1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 60 الى 61

وَ إِذِ اسْتَسْقى‏ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦۰) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (٦۱)


ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة بعض القضايا المهمة الواقعة في بني إسرائيل في عهد موسى (عليه السلام) تذكيرا بنعمه عليهم فقابلوا ذلك بالكفران و العناد للحق فعوقبوا بالذلة و المسكنة و غضب من اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِذِ اسْتَسْقى‏ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ. الاستسقاء طلب الماء و ذلك أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وقعوا في صحراء قفر فأصابهم ظمأ شديد فاستعانوا بموسى (عليه السلام) فطلب من اللّه تعالى أن يسقيهم، كما سبق أنهم طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يظلّهم من حر الشمس فظلل عليهم الغمام، و طلبوا الطعام فأنزل اللّه تعالى عليهم المن و السلوى، و جميع هذه الآيات وقعت في التيه، و سيأتي تفصيل قصتهم في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ. أي أمرنا موسى (عليه السلام) أن يضرب الحجر بعصاه.
و قد ذكر بعض المفسرين أنّ هذا الحجر لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه (عليه السلام) انفجر منه الماء، و لكنه مخالف لظاهر الآية المباركة بل كان حجرا معينا من أحجار الجنّة على ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، فإنه قال: «ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود».
و هو موجود لدى خاتم الأوصياء (عليه السلام) و سيكون لهذا الحجر شأن من الشأن عند ظهوره (عليه السلام)، و يشهد له ما في التوراة فإنه عبر عنه في سفر الخروج ب (الصخرة)، و ستأتي تتمة الكلام في البحث الروائي.
و عصا موسى (عليه السلام) معروفة في الكتب السماوية و قد كانت مظهرا لمعجزات كثيرة و أصلها من آس الجنّة كان آدم (عليه السلام) حملها معه من الجنّة إلى الأرض، كان طولها عشرة أذرع على طول موسى (عليه السلام) و لها شعبتان تتوقدان نورا في الظلمة و كانت تتوارث مع الأنبياء و أوصيائهم حتّى دفعها شعيب إلى موسى بن عمران (عليه السلام) و هي موجودة الآن، و ستظهر حتّى تلقف أساس الظلم و العدوان على يد خليفة من خلفاء الرحمن إن شاء اللّه تعالى و في جميع ذلك روايات معتبرة يأتي التعرض لها.
قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. الإنفجار: الإنشقاق و كل انفجار مسبوق بالانبجاس و لا عكس. و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية أخرى الانبجاس، فقال جل شأنه: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ‏ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة الأعراف، الآية: ۱٦۰] و يمكن الجمع بينه و بين المقام باختلاف المراتب شدة و ضعفا، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. و كانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره، كما في الآية المباركة.
قوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ. العلم إما بإلهام منه عزّ و جل ذلك لهم، أو بجعل من موسى (عليه السلام) أو بالتباني على ذلك ليختار كل أناس مشربهم فلا يقعوا في التنافس و التزاحم.
قوله تعالى: كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ. المراد من الرزق هنا هو الحاصل من عالم الغيب كما مر أي: كلوا مما رزقكم اللّه من المن و السلوى و اشربوا مما فجرناه من الصخرة. و قد تقدم في أول السورة معنى الرزق.
قوله تعالى: وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. العيث: شدة الفساد، أي: لا تبالغوا في الفساد في الأرض. و في الآية المباركة إيماء الى أن كل فساد في الأرض عظيم و شديد، أو أن الفساد يجب أن يتحرز حتّى عن موهومه فضلا عن مظنونه و معلومه.
و ورود النهي عقيب الإنعام فيه إيماء أيضا إلى أن النعمة يجب أن لا تكون سببا لفسادهم؛ فلا يقابلوها بالغي و الكفران. و يعرف من ذلك أن فساد بني إسرائيل و تبديلهم نعم اللّه تعالى بالكفران لا ينفك عنهم و قد طبعوا على ذلك، كما شاهد ذلك نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في مشركي قريش و يهود عصر التنزيل.
ثم إنّ حكم الآية عام لا يختص بخصوص المورد كما في كثير من الآيات، و لعله لذلك التفت من سياق الكلام السابق إلى سياق آخر.
و الأمر بالأكل و الشرب للإباحة لجميع ما لم ينه الشارع عن أكله و شربه، و لعامة أفراد الناس.
و ظهور الماء من الحجارة بعصا موسى (عليه السلام) مذكور في التوراة و القرآن الكريم، كما أن ظهور الماء من أنامل نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مذكور في كتب الفريقين، و من الواضح أن الثاني أشد معجزة من الأول.
قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ أي: و اذكر ما قاله بنو إسرائيل لموسى: إننا لن نصبر على المنّ و السلوى حيث لم يجدوا بديلا عنهما. و هذا يدل على قصور هممهم و انها مقتصرة على الماديات و عدم قابليتهم لنعم عالم الغيب فقد استولى على طباعهم السخرية و العناد فكان هذا السؤال منبعثا عن طبيعتهم.
و الطعام: كل ما يتغذى به و غلّب استعماله في الحنطة لأجل الغلبة الاستعمالية و إلّا فقد يستعمل في الماء أيضا، قال تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة، الآية: ۲٤۹]، و عن نبينا (صلّى اللّه عليه و آله) في وصف ماء زمزم: «طعام طعم و شفاء سقم».
و الطعام اسم يطلق على ما يؤكل و يشرب و قد وردت مادة (ط ع م) في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، قال تعالى: هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [سورة الأنعام، الآية: ۱٤] و قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [سورة المائدة، الآية: 93]، و قال جلّ شأنه في وصف النار: وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً [سورة المزمل، الآية: 13]. و الطعم (بالفتح) هو ما يؤديه الذوق، قال تعالى في وصف الجنّة:
وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [سورة محمد، الآية: ۱٥]، فهذه المادة قرينة الإنسان في جميع نشآته إلى الخلود؛ و ربما يستعمل في المعنويات أيضا، قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ [سورة عبس، الآية: ۲٤] و فسر في الأخبار إلى علمه الذي يتعلّمه الإنسان. فالطعم (بالضم) الأكل، و (بالفتح) عرض قائم بالقوة الذائقة.
و المراد بالواحد الوحدة النوعية، فإن الطعام كان مركبا من المنّ و السلوى و أنه يتكرر كل يوم فذلك ينافي الوحدة الشخصية.
و في عدم صبرهم على طعام واحد يحتمل وجهان: الأول: ملالة الذوق‏ لأن لكل جديد لذة. الثاني: المراد الوحدة في الآكلين مع أن فيهم الأغنياء و الفقراء و من هو أدون، و هذا لا يناسب مقامهم الدنيوي، و كل ذلك يرجع إلى قصور عقولهم، كما ذكرناه.
قوله تعالى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها.
الدعاء هنا بمعنى السؤال من اللّه تعالى و الطلب منه و إفراد الخطاب في قوله تعالى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ لما علموا من أنس موسى (عليه السلام) بربه، و رأفته تعالى بموسى (عليه السلام) فكانوا يعلمون الاستجابة منه، و تحريضا لموسى (عليه السلام) للتأكيد في السؤال.
و البقل: كل نبات لا ينبت أصله و فرعه في الشتاء و المراد به ما يطعمه الإنسان من طيب الخضروات.
قوله تعالى: وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها.
القثاء نبات معروف و هو الخيار، كما أن العدس و البصل معروفان.
و الفوم هو الحنطة، روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام)، و هو قول أكثر المفسرين. و قال جمع إنه الثوم أبدلت الثاء فاء، و هو المشاكل للبصل.
قوله تعالى: قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
الاستبدال طلب شي‏ء بدلا من آخر، أي: أ تستبدلون الذي هو خسيس بالمن و السلوى الذي هو خير منه؟! و استبدالهم الدني‏ء بالخير واضح، لأن المن و السلوى ينزلان عليهم من عالم الغيب من غير تعب و عناء، و جميع ما سألوه إنما كان يخرج من الأرض بالتعب و المشقة و بذل الجهد حتّى يتغذوا به، و انهما كانا أطيب و ألذ مما سألوه.
قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ.
قد تقدم معنى المصر و هو في الأصل بمعنى الانقطاع و الفصل لأن المحل صار منقطعا و منفصلا عن غيره بالعمارة و السكنى.
و المراد بها مصر من الأمصار، و قيل: إنها مصر المعروفة، و يجوز تنوينها لصرفها، و لا دليل على كلا القولين.
و كيف كان فالأمر للتعجيز، لأنه لا يمكنهم الدخول في مصر من الأمصار، لأن اللّه تبارك و تعالى كتب عليهم التيه و لا يمكنهم القتال لضعف عزائمهم و جبن نفوسهم، و أن الأرض التي هم فيها جدباء لا ينبت فيها البقل و الزرع.
قوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ. الضرب يأتي لمعان كثيرة تتميز بالقرائن، و المراد به في المقام هو اللزوم و الإلزام من قولهم: «ضرب المولى الخراج على عبيده» أي ألزمهم، و ذلك أحسن الاستعمالات. و الذلة: الصغار و الهوان، و المسكنة: الخضوع الشديد و فقر النفس، لأن الفقر أسكن الشخص و قلل حركته. و هما أعم مما إذا كانتا في النفس، أو في المال، أو في سائر الجهات.
و اللّه جل شأنه عاقبهم بالذلة و المسكنة، لأنهم كفروا بأنعم اللّه فقد أذلهم اللّه تعالى باستيلاء سائر الأمم عليهم.
و المتيقن من الضمير في (عليهم) اليهود في عصر موسى (عليه السلام) الذين آذوه، و من آذوا منهم نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و يمكن إرجاعه إلى جميع الأعصار، كما دلت عليه التواريخ و يأتي في الآيات المناسبة بيان ذلك.
قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. البوء بمعنى الرجوع، و باءوا أي رجعوا و انقلبوا، و يستعمل في القرآن غالبا في الشر، قال تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى‏ غَضَبٍ [سورة البقرة، الآية: 90]، و قال تعالى: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ [سورة آل عمران، الآية: ۱٦۲].
و الغضب إن أضيف اليه سبحانه و تعالى فهو عقابه بالنسبة إلى من عضب عليه، و إن أضيف الى الخلق فهو حالة توجب الإضرار و هي من الحالات المذمومة، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا الغضب، فإنه شعلة من نار جهنم يلقى صاحبها في النار».
نعم إذا كان الغضب للّه تعالى فهو محمود، و منه بعض مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تقدم بعض الكلام في سورة الفاتحة عند قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
و قد بين تعالى السبب في إذلالهم و مسكنتهم و غضبه عليهم بقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فرجعوا بكفرهم و عصيانهم إلى غضبه تعالى رجوعا دائميا، فإن كل غضب لا بد له من سبب بخلاف الرحمة، فقد تواتر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أن رحمته سبقت غضبه» و ليس المراد بالسبق الزماني منه، بل السبق الإيجادي التكويني، فإن ما سواه منه عزّ و جل و من رحمته، فكل من يعصي اللّه سبحانه و تعالى فقد رجع من رحمته إلى غضبه و عقابه بعمده و اختياره بعد فتح جميع أبواب الرحمة على الفاعل المختار، فيستحق الخزي و العار في حكم العقل، و حكم الشرع.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ.
أي: أنّ ما حل بهم من الذل و المسكنة، و استحقاق غضب اللّه تعالى كان بسبب كفرهم و تكذيبهم لآياته جلّ شأنه. و المراد بآيات اللّه تعالى المعجزات الباهرات التي شاهدوها من موسى (عليه السلام) و الكفر بها رجوع بغضب على غضب، لأن كفران كل آية من آياته يوجب غضبا منه عزّ و جل؛ و يجوز أن يكون المراد الكفر بالمعجزات و قتل النبيين أو إنكار الإنجيل و القرآن.
و الأولى إرادة العموم ليشمل جميع ما ذكر مع ترك الواجبات و فعل المحرمات، و تشهد لذلك الروايات الدالة على أن الإصرار على المعاصي الصغيرة من الكبائر، و لا اختصاص لذلك ببني إسرائيل فقط، بل يشمل أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم التخصيص بالمورد كما هو المتعارف.
قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. الأنبياء جمع النبي، كالأقوياء جمع القوي. و النبأ هو الخبر، و لكنّه أخص من مطلق الخبر، لاختصاصه بالإخبار عن الغيب بواسطة إنسان رفيع الشأن و عظيم المنزلة.
و المشهور بين اللغويين و تبعهم المفسرون أنّ مبدأ اشتقاق النبي مهموز.
و عن بعض اشتقاقه من النبوة من غير همز، و هي الارتفاع لأن مقام النبي رفيع جدا، و لا ينافي ذلك لزومه الإخبار عن اللّه تعالى فبعض عبّروا بنفس اللازم و هو الاخبار، و البعض الآخر عبروا بالملزوم و هو رفعة المقام، و يمكن تأييده‏ بثقل الهمزة في كلام العرب حتّى‏
نسب إليهم (عليهم السلام): «لو لا أن جبرائيل نزل القرآن بالهمزة ما همّزنا أهل البيت»
، و منه يظهر حكم تخفيف الهمزة في القرآن كله، و عليه كلما دار بين قراءة شي‏ء بالهمزة أو بغيرها تكون القراءة بغيرها أولى.
و روي أنّ رجلا جاء إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «يا نبي‏ء اللّه- بالهمزة- فقال: لست بنبي‏ء اللّه- و همز- و لكني نبيّ اللّه- بغير همز-».
و يأتي النبي بمعنى الطريق، و سمي الرسول به، لاهتداء الخلق به كالطريق.
و على أية حال النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بلا واسطة بشر، سواء كانت له شريعة كموسى و عيسى و محمد (صلّى اللّه عليهم)، أم لم تكن له شريعة كيحيى مثلا. و الرسول هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى و كانت له شريعة، سواء كانت مبتدأة كآدم (عليه السلام) أم ناسخة كشريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة.
و إنّما وصف اللّه سبحانه قتل النبيين بغير الحق، و هو كذلك إذ لا يعقل أن يكون قتل الأنبياء بالحق، فالقيد ليس باحترازي فهو إما لأجل تعظيم الذنب الذي اقترفوه، و زيادة الشنعة عليهم. أو من باب تقرير زعمهم و اعتقادهم، يعني مع أنكم تعتقدون ان هذا القتل كان بغير حق فكيف تقدمون عليه مع هذا الاعتقاد، و قد قتلوا من أنبياء اللّه تعالى أشعيا و زكريا و يحيى و غيرهم.
قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ. العصيان معروف و هو خلاف الطاعة. و الاعتداء تجاوز كل شي‏ء، و يحتمل أن يكون لفظ الإشارة الثانية في الآية المباركة تأكيدا للأولى فيها، أي ذلك الذل و المسكنة و الغضب كان بسبب عصيانهم لأوامر اللّه تعالى و خروجهم عن حدود ما أنزله اللّه تعالى.
و يحتمل أن ترجع الإشارة إلى الأخير، أي أن قتلهم الأنبياء كان بسبب عصيانهم و اعتدائهم.
و يستفاد من قوله تعالى: وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أن الاعتداء صار عادة لهم و طبعا و خلقا لديهم، و هذا أمر لا يختص باليهود بل كل من استولى عليه العصيان و المخالفة و الاعتداء على حدود اللّه تعالى يستحق غضب اللّه تعالى‏ و اذلاله فيكون ذيل الآية الشريفة حكما عقليا لا يختص بأمة دون أخرى.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ قال (عليه السلام): «و اللّه ما قتلوهم بأيديهم، و لا ضربوهم بأسيافهم، و لكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها و صار قتلا و اعتداء و معصية».
أقول: المراد من القتل أعم من المباشر و التسبيب، و في ذلك روايات كثيرة، بل يستفاد ذلك من نفس الآية المباركة، و ربما يكون السبب أقوى.
و عن القمي: «كان مع موسى حجر يضعه في وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فينفجر منه اثنتا عشرة عينا- كما حكى اللّه تعالى- فيذهب كل سبط في رحله و كانوا اثني عشر سبطا».
أقول: تعبير القرآن المبين و هذا الخبر بالحجر أولى من تعبير التوراة بالصخرة لأن الحجر يمكن حمله معهم- كما في هذه الرواية- دون الصخرة فإنها تطلق على الحجارة الكبيرة التي لا تحمل إلّا مع المشقة.
و في تفسير العسكري عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «احذروا الانهماك في المعاصي، و التهاون بها، فإن المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتّى توقعه في ما هو أعظم منها، فلا يزال يعصي و يتهاون و يخذل و يوقع في ما هو أعظم مما جنى».
أقول: ما ورد في هذه الرواية وجداني لكل من أرخى عنان النفس في المعاصي، و سلك في أي مسلك شاء و أراد، و تدل عليه الروايات الكثيرة، و استفاد (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك من قوله تعالى: وَ كانُوا يَعْتَدُونَ.

قد استدل بالآية الشريفة كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على إباحة الأشياء و حليتها و جعلوها أصلا عبروا عنه بأصالة الإباحة العقلية و النقلية و قد حررنا البحث عنه في كتابنا [تهذيب الأصول‏] فلا وجه للتعرض هنا بعد ذلك.
كما استدل بها على أنّ الرزق يطلق على الحلال فقط لأن الأمر يدل على الإباحة في المقام، و حيث لا يتصور الإباحة في الحرام فلا يصدق عليه الرزق.
و لكن يرد عليه أنّ من شرط ظهور اللفظ في شي‏ء إحراز كون المتكلم في مقام بيان ذلك الشي‏ء و إقامة الحجة عليه، و هو غير محرز في المقام، و يكفي في عدم صحة التمسك بالإطلاق الشك في ذلك على ما هو المتعارف في المحاورات، و قد حررنا ذلك في أصول الفقه، و يأتي في الآيات المناسبة ما يتعلق بالرزق إن شاء اللّه تعالى.

ذكر اللّه سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة جملة من المعجزات التي صدرت من موسى (عليه السلام) و هي كلها من صنع اللّه تعالى و إذا نسبت اليه تعالى لا يتصور فيها التحديد و التقييد بوجه من الوجوه لعموم قدرته، فالحد بالنسبة إلى الكمال الأتم المطلق من كل جهة- من ذاته و بذاته و لذاته- لا يتصور له معنى معقول، و لكن إذا لوحظ ذلك كله بالنسبة إلى المورد و المتعلق لا بد أن يحد بحد الإمكان الذاتي إذ المستحيل بالذات يقصر عن أن يقع مورد المعجزات و خوارق العادات، لقصور في المتعلق لا أن يكون القصور في القدرة، و قد سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام): «هل يقدر اللّه على أن يجعل الدنيا في بيضة بحيث لا تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة؟ فقال (عليه السلام) إن اللّه قادر، و لكن هذا لا يكون»، فاتفق العقل و النقل على خروج الممتنعات عن مورد المعجزات و خوارق العادات، و إنما يكون موردها الممكنات الذاتية، و إن كانت ممتنعة عادة بالأسباب العادية لكنها ممكنة بالقدرة القاهرة الربوبية. و منه يعلم الوجه في المعجزات الصادرة عن الأنبياء لا سيما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).
و هذا مراد جمع من الفلاسفة و المتكلمين و تبعهم بعض المفسرين القدماء من أن المعجزة تجري بأسبابها الطبيعية، أي أنها تجري في الممكنات الذاتية، لا الممتنعات بأسبابها الطبيعية الظاهرة لمن جرت على يده المعجزات الخفية على غيره بل غير القابلة للظهور له.
و مع ذلك إنّه تبارك و تعالى سلك في جريان الإعجاز مسلك الأسباب الظاهرية، حفظا للنظام الأحسن الجاري في الأسباب و المسببات، فإنه تعالى أبى أن تجري الأمور إلّا بأسبابها، و لذا كان جريان الماء بضرب الحجر بالعصا، و حمل مريم ابنة عمران بتمثل الروح الأمين لها و تسبيح الحصى في يدي نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، مع أنه تبارك و تعالى قادر على إيجاد هذه الأمور بغير تلك الأسباب أيضا.
و مما ذكرنا يظهر أنّ جميع القوانين العلمية، و المخترعات الحديثة و ما يلحقها بعد ذلك لا ربط لها بالمعجزة و خارق العادة أصلا، لأنها تجري وفق قوانين علمية، أو عملية ثابتة مطردة حاصلة من التجربة بخلاف المعجزة فإنها سنة جديدة لم يألفها الإنسان، و لا يعرف لها قاعدة مطردة، و إنما تكون بإذن اللّه تبارك و تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"