1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 92 الى 96

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (۹٤) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (۹٥) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى‏ حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (۹٦)


تبين هذه الآيات المباركة أخذ الميثاق و التشديد فيه ثم كفرهم و ارتدادهم، ورد لأمانيّهم الباطلة من أنهم أبناء اللّه تعالى و أن الدار الآخرة لهم دون غيرهم، و الذم بأنهم أحرص النّاس على الحياة الدنيا.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ. البينات جمع بيّنة، و هي الدليل الواضح. و المراد بها الدلائل الواضحة و البراهين الظاهرة، و هي إما عقلية، أو حسية، أو هما معا، و بينات موسى (عليه السلام) هي التوراة، و ما ذكره تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى‏ تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [سورة الإسراء، الآية: 101]، و هي العصا، و السنون، و اليد، و الحجر، و الدم، و الطوفان، و القمل، و الضفادع، و فلق البحر و سيأتي التفصيل في سورة الإسراء.
و هي آيات باهرات تدل على وحدانيته تعالى فلا مجال للشك و الريب بعد مجيئها.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ. أي أنكم بعد أن وضح لكم الحق و ظهر صدق موسى (عليه السلام) في ما يدعيه من توحيد اللّه تعالى، و أنه هو المعبود المطلق عدلتم إلى عبادة العجل و اتخذتموه إلها لكم و أنتم ظالمون، و أي ظلم أعظم من الشرك باللّه تعالى، و الارتداد عن دينه، و فيه من التوبيخ و التقريع العظيم لهم و يستفاد من هذه الآية المباركة أن الظلم الواقع منهم إنما كان بعد الإمهال لهم بالنظر في تلك الآيات البينات، و إتمام الحجة، و حينئذ يكون ظلمهم أعظم.
قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا. تقدم شرح مثله في الآية المباركة- 63 من هذه السورة إلّا أن في الآية السابقة ذكر سبحانه و تعالى: وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ و هنا أمرهم بالفهم، و المعنيان متقاربان، فإن المراد من الذكر هو المذاكرة و الحفظ كما أن المراد من السمع هو الفهم و العمل بالمسموع لا خصوص الدرك الظاهري من دون ترتيب الأثر عليه، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ [سورة الأنفال، الآية: 21] فإن السماع الحقيقي الذي يترتب عليه نظام الإفادة و الاستفادة، و التعليم و التعلم، بل جميع الكمالات إنما هو العمل بالمدرك إن كان حقا لا نفس الإدراك من حيث هو، إذ ليس فيه كمال حتّى يذكر، و هذا هو المراد بقوله تعالى: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة، الآية: ۲۸٥] و قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [سورة الزمر، الآية: 18] و غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة. و لعل ذكر السمع هنا لصحة إردافه بقوله تعالى: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا و إلّا فالسمع و الذكر في الحقيقة واحد كما عرفت. قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا. التفات من الحاضر إلى الغيبة و هذا كقوله تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [سورة البقرة، الآية: ۷٥] إلّا أن المقام يدل على سرعة النقض. أي: أنهم قبلوا الميثاق و لكنهم خالفوه و لم يعملوا به، و الظاهر أن ذلك كناية عن بيان حالهم و سرعة عصيانهم. و قيل: إنه من ظاهر مقالهم. و على أي تقدير ففيه توبيخ، ورد لمزاعمهم حيث قالوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [سورة البقرة، الآية: 91]، و هذا أيضا من فضائحهم، إذ كيف يقبلون أمرا يعلمون أن فيه سعادتهم، ثم يبادرون إلى إنكاره و عصيانه.
قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. الإشراب المخالطة و الامتزاج، و هو كناية عن انهماكهم في حب العجل حتّى كأنه خالط قلوبهم كما يخالط الصبغ الثوب، أو كما يدخل المشروب في بدن الإنسان أي أنهم بسبب كفرهم قد انهمكوا في حب العجل، و ذلك لأن كثرة ملازمة الشي‏ء و محبته توجب صيرورة القلب و الإرادة مظهرا من مظاهره، و قد اشتهر: «أنّ حب الشي‏ء يعمي و يصم»، و في الحديث: «يحشر النّاس على نياتهم يوم القيامة» و فيه أيضا: «من أحب شيئا حشره اللّه معه» و إشراب القلوب لما هو المحبوب وجداني لكل ذي قلب خولط قلبه بغير ذكر اللّه تعالى.
و يرجع حب بني إسرائيل للعجل إلى ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فانه كان لهذا الحيوان منزلة عظيمة عند المصريين، و سيأتي في سورة الأعراف تفصيل القصّة.
قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. توبيخ و تقريع عظيم لهم أي بئس الإيمان إيمانكم الذي يأمركم بعبادة الأوثان، و نقض العهود، و قتل الأنبياء، فأعمالكم التي هي أثر الإيمان تدل على نفي الإيمان الذي أمركم اللّه تعالى فإنّه يأمركم بتوحيده تعالى و نبذ الأوثان، و طاعة الأنبياء، و احترام العهود. و قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للتنزيل و المجاراة مع المخاطبين، و إلّا فلا إيمان لهم حقيقة و هذا الحكم لا يختص باليهود، بل يشمل كل أمة أمرهم اللّه تعالى بالإيمان و العمل الصالح فخالفوا اللّه تعالى‏ و اتبعوا أهواءهم، فيقال للمسلمين العاملين على غير طريقة القرآن. إنكم آمنتم بالقرآن فبئسما يأمركم به إيمانكم أنكم آمنتم بأهوائكم فلستم بمؤمنين إذ لا بد أن يظهر أثر إيمانكم بالقرآن في أعمالكم.
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. الزام لهم بالحجة، فإنهم ادعوا دعاوى باطلة كما حكاها اللّه تعالى في القرآن الكريم كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و أنهم شعب اللّه المختار و ادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم، فرد اللّه تعالى عليهم و أكذبهم، فقال تعالى: قل لهم إن كانت دعاويكم صادقة و أن الدار الآخرة مع ما فيها من الثواب و النعيم مختصة بكم فتمنوا الموت، لأنه يوصلكم إلى ذلك النعيم، فإن من علم أنه من أهل النعيم كان الموت أحب اليه من الحياة في الدنيا التي لم تبرح عن الشقاء و الأذى، و لم يعقل من الإنسان أن يؤثر الشقاوة على السعادة، مع أنهم يفرون من الموت و يحبون الحياة، و هذا من التناقض بين القول و الفعل الذي لا ينبغي صدوره من العاقل. فإن معيار حب الآخرة حبا صادقا حقيقيا هو التحرز عن جميع العلائق و الانقطاع الى رب الخلائق، كما قال ذلك علي (عليه السلام) في خطبه المباركة لا سيما الخطبة المعروفة في وصف المتقين‏ و قد نسب إليه (عليه السلام) أنه قال: «و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» و كذلك يكون الذين أماتوا شهواتهم في الدنيا الفانية فأحبوا الحياة الأبدية في الدار الآخرة.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أي إن كنتم صادقين في دعاويكم، و فيه إيماء إلى كذب دعواهم.
قوله تعالى: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. كناية عن مطلق العمل السيئ سواء كان بالجوارح أو الكفر و الضلال. و هذا الاستعمال شايع في المحاورات. أي: إنهم يعرفون مصيرهم بما قدموه من سيئات الأعمال، و ما اجترحوه من موبقات الخطايا و الضلال، فلن يتمنوا الموت‏ أبدا. و يظهر من ذلك فساد حالهم و بطلان مقالهم.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. أي إنّ اللّه يعلم أنهم ظالمون لا تخفى عليه أعمالهم و نواياهم لو جحدوا ذلك، و فيه من التهديد و التوعيد ما لا يخفى.
ثم إنّ التمني على أقسام: فتارة: يكون وهميا خياليا لا حقيقة له بوجه من الوجوه، و هذا ضرب من الكذب، و من علامات الحمقى كما في الحديث. و أخرى: يكون تمنيا حقيقيا مقرونا بتهيئة الأسباب فإما أن يصل إلى الغاية، أو لا يصل إليها لخروجها عن تحت اختياره فإن اللّه تعالى على كل شي‏ء محيط، و في الحديث «العبد يدبّر و اللّه يقدّر» و ثالثة: ما يكون متعلقا بعالم الآخرة و نعيمها مع تهيئة الأسباب و تقديم الأعمال، و هذا هو التمني المطلوب عقلا و شرعا، و هو من مقاصد القرآن و سائر الكتب الإلهية، فإنه من الإسراع في الوصول إلى المشتاق بل هو الغرض الأفضل على الإطلاق، و التخلص من دار النوائب و المكاره و الوصول إلى دار السعادة و الراحة. و رابعة: التمني لدار الآخرة مع عدم تهيئة النفس و عدم تقديم الأعمال، و هذا القسم مذموم عقلا و شرعا بل باطل عند كل ذي شعور له قوة التمييز بين الصحيح و السقيم. و تمني اليهود من هذا القسم، و لذا أنكره تعالى عليهم.
قوله تعالى: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى‏ حَياةٍ. الحرص شدة طلب الشي‏ء و الإفراط فيه، بيّن سبحانه و تعالى حقيقة حالهم فإنه بعد أن ذكر أنهم لن يتمنوا الموت أبدا قال سبحانه: إنهم يحبون الحياة و يؤثرون البقاء و لهم في ذلك حرص شديد ليس لهم في النّاس من نظير، و هذا واضح لمن انغمر في الماديات و سلبت قواه و غرّته الحياة الدنيا و زبرجها فاتخذ إلهه هواه فلم يؤمن بما وراءها شيئا، و هم الذين حكى اللّه تعالى عنهم في قوله: الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [سورة البقرة، الآية: ۸٦]. و تنكير الحياة للتحقير أي: يحبون البقاء في الحياة و لو كانت حياة بؤس و شقاء، أو كانت قليلة، لأنه يعلم بأنه يرد إلى أشد العذاب.
قوله تعالى: وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. أي إنّهم أحرص النّاس على الحياة حتّى من المشركين الذين ينكرون المعاد و الحياة بعد الموت سواء كانوا من مشركي العرب أو غيرهم.
و إنما خصهم بالذكر لأنّهم لا يعرفون غير الحياة الدنيا، و لا علم لهم بالبعث و الحساب كما حكى اللّه تعالى عن قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 37].
فما عن بعض المفسرين من أن المراد بها المشركون الذين جرت عادتهم على الدعاء للعاطس بقولهم: «عش الف سنة» إنما يكون من باب التطبيق لا التخصيص.
قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. مادة (و د د) تستعمل بمعنى المحبة، و تطلق على اللّه تعالى حينئذ قال عزّ و جل: وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [سورة البروج، الآية: ۱٤]، و تستعمل بمعنى التمني و هو كثير في القرآن الكريم و منه المقام.
و مادة (ع م ر)- بسكون الميم أو ضمها. أو فتح العين و سكون الميم، و إن كان هذا الأخير يختص بالقسم قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر، الآية: 72]. مأخوذة من العمارة أي عمارة البدن في الحياة الدنيا، أو عمارة الدنيا للكون فيها، أو عمارة الآخرة للارتحال إليها، أو عمارة الجميع و هي أفضلها. أي: يتمنى كل واحد منهم أن يعمّر في الحياة الدنيا ألف سنة أو أكثر، لأنه يعلم أن البقاء في الدنيا مع الآلام و المشاق خير له من الآخرة فإن فيها العذاب. و لكنه لا يعقل أن هذه المدة القليلة المحدودة لا تنفعه و لا تدفع عنه العذاب، إذ لا بد من الإيمان و العمل الصالح.
و إنما عبّر تعالى بألف سنة إما لأجل أنه مثال لكثرة العمر كما أن لفظ سبعين كان مثالا للكثرة في العشرات مثل قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 80]، أو لأجل أنه نوع تقبيح لهم في مبالغاتهم و مقترحاتهم‏ الدائرة بينهم، أو لأن الألف آخر أسماء مراتب الأعداد.
و السنة: مأخوذة من سنه كما عن بعض، و عن آخرين أنها مأخوذة من سنو بالواو بقرينة سنوات، و الظاهر أن هذا خلط بين هاء السكت و مادة أصل الكلمة كما يظهر للمتأمل في استعمالات هذا اللفظ، فلا فرق بين الاستعمالين.
قوله تعالى: وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ. الزحزحة: الإزالة عن المقر، و التنحية عنه، و في الحديث: «من صام يوما في سبيل اللّه زحزح اللّه وجهه عن النار سبعين خريفا».
أي: ليس طول العمر من حيث هو موجبا للخروج عن العذاب بل المناط كله إنما هو العمل الصالح و اكتساب الحسنات و ترك السيئات.
و إنما كرر تعالى كلمة «أن يعمر» و لم يأت بالضمير لبيان أن مقصوده الأهم وقوع طول العمر خارجا، لا مجرد تمني ذلك و لو أتى بالضمير لم يكن ظاهرا فيه.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. المراد بالبصر عند الإطلاق عليه عزّ و جل العلم، و إنما خصه بالذكر، لبيان كمال الإحاطة بالدقائق التي لا تدرك إلّا بالبصر. و فيه تهديد عجيب و توعيد غريب لمن هو غافل عن السعادة الأبدية، و لا يتحفظ على عمره و لا يصرفه إلّا في ما لا يرتضيه تعالى، فإن الإنسان إنما خلق في الدنيا لكي يعيش فيها برهة من الزمن ثم يغادرها إلى دار أخرى هي مقر له فيحصد ما عمله مدة حياته في الدنيا، فإما أن تكون الدار الآخرة هي دار الراحة و السكون و السعادة، أو تكون دار الشقاء و العذاب، فما يحصله الإنسان من خلقه إنما يكون في عمره، فلا بد و أن يبذله في تحصيل السعادة الأبدية و لا يصرف هذه الجوهرة الثمينة في ما لا فائدة فيه، أو تكون الفائدة منحصرة بالدنيا الفانية. و نعم‏ ما نسب إلى علي (عليه السلام): «بقية عمر المؤمن لا قيمة لها، يدرك بها ما فات و يحيي بها ما أمات» فيكون محبته للحياة لأجل أن يدفع عن نفسه موجبات الشقاوة و يكتسب فيها أسباب السعادة الأبدية، و كراهته للموت لأنه يوجب فراق الأحباب و الانقطاع عن الأصحاب. و فراق الأليف مما لا يرتضيه بالطبع كل وضيع و شريف، و لذا ورد كراهة تمني الموت و لا بأس بأن يقول: «اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي و أمتني إذا كان الممات خيرا» كما ذكر في الحديث، و في غير هاتين الصورتين حب الحياة إن رجع إلى حب الدنيا فيكون مذموما و من الأمراض المهلكة، و لا بد من علاجها، و سيأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

عن القمي في قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ: «أي أحبوه حتّى عبدوه».
أقول: تقدم ما يدل على ذلك.
و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى أيضا قال: «فعمد موسى (عليه السلام) فبرد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فذره في اليم. قال: فكان أحدهم ليقع في الماء و ما به إليه من حاجة فيتعرض بذلك الرماد فيشربه، و هو قول اللّه تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ».
أقول: رواه الفريقان، و لو فرض صحة سنده يكون المراد إن الشرب الظاهري بيان و كاشف عن حبهم للعجل؛ فتتم الحجة عليهم بذلك.
و عن القمي أيضا في قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لأن في التوراة مكتوب إن أولياء اللّه يتمنون الموت و لا يرهبونه».
أقول تقدم مثل ذلك عن علي (عليه السلام).

عن جمع من الأدباء- و تبعهم بعض المفسرين- أنّ كلمة (لو) تستعمل في معان: الأول: للسببية بين الشرط و الجزاء.
الثاني: لامتناع الجواب بدون الشرط.
الثالث: التعليق في المستقبل كقوله تعالى: وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [سورة النساء، الآية: 9].
الرابع: أن تكون مصدرية بمنزلة (إن) المصدرية. و أكثر وقوعها كذلك بعد (ود، و يود) و يفترقان في أن مدخول (لو) بعيد الحصول أو ممتنع إما في نفسه أو بحسب العادة أو إبرازه بصورة البعيد أو الممتنع بخلاف (إن) كقوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة البقرة، الآية: 96]، و قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: ٦۸]، و قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [سورة الحجر، الآية: 2] و في غير ذلك تأتي أن المشددة المفتوحة، أو إن الساكنة المصدرية مكانها.
الخامس: للعرض كقولهم: «لو تنزل عندنا فتصيب منا خيرا».
السادس: للتقليل‏ كقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا النّار و لو بشق تمرة».
السابع: التمني كقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: ۱٦۸]، و قولهم «لو تأتيني فتحدثني» و الفرق بينها و بين (لو) المصدرية التي لم يكن فيها معنى التمني أنّ ما بعد الفاء بعد لو التي للتمني يكون منصوبا بخلاف ما بعد لو المصدرية.
و يستفاد من ذلك أنها من المشترك اللفظي، و لهم في ذلك نظائر كثيرة، و الحق أنّ ذلك من خلط المستعمل فيه بدواعي الاستعمال، فإن شأن أداة الشرط مطلقا إنما هو جعل متلوّها واقعا موقع الفرض و التقدير، و أما الخصوصيات فإنما تستفاد من جهات أخرى. و قد حصل هذا الخلط من الخليل في كتاب العين و من غيره، فتعدد دواعي الاستعمال معلوم و تعدد الوضع و المستعمل فيه مشكوك فيرجع فيه إلى الأصل.
إن قيل: إن هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليها (يقال) تعدد الدواعي وجداني عند المستعملين و تعدد الوضع و المستعمل فيه يحتاج إلى دليل و هو مفقود بل الأصل ينفيه.
إن قيل: إن باب المجاز واسع و كلما زيد في الكلام مجازاته و استعاراته يزاد في حسنه (يقال): إن رجع ذلك إلى ما قلناه فهو حسن، و إن رجع إلى ما اشتهر بينهم من ملاحظة ما اعتبروه في المحاورات و الاستعارات فالأصل و الوجدان ينفيان ذلك كله، و قد فصلنا القول في علم الأصول فراجع هناك.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"