1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات ٦ الى 7

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (۷)


ما تقدم كان في بيان حال طائفة من النّاس و هم المتقون المؤمنون بالغيب، و المؤمنون بالقرآن، و بما أنزل من قبل و ما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالهداية و الفلاح.
و في هاتين الآيتين بيان حال طائفة أخرى و هم الكافرون المعاندون الذين كانوا لعنادهم و جحدهم للحق أنهم بلغوا أقصى مراتب الغواية و الضلال فلا جدوى للهداية فيهم و لا يؤثر فيهم التبشير و الإنذار فكان من نتيجة عملهم أن ختم اللّه على قلوبهم فلا استعداد لها للإيمان و كان لهم الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. الكفر: ستر الشي‏ء و تغطيته و منه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شي‏ء بسواده و الكفر يستعمل في القرآن في مقابل الشكر قال تعالى: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة لقمان، الآية: 12]، و في مقابل الإيمان قال تعالى: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف، الآية: 29].
و الكفر هو ستر الحق اعتقادا أو لسانا أو عملا في مقابل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان و اقرار باللسان و عمل بالأركان كما تقدم. و عليه يكون للكفر مراتب كمراتب الايمان فقد يكون الشخص كافرا بالنسبة إلى مرتبة و هو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.
و المراد بالذين كفروا- بقرينة السياق و مقابلتهم لأهل اليقين و الإيمان في الآية السابقة- من ستر الحق مطلقا و تمكّن منه الكفر و استولى عليه بحيث لا يرجى منه الإيمان و كان في علم اللّه من الراسخين في الكفر، سواء كان عن عناد و جحود للحق بعد معرفته، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: ۱٤]. أو إعراض عنه للحق إما استكبارا عن النظر فيه، أو لأجل مرض في قلوبهم، بسبب انهماكهم في الأمور الدنيوية فعمى عليهم كل سبيل، و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام. فهؤلاء الكفار لما علم اللّه منهم الجحود للحق و الاستهزاء به لم ينفعهم الإنذار و التخويف و الآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لكل كافر كذلك في أول الإسلام و من يأتي بعده و يترتب على ذلك- قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ- ترتب الجزاء على الشرط الحاصل باختيارهم.
(سواء) اسم بمعنى الإستواء. و الإنذار هو الإخبار بالشي‏ء و لا يكون إلّا مع تخويف بما يترتب على الإهمال بالشي‏ء.
فيكون المعنى إنّ من كان الكفر عليه مستوليا و لم يكن من المستعدين لقبول الحق و الهداية يستوي فيه الإنذار و عدمه فهم لا يؤمنون بعد دعوتهم للحق إذ وظيفة الداعي للحق هي الدعوة اليه، بلا فرق بين المستعد للإيمان و غير المستعد و هذا من الأمور الفطرية إذ كيف ينفع الدواء مع مزاولة المريض أسباب الداء كما لا يفيد النور مع إغماض العين حتّى لا يراه، و لم يكن ذلك نقصا في الدواء و لا عيبا في النور.
قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. الختم و الطبع بمعنى واحد و هو تغطية الشي‏ء و الاستيثاق منه لئلا يدخله غيره. و الختم على القلب كناية عن عدم انتفاعه بالمعارف الربوبية و الحقائق الإلهية و ما يترتب عليها في عالم الدنيا و الآخرة، فالختم و الطبع و صيرورة القلب في الأكنّة كلها بمعنى واحد، و هو ما ذكره عزّ و جل في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها [سورة الأنعام، الآية: ۲٥]، و كذلك قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ [سورة المطففين، الآية: ۱٤].
و المراد منه أنّ من تمكن منه الكفر و استحوذ على قلبه فلا يبقى فيه استعداد للإيمان و الهداية و علم اللّه تعالى انه لا يؤمن باختياره و ذلك بسبب ممارسته المعاصي و مزاولته لارتكاب المحذورات، فتأثر طبعه و نفسه بها و صارت كالطبيعة الثانية له فلا يرجى منه خير و هذا هو المراد من الطبع و الختم فيكون ذلك أمرا طبيعيا فهو سنة اللّه في خلقه و لذا عبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر مفروغ منه و سنة قائمة في من كان كذلك.
و هذه الآية المباركة لا تدل على سلب الإختيار عنهم و انهم مجبورون على الكفر، بل الختم أو الطبع على القلب حاصل من عملهم و إصرارهم على الكفر، و يدل على ذلك آيات كثيرة منها الآية المتقدمة الدالة على أن الرين كان بسبب كسبهم المعاصي حتّى غطّت قلوبهم تلك المعاصي، و كذا قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [سورة الجاثية، الآية: 23] فإنه يدل على أن الختم حصل بسبب اتخاذه إلهه هواه بحيث أعمى بصره و بصيرته فلا يفيد معه شي‏ء.
و إنما أسند الختم الى نفسه تعالى للدلالة على ما ذكرناه، و لأنه من نسبة المقدور و المقضي الى القدر و القضاء لا نسبة المعلول إلى علته، أو نسبة المرضي الى الرضا، فإن اللّه تعالى لا يرضى لعباده الكفر و الجهالة و الضلالة، بل هو يقضي ذلك على الخلق بحسب اختيارهم و إرادتهم، فيكون المقام نظير قوله تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة الأنفال، الآية: 23].
و الحاصل: إن الأمور التكوينية الجارية على مجاريها الطبيعية لها إضافتان اضافة إلى فاعلها المباشري فتنسب إليه أولا و بالذات، و إضافة الى خالقها بواسطة خلقه للفاعل المباشري فتنسب إليه تعالى و لا يستلزم ذلك الفساد نقصا فيه تبارك و تعالى، و سيأتي تفصيل البحث إن شاء اللّه تعالى.
ثم إنه قد ذكر في هذه الآية الختم على القلب مقدما على الختم على السمع، و في سورة الجاثية بالعكس- كما تقدم- حيث قال تعالى: وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً، [الآية: 23] و لا فرق بينهما من هذه الجهة لأن المدارك الظاهرية طريق إلى حصول العلم بالمقصود و فهم المعارف الإلهية. و لذا ذكر الفلاسفة: «من فقد حسا فقد فقد علما» فمن ختم اللّه على قلبه فقد فقد الفهم و الانتفاع من المعارف الإلهية و كان كذلك بالنسبة إلى سمعه إذ لا أثر لسماع لا يدخل في القلب و كذا لو ختم على سمعه فقد أعرض عن فهم الحق فلا يسمع إلّا صوتا و حينئذ يصير السماع لغوا كما هو المشاهد في بعض الناس فهما متلازمان في الجملة سواء عبر بالأصل أم بالعكس.
قوله تعالى: وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ. الغشاوة: الغطاء و الحجاب. و المعنى أن أبصارهم لكثرة المعاصي و ارتداعهم عن قبول الحق لا تدرك آيات اللّه تعالى في الآفاق و الأنفس و دلائل وجوده فهي في حجاب، و انما لم يسند الغشاوة إلى نفسه من حيث ثباتهم على الكفر و ارتكابهم المعاصي و في سورة الجاثية أسندها الى نفسه فقال تعالى: وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً و ذلك لأنها تنتهي بالآخرة اليه انتهاء المقتضى (بالفتح) الى المقتضي (بالكسر) مع اختيارهم لذلك و عدم كونهم مجبورين عليه.
و إنما ذكر تعالى عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مع تحقيق الطبع بالنسبة إليها أيضا، لكثرة توغلهم في الجهالات فكأن أبصارهم طبع عليها مرة بعد أخرى، فعبر تعالى عن المرة الأولى ب (الطبع و الختم)، كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [سورة النحل، الآية: 108] و عن الثانية ب (الغشاوة) كما في الآية المباركة و ما قلنا جار في جميع الآيات المسوقة في هذا البيان.
و يمكن أن يفرق بينهما بأن يقال: إن الطبع و الختم إنما هو بالنسبة إلى المعنويات مطلقا و الغشاوة بالنسبة إلى الظواهر من حيث إمكان الانتقال منها إلى المعنويات فهذه الجهة مسلوبة عنهم أيضا كما يستفاد ذلك من الآيات المباركة على ما سيأتي.
ثم إنه ليس المراد بالقلب و السمع و البصر في المقام ما هو الموجود في البهائم إذ ليس ذلك مناط الفضل حتى يختم عليه بل المراد منه العقل الذي يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان و يغلق به أبواب النيران و قد بينه اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و بقوله جل شأنه: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة الزمر، الآية: 22].
و يستفاد من ذلك أن الختم على القلب و على سائر المدارك إنما يكون بالنسبة إلى عالم الغيب و المعارف الإلهية و ذلك لا ينافي بقاء إدراكها بالنسبة إلى الجهات المادية الدنيوية بل نبوغها فيها لتغاير العالمين و تباين النشأتين و عدم ارتباط أحدهما بالآخر فكم من نابغة في الدنيا ليس له حظ في الآخرة و كم من عالم بما يتعلق بالآخرة لا توجه له بأمور الدنيا.
قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. العذاب بمعنى الحبس و المنع، و منه الماء العذب، أي يمنع عن اختلاط شي‏ء آخر، أو لأنه يقمع العطش و يمنعه.
و هو في القرآن اسم لما يؤلم و يمنع النفس عن جميع مشتهياتها من الخير. و العظيم ضد الحقير و يراد به العظمة من كل جهة كما و كيفا و زمانا و مكانا و هو يشمل‏ عذاب الدنيا و الآخرة قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ [سورة الرعد، الآية: ۳٤] و التنكير لإظهار تعميم العذاب من جميع الجهات التي تتصور فيه و حينئذ فيكون ذكر العظيم من باب أهمية عظمته.
و هاتان الآيتان من القضايا الشرطية المركبة من الشرط و الجزاء و قد ثبت في علم الميزان أن جملة من تلك القضايا تكون قياساتها معها، أي: تصورها يغني عن إقامة البرهان عليها. و سيأتي بيان أن للعذاب- في الآخرة- حياة و إدراكا. مفصلا إنشاء اللّه تعالى.

عن علي (عليه السّلام): «سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم و سمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم ألا تسمع قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ».
أقول: بين (عليه السّلام) أن الختم و الطبع على قلوبهم وقع باختيار منهم لا أن يكونوا مقهورين في ذلك كما تقدم.
و قوله: «ليوافق- علمه فيهم»
ليس هذا العلم من العلة التامة للطبع و الختم حتّى يستلزم الجبر كما ذهب اليه جمع، لقوله (عليه السّلام) في صدر الرواية «ليوافق قضاؤه عليهم علمه» فحكمه (عليه السّلام) بأن ذلك من مقتضياته- و القضاء بنحو الاقتضاء لا العلة التامة- يدفع هذا الاشكال.
قال أبو جعفر (عليه السّلام): «و اللّه إنّ الكفر لأقدم من الشرك و أخبث و أعظم».
أقول: يظهر من هذه الرواية الشريفة أن الآيتين المباركتين لا تختصان بوقت دون وقت فيكون القدم فيها قدما زمانيا لأن كفر إبليس أقدم من جميع أنحاء الكفر، و يمكن أن يجعل قدما رتبيا فإن كل شرك مبدوّ بأوهام تحصل للنفس و هي بعض مراتب الكفر في الواقع و مبادئ الشرك فيصير الكفر مبدئا للشرك بعد ذلك.
و عن الرضا (عليه السّلام): «الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم»
أقول: و هذا نص في أن الكفر كان باختيارهم فطبع اللّه على قلوبهم عقوبة عليهم.
و عن الصادق (عليه السّلام) في وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ و جل قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر اللّه، و كفر البراءة، و كفر النعم: فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، و هو قول من يقول: لا رب و لا جنّة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال: لهم الدهرية، و هم الذين يقولون و ما يهلكنا إلّا الدهر، و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم و لا تحقيق لشي‏ء مما يقولون، قال عزّ و جل: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أنّ ذلك كما يقولون، و قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني بتوحيد اللّه فهذا أحد وجوه الكفر.
و أما الوجه الآخر من الجحود على معرفة و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال اللّه عزّ و جل: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا، و قال اللّه عزّ و جل: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ فهذا تفسير وجهي الجحود.
و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ، و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ.
و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جل به، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى‏ تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ‏ بِبَعْضٍ؛ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، و ذلك قول اللّه عزّ و جل يحكي قول ابراهيم: كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، يعني تبرأنا منكم، و قال يذكر إبليس و تبرأه من أوليائه من الإنس يوم القيامة: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، و قال: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، يعني يتبرأ بعضكم من بعض».
أقول: يمكن جعل جميع ما في هذه الرواية من التقسيم العقلي بأن يقال: الكافر إما لا يعتقد بمبدإ أصلا، و هو الكافر المطلق و يطلق عليه الجاحد بالمعنى العام أيضا؛ أو يعتقد به في الجملة ثم يجحده و هو كفر الجحود بالمعنى الخاص، أو يعتقد به و لا يجحده و لكن يكفر بنعمه و هو كفر النعم، أو يعتقد به و لكن يترك ما أمر اللّه به و هو كفر ترك الطاعة و يشمل هذا ترك كل واجب شرعي، أو إتيان كل ما نهى اللّه عنه. أو يعتقد بذلك كله و لكن لا يبرأ من عدوه و لا يتوالى وليه و هو كفر البراءة. و من هذا الحديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر على تارك الصّلاة أو على إتيان بعض المحرمات أو التولي لأعداء اللّه أو التبري من أولياء اللّه فهذا الحديث هو الجامع لجميع أنواع الكفر، و لكن الكفر الاصطلاحي الذي يبحث عنه في الفقه الموجب لأحكام خاصة يختص ببعض الأقسام دون الجميع.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"