السحر و الكهانة في ذلك الزمان حتّى استولى على ملك سليمان. و ذلك لأن اليهود زعموا أن ملك سليمان إنما قام على أساس السحر و الكهانة و الطلسمات و نحو ذلك من الحيل التي نسبوها إليه كذبا و افتراء، فغلبت على النّاس و اعتادوا عليها و اتخذوا السحر وسيلة إلى مقاصدهم و أغراضهم، أو ليتوصلوا بها إلى الملك كما توصل سليمان به بزعمهم. و هذا يدل على شدة انغماسهم في الماديات. و إعراضهم عن الحقائق و أحكام اللّه تعالى و أنبيائه و رسله، و هو لا يختص باليهود فإن كل قوم أعرضوا عن آيات اللّه و اتبعوا أهواءهم و لم يقتدوا بالعلماء الداعين إليه تعالى صاروا مرتعا للشياطين و وساوسهم فيعملون كلما يشاءون في إبطال الحق و إفشاء الباطل و ذلك هو الخسران المبين.
و «على» في قوله تعالى: عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ تصلح أن تكون بمعنى (في) أي في ملك سليمان أو بمعنى (مع) كما في قوله تعالى: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ [سورة آل عمران، الآية: ۱۹٤] أي على ألسنة رسلك، أو معهم.
قوله تعالى: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. لأنّ إفشاء الباطل في عهده أو على ملكه من الشياطين لا دلالة فيه على أن سليمان اعتقد بالباطل بوجه من الوجوه بل إثبات النبوة له يمنع عن ذلك مطلقا، و فيه تبرئة من اللّه لسليمان و إثبات الكفر لمن نسب اليه السحر.
و المراد بالكفر المنسوب إلى الشياطين الكفر المطلق فيصير المقام‏ بالنسبة إليهم، من باب التطبيق لا التخصيص، أو بيان غاية قبح السحر. ثم بيّن تعالى بعض وجوه كفرهم بما ذكره جل شأنه.
قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. ليفتنوهم عن دينهم و يضلوهم عن سبيل الحق، و في الآية المباركة إشارة إلى قبح السحر بل إيجابه الكفر، و قد عبّر في الأحاديث عن السحر بالكفر،فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «السحر و الشرك مقرونان»، و عن علي (عليه السلام): «من تعلم شيئا من السحر- قليلا أو كثيرا- فقد كفر».
قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. الملكين (بفتح اللام) تثنية الملك [بالفتح‏]، و هي القراءة المشهورة، و صريح بعض الروايات كما يأتي في البحث الروائي، و قرأ بعضهم ملكين (بكسر اللام) تثنية الملك، و لم يعهد ذلك في التاريخ، و لو كان لشاع و بان، و قد ذكروا في توجيه ذلك أمورا لم يقم عليها دليل من العقل أو النقل فالأولى الإعراض عن ذكرها.
و كيف كان فهما ملكان بعثهما اللّه تعالى لإتمام الحجة على شعب بابل ليعلّموا مضار السحر، و يدفعوا به عن سحر السحرة و كيد الشياطين، و لعل ذلك كان مقدمة لظهور دعوة أنبياء اللّه تعالى، و إيذانا بزوال دعوة الشياطين إلى السحر و الكهانة و نحوهما من الأباطيل، و سيأتي معنى الإنزال.
قوله تعالى: بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ. بابل هي المدينة المعروفة في العراق عاصمة البابليين أعظم مملكة في المعمورة في ذلك الحين.
و قد دلت التواريخ على أنها كانت أقوى مركز للسحر و الكهانة في تلك الأعصار، بل ليس في الحضارات كلها حضارة أغنى في الخرافات من الحضارة البابلية. كما أنها كانت مركزا تجاريا هاما يؤمها التجار فكانت مورد اختلاف النّاس من أطراف العالم لأغراضهم الدنيوية، و لذلك كثر تردد أنبياء اللّه (عليهم السلام) إليها لإظهار الحجة و البيان عليهم في كل فرصة يجدونها، فالقادسية (بانيقا) موجودة حتّى الآن قرب بابل، و هي محل رعي‏ أغنام إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) كما أن تل نمرود الذي ألقي الخليل منه في النار معروف في هذه المدينة و إنّ مقام إدريس و إبراهيم موجودان في مسجدي الكوفة و السهلة،
و عن أبي جعفر (عليه السلام) في وصف مسجد الكوفة: «إنها سرة بابل»، و قبر هود و صالح (عليهما السلام) مشهوران في ظهر الكوفة.
و عن علي (عليه السلام) في وقعة الخوارج أنه (عليه السلام) لما وصل إلى أرض بابل قال: «هذه أرض ملعونة قد عذّبت في الدهر مرتين و هي تتوقع الثالثة، و هي إحدى المؤتفكات، و هي أول أرض عبد فيها وثن» فاقتضت المصالح التكوينية و التشريعية أن يتم اللّه تعالى الحجة على أهل تلك الديار بما تقتضيه الظروف و أحوال العباد فأراد سبحانه و تعالى أولا أن يميز لهم الإرادة الوهمية الشيطانية و الإرادة الغيبية الإلهية، ثم التدرج في المعارف الإلهية بما تقتضيه الحكمة المتعالية.
و هاروت و ماروت اسمان أعجميان و هما ملكان نزلا من السماء في صورة الإنسان و كانا بين النّاس مدة من الزمان فعلا ذكرهما و شاع أمرهما، و كثرت مراودة النّاس إليهما حتّى صارا بمنزلة ملكين لهم.
و قيل: إنهما من البشر كانا من أهل صمت و وقار. و الظاهر أن أصحاب هذا القول نظروا إلى هذين الملكين بعد تجسمهما بصورة البشر فلا نزاع في البين. و قد أنزل اللّه تعالى هذين الملكين لتعليم الناس السحر و إنذارهم عن مضاره فيحذروا عن سحر السحرة و كيد الشياطين، و كان ذلك لمصالح كثيرة، منها: التمييز بين المعجزة و السحر، و أن الأولى من اللّه تعالى، و الثاني من الشيطان و أعوانه. فالمراد بالإنزال في الآية المباركة إنما هو نحو من الإلهام، و إنما ألهمهما اللّه تعالى ذلك لدفع المفاسد المترتبة على السحر، لا لموضوعية فيه حتّى يكون من الإلهام الفاسد.
قوله تعالى: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. مادة (فتن) تأتي بمعنى الاختبار و الامتحان سواء في الخير أو الشر، قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: ۳٥].
و المراد بها في المقام مطلق الاختبار، لأنهم إنما نسبوا إلى سليمان (عليه السلام) السحر و افتروا عليه بأن تسخيره للجن و الإنس و غيرهما إنما كان بواسطة السحر حتّى غلب على أهل عصره، و كاد أن يذهب معجزة أنبياء اللّه تعالى رأسا، فأنزل اللّه الملكين يعلمان النّاس السحر، ليفرقوا بين الحق و الباطل مع تصريحهما لمن كان يتعلمه بأن ما يتعلمه إنما هو لأجل الامتحان و الاختبار، و دفع كيد الشياطين و التفرقة بين الحق و الباطل، و أن السحر كفر فلا تكفر بتعلمك له كما ذكر سبحانه و تعالى بعد ذلك.
قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ.
ذكر سبحانه مصداقا من مصاديق السحر لأجل كونه من أهمها الشايع بينهم.
قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. لفرض أن جميع الموجودات من خيرها و شرها مورد قضائه و قدره فلا يخرج أثر السحر عن تقديره تعالى و قضائه، لئلا يبطل نظام القضاء و القدر و جعل المسببات مترتبة على أسبابها حسب ما اقتضته الطبيعة، و ما يختاره الفاعل المختار.
قوله تعالى: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ. النفع ما يتوصل به إلى الخير، فهو خير و ضده الضر. و قد استعمل ذلك في القرآن الكريم كثيرا، قال تعالى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ [سورة الحج، الآية: 12] و هو لفظ عام يشمل جميع موارد النفع في الدنيا و الآخرة، بل يطلق عليه سبحانه و تعالى فمن أسمائه المقدسة (يا ضار يا نافع) قال تعالى: وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس، الآية: 73]، و قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [سورة المائدة، الآية: 119] إلى غير ذلك من موارد الاستعمال في القرآن الكريم، فيطلق على الواجب و الجوهر و العرض في الدنيا أو الآخرة.
ثم إنّ النفع و الضر إما واقعيان حقيقيان، و هما المنساقان منهما في استعمالات القرآن. أو وهميان خياليان قال تعالى: وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: ۲۱٦] و غالب أمور الدنيا مبنية على الوهم و الخيال.
و المعنى: إنهم يتعلمون من السحر ما كان فيه ضرر عليهم في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فلعدم إحاطة المعلم بالواقعيات، و لا كون العلم من الوسائل إليها، فإن المنفعة الوقتية الخيالية التي يجلبها من السحر مع ما فيها من الإيذاء لسائر النّاس لا تعد خيرا أصلا لا سيما إذا كان جزاؤه عظيما. و اما في الآخرة فمع كون المعلوم قرين الكفر باللّه تعالى فلا بد و أن يكون إثمه عظيما، فقد أوقعوا أنفسهم في الخسران و النقصان بسوء اختيارهم. و في نفي المنفعة بعد إثبات المضرة إشارة إلى وجود منفعة مّا في السحر و لكنها قليلة.
قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. اللام للتوكيد و إن كانت في محل القسم. و لفظ (من) موصولة يصلح فيه الجنس و الإفراد و الجمع، و الضمير يعود إلى السحر. و الخلاق النصيب من الخير، يستعمل في القرآن في نصيب الآخرة.
و المعنى: إنّ الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين و اختاروا السحر وسيلة لنيل مقاصدهم، و استبدلوا ما في التوراة بذلك و نبذوه وراء ظهورهم يعلمون أنه ليس لهم في الآخرة نصيب، لفرض وجود العقل فيهم و تمييزهم بين الخير و الشر، و النفع و الضر، و إتمام الحجة عليهم بدعوة الأنبياء و تحريم السحر عليهم فما بذلوه بإزاء تعلمهم السحر و اتّباعه هو دينهم و آخرتهم.
و القضية من القضايا العقلية التي لا اختصاص لها بقوم دون آخرين، و هي استبدال الخير بالشر.
قوله تعالى: وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: و لبئس ما استبدلوا به أنفسهم، لأنهم عرّضوا أنفسهم للهلاك و العذاب الدائم بما رضوا بالسحر- لو كانوا يعلمون علما فعليا بأنهم باعوا أنفسهم بأخسّ الأثمان و أقبحها. و في الآية المباركة من الفصاحة ما لا يخفى على من تأمل فيها، و تقدم نظيرها في الآية 90 من هذه السورة.
قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ. مادة (ث و ب) تأتي بمعنى الرجوع في جميع متفرعاتها، و سمي الجزاء ثوابا لأنه رجوع العمل بوجوده الحقيقي الواقعي إلى العامل. قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8]، و قال تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المطففين، الآية: ۳٦] و غلّب استعمالها في مقابل العقاب.
و المعنى: أنهم لو استبدلوا السحر، و اتباع الشياطين بالإيمان و التقوى لكان ثواب اللّه على أفعالهم الصالحة خيرا لهم من جميع ما اكتسبوه من أفعالهم. و تنكير المثوبة لبيان أنّ أقل ما يصدق عليه الثواب هو خير لهم مما عملوه.
قوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. المراد به العلم الفعلي و لو إجمالا أي: أنّهم لو كانوا يلتفتون إلى أنّ الإيمان باللّه و التقوى أعلى درجات الكمالات في الإنسان، و جزاء ذلك أغلى كل جزاء لعلموا قبح ما بدّلوه.

يستفاد من الآيات المباركة أمور:
الأول: أنّ اللّه تعالى لم يبين حقيقة السحر في هذه الآية الشريفة، و أجمل الأمر، و إنما وصفه سبحانه في آية أخرى أنه تخييل و ضرب من الخداع النفسي، قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏ [سورة طه، الآية: ٦٦]، و قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ [سورة الأعراف، الآية: ۱۱٦] و لعل الحكمة في ذلك أنه أوكل معرفة الحقائق المكتسبة إلى بحث الإنسان و جهده في تحصيلها، و قد ذكرنا في قصة الخليقة ما يتعلق بالمقام.
الثاني: يستفاد من الآية المباركة أن السحر كان من الأمور العادية يتعلمه النّاس في تلك الأعصار، و هذا من جملة الفروق بينه و بين المعجزة فإنها ليست كذلك، و سيأتي مزيد بيان في البحث الآتي.
الثالث: لعل الوجه في إنزال السحر على الملكين دون الأنبياء (عليهم السلام) إما لأجل أن الملكين كانا محشورين في الناس يعرفان كيد الشياطين و مكر السحرة، أو لجلالة مقام الأنبياء (عليهم السلام) لئلا يتهمهم النّاس بما لا يليق بهم.
الرابع: تدل الآيات المباركة على أن في عمل السحر معرضية للكفر و لا ريب فيه لأن الأنس بما هو من شؤون الشيطان يوجب البعد عن ساحة الرحمن.
الخامس: الآية الشريفة تنص على أن تعليم الملكين للسحر إنما كان لغرض إفساد سحر السحرة، و بيان السحر و المعجزة. و فيها إشارة إلى أن التفريق بين المرء و زوجه و غيره من الأعمال الفاسدة إنما هو من عمل النّاس، و ليس من تعليم الملكين، و أنه كان ذلك من سوء اختيارهم و منه يظهر السر في اختفاء جملة من العلوم، و الاسم الأعظم و بعض الدعوات المستجابة.
السادس: إنّ في قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ من الإيحاء النفسي للإنسان بأن لا يتأثروا بسحر السحرة فإنه ليس لهم تلك القوة الغيبية التي تؤثر على النفوس، بل أعمالهم تستند على ضرب من الخداع و التخييل، فما يحصل من المسببات المستندة إلى أسبابها إنما تكون بإذن من اللّه تعالى و قدره و قضائه.
السابع: يظهر من هذه الآية المباركة و ما في سياقها من الآيات الشريفة أن العلوم التي يتعلمها الإنسان على أقسام، منها ما ينفع لدينه و دنياه، و منها ما يضر بهما، و منها ما ينفع لدنياه و يضر بدينه، و منها ما يكون عكس ذلك، و منها ما لا نفع فيه أصلا و إنما هو من صرف الوقت في ما لا يعنيه و لا يفيده و المائز بين هذه الأقسام هو الكتاب الكريم، و السنة المقدسة، و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين (عليهم السلام) أحاديث كثيرة تعين بعض العلوم النافعة للنّاس، و لعل أجمعها قول نبينا (صلّى اللّه عليه و آله): «إنما العلم‏ ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة و ما خلاهنّ فهو فضل» فذكر (صلّى اللّه عليه و آله) علم المبدأ و المعاد من أصول العقائد، و علم التحلي بالفضائل و التخلي عن الرذائل، و علم مسائل الحلال و الحرام، و شرايع الأحكام. فبيّن (صلّى اللّه عليه و آله) العلوم الدخيلة في استكمال الإنسان في عوالمه الثلاثة (عقله و روحه و بدنه) و قد جمعها علي (عليه السلام) في عبارة موجزة: «العلم أكثر من أن تحيطوا به فخذوا من كل شي‏ء أحسنه» هذا كله في العلم الذي له دخل في الكمال المطلق، و السعادة الأبدية. و أما العلوم و الصنايع و الفنون فالناس بالفطرة يتوجهون نحوها، فإن الدار دار الاستكمال و الخروج من القوة إلى الفعلية فلا يحتاج إلى ترغيب من مرغب إلهي أو غيره، فإن الساكن إنما يتحرك نحو المطلوب بالفطرة، و لذلك لم يعهد تفصيل ذلك في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، نعم أشير إليها في قوله تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [سورة القصص، الآية: 77]، و ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا و اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» فالإنسان خلق لأجل الاستكمال و السعادة و لا ينفك عن ذلك، و داعيه و قائده و المرغب إليه إما هو اللّه تعالى و أنبياؤه و أولياؤه، أو يكون هي الفطرة التي هي جزء من السير التكاملي الموجود فيه. و في المقام تفصيل يأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.
الثامن: ليس في قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ دلالة على أن مطلق السحر مما أوحي الى الملكين حتّى تدل بالملازمة على إباحته، لأن الإنزال من اللّه تعالى أعم من ذلك خصوصا إذا كان من باب دفع الأفسد بالفاسد.

الطبرسي في الإحتجاج عن الصادق (عليه السلام) و قد سئل من أين علم الشياطين السحر؟ قال: «من حيث عرف الأطباء الطب بعضه تجربة، و بعضه علاج».
أقول: الحديث موافق للاعتبار و هو شارح لجميع أخبار الباب مع غض النظر عن الأسناد.
و في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ عن الباقر (عليه السلام) في حديث: «فلما هلك سليمان (عليه السلام) وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا، ثم دفنه تحت سريره ثم استثاره لهم فقرأه، فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد اللّه و نبيّه، فقال اللّه جلّ ذكره: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان» و رواه القمي أيضا.
أقول: هذا الحديث شاهد على حمل قوله تعالى: ما تَتْلُوا على الافتراء و الافتعال، و هو شايع في الاستعمال، يقال: ما قلت و ما تلوت أي: ما افتريت. و المراد من إبليس كل مصدر للشر و الفساد.
و في العيون في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون: «و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما النّاس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة، و يبطلوا كيدهم، و ما علّما أحدا من ذلك شيئا إلّا قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعلمونه بين المرء و زوجه قال اللّه تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
أقول: هذا الحديث أيضا مبيّن و شارح لظاهر الآية المباركة و لجميع ما ورد في الباب من الأخبار، كما أنه ظاهر في الكفر العملي مضافا إلى كفرهم الاعتقادي، و السحر قد يكون من الكفر العملي و قد يكون من الكفر الاعتقادي أيضا و قد فصلنا ذلك في الفقه. و هناك روايات أخرى بين مفصلة و غيرها مروية عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين أعرضنا عن ذكرها لأن سياقها يدل على عدم صدورها عن المعصومين (عليهم السلام) بل هي من المفتعلات كما هو الظاهر منها، و على فرض‏ صحة بعضها لا بد من رد علمه إلى أهله.
و في العيون أيضا عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال (عليه السلام): «لأنهم يعتقدون أن لا آخرة، فهم يعتقدون أنها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم أي لا نصيب لهم في دار بعد الدنيا، فهم مع كفرهم لا خلاق لهم فيها».
أقول: ظاهر الحديث نفي الخلاق بنفي الموضوع أي: لا يعتقدون بأصل الآخرة، و لكنهم على قسمين: قسم يعتقدون بها و ينكرونها عملا، و قسم آخر لا يعتقدون بها أصلا، فنزّل (عليه السلام) الأول منزلة الثاني لعدم الأثر لمجرد الاعتقاد بلا عمل.

السحر ضرب من ضروب التأثير النفساني و هو علم كسائر العلوم له قواعده و أحكامه و قد ورد في القرآن الكريم في ما يقرب من ستين موضعا و أكثره ورد في قصص موسى (عليه السلام) و فرعون و لم يبين سبحانه و تعالى حقيقته- كما هو دأبه جلّ شأنه في الحقائق العلمية- ليرجع الإنسان إلى نفسه في البحث عنها و الاجتهاد في تحصيلها و الارتقاء في العلم كما عرفت سابقا و إذا تتبعنا موارد استعمالات لفظ السحر نرى أنه يأتي بمعنى الافتتان و الفتنة، و في الحديث: «ان من البيان لسحرا».
و هذا هو المعنى الدارج عند العامة حينما يتعجبون من شي‏ء و يفتتنون به. يقال: سحرتنا الطبيعة عند مشاهدة بديع صنع اللّه تعالى فيها. و يقال: سحرنا جماله إذا افتتن به و أمثال ذلك.
و أما السحر بالمعنى العلمي فهو ضرب من التأثير النفسي المشوب بالفتنة، و إظهار ما ليس بواقع بصورة الواقع المعبّر عنه في القرآن الكريم بالتخييل و الخداع، قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏ [سورة طه، الآية: ٦٦]، و قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ [سورة الأعراف، الآية: ۱۱٦] فإن الإرهاب المقارن مع‏ التخييل و الخداع له الأثر النفسي في الإنسان.
و العلوم من ناحية الموضوع تنقسم إلى أقسام:
الأول: ما كان موضوعه المادة و الماديات كالعلوم الطبيعية.
الثاني: ما كان موضوعه الروح و ما وراء المادة و هذا القسم يختلف من حيث تجرد موضوعه عن المادة بالكلية، كالعلوم الإلهية، أو لم يكن كذلك كالعلوم التي تبحث عن الملائكة و الأرواح و نحوهما.
الثالث: ما كان موضوعه مزيجا من المادة و الروح كعلم السحر و الطلسمات، و النيرنجات و أمثال ذلك، فإنها من دون اتصالها بالأرواح لا أثر لها، كما أنها لو لم تستعن بأمور خاصة لم يتأثر الطرف المقابل كحركات في اليد أو في العين أو تحريك في اللسان أو رموز في الكتابة او تدخين و غير ذلك. نعم من شدة اعتماده على الأثر النفسي يمكن لنا أن نقول انه في جوهره عمل نفسي له آثار مادية، و لذا لا يمكن أن يأتي تحت تجربة و إلّا كان وهما في وهم. و من الواضح أن الأثر النفسي لا يمكن أن يتحقق إلّا في محل قابل و مستعد لقبول ما يصدر عن الساحر، و لذلك كان تأثيره في الإنسان محدودا بالفرد الناقص من حيث المعرفة و الكمال و أما الإنسان الكامل فلا أثر للسحر فيه، و لم يعهد أن نبيا من أنبياء اللّه تعالى تغلّب عليه السحر و أثّر فيه ما ورد في سحر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فلنا فيه كلام يأتي في محله. و من ذلك يعلم وجه انتشار السحر في الأمم البدائية التي يكثر فيها الجهل و الإعتقاد بالخرافات.
ثم إنّ إنفاذ السحر و تأثيره في النفوس الضعيفة يتوقف على قوة الساحر و ثبات في العزيمة، و أكاذيب يستعين بها على التأثير في وعي المسحور و وهمه يشبه في ذلك بعلم التوهم- علم التنويم المغناطيسي- المبني على التأثر في وهم الأفراد و يستفيد الساحر من الأكاذيب و المفتعلات ما لا يستفيده من غيرها، و هو إنما بلغ إلى هذه المرتبة بفضل ما كان يعتقده النّاس في السحر و السحرة من ان لهم التصرف في كل شي‏ء و تصدر عنهم أعمال عظيمة كإحياء الأموات، أو إصابة الناس‏ بالأمراض، فكانوا يخافون منهم كخوفهم من اللّه تعالى. و لم تسلم الأمم الراقية في هذه الأعصار عن هذه الخرافات حتّى جعلوا للساحر منزلة اجتماعية عظيمة يتوصلون بهم لإنجاح مقاصدهم. و ساعد ذلك ما يدعيه السحرة من أنهم قادرون على استحضار الأرواح فيسألونها عما يريدونه أو يأمرونها بأعمال خاصة، أو أنهم قادرون على إطلاق الرياح و إنزال الأمطار أو يعرفون حوادث المستقبل و يعلمون مقاصد الإله الى غير ذلك من الأكاذيب فيتأثر النّاس بها فينطبع في نفس الواهم أن الأرواح تستجيب إلى أوامر الساحر و لما كان كل ذلك من الوهم ذهب بعض العلماء إلى أنه ليس للسحر حقيقة إلّا ما يؤثّر في الوهم و الخيال.
و لقد كان موقف الأديان الإلهية و الأنبياء (عليهم السلام) و الكتب السماوية من السحر واضحا فكان أكبر همهم هو إرجاع الإنسان إلى تمييزه و عقله، و إبطال ما كان يحيط بالسحرة من العظمة و الكبرياء، و أما القرآن الكريم فقد أبطل السحر من جهتين:
الأولى: إزالة الأثر النفسي للسحر و السحرة فقال تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة البقرة، الآية: 102] فنفى سبحانه و تعالى عن السحرة القوة الغيبية، و كم لهذا الكلام الشريف من الأثر النفسي المعاكس للسحر، و أباطيل السحرة، فإن الإنسان إذا اعتقد ان جميع الممكنات تحت إرادته تعالى و قضائه و قدره، و هو القيوم المطلق و لا يقدر أحد ان يتصرف في شي‏ء إلّا بإرادته تعالى كان لهذا الاعتقاد الأثر الكبير في نفسه، فلا يبقى مجال حينئذ لأباطيل السحرة.
و لعل من حكم إنزال الملكين- هاروت و ماروت- هو تعريف الناس بأعمال السحرة، و إبطال ما أثاروه حولهم من الإشاعات، و تهيئة النفوس لتلقي المعارف الإلهية كما عرفت.
الجهة الثانية: هدم صرح السحر حينما قال سبحانه و تعالى بأنه ضرب من الخداع و التخييل، و ان الساحر لا يفلح في أمره مهما حاول إظهار الجد في عمله. و هذا لا ينافي إثبات الحقيقة له في الجملة بل إثبات‏ الوجود هو إثبات للتحقق له، فإن الوجود مساوق للشيئية و التحقق، قال تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر، الآية: ۲٤] و المراد من الأثر في الآية المباركة الإتباع على ما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى، فإنه مما لا ينكر ظهور بعض الأعمال و خرق العادة على يد الساحر و لو بحسب وجدان المسحورين، و من نفى عنه الحقيقة إنما أراد نفي الحقيقة بالنسبة إلى الواقع كالمعجزة و الكرامة، و هذا مسلّم لا ريب فيه.
ثم إنّ تأثير السحر في الإنسان ضرب من تأثير القوى الفعّالة فيه. كتأثير الكواكب في الأرض بما فيها الإنسان مما لا ينكره أحد، كما أن تأثير الملائكة المقربين أيضا كذلك. و تأثير الأنبياء و الأوصياء و بعض الصالحين بما يصدر منهم المعاجز و خوارق العادات لا يشك فيه عاقل. و منها تأثير العين و الإصابة بها فإنه لا يرتاب فيها أحد و ان اختلف العلماء في كيفية تأثيرها، و في الحديث: «لو كشف عن القبور لرأيتم أكثر موتاكم من العين»، و سيأتي تفصيل الكلام في سورة القلم إن شاء اللّه تعالى.
نعم الفرق بين ما يصدر من الأنبياء و الأولياء و العلماء الذين حذوا حذوهم و بين ما يصدر من الشياطين و تابعيهم من السحرة و الكهنة واضح، فإن بينهما فرقا بحسب الذات و المنشأ و الغاية.
توضيح ذلك: إنّ الإنسان في عالم الدنيا قائم بالاختيار. و أما عالم الآخرة فهو عالم جزاء الفاعل المختار، فلو لا الاختيار لبطل العالمان و الاختيار بما هو اختيار متعلق بطرفي الفعل- الخير و الشر، أو الهداية و الضلالة- و لكل منهما قائد و دليل. و الأنبياء (عليهم السلام) و من يتلو تلوهم أدلاء الهداية و أئمتها. و الشياطين و من يحذو حذوها قواد الشر و الفساد و أدلاؤهما. و نظر كل واحد من القائدين و الدليلين هو الإنسان لا غير، فالمعجزات و الكرامات و خوارق العادات المنبعثة عن القدرة الإلهية غير المتناهية كلها من الأنبياء و الأوصياء و الأولياء الذين أقدرهم اللّه تعالى على تلك الأمور و هي سلاسل يجرّ بها النّاس إلى الجنّة، و في مثلها قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل».
و السحر و الكهانة و الشعبذة و أمثالها من الحيل كلها من الشياطين و هي سلاسل يجرّ بها إلى النّار. فذات المعجزة من طرق الهداية و ذات السحر و نحوه من طرق الضلالة. كما أن منشأ الأولى صفاء النفس و ارتباطها مع اللّه تعالى و إفاضته جل شأنه على الفرد، و منشأ الثاني كدورة النفس و خبثها و ارتباطها مع الشياطين. و مع ذلك لم يكن للسحر تأثير إلّا بإذن اللّه تعالى و قدرته، فإنه القيوم المطلق على جميع الممكنات لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3].
ثم إنّهم ذكروا للسحر أنواعا كثيرة تختلف في التأثير شدة و ضعفا.
و لكن يمكن لنا القول بأن تلك الأنواع خلط بين السحر و غيره، فقد ذكروا منها الاستعانة بالأرواح الطاهرة السماوية، و النفوس الفلكية فإن مثل ذلك لا يعدّ من السحر أبدا. فإن الشخص لا يصل إلى هذه المرتبة إلّا إذا كانت نفسه طاهرة و كاملة، كما أن الاستعانة بالأدوية أو بعض الآلات، أو الأخذ بالعين فإنها لا تسمى سحرا أيضا و إن اثّرت اثره، كما لا يخفى على من تتبع الكتب، فالسحر كما عرفت هو الاستعانة بالأرواح الأرضية كالشياطين و الأجنّة إما بالتسخير، أو بأفعال خاصة.
كما أنّ تسخير الأرواح- سواء تعلقت بذوات الأرواح أو بالنفوس الفلكية أو غيرها. أو تبديل عنصر إلى عنصر آخر- سواء كان بآلة أو غيرها، كل ذلك ممكن عقلا و واقع خارجا، و إن لم يترتب عليه حرام فهو جائز شرعا، و ليس ذلك من السحر في شي‏ء، بل هي من سبل استكشاف المجهول و لا يمكن ذلك إلّا بتهيئة النفس و إعدادها بأعمال شاقة. كما أن من طرق استفادة السر المكنون علم الحروف و النجوم و هما ليسا من السحر أيضا، بل نسب الأول إلى الأئمة الهداة (عليهم السلام). و سمي بالجفر، و هو من العلوم الشريفة كثيره لا يدرك، و قليله لا ينفع.

المحرمات في الشريعة المقدسة تارة: تكون المفاسد فيها شخصية فقط كشرب السم مثلا، و أخرى: تكون شخصية و نوعية كالظلم و ثالثة: تكون منهما مضافا إلى معرضية المعارضة مع النبوات السماوية كالسحر، و حيث إن العقل يستقل بقبح الجميع خصوصا الأخيرتين فلا بد و أن تكونا محرمتين في جميع الشرايع الإلهية، فالسحر محرم في شريعتي موسى و عيسى (عليهما السلام). و قد ورد في سفر اللاويّين الإصحاح التاسع عشر من التوراة: «لا تلتفوا إلى الجان و لا تطلبوا التوابع [النفاثات في العقد] فتتنجسوا»، و قال في الإصحاح العشرين منه: «و إذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة، فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه».
ثم إنه قد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ- الآية على جواز تعليم السحر و تعلّمه، لأن المنزل هو اللّه تعالى، و الملك معصوم، فلا يعقل أن يكون محرما.
و فيه: إن التأمل في مجموع الآية الشريفة صدرها و ذيلها يدل على ان الاستدلال بها على الحرمة أولى من الاستدلال بها على الجواز، فإنها قد عدت السحر في عرض الكفر فكيف يستدل بها على الجواز؟ نعم قد يعرض الجواز لعناوين خارجية، كما تزول حرمة الكذب لعروض عناوين توجب رفع الحرمة. و المسألة محررة فى الكتب الفقهية.

لا ريب في أنّ ما يفاض على الممكنات لا بد أن ينتهي إليه سبحانه و تعالى بنحو الاقتضاء، للأدلة العقلية و النقلية، ففي الأثر المعروف- المنقول متواترا بين الفريقين- عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا إله إلّا اللّه وحده وحده وحده» فإن الوحدة الأولى إشارة إلى وحدة الذات، و الثانية تشير إلى وحدة الصفات أي سلب جميع النقائص عنه تعالى، و في الثالثة إشارة إلى وحدة الفعل أي أنه مبدأ الكل، و أنه لا حول و لا قوة إلّا به، فهذه الجملة المباركة جامعة لأنحاء التوحيد، و لكن ذلك لا ينافي قانون الأسباب و المسببات فان اللّه تعالى أبى ان يجري الأمور إلّا بأسبابها و من ذلك يعلم وجه انتساب المعجزة، و خوارق العادات، و الكرامات و السحر و الطلسمات إليه تعالى. و قد فرق الفلاسفة و المتكلمون بين المعجزة و السحر بعد اتحادهما في أنهما صادران من عالم آخر غير عالم المادة: و أنّ هدفهما هو الإنسان لا غير بوجوه عديدة:
الأول: بحسب المنشأ، فإن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير بعد صفائها و ارتباطها مع اللّه تعالى، و الاستفاضة من القدرة الإلهية. و السحر ينبعث عن نفس خبيثة مرتبطة مع الشياطين كما تقدم.
الثاني: الفرق بحسب الذات، فإن المعجزة من طرق الهداية و الصّلاح و الخير و لا تصدر إلّا من النفوس الخيّرة، بخلاف السحر فإنه من طرق الضلال و الغواية و الشر، و لا يصدر إلّا من النفوس الشريرة.
الثالث: الفرق بحسب الغاية، فإن الغاية من المعجزة هي الدعوة إلى الحق و تثبيت دعوى الأنبياء، و لذا تكون مقرونة غالبا مع التحدي فلا تصدر من الكاذب. و أما السحر فإن الغاية منه الشر و الإضرار.
الرابع: إن الشخص الذي تجري على يديه المعجزة ذو نفس كاملة قد اجتهد صاحبها في القيام بمراد المحبوب اعتقادا و عملا عن علم بأصول الشريعة و فروعها يدعو إلى الحق، و هو يعمل بما يدعو إليه، فإن لمثل هذه النفوس إرادة قوية و لها خلاقية في الجملة لانبعاث إرادتهم عن إرادة العليم الحكيم، إما مباشرة كالأنبياء و الأوصياء، أو بواسطتهم كعباد اللّه الصالحين. و هذا بخلاف السحر و نحوه فإن صاحبه لا يكون كذلك، بل له نفس شريرة كدرة لا يصدر منها الخير، مرتبطة مع الشياطين و من يحذو حذوها.
الخامس: المعجزة ليست مكتسبة و لم تكن لها قواعد مطردة، بل هي تصدر حسب إرادة اللّه تعالى، فإما أن تكون خارقة للعادة واقعا و ظاهرا، أو بحسب الظاهر و إن كانت في الواقع مطابقة لقانون السببية و المسببية. و أما السحر فهو علم له قواعده و أحكامه يصدر عن تعلم و تجربة. و هناك فروق أخرى أغمضنا النظر عن ذكرها، فإن الأمر وجداني ظاهر لكل من رجع إلى وجدانه.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"