1. صفحة الرئیسه
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 275 الى 281

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)


تتضمن الآيات الشريفة بعض أحكام الربا الذي كان شايعا في الجاهلية يتعاطاه اليهود و المشركون و قد شدّد اللّه سبحانه و تعالى في الربا بما لم يكن مثله في سائر الكبائر من الذنوب فهدّد بما يفزع الضمائر و يزلزل القلوب، فأكد الحرمة فيه و شدّد النكير على المرابين و الوعيد لمن استحل الربا و أصرّ على فعله.
و اعتبر القرآن الربا من أعظم أنواع الطغيان و أشد أنحاء العصيان و من‏ يرتكبه يكون محاربا للّه و رسوله. و هو يوجب شيوع الفساد و هدم النظام و فيه من الآثار السيئة المشومة التي تؤثر في الفرد و الاجتماع و فيه ضياع حق النوع.
و سياق الآيات الشريفة يدل على أنّها نزلت لتأكيد الحرمة السابقة التي لم يكن المسلمون يراعونها فهي لم تشرع حكما جديدا في الربا بل كان التشريع في الآية التي نزلت قبل هذه الآيات و هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران- 130]، و قبل هذه الآية نزلت آية أخرى تبيّن اتجاه الإسلام في هذا الأمر الخطير، فكانت كالتوطئة للتشريع الجديد قال تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم- 39]، و من ذلك يعلم أنّ الربا كان مبغوضا عند هذا الدّين الحنيف من حين حدوثه.
و يستفاد من المقابلة بين الربا في هذه الآيات السبع و الصّدقات التي تقدمت و الإنفاق الذي ذكر في الآيات السابقة عظم ما يترتب على الربا من الآثار السيئة كما يترتب على الإنفاق من الآثار الحسنة فإنّه نزول عن المال كلّه بلا عوض و لا رد تقرّبا إلى اللّه تعالى بخلاف الربا الذي هو استرداد للمال مع الزيادة، فكلّ ما فيه المصلحة يقابله كلّ ما في الربا من المفسدة، فهو يقابله في جميع الآثار و الفضائل و الرذائل و في كلّ العوالم.
و من ذلك يستفاد وجه الارتباط بين هذه الآيات و الآيات السابقة فإنّ فيها تحريضا على الإنفاق و توزيع الثروة بالعدل و الإنصاف و في هذه الآيات إزالة تمركز الثروة و إعدام الابتزاز و هدم التمايز إلا بالتقوى التي أمرنا اللّه تعالى بها في هذه الآيات مكرّرا.

275- قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ.

الأكل معروف و المراد به هنا: أخذ الربا و انتزاعه من مالكه و هو المدين.

و مادة (ربو) تأتي بمعنى الزيادة و الارتفاع و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم‏ و في الحديث: «من أجبى فقد أربى» و في حديث الصدقة: «إنّها تربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل».

و فيه «الفردوس ربوة الجنة» أي: أرفعها، و منه أيضا: «فلا و اللّه ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها» يعني الطعام الذي دعا فيه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالبركة.

و شرعا: زيادة خاصة في القرض أو في بيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة كما فصّلناه في (باب الرّبا) من (مهذب الأحكام).

و مادة خبط تأتي بمعنى المشي على غير استواء، يقال لمن يتصرف و لا يهتدي: يتخبط خبط عشواء، و في الدعاء «اللهم إنّي أعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان».

و قال زهير:         رأيت المنايا خبط عشواء من تصب             تمته و من تخطي يعمّر و يهرم‏

و يتخبطه مثل يتملكه و يتعبده أي: تتابع الخبط عليه بسبب مس الشيطان له، فتتابع سقوطه بحيث فقد رشده لا يميّز بين الخير و الشر و النافع و الضار.

و القيام خلاف القعود و المراد به في المقام: هو النهوض بأمور المعاش قال تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد- 25].

و معنى قوله تعالى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أي: لا يقوم في امور المعاش و الحياة بالوجه الصحيح و النّهج القويم و ذلك لأنّ الإنسان بل سائر الحيوان قد أودع اللّه تعالى فيه قوة يميّز بها الخير من الشر و النافع من الضار و بها ينظم شؤون حياته باتساق و انتظام و بها يهتدي الإنسان في أفعاله و اعتقاداته و ينتفع من حياته بالوجه الحسن و ما كتبه اللّه تعالى فيها، فإذا اختلّت هذه القوة الدرّاكة المميّزة اختلت أفعاله و حركاته و أحكامه فلا يرشد إلى الصحيح منها و النافع كالمصروع الذي فقد فيه التمييز. فلا يقوم في معيشته بالوجه الصحيح النافع.

و فعل المرابي في أخذه الربا من الأفعال التي ليس فيها الخير و النفع و هو خلاف ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة و العقل في الأفعال فإنّه اختلاس و ابتزاز لأموال الناس من غير عوض فيكون في طرف زيادة و نقصان في الطرف الآخر.

و يمكن أن يكون مس الشيطان موجبا لاختلال نظمه و خبط في أموره في جميع النشآت، ففي هذا العالم يغلب عليه الوهم و الخيال و يبتعد عن الفطرة المستقيمة و القوة العاقلة فيرى كالمصروع، و في موقف الحشر يراه جميع الناس كذلك لأنّه عالم ظهور الحقائق و السرائر للجميع فيحشر المرابي كالمصروع و هذا من خواصهم و علاماتهم، فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في هذا العالم عند أهل الحقائق و البصائر و في عالم الآخرة عند كشف السّرائر. فلا يكون ما في هذا العالم الذي نحن فيه الا مادة واحدة تتبادل عليها الصّور و الأعراض، بل لا معنى لدار الكون و الفساد الا ذلك و كلّ ما في الإنسان من الصّفات الحسنة أو القبيحة الذميمة ستبدو و تظهر في الدنيا أو في الآخرة.

و عليه فلا يختص خبط الشيطان بخصوص الربا بل هو عام يشمل جميع المعاصي و الآثام و لعلّ في ذكر كلمة التشبيه في الآية المباركة إشارة إلى ذلك. نعم، للخبط مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا حسب مراتب المعاصي و المداومة عليها.

و خواص المعاصي و آثارها لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من علّمه عزّ و جل من أوليائه‏ و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ على كلّ عاص من معصيته علامة تليق به فيعرف بها صاحبها و على كلّ مطيع من طاعته أمارة تليق به فيعرف بها صاحبها و ذلك معنى قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن- 39].

و قد ورد في القرآن الكريم و السنة الشريفة بعض تلك الآثار قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى‏ [طه- 126]، و قال تعالى: وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه- 102]، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يبعث الشهيد يوم القيامة و أوداجه تشخب دما» و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) في شهداء بدر: «زملوهم بدمائهم و ثيابهم فإنّهم يبعثون فيها يوم القيامة»

و يمكن إقامة الأدلة العقلية على ذلك و يأتي في الموضع المناسب بيانها إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان فليس المراد من خبط الإنسان من مسّ الشيطان هو المعنى الظاهري الجسماني فقط أي: من مسه الشيطان فأصابه الخبل و الجنون فتكون حركاته على غير انتظام و اتساق بل المراد الأعم من ذلك و ما ذكرناه آنفا من عدم استقامة أفعال الإنسان و أحكامه و عدم تطابقها مع العقل و الفطرة المستقيمة فيشمل جميع وساوس الشيطان و مكائده و حيله و مصائده، فيكون استيلاء غير القوة العاقلة على أعمال الإنسان من أقوى جهات تخبطه بالمس.

و بالجملة: انعزال الإنسان عن العقل و الشرع يكون من مسّ الشيطان و إن كان في ظاهر الأمر صحيحا و في كمال الرخاء و السعة و لكنّه في الواقع قرين الفساد و أليف الشرور و الآلام و هذا ما نراه في عالمنا المعاصر، فإنّ‏ باستيلاء الربا و أكل المرابي له من دون أن يكون رادع يردعه قد جلب الشقاء و الدمار و استولى الفساد على أهل الأرض و يأتي في البحث العلمي تتمة الكلام.

و من ذلك يظهر أنّ الآية الشريفة لا تختص بحال المرابي في يوم القيامة و أنّ آكلي الربا يقومون كالصريع الذي تخبّطه الشيطان من المس و قد نقل في ذلك أحاديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بل يكون ذلك من مصاديق حال المرابي في يوم القيامة و أنّه أثر من آثار هذه المعصية الكبيرة كما عرفت آنفا فيكون للقيام معنى عاما يشمل القيام في الدنيا و هو النهوض بالأمر و القيام من القبر كما في الحديث.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا.

أي: إنّ أكلهم للربا و استحلالهم له أو إنّ الدليل على كونهم خابطين خرجوا عن جادة الصواب أنّهم قالوا في قياس باطل: إنّما البيع مثل الربا و لم يقولوا إنّما الربا مثل البيع الذي هو أقرب إلى الذهن فقد أمكن الخبط في نفوسهم و ظهر الاختلال على أفكارهم و أقوالهم فكان المعروف و المنكر لديهم سيان و قد شبهوا الربا الذي هو خلاف الفطرة المستقيمة بالبيع الذي هو المعروف بين العقلاء و هما نوعان متباينان، و لكن الخبط الذي استقر في نفوسهم جعلوا المأمور به كالمنهيّ عنه و هو قياس مع الفارق و هذا مثال لما ذكرناه سابقا من أنّ المراد من التخبط هو الخروج عن الفطرة و العقل سواء كان قوله تعالى مقول قولهم أو حكاية عن حالهم بالقول، فإنّه يدل على الخبط في كلامهم و عدم استقامة أفكارهم.

و قال بعض المفسرين إنّ المراد بقولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا المبالغة في التشبيه كما في قول الشاعر:          و مهمه مغبرة أرجاؤه             كأنّ لون أرضه سماؤه‏

و لكن فساد ما ذكره يظهر مما تقدم فإنّ التشبيه إنّما حصل من التخبط الحاصل لهم من مس الشيطان و الاختلال الناشئ في أفكارهم و قد ظهر بطلان هذا القياس الذي هو خلاف المعروف في باب الأقيسة أيضا.

و مما ذكرنا يظهر الوجه فيما ذكره بعض آخر: من أنّ التشبيه بين البيع و الربا إنّما هو لأجل أنّهما مشتركان في الكسب و الفائدة و لكن في الربا واضح معلوم و في غيره موهوم.

قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا.

جملة مستأنفة أو حالية تدل على رد مزاعمهم الفاسدة. و البيع معلوم عند العرف و قد أحلّه اللّه لأنّ فيه الحكم و المصالح التي يستفيد منها النوع، و به ينتظم الاجتماع لشدة الحاجة إليه، و فيه تحفظ مالية الأموال و يستفيد المالك ما يقابل ملكه و تتحقق به رغباته فهو قائم بالعدل، فتكون حلية البيع موافقة للفطرة المستقيمة و سنة الاجتماع.

و إنّما حرم الربا لأنّه مبنيّ على الإجحاف و الظلم و الابتزاز و سد باب المعروف و كلّ واحد من ذلك يكفي في اعتبار الربا مخالفا للفطرة و الاستقامة في الحياة، فتكون الأحكام الإلهية مبتنية على الحكم و المصالح التي تجلب السعادة للإنسان في الدارين و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة الشريفة بل العقل أيضا و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

و الآية الشريفة غير مسوقة لتشريع حكم ابتدائي في البيع أو الربا بل سياقها يدل على الإخبار عن حكم سابق فيها كما عرفت سابقا، و لبيان خبط أفكارهم فإنّ الأمر لو كان كما يقولون لما اختلف حكم البيع و الربا، فيلزم إمّا بطلان حكمة الحكيم و هو محال أو بطلان زعمهم و هو معلوم و توطئة لما يأتي من الأحكام.

قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ.

الآية الشريفة تفتح أعظم أبواب رحمة اللّه جلّ جلاله و أوسعها و هو باب التوبة، و مفادها بيان حكم كلّي في كلّ معصية و هو أنّ الحكم إذا كان مشروعا و خالفه المكلّف بعمده و اختياره يوجب العصيان و استحقاق العقاب، فتجب‏ عليه التوبة. و أما إذا لم يكن الحكم مشروعا فلا موضوع للمخالفة و العصيان و لا مورد للتوبة لفرض عدم الحكم و انطباق مفادها على الربا يكون من انطباق الكلّي على المصاديق.

و الموعظة و الوعظ: الخبر المقرون بالتخويف، و عن الخليل: التذكير بما يرقّ له القلب. و المراد به هنا: بلوغ الحكم الذي شرّعه اللّه تعالى.

و الانتهاء: الانزجار و ترك الفعل المنهيّ عنه، قال تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة- 193].

و السلف: المتقدم، و له ما سلف، أوله ما قد سلف. أي: يعفى عمّا صدر عنه سابقا فلا شي‏ء عليه.

و المعنى: فمن بلغه نهي و زجر عن اللّه تعالى في الربا و انزجر و ترك الربا فله ما ارتكب منه في زمن الجاهلية فلا عقاب عليه في الدنيا و الآخرة و لا ضمان، كما ذكرنا في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

و إطلاق قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ يشمل زمان تشريع الحكم و بعده فيعم كلّ جاهل بالحرمة ثم حصل له العلم بها و لو بعد نشر الإسلام و ظهوره.

و لكن الظاهر المنساق منه هو التوبة و سقوط العذاب عنه و أما حلية ما أخذه فيما سلف و جواز التصرف فيه بعد التوبة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة الا باستعانة السنة كما تعرضنا لبعضها في باب الربا، فالمعنى المستفاد من الآية المباركة سقوط أصل المعصية و منها الربا و أما التخلص من التبعات كالقضاء و الضمان و غيرهما فيحتاج إلى دليل خاص و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.

أي: أنّ شأنه بالنسبة إلى التوبة و العذاب الاخروي و الضمان في الدنيا موكول إلى مشية اللّه تعالى فإن شاء قبل منه التوبة و إن شاء لم يقبلها و إن شاء وضع عليه بعض الأحكام و إن شاء عفا عنه فهو العالم بالحقائق و صدق النيات‏ يحكم بعدله فيه.

إن قيل: لا وجه لمشية العذاب قبل قيام الحجة.

يقال: الناس قبل قيام الحجة الظاهرية عليهم بإبلاغ الأحكام على قسمين:

الأول: القاصر غير الملتفت مطلقا حتّى بالنسبة إلى احتمال الضرر الاخروي.

الثاني: من احتمل الضرر الاخروي و هذا الاحتمال منجز في حكم العقل و له منشئية استحقاق العقاب بعد تمامية الحجة الظاهرية مع أنّ الربا مما يوجب اختلال النظام فيصير من القبائح العقلية.

قوله تعالى: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

أي: و من عاد إلى تعاطي الربا بعد تمام الحجة عليه مستحلّا له يكون من الكافرين بما أنزله اللّه تعالى و هم من أصحاب النار هم فيها خالدون مع عدم التوبة الماحقة للذنب.

و يستفاد ما ذكرناه من المقابلة بين العود و بين الانتهاء الوارد في الجملة السابقة الذي هو بمعنى التسليم و البناء على عدم المخالفة فإنّها تدل على أنّ العود هو الرجوع إلى الذنب الذي لا ينتهي عنه بعد تمامية الحجة عليه، فيكون مصرّا عليه و هو في الواقع مستحل له و إن لم يظهره في كلامه الا إذا محقه بالتوبة هذا إذا كان المراد من العود ما ذكرناه.

و أما إذا كان المراد به مطلق الإتيان ثانيا مع عدم الاستحلال فيكون المراد بالخلود غير التأبيد بل بمعنى الركون كما في حديث عليّ (عليه السلام) يذم الدنيا: «لمن دان لها و آثرها و أخلد إليها» أي: ركن إليها.

276- قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ.

مادة (محق) تأتي بمعنى نقصان الشي‏ء حالا بعد حال حتّى يفنى و محاق الشهر نقصانه، و هو مدة ثلاث ليال من آخر الشهر لخفاء نور القمر و نقصانه‏ فيها، و قد يطلق المحق على ذهاب أصل الشي‏ء و فنائه كما في الحديث «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة» و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في موردين أحدهما المقام و الثاني في قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ [آل عمران- 141].

و الارباء التنمية و الزيادة، و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ صدقة أحدكم تقع في يد اللّه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه- أي المهر- أو فصيله حتّى يجي‏ء يوم القيامة، و إنّ اللقمة لعلى قدر أحد».

و المعنى: يذهب اللّه تعالى الربا و يفنيه و يمحو البركة فيه و ينمي الصّدقات و يزيدها على خلاف ما يتوهمه الناس فإنّهم يأخذون الربا طلبا لزيادة المال و اللّه يمحقه، و لا يتصدقون خوفا من نقصان المال و اللّه يزيده و ينميه، و لا يختص نقصان الربا و زيادة الصدقات في الدنيا و الآخرة بل هما عامان فيهما.

و الآية الشريفة ترشد إلى بعض المصالح و الحكم التي من أجلها حرّم اللّه تعالى الربا و أحلّ البيع و أباح الصّدقات و رغّب إليها فيكون المحق من الآثار اللازمة للربا كما أنّ الإرباء من الآثار اللازمة للصّدقات، و ذلك لأنّ الصّدقات و الربا أمران اجتماعيان يخصان الطبقة الفقيرة و المحتاجة من المجتمع، و هم الكثرة الكاثرة يؤثر فيها كل ما يزيد في عنائها، و يستفزها كلّ ما يمسّ مشاعرها، فتهب لنيل حقوقها و الدفاع عن حياتها و إن استلزم الفناء و الفساد، و أما إذا أحسن إليها هدأت و قابلتها بالإحسان و أثرت الأثر الجميل فيها و شاع الصلح و الوئام و تبتعد عمّا يثير الفساد و الإفساد و تكون كنفس واحدة تنتشر فيها الرحمة و المحبة و التعاون، و تعيش حياة سعيدة آمنة مطمئنة و يكون كلّ ذلك سببا لزيادة المال و إنمائه أضعافا مضاعفة، كما وعد اللّه تعالى في الدنيا و الأجر الجزيل في العقبى، و لذا حث سبحانه على الإنفاق و الصّدقات و أكد على إشاعتهما و إفشائهما.

و أما إذا أسي‏ء إلى هذه الطبقة بما يزيد في عنائها و مشقتها و عجزها قابلوها بالنكاية و الانتقام غافلين عما يترتب من الآثار المهلكة التي توجب‏ الفساد و الدمار فتشيع العداوة و البغضاء، و يذهب الأمن و الأمان و يستولي على النفوس الانتقام فتزداد الأمراض و الآفات، فيتغيّر خلق اللّه فلا يسلم فرد أو مال من أن تصيبه آفة أو هلاك، و هذا هو معنى قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ و قد شهد التاريخ كثيرا من ذلك و تكفي واحدة من تلك العبر للاعتبار، و هو من ملاحم القرآن الكريم الذي صدع به و نبه المسلمين إليه.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل المحق و الإرباء بالنسبة إلى الآثار الدنيوية و الآثار الاخروية فلا تختص بعالم دون عالم فإنّ اللّه تعالى محيط بجميع العوالم.

كما أنّه لا يختص بمحق ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات كما يقول به بعض المفسرين بل يعم ذلك و الآثار الدنيوية كما عرفت.

و قال بعض المفسرين: إنّ المراد بقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أنّ ما يطلبه المرابي من الربا بزيادة المال إنّما هو لأجل اللذة و البسطة في الجاه و المكانة و العيش الهني‏ء و لكن يصل إلى عكس هذه النتيجة من الهموم و الأحزان و الحب الشديد للمال و الوله بجمعه، و مقت الناس له، و المبارزة مع من يريد صرفه عن ذلك فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بما يريد من ماله فيكون كمن محق ماله و هلك.

و ما ذكره صحيح، و لكن ذلك أثر خاص فردي، و القرآن إنّما يبحث عن هذه المسألة بما أنّها من موجبات هلاك النوع و ما يفسد صلاح الاجتماع، فهو يبيّن حكما عاما يؤثر في سعادة الإنسان نوعه و فروعه، و هذا هو شأن القرآن الكريم في أحكامه و تكاليفه فيرشد إلى موجبات سعادة الفرد بما أنّه من ضمن الاجتماع كما يسعى إلى سعادة الاجتماع بما أنّه متكوّن من الأفراد فلا هو يتكلّم عن الفرد و لا هو يسكت عنه، و هذا هو دأب هذا الكتاب العزيز.

ثم إنّه يصح نسبة المحق إلى البركة و إلى أصل المال، و كذا إرباء الصّدقات و تنميتها، فإنّ اللّه تعالى قادر على جميع ذلك، و يستفاد ما ذكرناه من مفهوم قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف- 96]، و في السنة المقدّسة من ذلك الشي‏ء الكثير.

و التنمية و البركة و المحق مما يدركه الناس و محسوسة لكلّ فرد فإنّ المسألة اجتماعية أكثر من كونها فردية و عمر الاجتماع يفترق عن عمر الفرد مع أنّ آثار المعاصي و إن كانت خفية على الناس و لكنّها ظاهرة لذوي البصائر و من انكشفت لديهم السرائر، يضاف إلى ذلك أنّ من أمعن النظر في الاجتماع الإنساني المعاصر يرى أنّ الآثار اللازمة للربا التي نبه إليها القرآن الكريم قد ظهرت فقد تجمعت الثروة التي جعلها اللّه تعالى للنوع و تراكمت في جانب و حل الفقر و الحرمان في جانب آخر و شاع الفحشاء و المنكر و ظهر الانفصال و الافتراق بين الطائفتين الموسرين و المعسرين، و هذا ما ينذر بالخطر إن لم يتداركه عقلاء البشر و لكن أنّى يكون مع استيلاء الفساد و هيمنته على النفوس.

قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ.

الكفّار فعال من الكفر، أي: المقيم عليه المتمادي فيه. و الأثيم المبالغة في الإثم، أي: المنهمك في ارتكاب الآثام.

يعني: أنّ المتعاطي للربا و التارك للصّدقات قد كفر بما أنعم اللّه عليه من نعمة المال الحلال، و نعمة الأحكام الإلهية التي نزلت لسعادته فإنّ ترك الواجب و فعل الحرام كفران للنعمة و المداومة عليه قد يوجب الكفر، و كفره بالإعراض عن الفطرة المستقيمة في المعاملات، و كفره بإبطال عباداته و معاملاته بأخذه الربا، و كفره بالابتعاد عن مكارم الأخلاق و مزاولة سفاسفها، كالحرص و الطمع، فلأجل كفران هذه النّعم الكثيرة التي أنعمها عليه، فقد استقر في نفسه ارتكاب الآثام فهو كفّار أثيم و اللّه تعالى لا يحبه. و يستفاد من الآية الشريفة التعليل لمحق الربا و تحريمه.

277- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.

يعني: إنّ الذين صدّقوا باللّه جلّ شأنه و رسوله و ما انزل عليه و عملوا الأعمال الصالحة التي تهذب نفوسهم و تهديهم إلى سبيل الرشاد و أقاموا الصلاة التي تذكرهم باللّه تعالى و تزيد في مراقبتهم لربهم و آتوا الزكاة التي تطهّر نفوسهم من رذائل الأخلاق و تحلّيها بفضائلها أولئك لهم أجرهم الذي لا يعلم مقداره و خصوصياته الا اللّه تعالى محفوظ عنده يرعاه و يزيده و يضاعفه أضعافا مضاعفة و لا خوف عليهم من المتوقع و لا هم يحزنون على ما وقع فهم آمنون في جميع ما يرد عليهم من العوالم.

و إنّما خص سبحانه و تعالى الصلاة و الزكاة بالذكر مع أنّهما بعض الأعمال الصالحة تعظيما لشأنهما فإنّهما من أعظم العبادات البدنية و المالية و النفسية.

و في الآية المباركة بشارة للمحسنين المتصدّقين، و تعريض بآكلي الربا، و مضمونها حكم عام ينطبق على المورد انطباق الكلّي على الفرد كما أنّه قضية عقلية مقدم الآية علّة لمؤخرها، و بينهما الملازمة العقلية و الشرعية.

و تخلل هذه الآية المباركة بين الآيات الواردة في شأن الربا للإشارة إلى أنّ التكاليف الإلهية كلّها واحدة في استكمال النفس، فالمناط كلّه إقامتها و إتيانها بالشروط المقرّرة، و أنّ ترك المحرمات و منها الربا من أهمّ شرائط القبول.

278- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

خطاب آخر فيه التأكيد الأكيد على ترك الربا، و وصف المخاطبين بالإيمان، لأنّه الداعي إلى التصديق باللّه و رسوله و الالتزام بتنفيذ التكاليف الإلهية، و أنّ المؤمنين بشرف إيمانهم تشرّفوا بالمخاطبة فكانت لهم قابلية الخطاب و بذلك تتم الحجة على الناس، مع أنّ العقل بعد التأمل و التفكر كاف في الداعوية إلى إتيان الطّاعات و ترك المعاصي، فتكون الخطابات الشرعية الإلهية إرشادا إلى الأحكام العقلية، و منشئا لصحة العقوبة على المخالفة و المثوبة على الطاعة.

ثم أمرهم بالتقوى لأنّ بها تتم حقيقة الإيمان فلا يكفي مجرد الالتزام و التصديق القلبي إن لم يقترن بالعمل، و لعظم المعصية حدوثا و بقاء.

و عقب سبحانه و تعالى ذلك بالأمر بترك ما بقي من الربا. و منه يستفاد أنّه كان في عهد نزول الآية المباركة من يتعاطى الربا و له بقايا عند الناس، و لذا قيد الكلام بأنّ ثبوت الإيمان و تماميته و حقيقته تقتضي ترك الربا حتّى ما بقي منه. ففيه التأكيد على ما تقدم، و إيماء إلى أنّ ترك الربا من لوازم الإيمان.

279- قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ.

الإذن كالعلم و زنا و معنى و لتضمنه معنى اليقين عدّي بالباء، و قرئ آذنوا (بالمد) من الإيذان بمعنى الإعلام أي: ليعلم بعضكم البعض بالمحاربة.

و الحرب مع اللّه و رسوله: هي الخروج عن طاعتهما و مخالفتهما، و يشتد عظم المحاربة حسب عظم المعصية، و لعل التنكير في الحرب لأجل ذلك.

و المعنى: و إن لم تتركوا الربا و تصرّوا على فعله فاعلموا أنّكم محاربون للّه و رسوله. و الحرب من اللّه تعالى غضبه و انتقامه و إذلال المحارب له، و تهييج ناموس الفطرة العامة عليه. كما أنّ الحرب من الرسول هي الإيذان بقتال الكافرين و إعلان العداوة مع المحاربين للّه و إرغامهم إلى الطاعة.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى الرسول تعظيما لشأنه، و لإثبات رسالته و سفارته الكبرى، و لبيان وحدة أصل الدعوة و أنّه لا فرق فيها بين كونها من اللّه أو من الرسول و التفرقة اعتبارية لأنّه الأصل في تبليغ الأحكام الإلهية، و لأنّ كون الحرب مع الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) أقرب إلى حصول الخوف في أنفسهم لترك الربا لأنّهم رأوا منه (صلّى اللّه عليه و آله) القتل و الإهلاك و الإفناء فربما يكون سفير الملك أهيب عند بعض القاصرين من الملك نفسه.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ.

أي: و إن تبتم عن أخذ الربا و رجعتم عن الإصرار على فعله، فلكم رؤوس الأموال التي دفعتموها إلى الغرماء كاملة بلا زيادة عليها و لا نقيصة فلا تظلمون بأخذ الزيادة و لا تظلمون بالنقص من رؤوس الأموال، و هذا هو قانون العدل و الإنصاف، فلا يبقى موضوع للحرب و الاعتساف، و في الآية المباركة التأكيد على ترك الربا الذي لم يقبض.

و يستفاد من الآية الشريفة: ثبوت المطالبة لصاحب الدّين على الغريم و أنّ الأخير لا يجوز له تأخير الدّين و إن امتنع كان ظالما.

280- قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ.

العسر خلاف اليسر، و هما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف الأفراد و الجهات و الخصوصيات.

و النّظرة: التأخير و الإمهال و الآية تدل على الوجوب.

و الميسرة: مصدر بمعنى اليسر. أي: و إن كان الغريم ذا عسرة و لم يجد ما يفي به دينه فيؤخر من له الحق مطالبة حقه و يمهل الغريم إلى زمان اليسار ليتمكن من أداء الدّين و لا إثم على الغريم في التأخير مع تحقق العسر.

و الآية الشريفة لا تحدّد العسر و اليسار، و لكن السنة الشريفة فسّرت العسرة بما إذا لم يجد ما يوفي به دينه غير ما استثني له في الشريعة كالخادم و البيت و الدابة و نحوهما مما هو مفصّل في كتب الفقه.

كما فسرت الميسرة فيها بما: إذا وجد ما يوفي دينه، و منه وصول خبره إلى الإمام فيفي عنه من سهم الغارمين. كما فصّلناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

و من سياق الآية الشريفة يستفاد: أنّه كانت عادة جاهلية في إعسار المديون فنزلت الآية الكريمة تحدّد ذلك و تبيّن الحكم الشرعي فيه، و مضمونها من القواعد الشرعية الامتنانية في كثير من أبواب المعاملات و الديون.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ.

أي: و إن تصدق من له الحق و أبرأ المديون عن الدّين كلّا أو بعضا فهو خير له لتضاعف الثواب و الأجر، و فيه الحث على الصدقة.

و الآية مطلقة لا يختص حكمها بمن ذكر في الجملة السابقة.

و عن بعض: أنّ المراد بالتصدق الإمهال و الإنظار لما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة».

و لكنّه بعيد، لأنّ الإنظار واجب، كما تقدم في الآية السابقة، و سياق هذه الآية يدل على التصدق بالإبراء، و الحديث أجنبي عن المقام.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

أي: إن كنتم تعلمون ما هو الخير لكم و ما في الصّدقة من الخير العظيم و الفوائد الجليلة فإنّ فيها التعاطف و التراحم و الصلة بين الأفراد، و فيه من الترغيب و التأكيد على الصدقة ما لا يخفى. و فيه إيماء إلى أنّ ما ذكر في الآية هو العلم الذي يهدي الإنسان إلى الخير و الرشد و السعادة.

281- قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.

أعظم آية لمن التفت إليها من أفراد الإنسان تأخذ بمجامع القلوب و تحرّض الناس نحو الغرض المطلوب، تهيج القلوب بزواجر المعنى، و تقرع الأسماع بجواهر اللفظ، تتضمّن من العظة البالغة ما تكفي في الزجر إلى العمل بما جاء به سيد المرسلين، و تهوّن على المكلّف جميع الصعاب رجاء أن يلقى اللّه تعالى بأفضل حال.

و هي آخر آية نزلت من القرآن الكريم و لم … بعدها ثم‏ مسرورا حتّى وصل إلى رحمة ربه و صار فيها مغمورا، و مضمونها عام.

و لعل تذييل آيات الرّبا بها لأجل إعداد النفوس لتقوى اللّه، و تحريضها على الورع عن محارمه، و الانتهاء عن انتهاك حرماته و التحرّج عن التعرض إلى حقوق الناس.

و لا بد أن تفعل هذه الآية بالامة نظير ما فعلت بالرسول الكريم، بل بالأولى لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) عصم عن الخطإ و العصيان و هم مبتلون بهما.

و مادة (رجع) تأتي بمعنى العود إلى ما كان منه، و هي متضمنة لقوله.

إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة- 156]، كما في قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود- 4]. و الرجوع هنا هو المعاد.

أي: اتقوا ذلك اليوم و أهواله الذي ترجعون فيه إلى اللّه، و فيه تمثيل الغائب المفقود بمثل الحاضر المشهود. يعني: لا بد أن يكون ذلك اليوم حاضرا في البال و ظاهرا في الحال فلا يشغل الإنسان شي‏ء من الشواغل الدنيوية حتّى يصير ذلك من الملكات الراسخة في النفس فيسعد كلّ شخص بأعماله و ينتظم النظام.

قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ.

الوفاء و التوفية و الإيفاء: بمعنى الإتمام، و توفية الأعمال باعتبار توفية الجزاء.

و الكسب: العمل، و هو عام يشمل ما ورد فيه ثواب و جزاء خاص في الشرع أولا، لأنّ ما يصدر عن العبد إما أن يكون له ثواب أو فيه عقاب أو لا شي‏ء فيه، و في الأول سروره، و في الثاني مساءته، و في الأخير حسرته.

و المعنى: ثم تجازى كلّ نفس ما عملت من خير أو شر جزاء وافيا و يصح أن يكون (ثم) لمطلق الترتب، كما في ترتب النتيجة على المقدمات، لأنّ يوم الرجوع إلى اللّه يوم أخذ نتائج مقدمات حصلت في الدنيا، و هي‏ حاضرة لديه تعالى و ذلك اليوم هو يوم ظهور عمل العاملين و شهودهم له.

قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.

الضمير يرجع إلى الناس المدلول عليه جملة «كلّ نفس» أي: و هم لا ينقصون من جزائهم شيئا و فيه تأكيد على وفاء الجزاء كما تدل عليه آيات كثيرة، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة- 8]، و قال تعالى: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى‏ بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء- 47].

و يستفاد من هذه الآية المباركة أمور:

الأول: الإشارة إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل إذا كان الضرر أخرويا فيستقل العقل بوجوب دفعه بالأدلة الأربعة و هو يتحقق بطاعة اللّه تعالى و الانزجار عن معاصيه.

الثاني: أنّها تدل على قاعدة احترام العمل التي هي من القواعد النظامية فلا بد من الجزاء و العوض على كلّ عمل و أنّ تركه قبيح و هو محال بالنسبة إليه جلّ جلاله.

الثالث: أنّ هذه الآية الشريفة أصل الآيات الواردة في إيجاد الداعي إلى الطاعة و الانتهاء عن المعصية و تذكر الإنسان بفعل المعروف و ترك المنكر و هما مما يقوم به النظام الأحسن في هذا العالم.

قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا مبتدأ و قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ خبره.
و المشهور بين الأدباء: أنّ الربا من ذوات الواو لأنّ تثنيته ربوان و قال الكوفيون: يكتب بالياء و تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله و هو القاعدة في ذوات الثلاثة إذا انكسر الأول أو انضم نحو ضحى و إن انفتح الأول كتبوه بالألف و ثنّوه بالواو نحو صفا.
و قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا و لا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتّى يخطئوا في التثنية.
و قال محمد بن يزيد: كتبت الربا في المصحف بالواو فرقا بينه و بين الزنا و كان الربا أولى منه بالواو لأنّه من ربا يربو.
التخبط من التفعل أي: من كثر خبطه بسبب مس الشيطان و استولى عليه ذلك.
قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا يحتمل فيه وجهان:
الأول: أن تكون جملة حالية يعني: و الحال أنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا فيكون ردا لقولهم في القياس الفاسد.
الثاني: أن تكون جملة مستأنفة لأنّ الجملة الفعلية المصدّرة بالماضي يجب تصديرها ب (قد) إذا كانت حالا.
و الألف و اللام في البيع و الربا للعهد أي: المعهودان عند الناس و المتعارف بينهم.
قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ سقطت علامة التأنيث من جاءه لأنّ تأنيث الموعظة غير حقيقي و هو بمعنى الوعظ.
و كان في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ تامة بمعنى وجد. و ارتفع (ذو) بها.
و التعبير عن المصدر بالفعل في قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا لكونه أظهر في الإقدام على فعل الصّدقة و اختيارها و يوجب الرغبة إلى التصدق بالدّين على المعسر.
و يوما في قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً منصوب على المفعول لا على الظرفية، و جملة تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ نعت له.

تدل الآيات الشريفة على امور:
الأول: يستفاد من هذه الآيات التشديد في أمر الرّبا و التأكيد على تركه و لم يشدد سبحانه في المعاصي الكبيرة بما شدد في الربا لما فيه من سوء التأثير في الفرد و الأمة، و ما فيه من طمس الفطرة و محو نورها و ما يجلب من الشقاء على أفراد الإنسان و انعدام الفضائل بينهم.
الثاني: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ على أنّ الإنسان يخرج عن الحالة الطبيعية بفعل المعاصي و الموبقات و الجرائم و ذلك لأنّ الإنسان في حالته الطبيعية يكون على استقامة و توازن في أفكاره و أعماله ذو نظام صحيح في أقواله و أفعاله، فإذا أصيب بحالة مرضية كالجنون خرج عن ذلك التوازن و النظام، و كذا إذا فعل المعصية و أصرّ عليها و استولت على قلبه خرج عن تلك الاستقامة في الأفعال و انطمس نور الفطرة في نفسه، و هذه الحالة يعبّر عنها في علم النفس الحديث بتعبيرات مختلفة كالشذوذ، أو الانفصام و الصرع و نحو ذلك تبعا لاختلاف درجات اختلال التوازن الفكري عنده و هي من أشدّ حالات الإنسان و ما نزلت الكتب الإلهية و لم ترسل الرسل و الأنبياء الا لمعالجة هذه الحالات التي يعبّر عنها القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة منها قوله تعالى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ و أمثالها من الآيات الشريفة التي ترشد الإنسان إلى حقائق واقعية يجب دراستها و معالجتها و ليست هي أمورا وهمية كما يدعيها بعض المفسرين. و قد تقدم في التفسير ما يرتبط بذلك و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.
الثالث: يدل قوله تعالى: كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ على أنّ بعض الحوادث في الإنسان تستند إلى امور خارجة عن إدراكه كالملك مثلا، ففي مورد الآية الشريفة يستند الجنون و الصرع إلى مس الشيطان و فعله و بما أنّه من الجن و فرد من أفراده فيكون للجن ضرب في بعض الأمراض التي تصيب الإنسان و يدل على ذلك بعض الآيات الشريفة قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه السلام): نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [ص- 41]، و المراد من النصب و العذاب هو المرض بقرينة قوله تعالى: رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء- 83].
و المرض تارة: يكون له أسباب طبيعية و تكوينية معروفة و اخرى أسباب غير مدركة للحس كالشيطان و الجن و نحو ذلك من الأسباب فلا يمكن إنكار ذلك بمجرد عدم إمكان إدراك السبب كما يدعيه الماديون، و قد ذكرنا مرارا أنّ الأسباب جميعها ترجع إلى اللّه تعالى فهو مسبب الأسباب و إن جرت عادته عزّ و جل على أن لا يجري الأمور الا بأسبابها و إنكار هذا الأمر ممن ينكر وراء الطبيعة ليس ببعيد. و لكن لا ينقضي العجب من بعض المفسرين الذي ينكر هذا التشبيه في الآية الشريفة و يعتبره من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة و لا ضير في ذلك فإنّه تشبيه خال عن الحكم و قال:
بأنّ استناد الجنون إلى الشيطان و تسليطه على الإنسان يخالف عدله عز و جل.
و لكن بعد الإحاطة بما ذكرناه يظهر فساد ما ذكره فإنّ اللّه تعالى أجل من أن يذكر الباطل في كلامه من دون أن يظهر بطلانه و يبيّن فساده.
و اعتبار كونه مخالفا لعدله عزّ و جل مردود فإنّ حكمته اقتضت أن يمتحن عباده بأمثال ذلك و يجري في الامتحان بالأسباب الطبيعية كالأمراض و الجنون بسبب طبيعي فما يقوله فيه يجري في المقام أيضا.
الرابع: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ‏ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ على أنّ للمعاصي آثارا لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من يعلّمه و ما ورد في الآية الشريفة أثر من تلك الآثار و هي لا تختص بجهة خاصة من الإنسان فتشمل الروح و الجسد و سائر أموره و هذا ما تبينه آيات اخرى أيضا و العلم بها لا يحصل الا بالوحي فلا يمكن تحصيلها بالتجربة.
الخامس: يدل قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا على ظهور التخبط على الأقوال بعد ثبوته في الأفكار لشدة انغمارهم في المعصية و إصرارهم على ارتكاب الكبيرة فإنّ للتخبط درجات متفاوتة حسب مراتب المعصية و المداومة عليها.
السادس: يدل قوله تعالى: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا على ارتباط الأحكام بالمصالح و المفاسد و هي معلولة لها و لا فرق بين كونها مصالح و مفاسد عامة أو خاصة فلا يتحقق تشريع حكم جزافا من دون مصلحة أو مفسدة و قد ذكر علماء الفقه و الأخلاق و غيرهما علل الأحكام و مصالحها و مفاسدها في مواضع متعددة بل قد ألّفوا فيها كتبا خاصة و لكن علمها منحصر باللّه تعالى و ما ألهمه إلى أوليائه و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) بعض منها.
السابع: استدل المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و لكن عرفت أنّ الآية الشريفة و إن كانت مطلقة في خلود مرتكب الكبيرة إلا أنّ سياقها يدل على أنّ الخلود في النار كان بسبب ارتكاب الكبيرة و الإصرار عليها، و الاستهزاء بالأحكام الإلهية و هو يدل على كفره بما أنزله اللّه تعالى و مثله يخلد في النار إن لم يتب.
الثامن: يدل قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ على أنّ المحق من لوازم الرّبا كما أنّ الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفكان عنهما، و المحق لا يختص بخصوص زوال المال بل يشمل حدوث النقمة و زوال البركة و إيجاد آفات و بلايا تعجز دونها النفوس و تذهب المال هدرا فتكون‏ الأموال الحاصلة من الربا كأن لم تكن فإنّ للّه تعالى جنودا من أنواع البلايا و المحن.
كما أنّ محاربة اللّه مع المرابين لا تختص بخصوص المقاتلة و إزهاق النفوس بل تشمل الجميع، و كذا إرباء الصّدقات لا يختص بزيادة الأموال بل تشمل البركة و كلّ ما فيه الخير و النفع، فالصدقة ربا في الواقع و إن لم يصطلح عليها الربا و إنّ الربا ممحوق لا محالة و إن سمي ربا في الظاهر.
التاسع: يدل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على ثبوت أصل الملكية و تقريرها بين الناس و إمضاء جميع المعاملات و التكسب بالأموال ما لم يكن منهيّا عنه شرعا فإنّ المال إنّما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات.
كما أنّ قوله تعالى: لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ يدل على أنّ الرّبا ظلم يجب الابتعاد عنه بفطرة العقول.
العاشر: يدل قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ على إيجاد المراقبة في النفس و على الأعمال التي هي أساس الإيمان و أصل التقوى فإنّ الإنسان لا يبلغ العبودية الحقيقية الا بالمعية الانقيادية للّه تعالى و الانقطاع عما سواه و بها تتم الإنسانية الكاملة التي هي السعادة الأبدية و هي التي يدعو إليها اللّه تعالى و جميع الأنبياء و العقل المجرد عن شوائب الأوهام، فالآية الشريفة بمضمونها الرفيع و اسلوبها الجذاب تدعو إلى الكمال المطلق و حقيقة العبودية و هي المراقبة و الانقياد و بهما تتحقق التقوى التي ينادي بها القرآن الكريم.
الحادي عشر: يدل قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ على العدل الإلهي الذي أثبتوه بالأدلة الأربعة.
الثاني عشر: لم يبدأ اللّه تعالى الخطاب في قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ بمثل يا أيّها الذين آمنوا، أو يا أيّها الناس لأنّ الخطاب فيه إنّما هو لبيان انقلاب العوالم و الترتب الواقعي بين العلل و المعلولات و كلّ‏ ذلك من قبيل القضايا الطبيعية التي لا بد من وقوعها في السير التكاملي الذي هو أساس النظام الأحسن كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم- 48]، و قوله تعالى: يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان- 33]، و نحو ذلك من الآيات الشريفة.
و إنّما قدم سبحانه و تعالى التقوى لأنّها الركيزة الاولى و الركن الركين في هذا المسير الاستكمالي بل هي المركب الهني‏ء و الباقي ليس الا موانع و عوائق عن الوصول إلى هذا الغرض، فالغاية لخلق هذا العالم ليس الا استكمال العقل و هو لا يحصل الا بالتقوى فهي العلة الغائية و الفاعلية و الصورية و المادية و قلّما يتفق مثل ذلك في شي‏ء آخر.

تدل الآيات الشريفة على الأحكام الفقهية التالية:
الأول: تدل الآيات الكريمة على حرمة الربا و أنّه من الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار و من الموبقات التي تقضي على الفرد و النوع و يدل على ذلك السنة الشريفة و إجماع المسلمين و دليل العقل أيضا بل لا اختصاص لحرمة الربا بالشريعة المقدّسة الإسلامية فهو محرّم في جميع الشرايع الإلهية فهو من الأمور العامة النظامية المحرّمة و يدل على كونه محرّما عند اليهود قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء- 161].
الثاني: الربا مما اجتمع فيه حق اللّه و حق الناس فهو محرّم من جهتين و تشتد حرمته عند شدة حاجة المأخوذ منه فلا تنفع فيه التوبة فقط بل لا بد من رد ما أخذه المرابي إلى المأخوذ منه و يجري عليه جميع أحكام الغصب من بطلان الصلاة فيه و حرمة التصرف فيه و بطلان أداء الحقوق الواجبة أو المندوبة منه و وجوب رده إلى صاحبه و تدل على ذلك الأدلة الأربعة كما فصّلناها في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) و منها
قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه».
الثالث: الربا إما قرضي أو معاملي:
و الأول: دفع المال قرضا بشرط الزيادة على المقترض حين الأداء.
و الثاني: بيع أحد المثلين بمثله مع الزيادة في أحدهما إذا كان من المكيل أو الموزون كبيع كيلو حنطة بكيلو و ربع منها. و لكلّ واحد من القسمين أحكام خاصة مفصّلة في كتب الفقه، و لا أثر لرضاء الطرفين في حلية الربا بعد نهي الشارع عنه و إلغاء هذا الرضا كما في المعاوضات المحرّمة فيكون وجوده كالعدم.
الرابع: ظاهر قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ سقوط الضمان بالنسبة إلى ما مضى إذا أتلفه كما يظهر ذلك من السنة الشريفة أيضا و أما شموله لعدم وجوب الرد فيما أخذه و لم يتصرّف فيه فمشكل فلا بد حينئذ من الرجوع إلى السنة.
الخامس: إطلاق قوله تعالى: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا يشمل كل زيادة ربوية سواء كانت عينا أم منفعه أو انتفاعا أو حقا. و منها رباء النسيئة الذي كان متعارفا في الجاهلية و هو أن يدفع المال لمقترضه إلى مدة على أن يأخذ كلّ شهر قدرا معينا ثم عند حلول الدّين و تعذر الأداء يزيد المديون في الحق و يزيد الدائن على الأجل.
السادس: يدل قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ على رفع حكم الربا فيما إذا لم تبلغه الحجة الظاهرية كما قد رفع حرمته في جملة من الموارد منها ربا الأب مع ابنه، و ربا السيد مع عبده، و ربا الزوج مع زوجته و قد فصل ذلك في الفقه.
السابع: يدل قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ على وجوب رد الدّين إلى صاحبه عند المطالبة و حرمة الطلب عند ثبوت عسر المديون و يجب إنظاره، و تدل على ذلك جملة من الروايات منها ما ورد عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) في رسالته التي كتبها إلى أصحابه: «إيّاكم و إعسار أحد من إخوانكم المسلمين و أن تعسروه بشي‏ء يكون لكم قبله فإنّ أبانا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقول: ليس للمسلم أن يعسر مسلما، و من أنظر مسلما أظلّه اللّه يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ الا ظلّه».
و لو استدان أحد و لم ينو أداء الدّين لا يجوز له التصرف في المال المقترض‏ لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من استدان و لم ينو الأداء فهو كاللص السارق» هذا في عدم قصد الأداء فضلا عن قصد عدم الأداء.
و الظاهر من قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ امتداد وقت الإنظار إلى حصول اليسار و تدل عليه جملة من الأخبار، كما أنّ إطلاقه يشمل كلّ دين بلا اختصاص له بدين الربا فهو من القواعد الامتنانية في أبواب الديون و المعاملات.
الثامن: إطلاق قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ شموله لكلّ أنواع الصّدقة حتّى احتساب الدّين من الزكاة أو الحقوق الاخرى الواجبة بل يشمل إبراءه كلّا أو بعضا، و يستفاد منه أنّ الصّدقة أفضل من الإنظار و إن كان الأخير واجبا و لا ضير في ذلك بعد استفادته من الأدلة.
التاسع: يدل قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا على بطلان التمثيل الظاهري (القياس) لأنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد التي لا يعلمهما الا اللّه تعالى.
العاشر: إنّ إطلاق قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ يشمل التوبة بعد العلم بالحرمة كما يشمل الجهل بالتحريم و بعبارة اخرى يشمل الربا في الجاهلية قبل تشريع الحكم و الربا في الإسلام بعد التوبة.
الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على توسعة الأمر في المعاملات الربوية في الجملة فهو ظاهر في بطلان الزيادة في الربا أما بطلان أصل المعاملة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة بل ظاهرها الصحة، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا الدال على صحة المعاملة و وجوب رد الفضل الذي أخذه زائدا على رأس ماله. هذا إذا لم يقم دليل معتبر على الخلاف و قد فصّلنا القول في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).
الثاني عشر: إطلاق قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا يشمل الربا القرضي و الربا المعاملي لفرض صدق الربا على كلّ منهما و يدل عليه أيضا تفريق الآية بين الربا و البيع. و سياق قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ ظاهر في الربا القرضي.

تقدم أنّ الربا من الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار في الكتاب العزيز و هو من الموبقات التي تجلب الفساد و الشقاء و قد ذكر سبحانه في الكتاب العزيز بعض الآثار المترتبة على الربا، و شرحت السنة الشريفة هذا الموضوع شرحا وافيا و نحن نتعرض في هذا البحث إلى بعض الروايات التي وردت في حرمة الربا، و بعض ما ورد في موضوع الربا، و الآثار التي وردت في الأخبار، كما ننقل الروايات التي وردت في تفسير مفردات الآية المباركة:

في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «درهم ربا عند اللّه أشد من سبعين زنية كلّها بذات محرم».
أقول: و في بعض الروايات ثلاثين. و الحصر ليس حقيقيا بل إضافي يختلف باختلاف مراتب اضطرار المديون و تشديدات أكل الربا.
و التشبيه إنّما هو باعتبار تشديد نفس الحرمة فإنّ حرمة الزنا تختلف باختلاف المزني بها و مكان الزنا و زمانه و سائر جهاته لا أن يكون تنزيلا للربا منزلة الزنا من كلّ حيثية وجهة حتى يلزم إجراء الحد و نحو ذلك.
و لعل جهة أشدية الربا من الزنا أنّ فيه المفسدة الشخصية و النوعية بخلاف الزنا الذي فيه مفسدة شخصية. نعم لو انتشر الزنا في المجتمع كان فيه مفسدة نوعية أيضا.
و في الفقيه عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في وصية لعليّ (عليه السلام) قال: «يا عليّ الربا سبعون جزء فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت اللّه الحرام، يا عليّ درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام».
أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك و المراد من سبعين جزء أنّ الربا مركب من سبعين معصية و مفسدة.
و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام): «أخبث المكاسب كسب الربا».
أقول: لأنّ فيه خباثة شخصية و يوجب خباثة النوع باعتبار جريان أيدي المتبادلين على المال الذي وقع فيه الربا و يرشد إلى ذلك‏ ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد الا أكل الربا و من لم يأكل الربا أصابه غباره».
و في التهذيب عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: «لعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) الرباء، و آكله و بايعه، و مشتريه، و كاتبه، و شاهديه».
أقول: ورد في رواية أخرى «لعن رسول اللّه خمسة» و يمكن أن يكون الحصر إضافيا نظير الخمر التي لعن رسول اللّه جملة فيها.
و في الكافي عن ابن بكير قال: «بلغ أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا- و يسميه اللبأ- فقال: لئن أمكنني اللّه لأضربنّ عنقه».
أقول: يمكن أن يكون قتله لأجل استحلاله للربا و جرأته على اللّه تعالى و هتكه لحرماته و تدل عليه الرواية الآتية.
و في الفقيه و العيون عن الرضا (عليه السلام): «هي كبيرة بعد البيان، و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر».
أقول: المراد من قوله (عليه السلام) بعد البيان أي تمامية الحجة عليه فلا ينحصر الأمر في خصوص الربا بل تكون جميع المحرمات كذلك أيضا.
و في كنز العمال عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما ظهر في قوم الربا و الزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب اللّه».
أقول: يشهد لذلك الدليل و البرهان و الوجدان.
و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «الربا ثلاثة و سبعون بابا و الشرك مثل ذلك».
و عن الصادق (عليه السلام): «الربا سبعون بابا أهونها عند اللّه كالذي ينكح أمه».
أقول: تقدم ما يتعلّق بهما.

في تفسير القمي عن جعفر بن غياث عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الرباء رباءان: أحدهما ربا حلال، و الآخر ربا حرام فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده و يعوّضه بأكثر مما أخذه بلا شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له، و ليس له عند اللّه ثواب فيما أقرضه و هو قوله عزّ و جل: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ و أما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا، و يشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام».
أقول: الروايات في ذلك كثيرة و المستفاد من مجموعها أنّ شرط الزيادة محرّم و لكن نفس دفع الزيادة بلا شرط لا يكون محرّما بل يكون راجحا.
و في التهذيب عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس إن لم يكن بينكما شرط».
أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك.
و في الكافي: «عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها مائة درهم و زنا قال (عليه السلام): لا بأس ما لم يشترط. و قال جاء الربا من قبل الشروط، إنّما تفسده الشروط».
أقول: المراد من الشرط هو شرط الزيادة في العقد.
و في الكافي أيضا عن عبيد بن زرارة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن».
أقول: هذه الرواية تبيّن الرباء المعاملي لا الرباء القرضي.
و في التهذيب عن عمر بن يزيد قال: «يا عمر قد أحل اللّه البيع و حرّم الربا، بع و اربح و لا تربه قلت و ما الربا؟ قال (عليه السلام): درهم بدراهم مثلين بمثل و حنطة بحنطة مثلين بمثل».
أقول: هذا أيضا في الربا المعاملي دون القرضي.
و في التهذيب أيضا عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «ما كان من طعام مختلف، أو متاع، أو شي‏ء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد، فأما نظرة فلا يصلح».
أقول: المراد من قوله (عليه السلام): «يدا بيد» النقد و هذا في الرباء المعاملي و لا يتحقق الربا فيه لفرض اختلاف العوضين و المراد من النظرة النسيئة.
و في الكافي عن سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المختلف مثلان بمثل يدا بيد لا بأس».
أقول: تقدم ما يدل على ذلك.
و في التهذيب عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن البيضة بالبيضتين قال (عليه السلام): لا بأس به. و الثوب بالثوبين‏ قال (عليه السلام): لا بأس به. و الفرس بالفرسين فقال (عليه السلام): لا بأس به. ثم قال: كلّ شي‏ء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد، فإذا كان لا يكال و لا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد».
أقول: لفرض اعتبار اتحاد العوضين في الرباء المعاملي فإذا اختلفا فلا ربا مع اعتبار كون العوضين من المكيل و الموزون و البيض و الثوب ليس منهما.

في الكافي عن سماعة قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إنّي قد رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية و كرّره. قال (عليه السلام) أو تدري لم ذاك؟ قلت: لا. قال (عليه السلام): لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».
أقول: إذا فرض اقتصار الناس على الزيادة الربوية فقط تمحق جميع المعاملات و تذهب الخيرات و البركات و يختل النظام.
و في الفقيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّما حرم اللّه عز و جل الربا لئلا يذهب المعروف».
أقول: تقدم ما يدل على ذلك.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا، يقولون ربنا متى تقوم الساعة».
أقول: ما في الرواية حقيقة حال المرابي كشفها اللّه تعالى لرسوله ليلة المعراج.
و في التهذيب عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّي سمعت اللّه يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ، و قد أرى من يأكل الربا يربو ماله؟! فقال (عليه السلام): أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدّين، و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر».
أقول: هذا من الآثار الوضعية للربا تظهر و لو بعد التوبة و مثل ذلك في المعاصي قليل جدا.
و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «و علة تحريم الربا لما نهى اللّه عزّ و جل عنه و لما فيه من فساد الأموال لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما و ثمن الآخر باطلا فبيع الربا و شراؤه و كس على كلّ حال على المشتري و على البائع فحرم اللّه عزّ و جل على العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من إفساده حتّى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرّم اللّه عزّ و جل الربا و بيع الدرهم بالدرهمين يدا بيد و علة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم و هي كبيرة بعد البيان و تحريم اللّه عز و جل لها لم يكن إلا استخفافا منه بالمحرّم الحرام و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر، و علة تحريم الربا بالبينة لعلة ذهاب المعروف، و تلف الأموال، و رغبة الناس في الربح، و تركهم القرض، و القرض صنائع المعروف و لما في ذلك من الفساد و الظلم و فناء الأموال».
أقول: المراد من الوكس: النقص.
و في عقاب الأعمال عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من أكل الربا ملأ اللّه بطنه من نار جهنّم بقدر ما أكل و إن اكتسب منه مالا لا يقبل اللّه منه شيئا من عمله و لم يزل في لعنة اللّه و الملائكة ما كان عنده منه قيراط واحد».
أقول: القيراط أصله قرّاط و هو نصف عشر الدينار و قوله (صلّى اللّه عليه و آله) بكلا جزئيه مطابق للقاعدة العقلية و هي ترتب المسبب على السبب.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبطه الشيطان».
أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.
و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «إنّما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا».
أقول: الرفد بمعنى الصلة و العطية و قد مرّ سابقا ما يتعلق بهذه الرواية.
و فيه أيضا عن عليّ (عليه السلام): «إذا أراد اللّه تعالى بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا».
أقول: الهلاك أعم من الهلاك المعنوي و الظاهري.

في الدر المنثور عن أنس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ.
أقول: ما ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) هو عادة نوع المصروعين في الدنيا.
و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ قال (عليه السلام): «الموعظة التوبة».
أقول: هذا تفسير بالمعنى الأخص.
و في التهذيب عن محمد بن مسلم قال: «دخل رجل على أبي عبد اللّه (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّى كثر ماله، ثم أنّه سأل الفقهاء فقالوا: ليس يقبل منك شي‏ء حتّى ترده إلى أصحابه فجاء إلى أبي‏ جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته فقال أبو جعفر (عليه السلام): مخرجك من كتاب اللّه عزّ و جلّ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ قال (عليه السلام) و الموعظة التوبة».
أقول: يستفاد من هذه الرواية العموم كما ذكرنا ذلك في كتاب البيع- فصل الربا من (مهذب الأحكام).
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة و قال (عليه السلام): لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أنّ في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال، كان حلالا طيّبا فليأكله و إن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله و ليردّ الزيادة».
أقول: هذه الرواية ظاهرة في اختصاص الحرمة بخصوص الزيادة فلا شمول لها لجميع المال.
و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنّه حلال فقال (عليه السلام): لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بمنزلة الذي قال اللّه عزّ و جلّ: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ».
أقول: ظاهرها اختصاص الحكم بصورة العلم لا صورة الجهل به.
و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) قال اللّه تعالى: «أنا خالق كلّ شي‏ء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإنّي أقبضها بيدي حتّى أنّ الرجل و المرأة يتصدّق بشق التمرة فأربيها كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتّى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد».
أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.
و في تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «عن الرجل يكون عليه الدّين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول أنقذني فقال: لا أرى به بأسا لأنّه لم يزد على رأس ماله و قال اللّه تعالى: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ».
أقول: لم يتحقق في الفرض موضوع الربا لأنّه مشروط بالزيادة و هو منتف.
و في تفسير القمي: «لما أنزل اللّه تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا- الآية- فقام خالد بن الوليد إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: يا رسول اللّه ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني بأخذه عند موته فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا».
أقول: حيث إنّ المال انتقل إلى الورثة فهم مأمورون بعدم أخذ الزيادة وردها إلى صاحبها الذي كان معلوما و إنّ الوصية بالمحرّم غير نافذة.
و في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، و بني المغيرة من بني مخزوم، و كان بنو المغيرة يربون لثقيف فلما أظهر اللّه تعالى رسوله على مكة وضع يومئذ الربا كلّه، فأتى بنو عمرو بن عمير، و بنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد و هو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا؟ وضع عن الناس غيرنا. فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أنّ لنا ربانا. فكتب عتاب في ذلك إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية».
أقول: يمكن تعدد الواقعة بين خالد و بين من ذكر في هذه الرواية.
و في المجمع قريب منه و زاد: «فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كلّ دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل».
و في الدر المنثور: أخرج أبو داود، و الترمذي في صحيحه، و النسائي، و ابن أبي حاتم، و البيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: «أنّه شهد حجة الوداع مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون».
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «صعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المنبر ذات يوم فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على أنبيائه ثم قال: أيّها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على اللّه في كلّ يوم صدقة بمثل ماله حتّى يستوفيه، ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون» إنّه معسر فتصدّقوا عليه بما لكم فهو خير لكم».
أقول: لا بأس بأن يكون الإنظار صدقة و إن كان واجبا، كما أنّ دفع المال يكون صدقة و إن كان واجبا كالزكاة.
و في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّه عزّ و جل لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر لا بد من أن ينظر، و قد أخذ مال هذا الرجل و أنفق على عياله، و ليس له غلة ينتظر إدراكها و لا دين ينتظر محلّه و لا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال (عليه السلام): ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فإن كان أنفقه في معصية اللّه فلا شي‏ء له على الإمام. قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه و هو لا يعلم فيم أنفقه في طاعة اللّه أو في معصيته؟ قال (عليه السلام): يسعى له في ماله فيرده و هو صاغر».
أقول: يحمل‏ قوله (عليه السلام) «و هو لا يعلم فيم أنفقه» على ما قبل ظهور بذل المال في الحرام فحينئذ يجب عليه السعي بعد الظهور و هو صاغر، فالأقسام أربعة:
الأول: العلم بصرف المال في الطاعة، فعلى الإمام أن يؤدي دينه.
الثاني: الشك- في الصرف في الحرام- مستمرا و يحمل فعل المديون على الصحة فعلى الإمام أيضا أن يؤدي دينه.
الثالث: العلم بالصرف في المعصية لا بد له أن يسعى و يؤدي دينه بنفسه.
الرابع: عدم العلم بذلك حين دفع المال إلى المديون و بعد مدة علم أنّه صرف المال في الحرام، فحينئذ يسعى و هو صاغر و يستفاد جميع هذه الأقسام من الروايات المتقدمة.
و في المجمع في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى‏ مَيْسَرَةٍ:
«اختلف في حدّ الإعسار فروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد».
أقول: حد الإعسار أمر إضافي يختلف باختلاف المديونين و عيالاتهم و الأزمنة و الأمكنة و مقدار قدرتهم على تحصيل المال فلا بد من الرجوع إلى الحاكم الشرعي، و هو يرجع إلى أهل الخبرة.
و في الدر المنثور عن ابن عباس، و السّدي، و عطية العوفي، و أبي صالح، و سعيد بن جبير: «أنّ آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.
أقول: إنّ ذلك يناسب مع كثرة اهتمام القرآن بالتقوى حدوثا و بقاء بدوا و ختما.

خلق اللّه تعالى الإنسان و أودع فيه قوة يميّز بها الخير عن الشر، و النافع عن الضار، و ألهمه بعض الأمور التي بها ينظّم شؤون حياته الفردية و الاجتماعية و يسعى إلى الكمال المعدّ له، و بهما ترفّع على سائر الموجودات في هذا العالم و كان له هذا المقام السامي، كما أنّ بهما استقامت خطواته و انتظمت أفكاره، و بهما يكافح في عيشه في هذه الحياة المليئة بالمتاعب و المشاكل، و لو لا هذه الموهبة الربانية لكان للإنسان شأن آخر، و هو خلاف الحكمة في خلق الإنسان الذي قد أبدع اللّه تعالى في صنعه، و خلق له الأرض و ما عليها ليعمّرها و يتزوّد منها إلى العوالم التي ترد عليه.
و بحكم هذين الأمرين- أي العقل و الفطرة- تحكمت قواعد و أصول على جميع خطوات الإنسان و خصوصياته، و نظمتها تنظيما حسنا، و هي كثيرة يبحث عنها في علوم متعددة.
و لكن تلك القواعد العقلية و الأمور الفطرية قد تعرّضت لانحرافات و شكوك و شبهات بمرور الزمن مما أوجب طمس كثير منها و تعرض الإنسان لاختلافات و مشاكل عجز عن حلّها و متاعب و هموم أثقلت كاهله فأرسل اللّه تعالى رحمة بعباده الرسل و الأنبياء ليثيروا لهم دفائن العقول و يذكروهم منسيّ الفطرة، و يهدوهم إلى سواء السبيل و يرشدوهم إلى الحقّ القويم ليفوزوا بالسعادة الأبدية و يسعدوا في حياتهم.
و قد أنزل معهم الكتاب و الحكمة التي تحتوي على المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية التي تبتني على حكم و مصالح نوعية تجلب السعادة و الخير للإنسان و يصل بها إلى الكمال المطلق، و قد تكفلت لجميع جوانب الإنسان الفردية و النوعية و لم يهمل أمرا من الأمور الجزئية، و جعل العمل بها من أجزاء الإيمان الصحيح و الوصول إلى السعادة في الدارين. و أما إذا أهملها و خالف حل في البلاء و الشقاء و سلب السعادة عن نفسه.
و من الموضوعات التي اعتنى بها الشرع القويم الربا و قد حرّمه اللّه تعالى و شدّد النكير عليه و جعل آكله محاربا للّه تعالى و لرسوله العظيم، و بيّن سبحانه و تعالى في ضمن الآيات المتقدمة أمرين هامين لا بد من البحث حولهما و إمعان النظر فيهما لأنّهما يتكفلان جميع الآثار المترتبة على هذه الكبيرة الموبقة.
الأمر الأول: قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. و الآية الشريفة تضع الحد الفاصل في كلّ ما يقال في هذا الأمر الخطير، و ترشدنا إلى حقيقة من الحقائق القرآنية التي تبيّن الوضع الإنسانيّ عند انتشار ظاهرة الربا في المجتمع، و هي من ملاحم القرآن العظيم، و تحدد سلوك الإنسان و أفعاله و أفكاره، و تبيّن أنّ الربا يمنع الإنسان من القيام بالوظيفة التي قرّرها العقل و الفطرة، و يخرجه عن حالته الطبيعية المستقيمة الرشيدة، فلا يكون فكره صحيحا منتجا و لا فعله متضمنا للخير و النفع و شبّه سبحانه و تعالى حال الإنسان المتعاطي للربا بحال المصروع الذي خرج عن الاستقامة و الاستواء في أفكاره و أقواله و أفعاله، و هو تشبيه واقعي حقيقي. فهو قد سلب عن نفسه تلك الحالة الهنيئة المطمئنة الآمنة القويمة، و صار قرين المشاكل و الآلام و الانهيار الفكري، و ترشد الآية الكريمة إلى معنى أبعد من ذلك و هو أنّ الإنسان مع الربا لا يكون فكره قويما و مستقيما فلا تفيده النظريات و القوانين التي يجعلها لحلّ مشاكله و لجلب السعادة إليه، فهي لا تكون منتجة، بل هي مجرد أوهام تسكن إليها النفس برهة من الزمن لتخفّف عنها ما تكابده و لكنّها تعود بأشد مما كانت أولا بعد ما يرى عدم جدواها، و هذا هو الجانب المهم الذي يرشد إليه القرآن الكريم، و يؤكد ذلك إتيان ضمير الجمع في قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ يعني أنّ المجتمع الذي حلّ فيه الربا لا يمكنه النهوض بالأمر و التأثير في رفع المشكلات فضلا عن الأفراد، و قد اتضح صدق ما أفاده القرآن، فنرى في عالمنا المعاصر بعد انتشار الربا عقم النظريات و القوانين التي وضعت في رفع المشكلات، و لا يشك أحد من الباحثين أنّ عالمنا المعاصر مع ما فيه من وسائل الراحة و التمتع من الحياة لكنّه من أشد الأوقات بعدا عن الحقيقة و الواقع و العيش الهني‏ء.
الأمر الثاني: قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ. و الآية ترشدنا إلى أنّ الربا يلازمه أثر آخر مهم في حياة الإنسان و هو سلب الكمال عن الأشياء و ذلك لأنّ لكلّ شي‏ء طرفي كمال و نقص، و الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال، فهذا المال بجميع أصنافه من النقود و الأمتعة و نحوهما قد استخدمه الإنسان لرفع حوائجه المادية و يستعين به في أموره الأخروية فهو محور المعاملات و عليه تدور المعاوضات، و وضع قواعد و قوانين تحدّد التعامل به، و جعل الكمال فيه هو رفع الحوائج بالعدل و الإنصاف و إشباع الرغبات على الوجه الأحسن، و اعتبر التعدّي عن القواعد المضروبة و القوانين المقرّرة ظلما و عدوانا.
و القرآن الكريم يبيّن أنّ اللّه تعالى يمحق بسبب الربا جميع الآثار المحبوبة لديه عزّ و جل المترتبة على المال من البركات، و إقامة المعروف و سدّ جوعة الفقراء إلى غير ذلك مما هو كثير، و هذا هو المراد بالمحق الإلهي فيما يشاء.
و أما تكدس الأموال في هذا العالم من الربا فلا يكون محقا بالنظر الأوّلي بالنسبة إلى المرابي و غيره، و إن كان بالنظر الحقيقي الواقعي هو محق أيضا، كما قال تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة- 55].
و بالجملة: إنّ اللّه تبارك و تعالى يمحق بالربا الإنسانية الكاملة فردا و نوعا فيؤثر في النفس الإنسانية فيحل الفقر و الحرمان في المجتمع و يجعل الفقير يحس بالذل و الهوان مما يجعله مترقبا الفرص للانتقام ممن سلب ماله و نيل حقوقه فتكون النفوس في رعب دائم و خوف مستمر و بالتالي فهو محق للأخلاق الفاضلة، و إيقاع الإنسان في سفاسف الأمور و ذمائم الأخلاق، فيغلب الحرص و الطمع. و محق لأبواب المعروف و الخيرات. هذا كلّه بالنسبة إلى الآثار الدنيوية.
و أما الآثار الأخروية: فإنّ لها شأنا آخر فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في عالم الآخرة بما يناسب تلك المعصية، و يمكن أن تكون الآيات الشريفة الواردة في الربا ناظرة إلى جميع العوالم فهي تبيّن حقيقة الربا من حيث هي مع قطع النظر عن العوالم و النشئات.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"