1. صفحة الرئیسه
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 282 الى 283

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏ وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى‏ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى‏ أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (282) وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى‏ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)


ذكر تعالى في هاتين الآيتين ما يقرب من عشرين حكما تتعلّق بأصول المعاملات و المعاوضات كالبيع و الدّين و الرهن و نحوها، و هي قواعد نظامية ثابتة في فطرة العقلاء قرّرها سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) بوحي من السماء.
و بمراعاتها يحفظ المال عن الضياع، و يرفع التنازع و الاختلاف بين أفراد الإنسان، و يصل كلّ ذي حق إلى حقه، و العمل بها يوصل الناس إلى أغراضهم و يحافظون على مالية أموالهم.
و قد أكد سبحانه و تعالى على كثرة الاعتناء و الاهتمام بحقوق الناس و بيّن عزّ و جل أنّ العمل طريق التقوى بل هي و العمل الصحيح متلازمان و أنّ التقوى من موجبات رحمة اللّه تعالى بالعبد، و أنّها بمنزلة روح العمل. و قد ذكر سبحانه في الآيات المتقدمة الإنفاق و الصّدقات، و قد وعد الوعد الجميل للمنفقين ثم بيّن حرمة الربا في آيات تنذر بالخطر و توعد الآكل للربا بالعذاب الشديد، و في هاتين الآيتين يبيّن اللّه عزّ و جل أصول المعاملات. ففي الأولى بذل و عطاء، و في الثانية تحذير عن الابتزار و سلب الأموال من دون عوض و الظلم. و في الثالثة بيان لكيفية حفظ الأموال و نقلها من حال إلى حال.
و من ذلك يعرف نظام الإسلام بالنسبة إلى الأموال فهو من جانب يرغب إلى الإنفاق و البذل و الإعطاء و يذم حفظ المال و جمعه و ينهى عن الركون إلى الدنيا و زبرجها. و من جانب آخر يحفظ الأموال عن الضياع و يحرم الابتزاز، فكان الحد الوسط بين الإفراط في حب المال و جمعه و التفريط في بذله و عطائه.
و نحن نذكر في التفسير مجموعة الأحكام الشرعية التي تضمنتها الآيتان المباركتان على نحو الإيجاز و التفصيل مذكور في الكتب الفقهية.

282- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.
الدّين- بفتح الأول-: اشتغال الذمة بما يتعلّق بالغير مالا كان أو حقا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، و الدّين- بالكسر-: الطاعة و الجزاء، و يستعمل في الشريعة و الملة، و يمكن فرض الجامع القريب بين اللفظين، كما لا يخفى، فيكون اللفظان من المشترك المعنوي دون اللفظي.
و التداين: التعامل بمعاملة فيها دين، سواء كانت المعاملة بيعا أو قرضا أو نحو ذلك.
و إنّما أتى بصيغة التفاعل لتقوم الدّين باثنين: الدافع و الآخذ، مع أنّه ترغيب إلى المجاراة يعني: أنّه كما احتجت إلى الدّين و دفع إليك غيرك فلتكن أنت أيضا كذلك.
و يمكن أن يكون المراد بالتداين مداينة بعضهم بعضا فيكون قوله تعالى: بِدَيْنٍ تأكيدا.
و الكتابة: الفرض و الثبوت، قال تعالى: وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ [التوبة- 121]، و الكتاب في الأصل مصدر يطلق على المكتوب.
و الأجل: المدة المضروبة للشي‏ء تقديرا من اللّه تعالى كأجل حياة الإنسان، قال تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر- ٤]، و يطلق على الجعل المقرّر في المعاملات و الديون. و هو من المفاهيم القابلة للتشكيك قلّة و كثرة.
و الأجل المسمّى: هو الأجل المضروب المعلوم للطرفين قال تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [البقرة- ۲۳٥].
و يستفاد من الآية الشريفة: حكمان:
الأول: أنّه لا بد أن يكون أمد الدّين معيّنا لا جهالة فيه بذكر الأجل المعيّن.
و الثاني: الأمر بكتابة الدّين و الأجل دفعا للضرر و حفظا للحقوق، لأنّ ذا الأجل يكون معرضا للنزاع و الأوهام. و الأمر للإرشاد إلى ما ذكر من الحكمة فلا يستفاد منه الوجوب، و يدل عليه قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و إجماع الأصحاب و عمل المتشرعة. و إطلاق الآية الشريفة يشمل المباشرة للكتابة و التوكيل فيها.
قوله تعالى: وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ.
بيان لكيفية الكتابة، و شروطها، و من يتولاها. فبيّن سبحانه أنّه يشترط في الكاتب أمران: الأول: العدالة. الثاني: العلم بالأحكام كما يأتي.
و العدل بمعنى الاستقامة و الاستواء في الدّين للدّين، و احترزنا بالقيد الأخير بما إذا كانت الاستقامة في الدّين لا للدّين، فإنّها حينئذ نفاق و ليست بعدل، بل قد يكون شركا و كفرا، كما في المرائي الذي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء منها: يا مشرك، يا كافر.
و المعنى: و ليكن الكاتب بين المتعاملين بالدّين عادلا سويا بالنسبة إلى المتعاملين، و حقيقة المعاملة، و الأجل، و الشروط و نحو ذلك، و لا غرض له‏ إلا بيان الحق.
و الأمر للإرشاد كما ذكرنا و هو أعم من أن يكون الكاتب أحد المتعاملين أو غيرهما.
و إنّما ذكر سبحانه بَيْنَكُمْ لأنّ الغالب أنّ الكاتب من غير المتعاملين لندرة الكتابة في عصر النزول.
و إنّما قدم صفة العدالة على غيرها لأنّ بالعدل تقوم السّماوات و الأرض و لأنّ غيرها مع فقدها لا ثمرة فيه.
قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ.
هذا هو الأمر الثاني أي: العلم بالأحكام و شؤون المعاملة، و ما يعتبر فيها لتخلو الكتابة عن الوهم و التقصير، لأنّها حجة معتبرة، و هي سند بينهما لحفظ حقوقهما.
و ما علّمه اللّه أعم من أن يكون بواسطة أنبيائه، و رسله، أو ما أرشد العقل إليه، و النّهي فيها للتنزيه و الكراهة.
و يستفاد من الآية الشريفة: التشديد في تثبيت الدّين و أنّ صنعة الكتابة من الواجبات الكفائية التي يتقوّم نظام العالم بها.
و قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ يدل على النّهي عن رد الدّعوة إلى أمر من الأمور التي تكون فيها مصلحة النوع، و استحباب تلبيتها.
قوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ.
أي: فليكتب للناس شكرا لما أنعم اللّه تعالى عليه، و مراعاة لحقوق الناس، أو هو تأكيد في تثبيت الدّين، و سياق الجملة يفيد أنّ الأمر للندب لا الوجوب.
قوله تعالى: وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ.
و الإملاء يأتي بمعنى الإظهار و البيان على المستفيد، و الإملال: الكتابة، و يمكن أن يرجع اللفظان إلى جامع قريب، و هو الإثبات فإن كان على شخص فهو إملاء و إن كان في مكتوب فهو إملال.
أي: و ليظهر المدين و يلق ما عليه من الدّين و خصوصياته على الكاتب ليكتب ما يذكره فيكون حجة بينهما.
قوله تعالى: وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً.
البخس: هو النقص على سبيل الظلم، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود- ۸٥]، و قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الأعراف- ۸٥].
أي: و ليتّق- الذي عليه الحق و هو الذي يملي- اللّه ربه في إملائه و يلقيه كاملا، و لا ينقص من الحق شيئا.
و إنّما أمر سبحانه بالتقوى للترهيب، فإنّ اللّه عليم بالأمور و قادر عليه و بيده عقابه، و نهى عن البخس و الظلم لأنّ الإنسان مجبول على دفع الضرر و الطمع في جلب النفع إليه.
و الأمر للاستحباب، و هو و إن كان متوجها لمن عليه الحق لأنّه عارف به و بسائر خصوصياته فيكون إملاؤه حجة للدائن يرجع إلى المكتوب عند المجادلة و المماراة. و لكن يجوز لغيره الإملاء، أو يكتب الكاتب نفسه ما يعرفه من الحق و شؤونه بعد إلقائه على المديون و اعترافه به.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.
السفيه: هو الذي ليست له حالة باعثة على حفظ ماله و الاعتناء بحاله و لا يتحفظ عن المغابنة، و لا يبالي بالانخداع، و هي قد تكون لكثرة الانقلاع عن دار الغرور و الاقتراب إلى عالم النور و السرور، فهي حالة ممدوحة، و فيها ورد قول بعض الأكابر: «نرجو شفاعة من لا تقبل شهادته». و قد تكون لغير ذلك و هي حالة مذمومة، و قد ورد لها أحكام خاصة في الكتاب و السنة.
و المراد بالضعيف أي: الضعيف في عقله و هو المجنون و الصغير و الأبله و الخرف.
و المراد بمن لا يستطيع أن يملّ هو من لم يقدر على الإملاء، أو بيان الخصوصيات التي جرت عليها المعاملة كالأخرس و نحوه.
و الولي من يتولى الأمر و يديره و هو إما تكوينيّ- كولاية اللّه تعالى على ما سواه، و ولاية الأب على أولاده القاصرين، أو شرعي، أو عرفي، و عموم الآية الشريفة يشمل الأقسام الأخيرة مترتبة فيملي بالعدل بلا زيادة و نقيصة، و يبيّن جميع الخصوصيات المطلوبة.
و إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لرفع الإبهام في رجوع الضمير إلى الكاتب المذكور سابقا.
كما أنّ ذكر الضمير في قوله تعالى: أَنْ يُمِلَّ هُوَ لبيان أنّ الأخير يخالف المتقدمين فإنّه يشترك مع وليه بخلاف الفردين المتقدمين فإنّ الوليّ فيهما مستقل في الولاية.
قوله تعالى: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ.
الاستشهاد: طلب الشهادة و الشهيد صفة دالة على الثبوت، و الشاهد من الشهود و الحضور، لأنّ المشهود به لا بد أن يكون حاضرا لدى الشاهد، قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مشيرا إلى الشمس: «على مثلها فاشهد أودع»، و بسط الصادق (عليه السلام) كفه و نظر إليها فقال: «على مثل هذا فاشهد»، و سمي الشهيد به لحضور رحمة اللّه و حضور ملائكة الرحمة لديه.
و إنّما أمر سبحانه بالشهادة على الأموال و الحقوق و الديون للاستيثاق و لدفع الخصومة و النزاع.
و يستفاد من الآية الشريفة: اشتراط الذكورة فلا تقبل شهادة النساء الا على ما يأتي من التفصيل، و الرجولة فلا تقبل شهادة الصبيان، و الإسلام فلا تقبل شهادة الكفار، و يدل على كلّ ذلك قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ.
و أما اشتراط الوثاقة فيدل عليه قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.
أي: و إن لم يتمكن أحد من إتيان الشاهدين الرجلين فليستشهد، رجلين و امرأتين، و يشترط في هذه الثلاثة ما يشترط في الشاهدين الرجلين، لمكان البدلية. ممن يرضاهم النوع في شهادتهم و يعتمد الناس على شهادتهم بأن يكون الشهداء من أهل الصّلاح و العدالة.
قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏.
الضلال هنا: بمعنى التيه و الخطأ، و الآية الشريفة تبيّن حكمة جعل شهادة امرأتين مكان رجل واحد. أي: لئلا تضل إحداهما فتذكر الأخرى بعد التشاور و التحاور بينهما لبعد النساء عن أمور المعاملة و قلة ضبطهنّ لها من نوع الرجال.
و إنّما وضع سبحانه الظاهر في موضع المضمر في قوله تعالى: إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏ لاختلاف معنى اللفظ في الموضعين فإنّ المراد من الثانية إحداهما بعد ضلال الاخرى، و المراد من الأولى ضلال إحداهما لا على التعيين.
قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا.
الإباء: الامتناع. أي: لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا إلى تحمل الشهادة، و يحتمل أن يكون النهي عن الامتناع عن أداء الشهادة بعد تحملها، و يمكن حمل الآية المباركة على المعنيين التحمل و الأداء بعد وجود الجامع القريب بينهما.
و النهي للتنزيه كما في سائر أوامر و نواهي هذه الآية الكريمة، و لدلالة السنة الشريفة عليه، الا أن يدل دليل على الحرمة.
قوله تعالى: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى‏ أَجَلِهِ.
السأم: الملالة، قال تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ [فصلت- ٤۹]، و الآية تؤكد على التثبت في الديون و حقوق الناس، و عدم التهاون فيها فإنّها مظنة النزاع و الضياع.
و المعنى: و لا تملّوا عن كتابة الدّين صغيرا كان أو كبيرا ذاكرين أجله و شؤونه. و إنّما قدم الصغير للاهتمام به أي: لا تكون القلة مانعة عن الكتابة.
قوله تعالى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى‏ أَلَّا تَرْتابُوا.
بيان للحكمة في الأحكام المتقدمة و قد ذكر سبحانه ثلاثة منها، و مادة قسط تأتي بمعنى العدل، و قد وردت هذه المادة في القرآن كثيرا، قال تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران- 18]، و قال تعالى: وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات- 9]، و يأتي القسط بمعنى الجور أيضا، قال تعالى: وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن- ۱٥]، فهو من الأضداد. و لو جعلنا القسط بمعنى مطلق الميل لم يكن من الأضداد، و لا من المشترك اللفظي، و حينئذ فإن كان إلى الحق فهو العدل و الإنصاف، و إن كان إلى الباطل فهو الجور و الاعتساف.
و المعنى: أنّ ما تقدم من الأحكام في الكتابة و الإشهاد و غيرهما أعدل طريق للتقوى و هو المحبوب عند اللّه تعالى، و أحفظ للشهادة و أعون على إقامتها على وجهها الصحيح، و أقرب إلى نفي الشك و الريب فإنّها تدفع ارتياب بعضكم من بعض. و هذه الأمور مطلوبة للناس مرغوب فيها.
و يستفاد من هذه الآية الشريفة: أنّ جميع تلك الأحكام إنّما تكون لأجل هذه الغايات الحميدة، فتكون الأوامر و النواهي فيها للإرشاد لا للوجوب و الإلزام.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها.
أي: إلا أن تكون المعاملة و التجارة نقدا ليس فيها دين و تتناقلون العوضين فيها بينكم فيأخذ كلّ واحد عوض ماله من الآخر، ففي هذه الحالة لا بأس في ترك الكتابة فيها.
قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ.
أي: و استشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، و الأمر إرشادي للتأكيد على شدة الحيطة في الأموال.
قوله تعالى: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.
يضار هو المضارة بين اثنين، و أصله يضارر بفتح الراء الأولى إن كان الفعل مبنيا للمفعول، و بكسر الراء إن كان غيره.
و كيف كان فالآية الشريفة تنهى عن الضرر و المضارة بين الطرفين سواء كان أحد الطرفين الكاتب أو الشاهد، و الآخر المتعاملين.
أي: لا يوقع الكاتب المتعاملين في الضرر بالتحريف في الكتابة و لا يوقع الشاهد الضرر على المتعاملين بشهادة الزور.
أو يكون المعنى: النهي عن الكتابة الضررية و الشهادة كذلك فليس على الكاتب و الشاهد إلا أداء الوظيفة بلا ضرر، فلا يدخل الضرر على الكاتب و الشاهد بسبب الكتابة و الشهادة.
و إن تفعلوا المضارة و توقعوا الأطراف في الضرر فإنّ ذلك خروج عن الطاعة، و هو كائن بكم و متحقّق فيكم ما لم تتوبوا و ترفعوا الضرر و الحيف عمن وقع الضرر عليه.
قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ.
امتنان منه عزّ و جل بتعليم الأحكام الشرعية و المعارف الإلهية إذا تحققت‏ التقوى. و وعد منه تعالى بتعليم من اتقاه، و الآية الشريفة قضية عقلية فإنّ النفس الناطقة الإنسانية ليست من الماديات المحضة، كما هو ثابت بالوجدان و البرهان. و لها نحو تجرد فكلّ ما يفاض عليها لا بد أن يكون من عالم الغيب و أعظم أبواب عالم الغيب إنّما هو باب التقوى و هي الارتباط الخاص مع ذلك العالم، و لم يبلغ الأنبياء و الأوصياء و الصالحون إلى ما بلغوا من العلوم و المعارف الإلهيّة إلا بالتقوى، و تحمّل المصاعب و المتاعب في جنب اللّه تعالى، و الحرمان عن جملة من الشهوات و المستلذات، و ليست التقوى سببا تاما في إفاضة العلم بل لا بد من تسبيب سائر الأسباب، و لكن التقوى بمنزلة الروح لها.
و لعلّ إلى ذلك يشير تخلّل واو العطف و تكرار اسم الجلالة وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ.
و التقوى تصفي القلب من الكدورات المادية، فيستعد لإفاضة النور عليه.
و عن جمع من الإشراقيين أنّ العلم إنّما يكون بتصفية النفس و تطهير القلب عن كلّ دنس و ريب، و قد ورد في الحديث: «ليس العلم بكثرة التعليم و التعلم و إنّما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء» و فيه أيضا: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لا يعلم» و في ذلك أحاديث كثيرة، و التجربة أكبر شاهد عليه.
و في الآية المباركة الموعظة الحسنة و التحريض إلى التقوى و العمل بما أنزله اللّه من الأحكام فإنّه طريق إلى العلم الصحيح النافع.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ.
أي: إنّ اللّه عليم بحالكم و ما هو الأصلح لكم في الدنيا و الآخرة فاتقوه ليرشدكم إليه.
و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما تقدم، و قد وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّه المطلوب و هو اللّه العالم بكلّ شي‏ء.
283- قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى‏ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ.
بيان للأعذار المانعة من الكتابة فيكون استثناء من الأحكام السابقة و يستفاد منه أهمية الاستيثاق على الأموال عن الضياع.
و مادة (رهن) تأتي بمعنى الدوام و الاحتباس و منه احتباس العين وثيقة على الدّين، و لم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موارد ثلاثة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور- 21]، و قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر- 38]، و هي كثيرة الاستعمال في غيره‏
ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم» يعني إنّه لا خلاص للنفس و أنّها محبوسة لا يمكن فكها إلا بالعمل الصالح، كما أنّه لا خلاص للمال المرهون الا بأداء الدّين و قال الشاعر: إن يقتلوني فرهن ذمتي لهم بذات و دقين لا يعفو لها أثر.

و الرهن: مصدر رهنت الشي‏ء و أرهنته و ربما يطلق على المال المرهون و هو كثير كما في الآية الشريفة.
و القبض: هو الاستيلاء على الشي‏ء و هو من الأمور الإضافية تختلف باختلاف الجهات و الخصوصيات و القابض من أسمائه المباركة أي: إنّ جميع ما سواه تحت إرادته الكاملة جلت عظمته قال تعالى: وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر- ٦۷].
و المعنى: و إن كنتم مسافرين و لم تجدوا كاتبا يكتب الدّين بالكيفية المطلوبة و أردتم الاستيثاق على دينكم فاستوثقوا برهن تقبضونه و قوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي: أنّ التوثيق رهان مقبوضة كما كان في الكتابة و الشهادة.
و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ السفر عذر من الأعذار المانعة من الكتابة و الإشهاد فلا يكون شرطا لصحة الرهن، و إنّما ذكره تعالى بالخصوص، لأنّه الغالب في الأعذار لقلة الكتابة و الكاتب في الأعصار القديمة لا سيما في السفر. كما أنّ عدم الكاتب و الإشهاد ليس شرطا لصحة الرّهن فهو مشروع و صحيح مع تحققهما و ثبوتهما فإنّ الاستيثاق مرغوب إليه و حسن و لا يختص بحال دون أخرى.
ثم إنّه وقع الكلام في أنّ القبض شرط في صحة الرهن أو في لزومه أو لا يشترط فيه القبض و الظاهر من الآية المباركة هو الأول و يدل عليه بعض الروايات و قد ذكرنا تفصيل الكلام في كتاب الرهن من (مهذب الأحكام).
و الرهن لا يخرج بالرهانة عن ملك الراهن بل هو باق على ملكه و للمرتهن استيفاء حقه منه عند حلول الأجل و عدم وفاء الراهن للدّين فتكون منافع العين المرهونة للراهن دون المرتهن و لا يجوز لكلّ من الراهن و المرتهن التصرف في العين المرهونة الا بإذن الآخر كما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرف» و التفصيل موكول إلى الفقه.
قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ.
أي: و إن اعتمد بعضكم على بعض و كان من عليه الحق أمينا عند الدائن و لم يطلب منه وثيقة فإنّه يجب أن يؤدي المدين دينه كاملا و لا يجحده و لا يغيّر منه شيئا، و يستفاد من قوله تعالى: أَمانَتَهُ عموم الحكم لكلّ أمانة و منها الدّين فتشمل الوديعة و القرض و نحوهما، فيكون المورد من تطبيق الكبرى على أحد المصاديق نظرا لعموم العلّة.
قوله تعالى: وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ.
أي: و ليتق المدين اللّه ربّه في أمر حقوق الناس و يتنزه عن مخالفة أحكامه فلا يخوننّ في الأمانة و لا يجحدها بعد فقدان الوثيقة بينهما فإنّ اللّه تعالى به عليم و هو مالك أمره في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.
«آثم» خبر إنّ «و قلبه» فاعل، أو «آثم» مبتدأ و «قلبه» فاعل سد مسد الخبر و الجملة خبر (إنّ).
و كيف كان ففي قوله عزّ و جل من الفصاحة و البلاغة ما لا يخفى و هو من بديع البيان يكشف عن الضمير الإنساني بعد ارتكابه الآثام و الموبقات، فإنّ القلب بمنزلة القوة المدبرة للإنسان و هو مبدأ الشعور و التعقل ترجع إليه أحاسيسه و منه تصدر إرادته و حركاته، إذ ليس المراد من القلب اللحم الصنوبري الموجود في كلّ متنفس. و يصلح الجسد بصلاح القلب كما يفسد بفساده فإذا كان خاليا عن ظلمات الآثام و مصفّى من كدورات المادة كان الإنسان صالحا مراقبا لنفسه متبعا لأوامر اللّه تعالى و منتهيا بنواهيه متزنا في أفعاله و أقواله، و أما إذا كان فاسدا فلا يرجى منه الخير و قد طبع عليه و حينئذ لا يشعر بالحسن و القبح فيكون أصل الشر و مبعثا على الفساد فلا تصدر أفعاله عن فكر و روية صالحة تنفعه في الدنيا و الآخرة.
و من ذلك يعلم الوجه في نسبة الإثم إلى القلب فإنّ فساد المبدإ و الأصل موجب لفساد غيره، و يستفاد منه تغليظ الإثم أيضا و إنّما قال تعالى: «آثم» دون الفعل للدلالة على أنّ الإثم متمكن في القلب و دائم بدوام الإثم و كتمان الشهادة من الكباير، و قبحه العقلي ثابت عند كلّ أحد فإنّ في كتمان الشهادة وقوع الظلم و الضرر على الناس و تضييع لحقوقهم و هدر لكرامتهم، و الجملة فيه خيانة على مصلحة النوع.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
أي: و اللّه عليم بنواياكم و أعمالكم يجازيكم عليها فلا بد من مراقبة النفس و الأعمال.

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: تدل الآية المباركة على أهميّة حقوق الناس و وجوب مراعاتها و التحفظ عليها، و قد ذكر سبحانه و تعالى أمورا ثلاثة على تثبيتها: الكتابة، و الشهادة، و الرهن، و لعلّ تأخير الرهن و تقييده بالسفر للإشارة إلى أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يرتهن من أخيه المؤمن فإنّ شرف الإيمان و عزّه يحملانه على الوفاء بالعهد و أداء حق الناس.
الثاني: قد ذكر سبحانه في الآية المباركة قواعد نظامية لا تختص بعصر دون آخر و لا ملّة دون أخرى فهي صالحة في جميع الأعصار و الشعوب تحفظ بها الأموال عن الضياع، و يسلم الإنسان عن التشاجر و التنازع و يرتضيها العقل السليم و يوافق عليها الطبع المستقيم و قد نبّه إليها القرآن الكريم قبل أن يصل الإنسان إلى المدنية الحاضرة و يقنن قوانين لتنظيم المعاملات و حفظ الأموال و تحسين النظام الاجتماعي الاقتصادي.
الثالث: أمر سبحانه و تعالى فيما تقدم من الآيات المباركة- مضافا إلى ما ورد فيها من لزوم التحفظ على أموال الناس- تنزيه النفس فيما بينها و بين اللّه تعالى عن الخيانة في الأمانة و هي التقوى التي حرّض القرآن عليها بأساليب مختلفة. و هي الأصل في جميع التشريعات السماوية كما أنّها روح‏ العمل و قوام الدّين و الأصل في كلّ تشريع.
الرابع: يحتمل في قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد الشهادة المتعارفة كما مر في قوله تعالى بالنسبة إلى الدّين: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ.
الثاني: شهود العوضين و ملاحظة الجهات التي تختلف باختلافها الأغراض العقلائية فتكون الآية في مقام نفي الغرر و الجهالة، و يكون مفادها مطابق للحكم الفطري، و يستفاد الوجوب الشرطي و الحكم الوضعي أي بطلان البيع مع الغرر و الجهالة و يكون‏ ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «نهي النبي عن الغرر» مقتبسا من هذه الآية الكريمة.
و يبعد الاحتمال الأول أولا: أنّه لا بد من حملها على مطلق الرجحان لظهور الإجماع و السيرة العملية بين المسلمين من حيث نزول الآية الشريفة على عدم الوجوب.
و ثانيا: استنكار المتشرعة الإشهاد عند ابتياع شي‏ء لو كان يسيرا الا أن تحمل الآية المباركة على الأشياء الخطيرة و هو يحتاج إلى دليل.
و ثالثا: أنّه لو كان المراد بها ذلك لكان ينبغي أن يأتي بلفظ الاستشهاد كما في صدر الآية المباركة.
الخامس: يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ صحة إنشاء عقد البيع من المشتري بلفظ البيع أيضا كما هو المشهور بين أهل اللغة من أنّ هيئة التفاعل متقومة بالطرفين خصوصا في الاعتباريات التي أخف مؤنة من غيرها ما لم يرد ردع من الشارع.
كما أنّه يمكن أن يستفاد منه صحة إنشاء عقد البيع بلفظ (تبايعنا) من أحد الطرفين بعد رضائهما و تحقق سائر الشرائط و بذلك يسقط جملة كثيرة مما أطنب فيه الفقهاء في المقام، فيكون هذا اللفظ قائما مقام الإيجاب و القبول الذي أطيل فيه الكلام.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أنّه لا بد من علم اليقين بالعمل و سائر خصوصياته و الاستيلاء على الجزاء ثوابا و عقابا و هذا هو الذي تطابقت عليه الكتب السّماوية، و العقل يحكم به حكما بتيا لا ارتياب فيه.
و يستفاد من الآية الشريفة: أحكام فقهية مذكورة في كتب الفقه و قد ذكرنا ما يمكن استفادته منها في ضمن التفسير و في (مهذب الأحكام) جملة أخرى منها.

في تفسير القمي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قال: «روي في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكما، و في هذه الآية خمسة عشر حكما و هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ ثلاثة أحكام فَلْيَكْتُبْ أربعة أحكام وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ خمسة أحكام، و هو إقراره إذا أملاه وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً و لا يخونه ستة أحكام فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ يعني ولي المال سبعة أحكام. وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ثمانية أحكام. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏- إلى قوله تعالى- وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا عشرة أحكام: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى‏ أَجَلِهِ أحد عشر حكما. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ- إلى قوله تعالى- فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها اثنا عشر حكما. وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ثلاثة عشر حكما. وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ أربعة عشر حكما. وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خمسة عشر حكما.
و في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ قال: «ذلك في الدّين إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و رجل‏ واحد و يمين المدعي إذا لم تكن امرأتان قضى بذلك رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أمير المؤمنين (عليه السلام) بعده عندكم».
أقول: الحديث يدل على ثبوت أمر آخر في إثبات الأموال و هو رجل و يمين المدعي فيكون بمنزلة الشرح للآية الشريفة.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا قال (عليه السلام): «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى الشهادة أن يقول: لا أشهد لكم».
أقول: ورد في مضمون ذلك روايات أخرى كثيرة.
و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ قال: «قبل الشهادة».
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «لا رهن إلا مقبوضا» و في تفسير العياشي مثله عن أبي جعفر (عليه السلام).
أقول: ذكرنا أنّ ظاهر الآية يدل على أنّ القبض شرط لصحة الرهن و لكن يمكن أن يقال: إنّه طريق لتحقق الاستيثاق و لو حصل بلا قبض يكفي ذلك كما في المصارف المتداولة في هذه الأعصار و بذلك يمكن أن يجمع بين كلمات الأعلام في الفقه فمن اعتبر القبض فإنّما هو لأجل حصول الاستيثاق و من لم يعتبره أي بعد حصوله.
و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله عز و جل: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: «بعد الشهادة».
أقول: أي بعد التخمل.
و في الفقيه عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: «كافر قلبه».
أقول: هذا محمول على بعض مراتب الكفر.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"