1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 55 الى 59

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى‏ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥۷) وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥۸) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥۹)


بعد ما بيّن سبحانه و تعالى بعض نعمه على بني إسرائيل مع كفرانهم لها ذكر جل شأنه في هذه الآيات المباركة بعضها الآخر، و بيّن فيها بعض الوقائع التي وقعت عليهم أيضا، كما ذكر فيها ما ينفعهم في صلاح حالهم.

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً. أي: اذكروا ما قلتم لموسى (عليه السلام) لن نصدقك حتّى نرى‏ اللّه جهرة، و هذا بيان لقصة أخرى من قصصهم و هي من أعظم مظاهر جهلهم، و كانت عقوبة هذا الجهل من أعجل العقوبات التي حلت بهم.
و الإيمان بمعنى التصديق يتعدى باللام، كما في المقام، و بالباء كما في قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ [سورة الأعراف، الآية: 123]. و الرؤية هنا الإدراك بالقوة الحسية البصرية، و تستعمل بمعنى العلم و ما يدرك في عالم الرؤيا أيضا، و الجهر معناه العلانية، و المراد به ظهور المدرك (بالفتح) معاينة في القوة الحسية إما في البصر، كقول القائل: رأيته جهارا، أو السمع كقوله تعالى: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏ [سورة طه، الآية: 7]، و أكد بالجهر للفرق بين رؤية العيان و غيرها.
قوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. تقدم في قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة، الآية: 19] معنى الصاعقة، و هي النار المحرقة، قال تعالى: وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [سورة الرعد، الآية: 13]، و قد يراد بها الصوت الشديد الموجب للموت، قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [سورة الزمر، الآية: ٦۸]، و تأتي بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ [سورة فصلت، الآية: 13].
و احتمالات الصاعقة في هذه الآية المباركة هي: إما أن تكون من العذاب الأخروي جزاء لغيّهم و لجاجهم. و فيه: أنه خلاف ما في الكتب السماوية من أن العذاب الأخروي متوقف على أمور معينة يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى، أو تكون نحو عذاب دنيوي، جزاء لعنادهم و لجاجهم. و فيه: أنه خلاف ما جرت عليه عادة اللّه تعالى من التأني و الإمهال في التعذيب و التأخير فيه إلّا ان يخصص المقام، أو أن الصاعقة حصلت من آثار عظمته و جلاله و كبريائه جل شأنه فتكون من سنخ قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [سورة مريم، الآية: 91] فهي أمر وضعي تكويني، و تأثير الأقوال، و الأفعال غير المرضية للّه تعالى في عالم التكوين يستفاد من الكتاب العزيز و السنة المستفيضة كما يأتي، بل تدل عليه الأدلة العقلية أيضا على ما يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.
و النظر فيها تقليب البصر أو البصيرة لإدراك الشي‏ء. و استعماله في الأول أكثر عند العامة، و في الثاني أكثر عند الخاصة. و قد ورد في القرآن الكريم ما يدل على كل منهما فمن الثاني قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: ۱۸٥] و من الأول قوله تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ [سورة التوبة، الآية:127] و قد استعمل في المقام بمعنى مطلق الإدراك الشامل لكل من المعنيين بحسب شعورهم و إدراكهم فيكون نحو تخويف و تشديد لما سألوه من موسى (عليه السلام).
و قصة سؤال بني إسرائيل رؤية اللّه تعالى مذكورة في التوراة، و هي أن طائفة من بني إسرائيل اعترضوا على موسى و هارون و قالوا لماذا اختصا بالكلام مع اللّه تعالى مع أنهما إنما حظيا هذه المنزلة، لكونهما من ولد إبراهيم (عليه السلام) و هذه النعمة تعم بني إسرائيل كلهم فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذهم الى خيمة العهد، و هي خيمة نصبها موسى لنفسه و أمر بتقديسها و سميت بخيمة الزمان أيضا، فانشقت الأرض و ابتلعت قسما منهم و أحرقت الناس القسم الآخر.
و لكن نقل ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه السلام): «أن بني إسرائيل قالوا لن نؤمن لك بأنّ اللّه أرسلك و كلمك حتّى نسمع كلام اللّه تعالى فاختار منهم سبعين رجلا فلما سمعوا كلام اللّه قالوا لن نؤمن بأنه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا»، و سيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.
و يستفاد من الجمع بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٤۳] أن سؤال موسى لرؤية اللّه تعالى لم يكن لنفسه و من عند نفسه، بل كان لبني إسرائيل، و لذا لم يكن مشمولا للصاعقة الموجبة للموت و البعث بعده، بل قال تعالى في حقه (عليه السلام) وَ خَرَّ مُوسى‏ صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٤۳]، و سيأتي التفصيل في سورة الأعراف.
قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. البعث بمعنى الإثارة و الإرسال و التوجيه. و قد استعملت مادته في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و يجمع جميع هذه الاستعمالات أحد أمور ثلاثة:
أحدها: الإيجاد من العدم إلى عالم الدنيا، كقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 31]، بناء على أنه أول غراب بعث من العدم إلى الوجود، كما هو الظاهر.
ثانيها: الإحياء بعد الإماتة، كقوله تعالى: وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [سورة الحج، الآية: 7].
ثالثها: البعث إلى المقاصد الصحيحة كبعث الرسل، قال تعالى: وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 129].
و المعروف بين المفسرين أن الأول مختص باللّه تعالى، و يستعمل الأخيران في غيره أيضا، لأن بعض أولياء اللّه تعالى يحيي الموتى، و أما البعث في الحوائج فهو شايع عند الناس.
أقول: إن اختصاص الأول باللّه تعالى منصوص في قوله عزّ و جل لعيسى (عليه السلام): وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110] إلّا أن يقال: إنه من تبديل الصورة، لا الإيجاد من العدم المحض.
و المراد بالبعث هنا المعنى الثاني أي بعثوا بعد الموت لعلهم يشكرون هذه النعمة عليهم، و لكنهم قابلوها بالكفران.
و هذه الآية المباركة دليل على مذهب الإمامية من الرجعة، و استدلوا بجملة من الآيات المباركة هذه إحداها، و يأتي تفصيل ما ذهبوا اليه إن شاء اللّه تعالى.
و في هذه الآيات إيماء إلى النهي عن التعمق في ذات اللّه جلت عظمته بل استحقاق العقاب عليه، و قد وردت عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) في النهي عن التعمق في ذاته عزّ و جل روايات كثيرة،
فعن أبي جعفر (عليه السلام): «تكلموا في خلق اللّه و لا تتكلموا في اللّه فإن الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلّا تحيرا»، و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».
قوله تعالى: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ. ذكر سبحانه و تعالى بعض نعمه التي منّ بها على بني إسرائيل و هي نعمة التظليل، و ذلك أنهم لما خرجوا من مصر و أرادوا الأرض المقدسة اجتازوا صحراء لا ظل فيها و لا شجر فكان يصيبهم حر شديد فشكوا إلى موسى (عليه السلام) فأرسل اللّه تعالى إليهم الغمام لتظلّهم عن حر الشمس، كما هو مذكور في التوراة.
و الظل هو الستر و كلما يستر عن الضياء يسمى ظلا، قال تعالى في وصف أهل الجنّة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ [سورة المرسلات، الآية: ٤۱] و الفي‏ء أخص منه، لاختصاص إطلاقه بما زالت عنه الشمس فقط، و ليس كل ظل هو فيئا. و الغمام هو السحاب و القطعة منه غمامة، و إنما سمي غماما، لأنها تستر السماء فيصير معنى الغمام و الظل و الستر واحدا و يفرّق بالاعتبار، و تظليل الغمام لهم إنما وقع في التيه.
قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى‏. هذه نعمة اخرى من النّعم التي منّ بها على بني إسرائيل. و المنّ هو الإحسان و الخير، و يقع تارة، بالفعل، و هو حسن و كثير في القرآن، و أخرى بالقول و هو مستقبح عند الناس إلّا عند كفران النعمة، و لذا قالوا: «إذا كفرت النعمة حسنت المنة». و السلوى هو كلما يتسلى به الإنسان و منه التسلي في المصيبة، و فلان‏ في سلوة من العيش أي: في رغده. و الإنزال بمعنى الخلق و الإيجاد، و حيث يصدر كل منهما من مبدأ عال بكل معنى العلو يصح إطلاق الإنزال عليه، كما في قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد، الآية: ۲٥].
و المعنى: أنزلنا عليكم الخيرات و البركات، و ما يوجب رغد العيش و يشهد لهذا التعميم ذيل الآية الشريفة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ فإنها في مقام الامتنان.
و قد فسر المنّ بعض المفسرين بأنه مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر و ورق الشجر مائعة ثم تجمد و تجف فيجمعها الناس لأجل الاستفادة منها، و السلوى: بالسمانى و هو طائر معروف. و هذا يكون من باب التطبيق، لا بيان المعنى الحقيقي، و يأتي شرح ذلك في قصة التيه في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ. الطيب ما تستطيبه النفس، و هو من الأمور الإضافية فرب طيب يستطيبه قوم دون آخرين، و ذكر كلمة «من» في الآية الشريفة لهذه الجهة، أي: ليأكل كل منكم ما يشاء و يستطيبه. و سياقها يدل على وفور النعم و كثرتها، و لكنهم قابلوها بالكفران و المعاصي كما أشارت إليه الآية المباركة.
قوله تعالى: وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. في هذه الآية الشريفة إشارة إلى أمر وجداني و هو كل من كفر بنعمة أسديت اليه فقد ظلم نفسه، لأن ذلك سبب لانقطاع تلك النعمة و زوالها، أو يستوجب عذاب اللّه تعالى، و مما ظلموا به أنفسهم جحودهم للّه تعالى الذي هو من أعظم الظلم.
قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ. مادة (ق ر ي) تأتي بمعنى الجمع فيصح إطلاقها على كل مجمع إطلاقا حقيقيا.
و روي أنّ بعض القضاة دخل على علي بن الحسين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): «أخبرني عن قول اللّه تعالى: «وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً» ما يقول فيه علماؤكم؟ قال: يقولون إنها مكة فقال (عليه السلام) و هل رأيت سرق‏ في موضع أكثر منه بمكة؟ قال: فما هو؟ قال (عليه السلام) إنما عني الرجال.
قلت: فأين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال (عليه السلام): ألم تسمع قول اللّه تعالى: فكأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله».
أقول: و على هذا لا داعي إلى الحذف و الإضمار كما عليه الأدباء و تبعهم جمع من المفسرين، لأنه مع صحة المعنى الحقيقي لا تصل النوبة إلى المجاز و الحذف.
ثم إنّ المراد بالقرية هنا مطلق المدينة، و هما و البلد نظائر لغة و إن كان قد يفرق بين القرية و البلد عرفا، فيقال: القرية للمجمع الصغير من الناس، و القصبة لما هو أكبر منها، و البلد لما هو أكبر منهما.
و لم يعين القرآن هذه القرية إلّا أن المعروف بين المفسرين أنها كانت بيت المقدس، و هو المروي عن ابن عباس. و عن بعض أنها أريحا، و هي من حدود بيت المقدس فيرجع إلى الأول، و يشهد له قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المائدة، الآية: 21]. و هذه نعمة أخرى منّ بها اللّه عليهم حيث أباح لهم دخول القرية بعد زوال التيه عنهم، فيكون الأمر إرشاديا لا تكليفيا و سيأتي تتمة الكلام بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً. الرغد هو السعة و الكثرة، و إطلاقه يشمل السعة في كل شي‏ء كالرغد في أنواع النّعم و الرغد في المكان و الزمان و غير ذلك في مقابل كل ضيق يفترض.
و حيث إنّ دأب القرآن أنّ آياته المباركة يبين بعضها بعضا فلفظ الرغد و إن ذكر في هذه الآية الشريفة و لم يذكر في سورة الأعراف آية 161 و لكن إذا لا حظنا الآيتين معا يكون كأنه ذكر فيهما معا.
قوله تعالى: وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً. لما أمرهم سبحانه و تعالى بالدخول إلى القرية المقدسة بيّن لهم كيفية الدخول و آدابه، و لأجل هذا قدم قوله تعالى: وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً على قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ بخلاف ما ورد في سورة الأعراف.
و السجود هنا بمعنى الخضوع و الخشوع المناسب لمن يدخل الأرض المقدسة، و هو تأديب إلهي في كيفية دخول بيت المقدس، و يصح تعديه الى كل بيت من بيوت اللّه تعالى، و قد وردت في السنة المقدسة أمور كثيرة في آداب دخول المسجد الحرام و الكعبة المقدسة تعرّض لها فقهاء الفريقين في الكتب الفقهية.
و المعروف في الباب أنّها من أبواب بيت المقدس يسمى بباب حطة (باب التوبة) و يمكن أن يراد بالباب مطلق مدخل الشي‏ء سواء كان من الأبواب المعهودة المادية أم المعنوية، أي: أبواب استكمالات النفس الإنسانية مطلقا- و إطلاق الباب على هذا المعنى شايع كثير فقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنا مدينة العلم و علي بابها، و من أراد العلم فليأت الباب» فالأنبياء و الأوصياء و العلماء باللّه العاملون أبواب معرفة اللّه تعالى، و طرق الهداية إليه، و لا بد من الخضوع لهم لاستكمال النفوس الناقصة و هذا ما تقتضيه الفطرة فليس ما في هذه الآية المباركة أمرا خارجا عن حكم الفطرة و عن أبي جعفر (عليه السلام): «نحن باب حطتكم» و هذا مطابق لما تقدم فباب الحطة و العلم الإلهي واحد.
و لم يعلم أن هذا الأمر في الآية المباركة كان في شرع موسى (عليه السلام) على نحو الندب كما في شرعنا أو على نحو الوجوب، و ظاهر الأمر يقتضي الأخير لو لا سياق الأدبية، و ترتب العقاب على خصوص الذين بدّلوا القول.
قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. يعني: قولوا- عند دخولكم الباب خاشعين متواضعين للّه تعالى- اللهم حط عنا ذنوبنا بتشرفنا ببيتك، و سلكنا مسلك أهل عبادتك فإذا فعلتم ذلك بدخول الباب و التوبة نغفر لكم خطاياكم الكثيرة و قد وعدهم بمزيد الإحسان و هذا من سنته عزّ و جل، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ وَ زِيادَةٌ [سورة يونس، الآية: ۲٦] فلا تختص الآية الكريمة بموردها، بل‏ تشمل كل من ترك ما لا يرتضيه تعالى و دخل في ما يرضاه عزّ و جل.
قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ التبديل: التغيير سواء كان في أصل المادة أم في الهيئة أم في بعض جهاتهما. و سواء كان في الإعتقاد أم في مجرد اللفظ أم فيهما معا، و تبديل ما أنزله اللّه تعالى حرام بحكم الفطرة، و قد أجمع المسلمون على عدم صحته في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، و منه تبديل ألفاظ القرآن الكريم و لو حرفا واحدا، فإنه لا يجوز بلا ريب و لا إشكال.
و المعنى: أنهم غيروا ما أمروا به فخالفوه و لم يتبعوه و كان لهذا التبديل مصاديق مختلفة عند اليهود فإنهم خالفوا الأمر بالاستغفار و التوبة و السجود في بيت المقدس و بدلوه إلى شي‏ء آخر.
و للمفسرين في تعيين المبدل إليه في السجود و الحطة أقوال: فذكر بعضهم أنهم قالوا بدل «حطة» حنطة في شعرة، و قال آخر انه بهاطا، أو بحاطا، أو هطا سمهاثا إلى غير ذلك. و بدلوا الأمر بالسجود أنهم زحفوا على أستاههم، و كيف كان فقد وقع التبديل و المخالفة في ما أمروا به فشملهم العذاب، و هذا جزاء كل مستهزئ بآيات اللّه و أحكامه.
قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ. يستعمل الرجز بمعنى الاضطراب الموجب للعذاب،و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الطاعون رجز عذّب به بعض الأمم»، و عن بعض اللغويين الرجز و الرجس متقاربان كالبزاق و البصاق. و الرجز (بالضم) عبادة الأوثان و هو يناسب المعنى الأول. و لم يذكر سبحانه و تعالى نوع العذاب، و إنما ذكر بعض المفسرين أنه الطاعون فمات منهم أربعة و عشرون ألفا من كبارهم و شيوخهم و بقي الأبناء فانتقل عنهم العلم و العمل فمات الكبراء و الشيوخ بالطاعون و مات الباقون بالجهل المركب الذي هو أشد من الطاعون، و إنما كرر الظالمين في الآية المباركة إما لأجل تخصيص الرجز بالظالمين، أو تعظيما للأمر و إظهار قبح ظلمهم.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. ابتلى اليهود بأنواع من العذاب‏ جزاء بما كانوا يفسقون بمخالفة الأوامر الإلهية، و سيأتي في سورة الأعراف تمام قصتهم إن شاء اللّه تعالى.

يمكن أن يكون تظليل الغمام إشارة إلى مقام تجلّي صفاته المقدسة جلت عظمته لخلّص عباده، و إنزال المن و السلوى إشارة إلى المقامات الحاصلة لهم من التخلي عن الرذائل و التحلي بالفضائل. و كلوا من طيبات ما رزقناكم إشارة إلى‏ قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «للّه في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»، و في قوله تعالى: وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى‏ قوله تعالى: «من دنا إليّ شبرا دنوت إليه ذراعا و من دنا إليّ ذراعا دنوت منه باعا، و من دنا إليّ باعا دنوت إليه هرولة»، و قوله تعالى: ادْخُلُوا الْبابَ إشارة إلى باب الرضا بالقضاء الذي هو باب اللّه الأعظم، و قوله تعالى: سُجَّداً إشارة إلى ظهور التجليات من عالم الغيب. و القرآن ذو وجوه و المطلوب هو عدم الجزم بما ظهر من الاحتمال و إيكال العلم إلى العليم المتعال.
ثم إنّ ذكر حالات بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين آية من سورة البقرة، و ذكر قصصهم في القرآن الكريم، و بيان لجاجهم و عنادهم مع أنبيائهم، و تعذيبهم بأنواع العذاب لما في ذلك من التسلية للنبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بما كان يلقاه من مشركي العرب، و إيماء إلى أن من أصرّ على جهله و عناده في إنكار الحق بعد ظهوره يرى ما رآه بنو إسرائيل من العذاب، لوجود التشابه بينهما، فلا بد من العبرة بما جرى عليهم، و نبذ مساوي الأخلاق و الاهتمام بإصلاح النفوس فإن اللّه تعالى لم يحك لنا قصص الماضين إلّا للاعتبار بها.

في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً: «هم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه السلام) ليسمعوا كلام اللّه تعالى فلما سمعوا الكلام قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى اللّه جهرة. فبعث اللّه عليهم صاعقة فاحترقوا ثم أحياهم اللّه بعد ذلك و بعثهم أنبياء، فهذا دليل على الرجعة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فإنه قال: لم يكن في بني إسرائيل شي‏ء إلّا و في أمتي مثله».
أقول: يظهر من الحديث- على فرض صحته- أنّ هؤلاء السبعين كانوا من خواص أصحاب موسى «عليه السلام» لاختياره لهم، كما يأتي في الرواية اللاحقة و كانوا عالمين بشريعته، و إصرارهم على الرؤية إنما كان لأجل أن يصلوا الى هذا المقام الرفيع أي الرؤية و ترفع درجتهم عند الناس في ترويجهم لشريعة موسى (عليه السلام)، و نزول الصاعقة عليهم و احتراقهم نحو تأديب إلهي لهم لإصرارهم في سؤالهم، فليست الصاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود، بل انها تأديبية و إحيائهم و بعثهم أنبياء، لأجل أنهم كانوا عارفين بخصوصيات شريعة موسى (عليه السلام) و الظاهر أنهم كانوا جميعا أنبياء في عصر واحد كجمع من علماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) في عصر واحد لأنهم كانوا يبلّغون أحكام التوراة.
و اما ذيل الحديث فيدل عليه روايات كثيرة من الفريقين على أن كل ما وقع في بني إسرائيل يقع في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و يشهد لذلك قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [سورة الإسراء، الآية: 92] و هذا شأن جميع ذوي العقول التي انحصرت إدراكاتهم على الحس و المحسوسات، و تأتي الإشارة إلى الآيات الدالة على الرجعة و الأخبار الدالة عليها.
و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «إنهم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه السلام) و صاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنك قد رأيت اللّه فأرناه كما رأيته. فقال لهم: إني لم أره. فقالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً».
أقول: تقدم في الرواية السابقة ما يتعلق بهذه الرواية.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ- الآية- لما عبر بهم موسى البحر نزلوا في مفازة، فقالوا: يا موسى أهلكتنا و أخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل فيها، و لا شجر، و لا ماء فكانت تجي‏ء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس، و ينزل عليهم بالليل المنّ فيأكلونه، و بالعشي يجي‏ء طائر مشوي فيقع على موائدهم فإذا أكلوا و شبعوا طار عنهم».
أقول: على فرض صحة الحديث يكون هذا من سنخ أطعمة الجنة التي تكون لها حياة خاصة.
و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزّ و جل وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. قال (عليه السلام): «إنّ اللّه أعظم و أعز و أجل و أمنع من أن يظلم و لكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه، و ولايتنا ولايته، حيث يقول: إنما وليكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا يعني الأئمة». و قريب منه ما عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام).
أقول:
أما قوله (عليه السلام) إنّ اللّه أعظم و أعز و أجل و أمنع من أن يظلم‏، فإن الظلم بمعنى المظلومية من صفات الممكن و هو تعالى منزه عن ذلك.
و أما الظلم بمعنى الفاعل فهو مضافا إلى أنه من صفات الممكن أيضا متقوم بالاحتياج و هو تعالى منزه عنهما.
و أما قوله خلطنا بنفسه‏ يعني: جعلنا من مظاهره تعالى على العباد، لأن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه أدلاء عليه و كل دليل مظهر لمدلوله فيكون الخلط بهذا المعنى.
و أما قوله (عليه السلام) فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته‏، إذ لا معنى لولاية اللّه تعالى من كل جهة و إطاعته إلّا أن يكون الظلم عليهم ظلما على اللّه تعالى.
و عن ابن بابويه عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): الكمأة من المنّ الذي نزل على بني‏ إسرائيل- الحديث-»، و مثله ما رواه البرقي عن الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
أقول: هذا من باب التطبيق، و يظهر أن للمنّ مصاديق منها ما ورد في الحديث. و الكمأة شحم الأرض.
و في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ. قال (عليه السلام): «قال أبو جعفر (عليه السلام): نحن باب حطتكم».
أقول: تقدم ما يدل على ذلك، و قريب منه ما ورد عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في حق علي.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"